إسلام ويب

من خير ما يرفع المرء عند الله الخلق الحسن، وقد كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً مع جميع الخلق، وهو الذي بعث ليتمم صالح الأخلاق، وهو القدوة الحسنة التي يجب أن نتبعها وأن نتخلق بالأخلاق الحسنة لنفوز برضوان الله تعالى.

الحاجة إلى الكلام عن شمائله صلى الله عليه وسلم

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، اصطفاه تبارك وتعالى ليحمل الرسالة للناس إلى قيام الساعة، وليكون صلى الله عليه وسلم هو داعي التوحيد وداعي الله عز وجل، فمن لم يجبه وقد سمع به من هذه الأمة لم يدخل الجنة، فصلى الله عليه وعلى آله وإخوانه إلى يوم الدين، وحشرنا في زمرته وأوردنا حوضه، إنه تبارك وتعالى سميع مجيب.

أيها الإخوة يشعر المتحدث حين يريد الحديث عن سيرة هذا النبي العظيم، وعن خلقه وعن شمائله صلى الله عليه وسلم، يشعر بالرهبة، ويشعر أنه مهما تحدث فلن يوفي الحديث حقه، وأنى لبشر مقصر أن يوفي حق المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي اختاره الله عز وجل وهو تبارك وتعالى يخلق ما يشاء ويختار.

نشعر اليوم أيها الإخوة أن الأمة وأن العالم أجمع بحاجة إلى أن يُبرز أمامه هذا النموذج، وأن تُفتح له هذه الصفحات من سيرة النبي القدوة صلى الله عليه وسلم، ونحن نعيش في وسط تسيطر فيه الأنانية والفردية، في وسط تتشعب فيه الأهواء بالناس، وحتى الصالحون يصيبهم ما يصيبهم من حظوظ النفس، ومن الأهواء، ويسيء المرء الخُلق وهو يحسب أنه يُحسن صنعاً، وما أعظم المقولة التي قالها صلى الله عليه وسلم حين استأذنه رجل فقال صلى الله عليه وسلم: (ائذنوا له بئس أخو العشيرة) فلما دخل هش له صلى الله عليه وسلم وبش، فقيل له في ذلك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (شر الناس من ودعه الناس اتقاء فحشه) عافانا الله وإياكم.

إنها صورة ونموذج قد يتمدّح به البعض وأنه يستطيع بلسانه أن يُخرس الناس، يستطيع أن يسفههم، يستطيع أن لا يدع أحداً يفوه بكلمة بعد ذلك، وحينئذ يخاف الناس فُحشه في مقالته وفي كتابته وفي حديثه، هؤلاء عافانا الله وإياكم هم من شر الناس، وأبعد الناس عن منهج النبي صلى الله عليه وسلم صاحب الخلق العظيم.

أيها الإخوة.. أشعر ونشعر جميعاً أننا بحاجة إلى الحديث عن خُلق النبي صلى الله عليه وسلم، وطالما أردت الحديث عن هذا الموضوع، لكني أشعر أني أُقدِّم رجلاً وأؤخر أُخرى؛ لأني أشعر أنني حين أتحدث عن أي جانب من جوانب خلق النبي صلى الله عليه وسلم فإني أنادي على نفسي بفقدان هذا الخلق وهذا النموذج، إن الناس يرون منا خلقاً ويرون منا سلوكاً، وحين نحدثهم عن هذه الأخلاق يرون صورة أخرى غير تلك التي يرونها عنا، لهذا كنت أرى وأعتقد أن حديثي عن خُلق النبي صلى الله عليه وسلم وعن الخلق الحسن إنما هو شهادة إدانة، فكنت أُحجم عن الحديث في هذا الموضوع، مع أن الحديث عن هذا الموضوع وهذا الجانب لا يعوز طالب علم مهما كان ومهما قل شأنه ومهما قل اطّلاعه.

إنك حين تقرأ في كتاب من كتب السنة، أو كتب سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، أو كتب الشمائل فستجدها مليئة بالشواهد الناطقة على خلق هذا النبي صلى الله عليه وسلم، ولن تحتاج أن تتصفح أبواب الآداب والأخلاق والشمائل، بل وأنت حين تقرأ في أبواب الأحكام، حين تقرأ في أبواب العبادات، حين تقرأ في أي باب من الأبواب ما روي عن هذا النبي صلى الله عليه وسلم، فإنك سترى هذه المرويات كلها تنطق بخلقه صلى الله عليه وسلم، كلها تشهد لهذا المعنى العظيم الذي وصفه به ربه تبارك وتعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] وما وصفته به عائشة رضي الله عنها بقولها: (كان خلقه القرآن).

ولكن الإخوة اختاروا هذا الموضوع فرأيت أن أتحدث عنه، ولو لم يختاروه ويلزموني به لما كنت أتحدث عنه، لا لأني أرى أنه ليس ذا بال وأهمية، بل لأني أشعر أننا نعاني كثيراً من التقصير في أخلاقنا، من التقصير في اتباع منهج النبي صلى الله عليه وسلم في خُلقه وسلوكه، وأننا حين نتحدث عن هذه الجوانب فإننا ندين أنفسنا، ويرى الناس واقعاً غير ذاك الذي نقول لهم، فنسأل الله عز وجل أن لا يجعلنا من أولئك الذين يقولون ما لا يفعلون.

لكن عزاءنا أن نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم رجل اختاره الله عز وجل من بين الناس، واصطفاه تبارك وتعالى، حتى إن الجيل الأول والرعيل الأول ما كان يمكن أن يبلغ منزلته صلى الله عليه وسلم في الخُلق والقدوة، كيف لا وهو القدوة للبشرية جمعاء!

حين نتحدث عن هذا الموضوع فإننا لن نستطيع أن نوفيه حقه، بل ولن نستطيع أن نأتي بجميع جوانبه، ويشعر المتحدث بالحيرة حين يريد الحديث عن خُلق النبي صلى الله عليه وسلم، عن ماذا يتحدث؟ إنك لو أخذت جانباً من الجوانب، مثل جانب الرحمة، أو جانب الحياء، أو التواضع، أو الكرم والجود والسخاء، أو الصبر أو كظم الغيظ، لو أخذت جانباً من جوانب الخلق وتصفحت كتب السنة، لوجدت أن المقام يضيق عن أن تتحدث عن هذا الجانب وحده، أو أردت أن تدون شيئاً من ذلك لوجدت أن المقام يضيق، ولهذا فإن الذين ألفوا في شمائل النبي صلى الله عليه وسلم كان أحدهم يكتفي في الباب الواحد ببضعة أحاديث، وإلا لو أراد أن يستقصي لضاق عليه المقام، وذلك أن الشواهد لخُلقه صلى الله عليه وسلم ليست قاصرة على ما يروى في أبواب الأخلاق والآداب كما قلنا قبل قليل، بل هي في كل باب من أبواب السنة، في كل ما دوّن من سنة النبي صلى الله عليه وسلم شواهد كثيرة على خُلقه صلى الله عليه وسلم.

وهاهو صاحبه حسان رضي الله عنه، والذي شهد له صلى الله عليه وسلم أن روح القدس يؤيده، ها هو ينطق بحسن خُلقه صلى الله عليه وسلم، وينعى على ذاك الذي بكى أقواماً قد مضوا في جاهليتهم فيرى أن أحق الناس بأن يُبكى عليه هو صاحب الخُلق العظيم محمد صلى الله عليه وسلم:

ماذا بكيت على الذين تتابعوا هلا ذكرت مكارم الأقوام

وذكرت منا ماجداً ذا همة سمح الخلائق ماجد الإقدام

أعني النبي أخا التكرم والندى وأبر من يولي على الإقسام

فلمثله ولمثل ما يدعو لهكان الممدح ثم غير كهام

الشواهد على كمال خلقه صلى الله عليه وسلم

اختيار الله تبارك وتعالى له

إننا حين نتحدث عن سمو خلقه صلى الله عليه وسلم، فستطول معنا الشواهد، لكننا هنا نوجز شواهد مهمة على كمال خُلقه صلى الله عليه وسلم، وأول هذه الشواهد وأتمها هو اختيار الله تبارك وتعالى له.

إن الله عز وجل يخلق ما يشاء ويختار تبارك وتعالى، وهو الذي خلق البشر تبارك وتعالى وهو أعلم بهم، فاختاره تبارك وتعالى ليحمل الرسالة، واختاره ليكون قدوة وأسوة حسنة، ولهذا فإن هذا الاختيار يقتضي أن يكون صلى الله عليه وسلم في القمة في كل الصفات البشرية، إن هذا الاختيار يقتضي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً لا كالرجال، أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم ليس كسائر الناس.

نعم، إنه صلى الله عليه وسلم بشر مثلهم ينسى كما ينسى الناس ويأكل الطعام ويمشي في الأسواق، ولا يعلم الغيب صلى الله عليه وسلم شأنه شأن سائر الناس، لكنه صلى الله عليه وسلم في القمة في كل صفة كمال يمكن أن توجد في بشر، كيف لا وقد اختاره ربه تبارك وتعالى.

وها هو عبد الله بن مسعود رضوان الله عليه يشهد للنبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ويشير إلى هذا المعنى فيقول: (إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئاً فهو عند الله سيئ).

ثناء الله عليه في القرآن بحسن الخلق

الشاهد الآخر: ثناء الله تبارك وتعالى عليه في كتابه وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء:122] ومن أحسن من الله حديثاً، فالله تبارك وتعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ [القلم:4].

إنها شهادة للنبي صلى الله عليه وسلم ممن خلقه تبارك وتعالى وممن خلق الناس، وممن يعلم تبارك وتعالى ما تكنه الصدور والضمائر، شهادة من الله تبارك وتعالى لهذا النبي صلى الله عليه وسلم أنه على خلق، وليس على خلق فحسب، بل على خلق عظيم، ويخبر الله تبارك وتعالى أن الله امتن على نبيه صلى الله عليه وسلم بهذا الخلق، فقال تبارك وتعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:159].

ويمتن تبارك وتعالى على المؤمنين أن بعث إليهم هذا النبي الذي يتصف بهذه الصفات العظيمة: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128] وماذا نريد أيها الإخوة بعد أن عدّله ربه تبارك وتعالى، وبعد أن أثنى عليه الله عز وجل، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء:122] ومن أحسن منه حديثاً تبارك وتعالى.

شهادة الصحابة له بحسن الخلق

وهاهم أصحابه رضوان الله عليهم الذين صحبوه في السراء والضراء، وعاشوا معه أحواله، في المنشط والمكره، هاهم يشهدون له رضوان الله عليهم بأنه أحسن الناس خلقاً..

يقول البراء رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهاً، وأحسنهم خلقاً، ليس بالطويل البائن ولا بالقصير).

ويروي أنس بن مالك رضي الله عنه يصف النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً، فربما تحضر الصلاة وهو في بيتنا فيأمر بالبساط الذي تحته فيُكنس، ثم يُنضح، ثم يؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقوم خلفه يصلي بنا، وكان بساطه من جريد النخل) وهذا الحديث رواه الإمام مسلم .

ويروي مسلم أيضاً في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها حين سئلت عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم قالت لمن سألها: (ألست تقرأ القرآن؟ كان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن).

وهاهو حسان رضي الله عنه يقول:

وأحسن منك لم تر قط عيني وأجمل منك لم تلد النساء

خلقت مبرأ من كل عيبكأنك قد خُلقت كما تشاء

ويقول حين دفن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم:

لقد غيّبوا علماً وحلماً ورحمة عشية واروه الثرى لا يوسد

ولسنا بحاجة أيها الإخوة إلى أن نستطرد في إيراد الشواهد من مقولات أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وثنائهم عليه بحسن الخلق.

إخباره عن نفسه أنه بعث ليتمم صالح الأخلاق

الشاهد الرابع: إخباره صلى الله عليه وسلم عن نفسه أنه بُعث ليتمم صالح الأخلاق، ففي المسند عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما بُعثت لأتمم صالح الأخلاق) وهذا يعني أن الخلق له منزلة عظيمة في دين الله، إن الخلق والسلوك قد يأتي أحياناً لدى الكثير من المسلمين، بل لدى بعض طلبة العلم في مرتبة متأخرة، ويشعر بعض هؤلاء أن مجرد حفظ المسائل العلمية وإتقانها هو وحده ما يحتاج إليه طالب العلم! وحين يأتي الحديث عن الخلق وعن الهدي والسمت والسلوك يشعر هؤلاء أن هذا حديث الوعّاظ، وأن هذا حديث ينبغي أن يوجه لعامة الناس، وأما طلبة العلم فينبغي ألا يحدثوا إلا بقال فلان ورأى فلان، وفي المسألة وجهان، أو ثلاثة أقوال..، وهكذا.

قد يتصور البعض من طلبة العلم أيها الإخوة أن الحديث في مثل هذه المسائل هو وحده الحديث الذي يعنيه، وهو الحديث الذي يهمهم، وهو مجال لا يمكن أن يقلل أحد من شأنه أو يغض منه، لكن أن نتصور أن أبواب الخلق والأدب والسلوك ليس من شأننا أو أنه قضية ثانوية، أو أنه قضية يزج بها الحديث فإن هذا خلاف المنهج الذي كان عليه سلف الأمة، وقد كان أحدهم يرحل في الأدب الواحد السنة والسنتين، وكانوا يتعلمون الأدب كما يتعلمون الحديث، وكان أحدهم يقول: كنا نأتي مسروقاً فنتعلم من هديه وسمته ودلّه، ويقول ابن وهب رحمه الله: ما تعلمت من أدب مالك أكثر مما تعلمت من علمه، وكانوا يأتون طالب العلم بوصية مشهورة يقولون فيها:

أيها الطالب علماً ائت حماد بن زيد

فاكتسب علماً وحلماً ثم قيده بقيد

ودع الفتنة من آثار عمرو بن عبيد

بل إن في تصانيفهم المتقدمة ما يدل على عظم هذه القضية، أليسوا قد صنفوا في أدب العالم والمتعلم وأدب طالب العلم وما ينبغي له كتباً مستقلة، وأدرجوا ذلك ضمن كتب الحديث وكتب الآداب، وهي كثيرة تلك الكتب التي صنفها أولئك المتقدمون من سلف الأمة، وما كان أولئك يعانون من أوقات لا يدرون بم يشغلونها، ولا يعانون من الإسهال الفكري فيريدون أن يكتبوا ما عنّ لهم، إنما كانت عنايتهم بذلك دليلاً على أهمية هذا الأمر وعلو شأنه في دين الله عز وجل، كيف ولا وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه بُعث ليتمم صالح الأخلاق، فما دام صلى الله عليه وسلم قد بُعث ليتمم صالح الأخلاق فلا بد أن تكون سيرته وهديه وسمته صلى الله عليه وسلم ناطقة بذلك، وهاهي سيرته وسنته تشهد بذلك لكل من قرأها وتصفحها.

دعاؤه ربه أن يرزقه حسن الخلق

وأيضاً: النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربه أن يرزقه حسن الخلق، ويدعو ربه تبارك وتعالى أن يحسن خلقه، يروي الإمام أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم أحسنت خَلْقي فأحسن خُلقي).

وأيضاً: يروي الإمام أحمد هذا المعنى عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم أحسنت خلْقي فأحسن خُلقي).

وكان صلى الله عليه وسلم يدعو في دعائه المشهور في قيام الليل: (اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف سيئها إلا أنت) ورسول الله صلى الله عليه وسلم مجاب الدعوة، فقد دعا ربه تبارك وتعالى هذا الدعاء فسيجيب الله عز وجل دعاءه، ولا عجب فقد كان صلى الله عليه وسلم في المنزلة العالية من الخلق، وإذا كان صلى الله عليه وسلم يسأل ربه تبارك وتعالى ويستعين به على أن يرزقه حسن الخلق، وعلى أن يحسّن خلقه، وهو صلى الله عليه وسلم قد بلغ هذه المنزلة، فقد جُبل صلى الله عليه وسلم على حسن الخلق وقد زكّاه ربه تبارك وتعالى وعلّمه الكتاب والحكمة، فعلّمه تبارك وتعالى حسن الخلق، ومع ذلك فإنه صلى الله عليه وسلم يستعين بربه ويسأله أن يرزقه حسن الخلق، وأن يهديه لأحسن الأخلاق، إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بهذا الدعاء، ويسأل ربه تبارك وتعالى هذا السؤال فنحن أحوج ما نكون إلى ذلك، ونحن نرى حين نتأمل في واقعنا صباح مساء تلك الأخطاء التي نقع فيها، ونرى ذلك التقصير، ونرى إخلالنا بهذا الجانب، ونرى أن الكثير من مواقفنا تشهد وتنطق بأننا أحوج ما نكون إلى أن نترقى في مكارم الأخلاق، وأن نتعلم الكثير الكثير من حسن الخلق.

أمره صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق

أيضاً: كان صلى الله عليه وسلم يأمر بمكارم الأخلاق، ولا شك أنه صلى الله عليه وسلم أول من يمتثل ما يأمر به صلى الله عليه وسلم، كيف لا وهو صلى الله عليه وسلم قد حذّرنا وحذّر أمته من أن يقول أحدهم ما لا يفعل، وأخبر أن الرجل يُلقي في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى فيجتمع عليه أهل النار فيقولون: ألم تكن تأمرنا وتنهانا؟ فيقول: بلى كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وكنت أنهاكم عن المنكر وآتيه، عافانا الله وإياكم، والنبي صلى الله عليه وسلم قد جمع الله له كمال الامتثال والتأسي فلا شك أن كل ما يأمر به صلى الله عليه وسلم ويدعو به أمته؛ لا شك أن ذلك سيكون متمثلاً في حياته صلى الله عليه وسلم وسيرته.

ها هو أبو ذر رضي الله عنه يحكي في قصته التي يرويها الإمام مسلم عن ابن عباس يقول: (لما بلغ أبا ذر مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فأعلمني علم هذا الرجل الذي يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء، فاسمع من قوله ثم ائتني. فانطلق الآخر حتى قدم مكة وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر فقال: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق ويقول كلاماً ما هو بالشعر).

ونقف أيها الإخوة عند هذا المعنى ونتأمل، متى قدم أبو ذر رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟ قدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يزال في مكة، ولما ينزل بعد الكثير من آيات القرآن، ولما تنزل الشرائع والأحكام، وأصبح هذا المعنى معلماً بارزاً في دعوته، فحين أراد صاحب أبي ذر رضي الله عنه أن يلخّص له دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لم يجد أبلغ من أن يصفها بهذه الكلمة: (رأيته يأمر بمكارم الأخلاق ويقول كلاماً ما هو بالشعر) إنه لو كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بمكارم الأخلاق في مكة ودعا إليها لما كان ذلك كافياً، أما أن تكون مكارم الأخلاق هي العنوان لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي القضية التي يشعر هذا الرجل الذي رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وتفحّص حاله؛ فهذا يعني أنه معلم بارز واضح يدركه كل من عاشر النبي صلى الله عليه وسلم ورآه، ولو كان في تلك المرحلة التي كان صلى الله عليه وسلم لا يزال فيها في أول رسالته وأول دعوته، ولما تنزل الكثير من الأحكام والشرائع بعد.

وفي الصحيح عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما فقلت: (أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة. قال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض التي في القرآن، يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، وحرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويرحم، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله، ويفتح بها أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً).

الخصائص التي امتاز بها النبي صلى الله عليه وسلم من مكارم الأخلاق

أنه اجتمع له من المكارم ما لم يجتمع لغيره

لئن كان صلى الله عليه وسلم امتاز بهذا الخلق العظيم، ومن الله عز وجل عليه بمكارم الأخلاق، فما هي تلك الخصائص والمزايا التي للنبي صلى الله عليه وسلم وليست لأحد غيره من البشر؟

إنك قد تجد من الناس الذين تراهم صباح مساء من يعجبك خلقه، وقد تجد من هؤلاء من تشعر أنك لا تمل في الحديث عن حسن خلقه وأدبه وتتمنى أن تُرزق شيئاً مما رزقه الله عز وجل، ولا شك أن الله تبارك وتعالى خص طائفة من خلقه بشيء من ذلك كما جبل صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم على خصلتين يحبهما تبارك وتعالى الحلم والأناة، فقد جبل الله عز وجل طائفة من خلقه على حسن الخلق، لكن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان في القمة في كل مجال وميدان من ميادين الخلق إلا أن له صلى الله عليه وسلم من المزايا والخصائص ما لا تراه لسائر البشر، إنه صلى الله عليه وسلم إن ذُكر أهل الحلم فهو أحلم الناس، وإن ذُكر أهل الغيرة فهو أغير الناس، وإن ذُكر أهل الشجاعة فهو أشجع الناس، وإن ذُكر أهل الجود فهو أجود الناس؛ فهو صلى الله عليه وسلم في كل باب من أبواب الخلق الحسن قد بلغ أعلى غاية وأعلى منزلة يمكن أن يبلغها بشر وأن يصل إليها مخلوق، لكن مع ذلك فإنه صلى الله عليه وسلم له من المزايا ما ليس لغيره:

أولها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اجتمع له من الأخلاق ما لا يجتمع لأحد من البشر، إنك قد تجد فلاناً من الناس اشتهر بالجود وسارت الركبان بالحديث عن جوده وكرمه، بل صار مضرب المثل، وصارت تحكى الغرائب والروايات عنه، وقد تجد فلاناً من الناس اشتهر بالحلم وكظم الغيظ، وصرت تسمع من الحديث ما لا يكاد يصدقه عقلك، وصار مضرب المثل في ذلك، وقد ترى من اشتهر بالصبر، وقد ترى من اشتهر بالحياء، ترى من اشتهر بأي جانب من جوانب الخلق، وقلما تجد بشراً من البشر أو مخلوقاً من المخلوقين امتاز بحسن الخلق إلا وترى أن هناك خلقاً معيناً هو عنوان خلقه، تراه امتاز بالسخاء، أو تراه امتاز بالصبر أو بالحلم، أو أي باب من أبواب الخلق، أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد جمع الله له ذلك كله، وما لم يُجمع لأحد غيره صلى الله عليه وسلم..

فإذا سخوت بلغت بالجود المدى وفعلت ما لا تفعل الكرماء

وإذا عفوت فقادراً ومقدراًلا يستهين بعفوك الجهلاء

وإذا رحمت فأنت أم أو أبهذان في الدنيا هما الرحماء

وإذا غضبت فإنما هي غضبةللحق لا ضغن ولا بغضاء

وإذا رضيت فذاك في مرضاتهورضا الكثير تحلم ورياء

وإذا خطبت فللمنابر هزة تعرو الندي وللقلوب بكاء

فقد جمع الله تبارك وتعالى له كمال الخلق في كل مجال وكل باب، تحدث ما شئت عن أي مجال وأي ميدان وائت بالشواهد من هنا وهناك فلن ترى أصدق شاهداً مما روي عن هذا النبي العظيم صلى الله عليه وسلم، تحدث عن الجود والكرم، تحدث عن الحلم، تحدث عن الرحمة، عن الصبر، عن الشجاعة، عن سائر الأخلاق، عن كل ما يمتدح به الناس من الخلق فسترى أن أصدق الشواهد هي ما يروى عن هذا الرجل العظيم صلى الله عليه وسلم.

أنه لا يطغى عليه خلق فيخرجه عن الحق فيه

الجانب الثاني: إن الكثير من البشر حين يُرزق خلقاً فإنه أحياناً قد يطغى عليه في مواقف كثيرة ويخرجه عن الحق، خذ مثلاً من رزق الرحمة، وصار صاحب قلب رحيم يتحدث الناس عن رحمته، لا شك أنه يفعل خيراً كثيراً ويحسن للناس ويرق قلبه لما يراه من أحوال الناس، لكن ألا ترى أن هذا الرجل قد يأتي موطن يتطلب منه سوى ذلك فلا يستطيع فتغلبه تلك الشفقة والرحمة فتخرجه عن الحق.

وقل مثل ذلك فيمن رزق السخاء والجود فصار لا يطيق أن يمسك مالاً يرى الناس يحتاجون إليه، ألا ترى أنه قد يتحول ذلك أحياناً إلى ترف وتبذير للمال في غير محله؟ أو ذاك الذي رُزق الشجاعة فصار الناس يغدون ويروحون بالحديث عن أخبار شجاعته وبطولاته، ألا ترى أن هذه الشجاعة تتحول إلى باب من أبواب التهور؟

أو قل على الأقل قد تخرجه عن الحق في موقف من المواقف وموطن من المواطن.

أما النبي صلى الله عليه وسلم فلا، إنه صلى الله عليه وسلم الذي لا يرد سائلاً والذي لا يرد شافعاً، إنه الرحيم صلى الله عليه وسلم بأمته، بل لا يبلغ أحد رحمته صلى الله عليه وسلم، وهو صلى الله عليه وسلم الذي يقبل شفاعة الأمة وشفاعة العبد، وشفاعة الصغير والكبير، وهو الذي يرحم الصغير والكبير، ها هو صلى الله عليه وسلم في موقف يتطلب منه الحق خلاف ما قد يسلكه بعض الرحماء، فنرى منه صلى الله عليه وسلم أن هذه الرحمة وأن هذا التقدير للناس وقبول شفاعتهم لم يخرجه صلى الله عليه وسلم عن الحق، إنه صلى الله عليه وسلم الذي يقبل شفاعة الأمة ويأتي يكلم زوجها، يأتي صلى الله عليه وسلم يشفع لرقيق من الأرقاء لدى أسياده.

بل يأمر صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يشفعوا فيقول: (اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء)، حين سرقت امرأة في مكة ذات جاه، وثقل على الناس أن تُقطع يدها أرادوا أن يشفعوا لدى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: من يتجرأ عليه صلى الله عليه وسلم إلا أسامة حبه صلى الله عليه وسلم وابن حبه، فجاء أسامة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أتشفع في حد من حدود الله) ثم قام صلى الله عليه وسلم فصعد المنبر فقال: (إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها).

إنها فاطمة رضي الله عنها التي يؤلم النبي صلى الله عليه وسلم ما يؤلمها، والتي كان من شأن النبي صلى الله عليه وسلم حين حدث أنه ستكون لها ضرة ما كان من شأنه صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لو أنها سرقت لقطع صلى الله عليه وسلم يدها، ويرد النبي صلى الله عليه وسلم شفاعة أسامة وهو حبه وابن حبه ويغضب صلى الله عليه وسلم لهذا الموقف.

وهكذا فإنه ما من خلق يُمدح به النبي صلى الله عليه وسلم إلا وتراه تحت دائرة الحق لا يخرجه عن الحق، وهذا أمر ينبغي لأولئك الذين طُبعوا وجُبلوا على خلق كريم أن يضبطوا أنفسهم بهذا الضابط، وألا يخرجهم هذا الخلق عن حدود الشرع، إن من جبله الله على الحياء، أو على الكرم، أو على الشجاعة، أو على الجود، أو على الصبر، أو على هذا الخلق وذاك ينبغي أن ينظر لنفسه مراراً، أن يكون هذا الخلق داخل دائرة ما يرضي الله تبارك وتعالى، فإذا شعر أنه سيخرجه عن الحق فإنه حينئذ يصبح خلقاً مذموماً.

أن حسن الخلق لا يحوله إلى رجل ضعيف

أيضاً مزية ثالثة أن الخلق الذي اتصف به صلى الله عليه وسلم لم يكن ليحوله إلى رجل ضعيف.

إن البعض ممن يحسن خلقه يضعف فلا يطيق أحياناً ولا يستطيع أن يقف مواقف صارمة جادة، فتقعد به طبائعه وسجاياه، أما النبي صلى الله عليه وسلم فيجمع الله تبارك وتعالى بين تمام الخلق وبين القوة والجرأة في الحق، فهو صلى الله عليه وسلم صاحب الرحمة، وهو صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله تبارك وتعالى رحمة للعالمين، وهو الذي برحمة الله تبارك وتعالى لان للناس ولو كان فظاً غليظ القلب لانفض الناس من حوله، ومع ذلك يقول صلى الله عليه وسلم عن نفسه: (بعثت بالسيف بين يدي الساعة، وجعل رزقي تحت ظل رمح).

جوانب من خلق النبي صلى الله عليه وسلم

التواضع

وبعد ذلك ننتقل فيما تبقى من الوقت إلى جولة سريعة مع بعض الجوانب من خلقه صلى الله عليه وسلم، وهي لمجرد التمثيل لا الحصر، بل كما قلت في أول الحديث: لو أنا أخذنا جانباً واحداً من هذه الجوانب وكان موضوع حديثنا، وسعينا إلى أن نتقصاه في كتب السنة لشعرنا أن الوقت يضيق بنا، وشعرنا أننا حين نريد أن نجمع من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ما يؤيد هذا الجانب قد لا نطيق ذلك ولا نستطيعه، لكنها إشارات عاجلة إلى بعض الجوانب مما تميز به صلى الله عليه وسلم من تمام الخلق لتكون مجال قدوة وتأس لنا بهذا النبي صلى الله عليه وسلم.

من أهم مجالات الخلق الحسن التي ينبغي أن نتحلى بها التواضع، وما أصعب هذا الخلق على من يكون له مكانة عند الناس بعلم أو جاه أو منزلة، فقد يشعر المرء أن منزلته ومكانته عند الناس تتطلب منه أن يترفع، وقد يكون في قلبه شيء من الكبر من حيث لا يشعر ويرى أن هذا من تمام الوقار ومن تمام المحافظة على هذه المنزلة التي اكتسبها بين الناس حتى لا تضيع.

وانظروا مثلاً ما الذي يسيطر على تفكير الأستاذ وهو بين يدي طلابه وتلامذته، وما الذي يسيطر على تفكير الرجل الوجيه عند الناس وهو بين عامة الناس، فأي رجل له منزلة ومكانة كالنبي صلى الله عليه وسلم؟ وأي رجل أحق بالتقدير والتوقير والاحترام منه صلى الله عليه وسلم؟ ومع ذلك كان صلى الله عليه وسلم متواضعاً، كما حكى عنه عبد الله بن أوفى رضي الله عنه فيما رواه النسائي والدارمي يقول: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يُكثر الذكر، ويقل اللغو، ويطيل الصلاة، ويقصّر الخطبة، ولا يأنف ولا يستنكف أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي لهما حاجتهما).

وكان صلى الله عليه وسلم كما روى عنه أنس يخالط أنساً وأهل بيته حتى كان يمازح أنساً رضي الله عنه فيقول له: (يا ذا الأذنين) وكان صلى الله عليه وسلم يقول لأخ لـأنس أصغر منه: (يا أبا عمير ما فعل النغير؟) وكان له طائر يلعب به، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فرآه حزيناً كاسف البال، فسأل صلى الله عليه وسلم أهله عن شأنه فقالوا: مات نغره أو طيره الذي كان يلعب به، فقال صلى الله عليه وسلم: (يا أبا عمير ما فعل النغير؟).

هاهو صلى الله عليه وسلم الذي يناجي ربه تبارك وتعالى، والذي يتنزل عليه الوحي، والذي يحمل الرسالة، ويعلم الأمة كلها أجمع، لا يستنكف ولا يتكبر أن يمشي مع الأرملة، وأن يمشي مع المسكين، وأن يقضي للناس حوائجهم، وأن يمازح الصبيان ويداعبهم ويسلم عليهم صلى الله عليه وسلم، فعجباً لهذا الرجل صلى الله عليه وسلم!

يقول عنه أحد أصحابه وهو يتحدث عنه ويصفه:

لقد أقوم مقاماً لو يقوم به يرى ويسمع ما قد أسمع الفيل

لظل ترعد من وجد بوادرهإن لم يكن من رسول الله تنويل

كان أصحابه لا يحد أحدهم النظر إليه إجلالاً له صلى الله عليه وسلم، إذا تحدث النبي صلى الله عليه وسلم خفضوا أصواتهم، وكان صلى الله عليه وسلم كما شهد بذلك أبو سفيان : (ما رأيت رجلاً يحبه أصحابه كما يحب أصحاب محمد محمداً) ومع هذه المنزلة العالية كان هذا شأنه صلى الله عليه وسلم وتواضعه مع سائر الناس، وصدق صلى الله عليه وسلم وهو القائل: (ما زاد الله عبداً بتواضع إلا عزاً).

الرحمة

ومن خلقه صلى الله عليه وسلم الرحمة، بل إن الله تبارك وتعالى أرسله رحمة للعالمين، يقول أبو هريرة رضي الله عنه: (قيل: يا رسول الله ادع على المشركين. قال: إني لم أُبعث لعاناً وإنما بعثت رحمة) رواه الإمام مسلم .

ورحمة النبي صلى الله عليه وسلم لا تقف عند حد البشر، بل تتجاوز ذلك إلى البهائم.

يحكي عبد الله بن جعفر رضي الله عنه: (أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم فدخل حائطاً فرأى جملاً، فحن الجمل لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إليه فأقبل إليه ومسح ذفراه، ثم سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أين صاحب الجمل؟ فجاء شاب من الأنصار فقال: أنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اتق الله فإنه شكا إليّ أنك تجيعه وتدئبه).

يجد النبي صلى الله عليه وسلم وهو صاحب القلب المليء بهموم الناس وهموم الأمة كلها يجد في قلبه صلى الله عليه وسلم مكاناً لأن يعتني بشأن دابة من الدواب، وبهيمة من البهائم، وكأن هذا الجمل قد أدرك حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم أنه لن يعدم مكاناً لدى هذا الرجل العظيم، ثم يأتي صلى الله عليه وسلم فيسأل عن صاحبه؟ ويوصيه به خيراً.

وحين يأتي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى طائر من الطيور فيأخذون فراخه، فيأتي صلى الله عليه وسلم فيقول: (من فجع هذه بولدها؟) إن النبي صلى الله عليه وسلم يرحم هذه البهائم والدواب فكيف ستكون رحمته صلى الله عليه وسلم بالناس؟ بل كيف ستكون رحمته صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين بالله تبارك وتعالى؟ ولهذا وصفه عز وجل بأنه بالمؤمنين رءوف رحيم.

وفي هذا أيها الإخوة أسوة لكل من ولاه الله عز وجل أمانة ومسئولية على المسلمين صغرت أم كبرت، أباً كان أو معلماً أو موجهاً، ولهذا أخبر صلى الله عليه وسلم أن أولئك الذين لا يرحمون الناس لا يرحمهم الله تبارك وتعالى.

استنكف رجل أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم يقبّل صبياً من الصبيان، فقال: (تقبّلون صبيانكم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أو أملك أن نزع الله من قلبك الرحمة؟)، وفي موقف آخر يقول صلى الله عليه وسلم: (من لا يرحم لا يُرحم).

ومن رحمته صلى الله عليه وسلم بأمته أن يدعو: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه).

الحياء

ومن خلقه صلى الله عليه وسلم الحياء.

ويكفي في ذلك شهادة الله تبارك وتعالى له: إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ [الأحزاب:53].

ويقول أبو سعيد الخدري رضي الله عنه فيما رواه الشيخان: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها، وكان إذا كره شيئاً عرفناه في وجهه).

إنه صلى الله عليه وسلم كان يستحي أن يصرّح للناس بما يؤذيه صلى الله عليه وسلم من سلوكهم، وهم لم يكونوا يتعمدون إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه صلى الله عليه وسلم حين يريد هؤلاء أن ينصرفوا كان يستحي أن يشعرهم بذلك، فيخرج صلى الله عليه وسلم ويدخل حتى جاءهم وحي الله تبارك وتعالى أنهم إذا دُعوا إلى طعام، فإذا طعموا فلينتشروا ولينصرفوا؛ لأن بقاءهم يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، وهو صلى الله عليه وسلم يستحي أن يشعرهم بأنه يريد منهم أن ينصرفوا.

ولهذا أعلى النبي صلى الله عليه وسلم منزلة الحياء، وأخبر أن الحياء خير كله، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الحياء قرين الإيمان، وأنه منزلة من منازل الإيمان، بل أنكر صلى الله عليه وسلم على من وعظ أخاه في الحياء، وأخبر أن الحياء لا يأتي إلا بخير.

العفو

ومن خلقه صلى الله عليه وسلم العفو والتنازل عن حقه.

فتقول عائشة رضي الله عنها فيما رواه الإمام مسلم : (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط بيده، ولا امرأة، ولا خادماً، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن يُنتهك شيء من محارم الله فينتقم لله عز وجل).

حسن المنطق

ومن خلقه صلى الله عليه وسلم حسن منطقه.

كما روى الإمام البخاري عن عائشة رضي الله عنها: (أن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه قال: بئس أخو العشيرة وبئس ابن العشيرة، فلما جلس تطلّق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وانبسط إليه، فلما انطلق الرجل قالت له عائشة : يا رسول الله؛ حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا ثم تطلّقت في وجهه وانبسطت إليه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة ، متى عهدتني فحّاشاً؟ إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره) عافانا الله وإياكم.

إعطاء السائلين

وأيضاً من حسن خلقه صلى الله عليه وسلم أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يرد سائلاً.

ففي الصحيحين عن جابر رضي الله عنه قال: (ما سئُل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قط فقال لا).

وفي مسلم عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يقاعدونه فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا نبي الله ثلاث أعطنيهن. قال: نعم -وذكر الحديث وفيه:- ولولا أنه طلب ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم ما أعطاه ذلك؛ لأنه لم يكن يُسأل شيئاً إلا قال: نعم).

مراعاة مشاعر الناس

ومن حسن خلقه صلى الله عليه وسلم مراعاته صلى الله عليه وسلم لمشاعر الناس.

وهو جانب دقيق وعجيب في سيرته صلى الله عليه وسلم، وشواهده في ذلك كثيرة، منها ما يرويه أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن رجلاً دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه أثر صفرة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قلما يواجه رجلاً في وجهه بشيء يكرهه، فلما خرج قال: لو أمرتم هذا أن يغسل هذا عنه).

وفي الصحيحين أيضاً: (أنه صلى الله عليه وسلم حين كان محرماً أهدى إليه رجل صيداً فرده صلى الله عليه وسلم، فلما رأى ما في وجهه قال: إنا لم نرده عليك إلا أنا حُرم).

وحين جاء مالك بن الحويرث وأصحابه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فبقوا عنده أياماً قال مالك رضي الله عنه: (فرأى النبي صلى الله عليه وسلم أنا قد اشتقنا إلى أهلنا فرق لحالنا، فقال صلى الله عليه وسلم: انطلقوا إلى أهلكم وعلّموهم، وصلوا كما رأيتموني أصلي).

وحين تقرأ في سيرته صلى الله عليه وسلم ترى كثيراً أنه صلى الله عليه وسلم كان يدرك هذه المشاعر، وكان يرعاها صلى الله عليه وسلم، بل كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك حتى وهو في صلاته, فالنبي صلى الله عليه وسلم يُخبر عن نفسه أنه يدخل الصلاة وهو يريد أن يطيلها فيسمع بكاء الصبي فيخفف الصلاة خشية أن تُفتن أمه.

وعجباً لهذا الخلق العظيم..! إن السنة في حق المرأة أن تصلي في بيتها، والأفضل في حقها ذلك، ولو قيل لأحد ممن يؤم الناس شيئاً في ذلك لقال: اقعدي في بيتكِ، لكن النبي صلى الله عليه وسلم يدخل الصلاة وهو يريد أن يطيل فحين يسمع النبي بكاء الصبي يخشى صلى الله عليه وسلم أن تُفتن أمه، فيقصر الصلاة مراعاة لهذه المرأة، والتي كان الأفضل في حقها أن تشهد الصلاة في بيتها كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف بأولئك الذين أوجب الله عز وجل عليهم صلاة الجماعة؟

أحياناً قد يجفو بعض الأئمة الخلق مع الناس فيتسبب في فتنة الناس وصدهم عن أداء الصلاة مع الجماعة والتي هي في حقهم واجبة يأثمون لو تركوها.

الاهتمام بالناس

ومن خلقه صلى الله عليه وسلم اهتمامه بالناس.

وهو أيضاً خلق عجيب! وقد دونت بعضاً مما رأيته في سنة النبي صلى الله عليه وسلم فرأيت أن الأمر يطول حينما أردت أن أجمع شيئاً مما يدل على اهتمامه صلى الله عليه وسلم بالناس ورعايته لهم، ومن ذلك مثلاً ما يرويه عثمان رضي الله عنه يقول: (إنا والله قد صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر والحضر، وكان يعود مرضانا، ويتبع جنائزنا، ويغزو معنا، ويواسينا بالقليل والكثير، وإن أناساً يعلموني به عسى ألا يكون أحدهم رآه قط) رواه الإمام أحمد .

وهاهو النبي صلى الله عليه وسلم حين ماتت امرأة تقم المسجد، فحقّر الناس شأنها وصلوا عليها ودفنوها بليل، فقال صلى الله عليه وسلم: (هلا آذنتموني) فيذهب صلى الله عليه وسلم فيصلي على قبرها.

وحين يمرض أعرابي يأتي النبي صلى الله عليه وسلم إليه فيعوده، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم له: (لا بأس، طهور إن شاء الله، فقال له الأعرابي: ماذا قلت؟ فأعاد النبي صلى الله عليه وسلم عليه، قال هذا الأعرابي: بل حُمى تفور على شيخ كبير تزيره القبور، فقال صلى الله عليه وسلم: نعم، فمات ذاك الرجل).

وحين مرض شاب غلام من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وبه رمك أتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده وهو زيد بن أرقم رضي الله عنه الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم راوياً له ما قاله عبد الله بن أبي فقال له صلى الله عليه وسلم: (قد وفت أذنك يا غلام).

إنه صلى الله عليه وسلم لا يستنكف ولا يستكبر أن يعود هذا الغلام.

إنه صلى الله عليه وسلم يهتم بشأن خاصة أصحابه ويعتني بهم، ويهتم بشأن الأعراب، ويهتم بشأن الصبيان، ويهتم بشأن القريب والبعيد، بل يبلغ هذا الأمر عند النبي صلى الله عليه وسلم شأناً عجيباً، (كان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً فدخل أبو بكر فلم يعدّل جلسته، ثم دخل عمر رضي الله عنه فكان كذلك، فلما دخل عثمان تهيأ صلى الله عليه وسلم، وعدّل جلسته، فقيل له في ذلك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إن عثمان رجل حيي فإني أخشى أن يراني على هذا فلا يبلغ حاجته).

انظروا إلى هذا القدر من رعايته واهتمامه صلى الله عليه وسلم بأمر الناس: تأتي امرأة في عقلها شيء فتأخذ بيده صلى الله عليه وسلم، فينطلق معها صلى الله عليه وسلم وتحدثه بحاجتها، وتأتي بريرة وقصتها مشهورة، وهي أمة فحين عتُقت كانت ذات زوج، فحين حدثها صلى الله عليه وسلم فقال لها: (ارجعي إلى زوجكِ قالت له: أنت شافع أم آمر؟ فيقول صلى الله عليه وسلم: بل شافع، فتقول: لا حاجة لي فيه).

يهتم النبي صلى الله عليه وسلم بأمر العبد وهو الذي يقود الأمة، ويواجه اليهود ويواجه غطفان، ويواجه قريشاً، ويواجه المنافقين، والأعراب.. من هنا وهناك، ويقضي بين الناس ويفتيهم ويعالج شئونهم وتعليمهم.

وفي الواقع أنك لو أردت أن تستكثر من هذه الشواهد لشعرت أن المقام يضيق بك، اقرأ سيرته صلى الله عليه وسلم وسنته، وانظر كيف كان صلى الله عليه وسلم يهتم بالناس ويعتني بهم، ولا شك أيها الإخوة أن هذا مما يؤثر على الناس، ويجعل الرجل يملك قلوبهم، فما أحوج طلبة العلم، وما أحوج الذين يتصدون للدعوة إلى الله تبارك وتعالى وإلى تعليم الناس أن يعتنوا بشأن الناس، والعناية بشأن الناس ولو بكلمة طيبة، أو اعتذار لطيف، أو حسن استقبال قد يكفي ويخلق من المودة في قلوب الناس الكثير الكثير، بل والمرء يفعل ذلك تديناً وحسن خلق قبل أن يفعله لأجل أن يكسب مودة الناس.

أشعر أيها الإخوة أن الحديث يطول، ولهذا أكتفي بهذا القدر، وأقتصر على هذه النقاط، وإن كانت هناك بعض النقاط التي دوّنتها وأردت الحديث حولها، لنترك بعض الوقت للإجابة على أسئلة الإخوة.

أسأل الله تبارك وتعالى أن يهدينا لأحسن الأخلاق فلا يهدي لأحسنها إلا هو تبارك وتعالى، وأن يصرف عنا سيئها إنه تبارك وتعالى سميع مجيب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

الأسئلة

توضيح اللبس في الاقتداء بالخلق النبوي

السؤال: ذكرت في معرض كلامك أو أنا فهمت ذلك أننا لن نستطيع أن نبلغ ما بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم بأخلاقه ولا صحابته بقولك: عزاؤنا أن الصحابة لم يبلغوا ما بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم، أليس كلامك هذا فيه تثبيط للهمم؟ الرجاء توضيح ما التبس، كي يرتد إلينا النفس، ونكون كما كان أنس .

الجواب: لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم له منزلة ليست كسائر الناس، ولأصحابه منزلة ليست أيضاً لمن دونهم، لكن هذا لا يعني أن لا نتأسى بهم..! ولو طبّقنا هذا لأبطلنا مبدأ التأسي أصلاً في العبادة وفي الهدي وفي كل الأبواب والمجالات لأننا لا نبلغ منزلة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يتصور أحد أبداً أن يبلغ منزلته صلى الله عليه وسلم، لكن كوننا لا نستطيع أن نبلغ منزلته لا يعني أن نلغي جانب التأسي.

وهنا شاهد سريع يشير إلى هذا المبدأ: أبو هريرة رضي الله عنه لما كان يذكر شدة جوعه وما يعانيه يقول: (كنت أخر عند المنبر من شدة الجوع فيأتي الرجل فيقرأ عليّ آية من القرآن يظن أن بي مساً وما بي إلا الجوع) يقول: (بلغ بي الجوع فلقيت أبا بكر رضي الله عنه فسألته عن آية من كتاب الله، ما أسأله إلا ليطعمني فأجابني ثم انصرف، ثم لقيت عمر رضي الله عنه فسألته فأجابني ثم انصرف، ثم لقيت النبي صلى الله عليه وسلم فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: انطلق) من مِن الناس مثل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما؟ ومع ذلك خفي عليهما أن يدركوا هذا المعنى، ولو أن أبا بكر رضي الله عنه أو عمر أدرك القصد الذي كان يقصده أبو هريرة رضي الله عنه لأطعمه ولا شك.

لكن هكذا الناس مراتب ومنازل ودرجات، والإنسان يسعى قدر الإمكان أن يجتهد ويتطلع لمثل هذا المثل الأعلى، لكن إذا قصرت هممنا وتطلعنا إلى المثل القريب لا نستطيع أن نبلغه، يعني لو وضع الإنسان أمامه قدوة من الناس القريبين منه وأراد أن يسعى إليه فهو قطعاً لن يصل إليه وسيكون دونه، لكن لو كانت قدوته النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فإنه يستطيع أن يصل إلى ما وصل إليه هذا الرجل الذي يراه أمامه ولا تقصر همته.

الاعتذار عن مكارم الأخلاق بأن النبي لا يمكن أن يكون مثله أحد

السؤال: قد يعتذر كثير من الناس حينما يُدعى إلى مكارم الأخلاق والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى قد اختاره واصطفاه ولا يمكن أن أكون مثله، فما رأي فضيلتكم؟

الجواب: حينما نقول له: كن مثل النبي صلى الله عليه وسلم تماماً يقول ذلك، لكن حينما ندعوه إلى مكارم الأخلاق نقول: ليست مكارم الأخلاق درجة واحدة يقفز إليها الإنسان قفزة وإلا كان سيئ الخلق، بل هي درجات ومراتب، والله عز وجل أمرنا ورتّب على حسن الخلق الدرجة العالية، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن المؤمن يبلغ بحسن الخلق درجة الصائم القائم، وأنه صلى الله عليه وسلم كفيل ببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه.

النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكر هذا الحث عبثاً، لو كانت الأمة غير قادرة على أن تتخلق بهذا الخلق الحسن لما خوطبت بذلك، ولما كلفت ذلك، والناس لم يكلفوا إلا بما يطيقون، ولم يخاطبوا إلا بما يستطيعون، فما دام النبي صلى الله عليه وسلم قد دعانا لذلك وأمرنا به فهذا يعني أننا نطيق ذلك.

من الشواهد على ذلك أننا اليوم نرى في كل مجال وميدان، ليس من التاريخ البعيد بل من الناس الذين نعيش أمامهم؛ نرى من نتمنى أن نكون على حسن خلقهم في أي باب وأي مجال من المجالات، وهؤلاء بشر مثلك.

دور السلام في ترابط المسلمين

السؤال: مما لا يخفى عليكم دور السلام في ترابط المسلمين، ولكن ألا ترى أن السلام قد اندثر بين المسلمين، فإذا سلمت على أحدهم تعجب وقال: هل هو يعرفني؟ نرجو من فضيلتكم أن تلقي ضوءاً على ذلك؛ لأن له علاقة بهذا الموضوع؟

الجواب: النبي صلى الله عليه وسلم ربط السلام بالمحبة: (أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم).

ثم أيضاً: هناك السلام الذي يقع بمجرد الالتقاء، مثل لقاء إنسان لا تعرفه، وهذا أمر طبيعي، لكن أحياناً السلام فيه مزيد من الترحيب والابتسامة والتلقي ليجعل من تقابله يشعر بأنك قابلته بوجه طلق.

مثلاً: أحياناً تقابل شخصاً تعرفه فيسلم عليك، حينما ينصرف تقول بنفس الشيء، وما قال لك كلمة لكن طريقة سلامه وترحابه بك ورده للسلام والابتسامة لها أثر، فلا شك أن الاهتمام بهذه الجوانب مما يشيع المحبة والود والوئام بين المسلمين.

آداب المزاح

السؤال: من المعروف أن المزاح من خلق النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن ما ضوابطه؟ وماذا تنصحون ممن يُكثر منه جزاكم الله خيراً؟

الجواب: كان النبي صلى الله عليه وسلم يمازح أصحابه، لكن من أهم ضوابطه أنه لا يقول إلا حقاً صلى الله عليه وسلم، فلا يكذب حينما يمزح صلى الله عليه وسلم، هذا أمر.

الأمر الثاني: أن لا يكون غالباً على الإنسان، والنبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يمازح أصحابه كان يقول: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله عز وجل) ويخبر صلى الله عليه وسلم أن كثرة الضحك تميت القلب.

وكذلك أن لا يطغى على الإنسان فيصبح شعاراً له، وأن لا يكون في مواطن الجد، فحين يكون المرء في موطن من مواطن الجد ينبغي له ألا يخلط ذلك بمزاح، ثم أيضاً ينبغي أن يحذر من أن يكون المزاح فيما يتعلق بالنصوص والأحكام الشرعية فهذا أمر خطير، بل قد يوقع الإنسان في الكفر عافانا الله وإياكم.

التوفيق بين حسن الخلق وتهاون الناس بمن يحسن خلقه معهم

السؤال: هل ترى أن من حسن الخلق أن تكون هيناً ليناً، ولكن بعض الناس يذهب شخصيتك بالتهاون واللين، ويصفك بالجبن والضعف؟

الجواب: هناك فرق بين الضعف والهوان على الناس وبين التواضع، وحينما ندرس سيرة النبي صلى الله عليه وسلم نجد أنه صلى الله عليه وسلم كان يلقى الصبيان ويداعبهم ويمازحهم، ويقضي حاجات الناس، ومع ذلك ما كان أحد يتجرأ عليه صلى الله عليه وسلم، بل كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحسنون معاملته صلى الله عليه وسلم هذا جانب.

الجانب الثاني: إذا كنا نريد أن نبحث دائماً عن هالة وقيمة لنا عند الناس نفتعل لأنفسنا صورة فستسيطر علينا كثيراً، والقضية تبدأ من مراعاة هذه النظرة، حيث يقول إنسان: أريد أن أحتفظ بوقاري، فتتحول إلى هالة يفترضها الإنسان لنفسه، ويريد قدراً من الاحترام والتوقير، وقد تدخل به باباً من أبواب الكبر عافانا الله وإياكم، والاحترام والتقدير عند الناس ليس شيئاً يصطنعه الإنسان لنفسه، إنما هو شيء يفرضه الإنسان من خلال خلقه وما يقدمه للناس، ولئن كنت قد تخسر جوانب في تواضعك للناس فإنك ستكسب الكثير الكثير بحسن خلقك من تقدير الناس واحترامهم لك.

تطبيق حسن الخلق

السؤال: نرجو الانتقال إلى توجيه الحضور إلى حثهم على تطبيق صفة حسن الخلق وتربية وتوجيه الأهل لذلك وفقكم الله.

الجواب: هذا جانب كنت أريد أن أتحدث عنه في آخر المحاضرة، وإن كان موضوعنا الإشارة إلى خلق النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هذه القضية فعلاً يجب أن نعتني بها في تربيتنا من الصغر؛ لأن حسن الخلق ليس مجرد توجيهات تعطيها للناس! سيتمثلها الناس تلقائياً إنما تحتاج إلى مجاهدة، نعم، منها جانب جُبل عليه الإنسان أصلاً، لكن منها جانب يحتاج إلى تربية وإلى تعود وإلى تلق، فنشيع في المنزل والبيت الخلق والاحترام، يعني إذا كان الأب مثلاً لا يقدر ابنه، وتلفظ عليه بألفاظ نابية ولا يحترمه ولا يقدره، فكيف نريد أن نوجد عند هذا الابن الخلق الحسن؟ قد يكون عنده خضوع لوالده، وتقدير واحترام لكنه مشوب بالرهبة والخوف، فحينما يتعامل مع الآخرين لا يحسن خلقه.

حينما يتلفظ الأب على ولده بألفاظ ساقطة، لا بد أن يتلقى الابن من الأب مثل هذه الألفاظ، وإن لم يقلها لولده فسيقولها لغيره من الناس.

إذا كنا نريد أن نعود الابن الحلم والصبر والأناة يجب أن يشعر أننا نحلم في التعامل مع الآخرين، هنا ينشأ الابن من الصغر على مثل هذا الخلق في كل مجال، أعني على خلق الصبر والرحمة، والمنطق الحسن ، والجود والسخاء والكرم وغيرها من الأخلاق التي نريدها.

ننتقل إلى المدرسة، فحينما يعامل الطالب بفظاظة وغلظة وقسوة من الأستاذ أو من المسئول عن توجيهه، أو حينما يعامل بصورة أو أخرى بخلق سيئ فلا ننتظر منه إلا ذلك.

حينما يأتي إلى المسجد مثلاً ليحفظ القرآن في حلقة من حلقات القرآن فيجد سوء الخلق ممن يعلمه حفظ القرآن، أو حينما يأتي إلى مجلس من مجالس العلم فلا يجد ممن يعلمه مثلاً النموذج في حسن الخلق، بل يجد منه الإعراض، يجد منه الجفاء فإنه سيتعلم جانباً من ذلك.. فيجب أن نشيع ذلك في المنزل، في المدرسة، في كل أوساطنا، لا نتصور أبداً يا أخوة أننا يمكن من خلال الحديث والخطاب للناس نستطيع أن نبني ذلك، نعم نحن من خلال الحديث ننبه الناس على أهمية هذا الأمر، ننبه إلى أخطاء معينة، لكن أن نتصور أننا بمجرد التوجيه فقط سنصحح الأخطاء لدى الناس، وسنغرس عند الناس الخلق الحسن..! فأظن أننا مخطئون في ذلك.

كيفية اكتساب حسن الخلق

السؤال: ما رأيك فيمن يتصدر مقام التربية كالمدرس والأب وغيرهم، كيف يرسم منهجاً لنفسه يُعرف عنه بحسن الخلق، ويكون بذلك قدوة لغيره؟

الجواب: حسن سالخلق ليس درجة واحدة، فالإنسان بحاجة إلى أن يربي نفسه ويتعاهدها، فنحن بحاجة إلى أن نربي أنفسنا دائماً وأن نتعاهدها، ثم أن نستفيد ولو حتى ممن كان دوننا، وأن نستفيد من أخطائنا وهي نقطة مهمة وينبغي أن نستفيد منها، وأنا أذكر موقفاً حصل لي لا أشعر أنني استفدت مثل هذا الموقف.. امرأة أرسلت لي رسالة تستشيرني في مشكلة.. وأنا مشغول في دراسة منهجية، وقد لا يستطيع الإنسان أحياناً أن يجد وقتاً مناسباً للرد على الرسالة، فكتبت للرد على الرسالة وأرسلتها لكن وصلت رسالة منها قبل أن تصل إليها الرسالة، وكانت رسالة عتاب قاسية فعلاً، أنا صراحة عندما تلقيتها شعرت بالخطأ، لكن بعدها فكّرت فعلاً وشعرت أنني كنت وقعت في هذا الخطأ، تستشيرني في مشكلة تخصها، أنا لربما كانت المشكلة عندي ليست ذات بال، لكنها قالت لي في مقدمة الرسالة: أنك لو كنت حاخاماً يهودياً أو قساً نصرانياً واستشرتك في لون ملابسي والطعام المفضل لأشرت عليّ بمباركة الرب كما يقول هؤلاء! لكنني حينما أستشير طالب علم تعلمنا في الإسلام أن النبي صلى الله عليه وسلم تأخذ بيده الأمة حيث شاءت وأستشيرك بقضية تهم مستقبل حياتي تنصرف عني، أظن أن هذا ليس من خلق الإسلام! ثم تقول: أتمنى أن تجد وقتاً لمواصلة أبحاثك واهتماماتك وأن لا أكون قد شغلتك برسالتي هذه.. يعني بشر أول ما يجد مثل هذا الموقف قد يأخذه حظ النفس ويشعر، لكن بعد فترة فكّرت وشعرت أن مشكلتنا أحياناً أننا ننظر إلى مشكلات الناس وقضاياهم كما ننظر إليها نحن، لا كما ينظر إليها هؤلاء!

الرسول صلى الله عليه وسلم حينما كانت تأتيه امرأة في عقلها شيء وتحدثه فيستمع إليها، أقول: فعلاً يجب أن نستفيد من أخطائنا، وسنبقى دائماً نجد أخطاء، ونواجه أنفسنا بصراحة، قد لا نحتاج أحياناً أن نعترف ونواجه الناس بأخطائنا، لكني أتصور أن الاستفادة من الأخطاء التي نقع فيها من أهم الجوانب التي تعيننا على تجاوز السلبيات التي سنقع فيها، فإذا كنت أنت إنساناً سريع الغضب، وغضبت في موقف من المواقف وشعرت أنها ذهبت إلى ما لا تحمد عقباه ستبدأ بعد فترة تحسب حسابك، وكذلك مرة أخرى حتى تشعر أنك قد أصبحت تمسك بلجام نفسك، وقل مثل ذلك في أي خُلق سيئ ترى أنك قد اتصفت به.

تأثر الأبناء بمخالطة أقاربهم

السؤال: من الأسباب التي تفسد أخلاق الأبناء والشباب والفتيات عدم اهتمام الآباء في مخالطة أبنائهم وبناتهم من الأقارب حتى وإن كان خلقهم سيئاً، فما داموا أقارب فلا يهتم بأخلاقهم وسلوكهم، أرجو التنبيه على هذه النقطة؟

الجواب: المشكلة أحياناً أن بعض الآباء ينظر إلى الابن من خلال والده، فعندما يصاحب ولده ولداً آخر يسأل الوالد عن هذا الولد فيقال: ابن فلان، فيرتاح لذلك نظراً إلى أن أب الولد رجل صالح، وهذا لا يكفي، أليس نوح عليه السلام كان له ابن كافر أغرقه الله عز وجل؟ إذا نظر أحد إلى ابن نوح على أنه ابن نوح وابن رسول الله، وابن واحد من أولي العزم سينظر له لا شك نظرة خاطئة، وكم يرتكب هذا الخطأ في موضوع الزواج، وذلك عندما يتقدم شخص إلى الخطبة، فيقال هو ابن فلان أو العائلة الفلانية وهي عائلة معروفة بالخير والاستقامة والصلاح، فسلا يسأل عنه هو، وكأن هذا الأب سيزوج عائلته أو سيزوج والده، وهذه من الأخطاء التي نقع فيها.

الذين نختارهم لصحبة أبنائنا أو صحبة بناتنا يجب أن نسأل عنهم هم، ونعرف أحوالهم هم لا أن نعرف أحوال آبائهم، وقد يكون الأب صالحاً وخيّراً لكن ما استطاع إصلاحه، وإنك لا تهدي من أحببت، أو قد يكون صالحاً وخيّراً لكن لم يحسن التربية، فليس بالضرورة أنه حينما يكون الأب صالحاً سيكون الابن صالحاً، وإن كان في حالات كثيرة لا شك أنه يترك أثره على أولاده.

الكتب التي تتحدث عن الأخلاق

السؤال: حبذا لو أحلتنا إلى بعض الكتب المناسبة التي تتحدث عن الأخلاق؟

الجواب: اقرأ أي كتاب في السنة، اقرأ في أبواب الطهارة وفي أبواب الصلاة، مثلاً عندما تأتي إلى أبواب الصلاة تجد باب الحركة في الصلاة، تجد النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يصلي ويحمل أمامة فإذا سجد وضعها) هذا جانب من خُلق النبي صلى الله عليه وسلم؛ (كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فجاء أحد أطفاله يتعثر فنزل ثم أخذه معه ثم عاد إلى خطبته وقال: إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين طائفتين). (لما كان صلى الله عليه وسلم يخطب جاء رجل فقال: يا رسول الله، رجل غريب جاء يسأل عن دينه، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بكرسي من حديد فجلس النبي صلى الله عليه وسلم، ثم علّمه ثم صعد إلى المنبر).

اقرأ في الحج مثلاً: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فجاءه رجل فقال: اكتبوا لي، فقال صلى الله عليه وسلم: اكتبوا لـأبي شاه).

هناك مواقف في الحج، في الصيام.. في أي باب من أبواب السنة اقرأ وتمعن، فستجد خلق النبي صلى الله عليه وسلم في كل موطن ليس قاصراً على أبواب الأخلاق والآداب، أما أبواب الأخلاق والآداب فهي مليئة، وقد صنّف العلماء في ذلك كتباً كثيرة من أهمها كتاب الشمائل المحمدية للإمام الترمذي .

نسأل الله تبارك وتعالى كما جمعنا في هذا المقام الكريم المبارك أن يجمعنا في دار كرامته في مقعد صدق عند مليك مقتدر إنه سميع مجيب. اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف سيئها إلا أنت.

هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وسبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , وإنك لعلى خلق عظيم للشيخ : محمد الدويش

https://audio.islamweb.net