إسلام ويب

جبل الله النفوس على الطباع المختلفة والميول المتفاوتة، وعلى هذا فكل نفس تميل إلى عمل وترغب في شيء قد لا يرغب فيه الآخرون، فإذا كان الإنسان على باب من أبواب الخير فلا يحق له تحقير غيره من الأبواب ولا العاملين فيه، لأن الدعوة إلى الله تحتاج إلى التكامل.

جميع أعمال الخير وخدمة الدين مطلوبة

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:

فهذه المحاضرة هي امتداد للدروس التربوية التي كانت تلقى أثناء العام الدراسي، وقد وعدت أن أستأنف هذه الدروس خلال الإجازة وتكون مفرقة على المراكز الصيفية داخل الرياض وخارجها، وبمشيئة الله سبحانه وتعالى مع بداية العام الدراسي تعود هذه الدروس إلى مكانها وزمانها.

وهذا هو الدرس الثامن وهو بعنوان: كلانا على خير، وقد اعتدت وأنا أحرص قدر الإمكان على أن يكون العنوان واضحاً، وتكون له دلالة واضحة على المضمون، حتى يعرف من يقرأ إعلان المحاضرة أو من يقرأ عنوان الشريط مضمون ما فيه، لكن هذه المحاضرة قد نحتاج إلى أن نقف وقفة يسيرة حتى نحدد موضوعها.

وهذا العنوان عبارة قالها الإمام مالك رحمه الله تعالى، فقد كتب إليه أحد العُبّاد يُنكر عليه اشتغاله بالعلم ويدعوه إلى التفرغ للعبادة، فكتب له مالك رحمه الله: إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرُب رجل فُتح له في الصلاة ولم يُفتح له في الصوم، وآخر فُتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فُتح له في الجهاد، فنشر العلم من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فُتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر.

فالإمام مالك يقول لصاحبه: إن الأعمال تتفاوت، والله سبحانه وتعالى قسم الأعمال بين الناس، فرُب رجل فُتح له في باب ولم يُفتح له في آخر، وإن كنت أنا على طريق وأنت على طريق آخر فكلانا على خير وبر، فكل هذه الطرق تؤدي إلى المقصود والمطلوب، وحين نلقي نظرة عجلى وسريعة على الجهود المبذولة لإحياء الأمة وإيقاظ الأمة نجد أن هناك أساليب متنوعة وطرقاً شتى.. فتجد من عُني بالعلم وأخذ على عاتقه إزالة غشاوة هذا الجهل المتفشي في الأمة، فسلك سبيل العلم تعلماً وتعليماً ودعوة إليه، ورأى أن إيقاظ الأمة إنما يكون من خلال هذا الباب.

والثاني رأى أن هذه الأمة إنما كانت خير أمة أخرجت للناس؛ لأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فسخّر وقته وجهده لإنكار المنكرات الظاهرة والعامة والخاصة فاستغرق عليه ذلك جهده ووقته، ورأى أن هذا هو الطريق الذي ينبغي أن يُسلك لإنقاذ الأمة، وأنه بمثل هذا العمل يدفع الله عز وجل العذاب عن الناس.

وثالث قد تألم لحال وواقع من استهواهم الشيطان فوقعوا في الانحراف والرذيلة، فسخّر وقته وجهده لدعوة هؤلاء وإنقاذهم من خلال وسائل وطرق وأساليب شتى، فكل وقته وجهده مسخّر لأولئك الذين ضلوا عن صراط الله وسلكوا سبيل الانحراف والغواية.

ورابع قد رق قلبه للأكباد الجائعة، والبطون الخاوية، فصار ينفق من نفيس ماله، ويجمع الأموال من فلان وفلان فينفقها في أوجه الخير على الأرامل والمحتاجين، ولنشر الدعوة والجهاد..، إلى غير ذلك من أبواب الإنفاق، فهذا شأنه وهذا ديدنه.

والخامس قد استهوته حياة الجهاد، فحمل روحه على كفه، وامتطى صهوة جواده، فهو كما قال صلى الله عليه وسلم: (كلما سمع هيعة لبى وطار) فيوماً تراه في المشرق، ويوماً تراه في المغرب، ويوماً تراه هنا وهناك يسعى للجهاد في سبيل الله، وأصبح لا يطرب أذنه ولا يشنفها إلا أزيز الرصاص وصوت السلاح، ورأى أن هذه الأمة أمة جهاد، وأن الجهاد هو السبيل لرفع الذل عن هذه الأمة.

والسادس رأى أن هذا الدين دين الناس جميعاً فسخّر جهده لدعوة غير المسلمين.

والسابع سخّر قلمه لخوض المعارك الفكرية دفاعاً عن الإسلام، ومصاولة لأعدائه، والمتحدثين زوراً باسمه، كتابة وخطابة وتأليفاً فصار يتحدث عن مشكلات الأمة، وعن قضاياها، وقد لزم هذا الثغر يواجه به أعداء الله سبحانه وتعالى.

وآخر هؤلاء من رأى أن الأمة عدتها وأملها إنما هو في شبابها وجيلها الناشئ، فسخّر وقته لتربية الشباب، وإعدادها وتنشئتهم على طاعة الله سبحانه وتعالى، ورأى أن هذا الطريق هو الذي يخرج العاملين والمجاهدين وينقذ الأمة، وهكذا ترى أبواباً من الخير، وألواناً من الخدمة لهذا الدين والدعوة له، أبواب واسعة تسع الجميع على اختلاف طاقاتهم وعقولهم وعلومهم ومداركهم وأفهامهم، فنتساءل هنا:

هل نضيق ذرعاً بهذه الاجتهادات؟ أم هل نرى أن هذا من الخلاف والتنافر والخلل؟ أم أن نبحث عن طريق واحد لأن الحق لا يتعدد، وصراط الله المستقيم إنما هو واحد، والسبيل لإنقاذ الأمة سبيل واحدة واضحة!

أو أن هناك منطقاً آخر من التفكير ينبغي أن نفكّر فيه هو أن هذه الجهود كلها مطلوبة، وهذه الجهود لا بد من القيام بها، فلا بد أن يقوم فلان بهذا العمل، والآخر بذاك، والثالث بالعمل الآخر..، وهكذا لا بد أن ندخل جميعاً من أبواب متفرقة، ولا بد أن نسد جميعاً هذه الثغور وأن نقف على هذه الفصول، قد نستعجل فنحكم بهذه النتيجة فنقول: إن هذا هو ما ينبغي أن نتعامل من خلاله مع مثل هذا الواقع، مع مثل هذه الجهود المبذولة للدعوة لدين الله سبحانه وتعالى وإحياء الأمة، فنتساءل حينئذ: لماذا نصل إلى هذه النتيجة؟ لماذا نقول إن هذه جهود خيّرة، وجهود مطلوبة؟ لا بد أن تُسلك جميعاً، وينبغي أن يسلك كل امرئ ميداناً من هذه الميادين، وأن لا يعيب بعضنا على بعض، فكلانا على خير وبر.

فننتقل إلى هذه النقطة وقد نطيل فيها قليلاً لأهميتها..

الأدلة والمبررات لقبول اختلاف الاجتهادات فيما يقدمه المرء للإسلام من الخدمات

إذاً اتفقنا نحن على أن المطلوب هو أن نقبل هذه الاجتهادات جميعاً، وأن تقوم هذه الجهود جميعاً وتتضافر، وأن يكون لسان كل واحد من العاملين لهذا الدين على أي ثغر من هذه الثغور ما قال الإمام مالك رحمه الله: كلانا على خير وبر.

للأمور الآتية:

قول الله (وما كان المؤمنون لينفروا كافة)

أولاً: يقول الله سبحانه وتعالى: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122].

في هذه الآية يخبر الله سبحانه وتعالى أنه لا ينبغي للمؤمنين أن يخرجوا جميعاً إلى الجهاد، بل لا بد أن ينفر من كل طائفة، ومن كل قوم، ومن كل قبيلة فئة يتفرغون للعلم ويتفقهون في الدين، ثم ينذرون قومهم إذا رجعوا إليهم، أي أن هذه طائفة لن تنفر للجهاد في سبيل الله، ولن تخرج للجهاد إنما ستتفرغ لتحصيل العلم الذي تتفقه فيه ثم تنذر قومها، بل إن هذا مسلك غير مطلوب أن تنفر الأمة جميعاً فيترك هذا الميدان المهم، وهو ميدان تعلم العلم الشرعي.

اختلاف أبواب الجنة باختلاف الأعمال

ثانياً: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير، فإن كان من أهل الصلاة دُعي من باب الصلاة، وإن كان من أهل الجهاد دُعي من باب الجهاد، وإن كان من أهل الصيام دُعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دُعي من باب الصدقة. فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: يا رسول الله، ما على من دعي من هذه الأبواب من ضرورة، فهل يُدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: نعم وأرجو أن تكون منهم) وهذه رواية الإمام البخاري في صحيحه، فالحديث يخبر فيه النبي صلى الله عليه وسلم أن هناك طرقاً ووسائل شتى، فمن الناس من يكون من أهل الصلاة، ومنهم من يكون من أهل الصيام، ومنهم من يكون من أهل الجهاد، ومنهم من يكون من أهل الصدقة.. فيدعى كل امرئ من خلال عمله الذي كان يعمله، ولا يعني هذا أن الذي كان من أهل الصلاة إنما كان يؤدي الصلاة المفروضة! لا، فالجميع يؤدون الصلاة الواجبة، والجميع يؤدون الصيام، والجميع يؤدون الحج، لكن أولئك الذين اشتهروا بالصلاة من خلال الاستزادة من النوافل، فصار شأنه الذي يُشتهر به ويُعرف به الصلاة، والآخر قد أقبل على الصدقة، والآخر قد أقبل على الصيام..، وهكذا.

اختلاف الطاقات والمواهب البشرية

ثالثاً: الناس معادن وطاقات ومواهب، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) فيخبر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الناس يتفاوتون تماماً كما تتفاوت معادن الذهب والفضة، فالمعدن مثلاً يُحصل عليه شائب يحتاج إلى تنقية فتجد أن ما تحصل عليه من هذا المعدن، قد تكون نسبة الشوائب فيه كبيرة، والآخر أقل، والآخر أكثر..، وهكذا.

ثم المعادن تتفاوت فيما بينها فالذهب له قيمة ليست كقيمة الفضة، والفضة لها قيمة ليست كقيمة سائر المعادن، ثم ما دون الذهب والفضة من المعادن يحتاج إليه فيؤدي، أدواراً لا يمكن أن تؤديها الذهب والفضة، فيستفاد من هذه المعادن في صناعات وأمور لا يمكن أن تغنينا عنها الذهب والفضة، فكل هذه المعادن مطلوبة جميعاً، وكذلك الناس يتفاوتون، وكما قال الله سبحانه وتعالى: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف:32].

وكما أن معادن الناس وطاقاتهم وقدراتهم تختلف فكذلك تربيتهم، فمثلاً إنسان ولد في بادية ونشأ فيها وعاش فيها، والثاني عاش في قرية، والثالث عاش في مدينة.. لا شك أن منطق وتفكير هذا وشخصيته وعقليته تختلف عن منطق وتفكير الآخر، تختلف عن الثاني والثالث، وهكذا، إنسان عاش في عصر معين وآخر عاش في عصر آخر.. عاش في بيئة معينة تحكمها عادات اجتماعية وظروف اجتماعية أو اقتصادية معينة، لا بد أن تكون له طبيعة خاصة، وعقلية خاصة، أنت ترى مثلاً الآن أن أهل هذه البلاد يختلفون عن أهل تلك البلاد، يختلفون عن أهل البلاد الأخرى تبعاً لتربيتهم وظروفهم وحياتهم.

إذاً: فالناس يختلفون في معادنهم وقدراتهم واستعداداتهم ابتداء، ويختلفون أيضاً من ناحية تربيتهم وتنشئتهم والظروف التي يعايشونها، وقد كان السلف كذلك يتفاوتون فيقول ابن المبارك : رأيت أعبد الناس عبد العزيز بن أبي رواد وأورع الناس الفضيل بن عياض ، وأعلم الناس سفيان الثوري ، وأفقه الناس أبا حنيفة ما رأيت في الفقه مثله.

وقال أبو عبيد : انتهى العلم إلى أربعة أبي بكر بن أبي شيبة أحفظهم له، وأحمد بن حنبل أفقههم فيه، وعلي بن المديني أعلمهم به، ويحيى بن معين أكتبهم له..

وجود الاختلاف في الخير بين الصحابة

رابعاً: عندما نتأمل في سيرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نلمس هذا واضحاً، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر ، وأشدهم في أمر الله عمر ، وأصدقهم حياء عثمان ، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب ، وأفرضهم زيد بن ثابت ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ، ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة).

الآن النبي صلى الله عليه وسلم يصنف لنا أصحابه، فمثلاً أبو بكر هو أرحم الأمة، وقد كان رجلاً رقيقاً، أما عمر رضي الله عنه فقد كان فيه حدة وشدة، فكان أشد الناس في أمر الله سبحانه وتعالى، ثم هذا أعلمهم بالفرائض، وذاك أقرأهم للقرآن، وهذا أعلمهم بالحلال والحرام..، إلى غير ذلك من أبواب الخير.

فهكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتفاوتون، فكل شخص له ميدان ومجال يؤدي فيه دوراً لا يمكن أن يؤديه الآخر، فمثلاً معاذ بن جبل أعلم الأمة بالحلال والحرام هذا لا يعني أنه أفضل من أبي بن كعب مثلاً، وأبي بن كعب أقرأ الأمة ولا يعني هذا أنه أفضل من معاذ ، لأن معايير التفضيل معايير أخرى، وحتى تتضح لك الصورة أكثر فإن أبي بن كعب أقرأ الأمة لكتاب الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فهل يعني هذا أنه أفضل من عمر ؟ لا، قطعاً ليس أفضل من عمر ، وكذلك ليس أفضل من أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

زيد بن ثابت رضي الله عنه حينما جيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان فتى نابغاً فقرأ وحفظ فأُعجب النبي صلى الله عليه وسلم بموهبته فأمره أن يتعلم السريانية لغة اليهود فتعلمها رضي الله عنه قيل حدقها في سبعة عشر يوماً أو خمسة عشر يوماً، الآن زيد بن ثابت رضي الله عنه هنا قضى وقتاً في تعلم هذه اللغة، ولا شك أنه قد يأتي قائل يقول: إن هذا الوقت الذي يقضيه في تعلم اللغة يمكن أن يقضيه في قراءة القرآن، وقراءة القرآن أفضل، أو في حفظ حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، أو في الجهاد في سبيل الله أو غير ذلك، لكن هذا باب خير لا بد أن يُسلك، ومجال لا بد أن يُسد لهذه الأمة، فتصدى زيد رضي الله عنه لهذه المهمة، والنبي صلى الله عليه وسلم هاهنا أعطانا درساً أن كل ميدان من الميادين، وكل مهمة من المهمات يجب أن يقوم في هذه الأمة من يتولاها، وقد تكون مفضولة كما سيأتي لكنها بالنسبة له قد تكون أفضل من غيرها.

علي رضي الله عنه سئل عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؟ فقال: (عن أيهم تسألوني؟ قالوا: عن ابن مسعود قال: علم القرآن والسنة ثم انتهى، وكفى به علماً. قلنا: أبو موسى ؟ قال: صُبغ في العلم صبغة ثم خرج منه. قلنا: حذيفة ؟ قال: أعلم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بالمنافقين. قالوا: سلمان ؟ قال: أدرك العلم الأول والعلم الآخر بحر لا يدرك قعره، وهو منا أهل البيت. قالوا: أبو ذر ؟ قال: وعى علماً عجز عنه. فسئل عن نفسه؟ فقال: كنت إذا سألت أُعطيت، وإذا سكت ابتديت).

خالد بن الوليد يمنعه الجهاد عن كثير من القراءة

نريد أن نقف الآن عند نموذجين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: خالد بن الوليد رضي الله عنه، وأبو ذر ..

خالد بن الوليد أثنى عليه النبي صلى الله عليه وسلم وله مناقب، فقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه سيف من سيوف الله، ونعم أخو العشيرة، ويقول عمرو بن العاص رضي الله عنه: ما عدل بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبـخالد في حربه أحداً منذ أسلمنا. أي أنه كان لا يقدم عليهما أحداً، والحديث رواه الطبراني .

و خالد رضي الله عنه كما في الصحيحين احتبس أدرعه وأعتده في سبيل الله عز وجل، وفي غزوة حنين جاء النبي صلى الله عليه وسلم يتخلل الناس يبحث عن خالد رضي الله عنه فنفث في جرح كان قد أصابه، وهذا الحديث في المسند.

خالد هو الذي يقول عبارته المشهورة: ما من ليلة يُهدى إليّ فيها عروس أنا لها محب بأحب إليّ من ليلة شديدة البرد كثيرة الجليد في سرية من المهاجرين أصبّح فيها العدو.

وهو القائل: لقد شهدت زهاء مائة زحف، وما في بدني موضع شبر إلا وفيه ضربة من سيف وطعنة من رمح.. إلى آخر الحديث.

خالد رضي الله عنه يقول قيس بن أبي حازم عنه: سمعت خالداً يقول: منعني الجهاد كثيراً من القراءة. ذكره الحافظ في المطالب بلفظ: لقد منعني كثيراً من قراءة القرآن الجهاد في سبيل الله، وقد رواه أبو يعلى والهيثمي وقال فيه: رجاله رجال الصحيح.

إذاً خالد بن الوليد رضي الله عنه في هذه المناقب وهذه الفضائل وصار سيفاً من سيوف الله، وهو الذي أطفأ الله على يديه نار المجوسية في العراق، وكان له دور كبير أيضاً مع الروم في غزوة اليرموك، وقبل ذلك كان له دور في تأديب المرتدين، ومع ذلك لا تكاد تجد فتوى لـخالد رضي الله عنه، ويندر أن تجد له قولاً في تفسير آية من كتاب الله سبحانه وتعالى، بل إنه قد قال: (لقد منعني الجهاد كثيراً من قراءة القرآن) ويروى أن سبب هذه المقولة أنه صلى بهم إماماً فأخطأ في قراءته، فها هو مثلاً خالد رضي الله عنه قد نبغ في هذا الميدان وبرز في هذا الميدان، ولا شك أنه قد فاته ما حصّله أُبي بالقراءة، وما حصّله معاذ بعلم الحلال والحرام، وما حصله ابن عباس بالتأويل وفقه الكتاب، وما حصّله سائر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من سائر أبواب الخير، ولكن هذا لن ينقص شأنه ومكانته وفضيلته.

أبو ذر قوال للحق ضعيف في الإمارة

أبو ذر رضي الله عنه يقول عنه الذهبي : كان أحد السابقين الأولين من نجباء أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكان يفتي في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان ، وكان رأساً في الزهد والصدق والعلم والعمل، قوّالاً بالحق لا تأخذه في الله لومة لائم على حدة فيه.

أبو ذر رضي الله عنه إمام في الزهد وهذا لا يخفى، وكذلك كان مشهوراً بقول الحق، وقد أوصاه النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أوصاني خليلي بسبع: أمرني بحب المساكين والدنو منهم، وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني، وأن لا أسأل أحداً شيئاً، وأن أصل الرحم وإن أدبرت، وأن أقول الحق وإن كان مراً، وأن لا أخاف في الله لومة لائم).

أبو ذر رضي الله عنه له عبارة مشهورة رواها البخاري تعليقاً، والقصة بتمامها عند أبي نعيم في الحلية: أنه أتاه رجل وهو جالس عند الجمرة الوسطى وهو يفتي فقال: ألم ينهك أمير المؤمنين عن الفتيا؟ فرفع رأسه وقال: (أرقيب أنت عليّ؟ لو وضعتم الصمصامة على هذه -يعني السيف- وأشار إلى رقبته، فاستطعت أن أنفذ كلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تجهزوا عليّ لأنفذتها) وهذه العبارة مشهورة وقد أوردها البخاري في كتاب العلم تعليقاً.

إذاً فهو رضي الله عنه كان إماماً في الزهد، وكان قوّالاً بالحق لا تأخذه في الله لومة لائم، عنده استعداد أن أن يقول الحق حتى لو وضعوا السيف على رقبته واستطاع أن يقول في هذه الفرصة كلمة سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم لقالها رضي الله عنه، وورد من الثناء عليه أنه أصدق الناس لهجة رضي الله عنه، ومع ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم له: (إني أراك ضعيفاً وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين على مال يتيم) فمع هذه الفضائل له، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم ينهاه أن يتأمر على اثنين، وأن يتولى على مال يتيم؛ لأنه لا يصلح لذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.

الآن هنا كون أبي ذر رضي الله عنه لا يتولى هذا المقام، أو لا يصلح لهذا الميدان هل يعني أنه قد أفلس من كل المقومات؟ وهل يعني أن أبا ذر رضي الله عنه لم يعد مؤهلاً أن يقدم خيراً للمسلمين؟ لا، فليس هذا هو المقياس، إن المقياس مقياس آخر، فلكل ميدانه.

اختلاف ابن عباس وأبي هريرة في مراتب العلم

ابن القيم رحمه الله يعقد مقارنة بين ابن عباس وأبي هريرة فيقول: وأين تقع فتاوى ابن عباس وتفسيره واستنباطه من فتاوى أبي هريرة وتفسيره؟ وأبو هريرة أحفظ منه، بل هو حافظ الأمة على الإطلاق يؤدي الحديث كما سمعه ويدرسه بالليل درساً، فكانت همته مصروفة إلى الحفظ وتبليغ ما حفظه كما سمعه، وهمة ابن عباس مصروفة إلى التفقه والاستنباط وتفجير النصوص وشق الأنهار منها واستخراج كنوزها، وكلاهما على خير.

فهذا أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ الأمة، لا يمكن أن يفوته حديث كما قال عن نفسه في البخاري ، قال: (قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أسمع منك حديثاً كثيراً أنساه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ابسط رداءك قال: فبسطت ردائي فقال بيديه هكذا، فضممته إلى صدري فما نسيت شيئاً سمعته بعد ذلك)، فـأبو هريرة أحفظ الأمة على الإطلاق، لكنه في الفقه والاستنباط والفتاوى ليس مثل ابن عباس ، كما أن ابن عباس رضي الله عنه ليس في الحفظ مثل أبي هريرة .

إذاً فهذا له ميدان وذاك له ميدان آخر، حتى داخل الإطار الواحد كإطار العلم حتى وجدنا أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نبغ وبرز في الجهاد، والآخر برز في الزهد، والثاني في الرحمة بالأمة، والثالث في الشدة في الحق.. إلى غير ذلك، وعندما نأتي إلى دائرة واحدة وميدان واحد نجد أيضاً أنه داخل هذا الميدان الواحد يوجد تفاوت، ففي ميدان العلم هذا أحفظ وذاك أفقه.

أمر وسع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي ولا شك أن يسع غيرهم وسواهم.

اختلاف الوصايا النبوية بحسب الأشخاص

خامساً: كان كثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يفدون إليه فيستوصونه فيوصيهم فيقول لأحدهم: (لا تغضب) ويقول للثاني: (كلما مررت بقبر كافر فبشره بالنار) ويقول للثالث: (لا تسبن أحداً) ويقول للرابع كذا، والخامس كذا.. وهكذا تجد وصايا النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه مختلفة بل تراه يوصي أحدهم أن يوتر قبل أن ينام، ويوصي الآخر أن يقوم الليل.. الشاهد أن وصايا النبي صلى الله عليه وسلم تختلف من شخص إلى آخر، وأيضاً كثير ما كان يسأل النبي صلى الله عليه وسلم: (أي الأعمال أفضل؟) أو (أي الإسلام خير؟) فيجيب هنا بإجابة وهناك بإجابة أخرى، ومن أشهر ما قيل في الجمع والتوفيق بين هذه النصوص أن النبي صلى الله عليه وسلم يعرف أن فلاناً تصلح له هذه الوصية، والآخر كذلك، والثالث كذلك، فلم يوص الجميع صلى الله عليه وسلم بوصية واحدة لاختلاف الناس وتفاوتهم.

بل النبي صلى الله عليه وسلم يأتيه الناس يسلمون، فمنهم من يجلس ويبقى عنده في مكة، ومنهم من يوصله النبي صلى الله عليه وسلم إلى قومه يدعوهم للإسلام، وذلك أن الناس كما قلنا يختلفون ويتفاوتون.

عمق الخلل والانحراف في واقع الأمة

سادساً: عمق الخلل والانحراف في واقع الأمة.

الانحراف والخلل في واقع الأمة هائل ليس في جانب واحد أو مجال واحد فقط، فأنت ترى مثلاً الانحراف في الحكم، فالأمة تحكم بغير شرع الله سبحانه وتعالى، وتراه في الاعتقاد الأمة حيث تمنح ولاءها لأعداء الله عز وجل، وكل ألوان الشرك وأصنافه تجدها منتشرة في هذه الأمة، وانتشر فيها الجهل والفساد الأخلاقي، والأمية، والفقر، والتخلف..، إلى غير ذلك من مجالات وأبواب الخلل في واقع هذه الأمة، وبناء عليه عندما تتسع أبواب الخلل وأبواب الانحراف لا بد أن تتسع أبواب الدعوة.

فنحتاج إلى باب مثلاً عندنا خلل في باب العقيدة والاعتقاد، فلا بد أن يتجرد من هذه الأمة من يُعنى بتصحيح العقيدة ومحاربة البدع والخرافات والتوسع في ذلك تعلماً وتعليماً ودعوة.

عندنا خلل فكري فنحتاج إلى من يتصدى لهذا الميدان، عندنا خلل في الجانب الأخلاقي فنحتاج إلى من يتصدى لهذا الميدان، خلل في الجانب السلوكي فقط، مشاكل اجتماعية، مشاكل اقتصادية، قضايا كثيرة تحتاج في كل ميدان إلى جهود كثيرة وإلى أشخاص يتفرغون لها، ومن ثم فمع سعة شقة الانحراف والخلل في واقع الأمة لا بد أن تتوسع مجالات الدعوة ومجالات محاولة إنقاذ الأمة.

العصر الذي نعيشه يتطلب ذلك

سابعاً: نحن نعيش في عصر، فلا بد أن نعيش عصرنا، ولا بد أن نفكر بعقلية عصرنا، ولا شك أن هذا فيما لا يعارض أمر الله سبحانه وتعالى، العصر عصر التخصص، وفي السابق قد يكون الرجل موسوعة فتراه يقوم على أبواب شتى من أبواب العلم والخير، أما الآن فقد تنوعت طرق الحياة وتعقدت أساليبها وصار الناس على مبدأ التخصص، فلماذا لا يتخصص فلان مثلاً بالعناية في جانب من جوانب العلم الشرعي، والآخر في الجانب الثاني، والآخر في الجانب الثالث.. ويتخصص الرابع في مشاكل الأمة الاجتماعية، فيحل مشاكل الناس وينظر في حال المعوزين والفقراء، ويتخصص الخامس في دعوة المنحرفين والضالين، ويتخصص السادس في قضية المرأة، والرابع في القضايا الفكرية، والخامس، والسادس..، وهكذا كل امرئ في ميدانه وفنه.

الحاجة إلى التكامل

ثامناً: سنأخذ مثالاً يعطينا صورة واضحة عن الحاجة إلى التكامل: لو كان عندنا جيش فإننا سنحتاج إلى مجموعة في القيادة والمقدمة، وفي مواجهة العدو وجهاً لوجه، ونحتاج إلى مجموعة في الخلف يحرسون هؤلاء، ومجموعة يترصدون، وسنحتاج إلى مجموعة فنيين يقومون بصيانة الآلات وإعدادها، مجموعة يقومون بنقل الذخائر، مجموعة للتمويل بنقل المواد الغذائية، مجموعة طباخين يقومون بخدمة الجيش، وأناس يغسلون الثياب، ومجموعة يحرسون بلاد المسلمين ويحرسون ثغور المسلمين حتى لا يؤتوا من خلفهم، ومجموعة يخلفون الغازين، فأنت ترى الآن أبواباً مختلفة ومتفاوتة فهذا شخص يقف في مقابل العدو والشخص الآخر ليخلف الغازي في أهله ويبقى في بيته، فإذا قال الجالس في منزله ليخلف الغازي: لقد ذهب الناس في الجهاد وبقيت أنا مع النساء والعجزة فلا بد أن أذهب، وقال الذي يعد الطعام كذلك يقول، وقال الذي يقوم بإعداد الذخيرة كذلك، وهكذا؛ فإنه لا يمكن أن يقوم هذا الجيش، لأن الجيش لا يقوم إلا عندما تتكامل هذه الجهود، ومن هذه الجهود من يقعد لا جبناً ولا خوفاً إنما يقعد ليخلف هؤلاء في أهليهم، وحتى لا تؤتى البلاد عن غرة، فترى أنت الآن أن هذا الواجب وهذه المعركة لا يمكن أن تقوم إلا بتكامل جهود متفاوتة ما بين قائد فذ عبقري داهية ورجل شجاع، وبين إنسان مهمته إعداد الطعام فقط، وإنسان مهمته قيادة شاحنات، وإنسان مهمته أن يبقى حتى يحرس.. فهكذا تتكامل هذه الجهود، ويمكن أن نشبه نحن أبواب الدعوة أو واقع الدعوة في بلد محاصرة يعني افترض الآن أن هذه القرية محاصرة، فهنا حصن في هذه الزاوية، وحصن في هذه الزاوية، وحصن في الزاوية الأخرى، وحصن في الزاوية الأخرى.. قد يكون العدو من هذه الجهة فهؤلاء الآن في مقابل العدو؛ لكن نحتاج إلى من يقف هنا، ومن يقف هناك، ومن يقف في الميدان الآخر، ونحتاج إلى من يقف في داخل المدينة ويتجول فيها حتى لا يستغل الوضع مثل اللصوص والسُرّاق وقطّاع الطريق، فأنت ترى الآن الجهود مختلفة ومتفاوتة وكلها مطلوبة، ولا يصح أن يأتي الشخص الذي وقف في وجه العدو ويقول: أنتم جبناء أنا أجلس مقابل العدو وأنت جالس تحرس في الخلف! لا، ويقول: أنا أفضل لأني أواجه العدو! لا، الجميع يؤدون مهمة واحدة، ويؤدون دوراً واحداً ولا يمكن أن تقوم هذه القضية إلا بهذا التكامل.

فكذلك حراسة الأمة وحماية الأمة والدعوة لدين الله سبحانه وتعالى وإنقاذ الأمة لا بد أن نأخذ نحن جميعاً بهذه الجوانب كلها، هذه الطاولة الآن التي أمامنا لو أردنا أن نرفعها مثلاً واجتمع الجميع كلهم يريدون أن يرفعوها من هذه الجهة، فلا يمكن أن ترتفع، أو ترتفع بوضع غير مستقيم، طيب لو أتى من هنا مثلاً أربعة، ومن هنا واحد فقط ومن هنا واحد أيضاً فسيكون هناك خلل، لكن عندما تتوزع الجهود بشكل متوازن يمكن أن نرفعها، فكذلك هذه الأمة المصابة بهذا الخلل لا بد أن تتضافر الجهود جميعاً وأن تتوزع حتى تقوم هذه الأمة، أما إذا اعتنينا بجانب واحد وركزنا على جانب واحد فلا بد أن يكون هناك خلل ولا يمكن أن تنهض الأمة النهوض المراد.

السلف لم يكونوا بمعزل عن هذا

تاسعاً وأخيراً: السلف لم يكونوا بمعزل عن هذا، فترى عبارات للسلف قديماً وحديثاً تدل على ذلك، ومنها ما سقناه في بداية المحاضرة عن الإمام مالك رحمه الله، وجاء أحدهم إلى الخليل بن أحمد ليتعلم العروض فأحس الخليل بن أحمد أن هذا ليس عنده استعداد لأن يتعلم عروض، فأعطاه بيتاً يقطّعه قال:

إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع

ففهم الرجل المقصود وأنه لا يناسب له علم العروض فاتجه إلى علم النحو ونبغ فيه وكان من النحاة.

نلاحظ أن الخليل بن أحمد يوجه إلى أنه ليس الميدان واحداً، والعروض أصلاً علم محدود، ولد جملة واحدة أنشأه الخليل بن أحمد ، يمكن أن يحيط به الإنسان في وقت يسير، ومع ذلك مثلاً هذا الرجل لم يستطع، لكن لا يعني أنه قد أصبح فاشلاً فأمامه ميدان آخر ومجال آخر، فاتجه إلى الميدان الآخر واستطاع أن ينبغ فيه.

و الأعمش كان إذا قيل له حدث قال: لا يقلد العلم الخنازير، يعني: ليس كل واحد مؤهلاً أن يُعطى العلم، فالعلم لا يُعطى إلا لمن يستحقه.

يقول ابن القيم رحمه الله في تحفة المودود: ومما ينبغي أن يتعهد حال الصبي وما هو مستعد له من الأعمال ومهيأ له منها، فيعلم أنه مخلوق له فلا يحمله على غيره ما كان مأذوناً فيه شرعاً، أي: إذا كان هذا الطفل متهيئاً لهذا العمل بشرط أن يكون مأذوناً فيه شرعاً فلا يحمله على غيره، فإنه إن حمله على غير ما هو مستعد له لم يُفلح وفاته ما هو مهيأ له.

يعني ابن القيم أن على الأب أن ينظر إلى حال الصبي، ويعرف استعدادات الصبي والأمور التي يتهيأ لها الصبي فيوجهه إلى هذا الميدان، فإذا كان الصبي عنده حفظ وعقل يمكن أن يوجه إلى العلم، وإذا كان عنده همّة ونشاط وعمل لكنه ليس متوجهاً للحفظ فينبغي أن يوجه إلى ميدان آخر، كذلك الأستاذ ينبغي أن يوجه طالبه هذه الوجهة، والمربي ينبغي أن يوجه من تحته هذه الوجهة، فينظر ما هو مستعد له فيوجهه إليه، وله عبارة طويلة يمكن أن نقرأها في مدارج السالكين:

يقول: فإذا عُلم هذا فمن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الذي يعد سلوكه إلى الله طريق العلم والتعلم، قد وفّر عليه زمانه مبتغياً به وجه الله فلا يزال كذلك عاكفاً على طريق العلم والتعليم حتى يصل من تلك الطريق ويُفتح له فيها الفتح الخاص، أو يموت في طريق طلبه فيرجى له الوصول إلى مطلبه بعد مماته، قال تعالى: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [النساء:100].

ومن الناس من يكون سيد عمله الذكر، وقد جعله زاده لمعاده ورأس ماله لمآله فمتى فتر عنه أو قصّر رأى أنه قد غُبن وخسر.

ومن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الصلاة فمتى قصر في ورده منها أو مضى عليه وقت وهو غير مشغول بها أو مستعد لها أظلم عليه وقته وضاق صدره.

ومن الناس من يكون طريقه الإحسان والنفع المتعدي كقضاء الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات وأنواع الصدقات قد فُتح له في هذا وسلك منه طريقاً إلى ربه.

ومن الناس من يكون طريقه الصوم فهو متى أفطر تغيّر قلبه وساءت حاله.

ومن الناس من يكون طريقه تلاوة القرآن وهي الغالب على أوقاته وأعظم أوراده.

ومنهم من يكون طريقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد فتح الله له فيه ونفذ منه.

ومنهم من يكون طريقه الذي نفذ فيه الحج والاعتمار، ومنهم من يكون طريقه قطع العلائق، وتجريد الهمة، ودوام المراقبة، ومراعاة الخواطر، وحفظ الأوقات أن تذهب ضائعة.

ثم ذكر حال من جمع تلك الطرق كلها وهذا نادر.

وأيضاً يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله حول قول الله عز وجل: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ [التوبة:122]: وفي هذه الآية أيضاً دليل وإرشاد وتنبيه لطيف لفائدة مهمة وهي أن المسلمين ينبغي لهم أن يعدوا لكل مصلحة من مصالحهم العامة من يقوم بها ويوفر وقته عليها ويجتهد فيها ولا يلتفت إلى غيرها لتقوم مصالحهم وتتم منافعهم، ولتكون وجهة جميعهم ونهاية ما يقصدون قصداً واحداً، وهو قيام مصلحة دينهم ودنياهم، ولو تفرقت الطرق وتعددت المشارب، فالأعمال متباينة والقصد واحد، وهذه من الحكمة النافعة في جميع الأمور.

أظن أن هذه المؤيدات التي سردنا تكفي لأن تعطينا القناعة بأن هذه الطرق كلها يجب أن تُسلك جميعاً، وأن لا يعتب بعضنا على بعض، وأن هذه الطرق على مستوى الأمة مطلوبة جميعاً، لكن على مستوى الأفراد مطلوب من كل امرئ أن يقوم بباب وأن يسد ثغراً من هذه الثغور.

ينبغي أن يوجه الشباب إلى ما يحسنونه حسب استعداداتهم

بعد ذلك ننتقل إلى نقطة مهمة جداً وهي المقصودة من هذه المحاضرة، وقد نكون أطلنا الشق الأول في العنصر الثاني لكن أطلنا قصداً حتى يكون عندنا القناعة وبعد ذلك تكون النتائج سهلة لنستنبطها منها؛ لكن عندما لا يسلم لك بالمقدمة لا يمكن أن يسلم لك النتيجة، فنقول:

أولاً: ينبغي أن لا نسلك بالشباب طريقاً واحداً، فالناس كما سبق لهم استعدادات تختلف وطاقات متفاوتة، وكل إنسان له طبيعة خاصة وطريقة خاصة في التفكير وطريقة في العمل، وشخصية مستقلة عن شخصية الآخر، وكذلك قدرات تختلف عن قدرات الآخرين.

وأيضاً في المقابل نحن نحتاج إلى سد عدة ثغور، ومن هنا فلا يسوغ أن نربي الشباب جميعاً في إطار واحد وقالب واحد، فمثلاً أن نطالب الشباب جميعاً أن يكونوا طلبة علم، فنقول: إما أن تتوجه للعلم فتقرأ وتحضر الدروس وتتفقه وتحفظ، وإلا فأنت إنسان غير مرغوب فيك وإنسان غير قادر أن تقدم أي خير للإسلام والمسلمين، فهذا الأمر ما تم على وقت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ألم يكن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً من كان مجاهداً وكان دون سائر أصحاب السنن في الفقه والعلم وقراءة القرآن والحفظ، ألم يكن فيهم من كان يؤدي هذا الدور والدور الآخر، ومن كان يتفرغ للعلم ويتفرغ لهذا الميدان؟ فإذا تفرغ هؤلاء مثلاً لهذا الميدان وتحصيل هذا الميدان، فإننا لن نفلح؛ لأن هناك ناساً غير مؤهلين أصلاً لهذا البناء، ثم يحصل أن تبقى ثغور تحتاج إلى من يسدها.

إذاً: فلا يسوغ أن نسلك بالشباب هذا المنهج وهذا المسلك، أو أن نريد أن نحول الشباب كلهم إلى وعّاظ، أو نحول الشباب إلى مربين، أو إلى أي ميدان من الميادين.

فيجب أن يكون هناك إطار عام للتربية لكن يبقى جانب يراعى فيه ويتعاهد فيه -كما قال ابن القيم - حال هذا الشاب وينظر إلى ما هو متوجه له فيسار به إلى هذا الطريق ما دام مأذوناً فيه شرعاً، والأبواب المأذون فيها شرعاً أبواب كثيرة وواسعة لن تضيق عنا هذه الأبواب والمسالك، بل لعلنا لا نستطيع أن نأتي عليها ونسدها فضلاً عن أن تضيق عنا.

من سلك طريقاً يخدم به الإسلام فلا يجوز أن يحتقر الطرق الأخرى

ثانياً: الإنسان عندما يسلك ميداناً لا يسوغ له أن يحتقر الميدان الآخر، فمثلاً: هذا إنسان سلك طريق الجهاد، فلا يسوغ له أن يقول لغيره: أنت جالس تقرأ وتتعلم مسائل فرعية، والأمة بحاجة للجهاد ورفع السيف، والمسلمون يقتلون وأنت في هذا الميدان حابس نفسك على مسائل فرعية وقضايا دقيقة بين الكتب والمسائل، فأنت إنسان ليس عندك استعداد أن تقدم للإسلام خيراً ولا تضحي بنفسك.. إلى غير ذلك.

والآخر يقول: لا أنا آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأمنع المنكرات الموجودة وأتصدى لها وأسهر وأتعب وأتحمل إهانات، وأتحمل ما أواجه وأنت متفرغ لمجموعة من الشباب تحفظهم القرآن قد يحفظون وقد لا يحفظون، أو هم أصلاً صالحون بدونك ولكنكم تضيعون الأوقات سدى وإلى غير ذلك.

والآخر يقول: أنا متفرغ للعلم الشرعي، وهذا الدين إنما يكون بالعلم، والدعوة لا تكون إلا بالعلم، وأنتم أناس جهلة، صحيح أنك تجاهد وتأمر المعروف وتنهى عن المنكر لكن عن جهل..، وإلى غير ذلك.

وترى كل إنسان أصبح في موقع مهاجم يتراشق وأصحابه، وهذا لا يسوغ أبداً.. فلا يسوغ أن نحتقر الميادين الأخرى ولا أن ننتقد الآخرين، يا أخي ما دام فلان من الناس قام بهذا الميدان وسد هذه الثغرة في دين الله سبحانه وتعالى فلنقل إنك على باب من أبواب الخير فالزم ما أنت عليه، ونحن على باب آخر، وهذا لا يعني أني أفضل منك أو أنك أفضل مني؛ فكل هذه الأبواب مطلوبة ومرادة للأمة جميعاً.

يقول شيخ الإسلام رحمه الله: ومنه -أي اختلاف التنوع- ما يكون طريقتان مشروعتان، ورجل أو قوم قد سلكوا هذه الطريق، وآخرون قد سلكوا الأخرى وكلاهما حسن في الدين.

يعني يكون هذا الاختلاف أن هذه الطرق أصلاً مشروعة وسائغة، فهذا سلك طريقاً والآخر سلك آخر فيحصل بينهم من الخلاف ما يحصل وكلاهما مقبول، وأنت ترى الآن الجدل قائماً حول مناهج الدعوة، ماذا نصنع الآن: هل نعتني بمحاربة البدع والخرافات، أم نعتني بما يسمى مثلاً بالعمل السياسي، أم نعتني بدعوة الضالين والمنحرفين، أم نعتني بجانب الرقائق وتزهيد الناس في الدنيا، أو نعتني بنشر العلم، أو نعتني بإنكار المنكرات؟ وترى كل إنسان يحشد الأدلة والمؤيدات أن هذا هو الطريق الذي لا ينبغي سلوك سواه، وأن الطرق الأخرى كلها تأتي بعدها، فالذي يحارب البدع يقول: عندما أحارب البدع وأقضي على البدع فإن الذي كان يقع في الزنا سيتوب من الزنا؛ لأني حاربت البدع، والذي كان ينشر الأفلام الساقطة كذلك سيتوب، والذي كان يروج المخدرات أيضاً سيتوب، والذي كان يحكم بغير ما أنزل الله سيتوب على عتبته لأني حاربت البدع.

والثاني يقول لك: لا، القضية هي قضية الحكم بغير ما أنزل الله، فإذا قضينا على هذه القضية ستزول تلك الأمور.

والثالث يقول: أهم شيء إنكار المنكرات الظاهرة، وهكذا ...

وكل هذه الميادين مطلوبة، فلا شك أنا بحاجة إلى من يُنكر البدع، بحاجة إلى من يعلم العلم، بحاجة إلى من يجاهد في سبيل الله، بحاجة إلى من ينكر المنكرات.. وكلها جهود خيّرة ومطلوبة، والجدل الذي يقوم الآن على الساحة الإسلامية أن هذا الميدان أولى، وذاك الميدان أولى.. كله جدل لا داعي له، ولا يزيد على أن يكون مجرد تراشق، وترف فكري وإهدار لطاقة الأمة فيما لا طائل وراءه، فالأبواب كلها مطلوبة، هذا سلك هذا الميدان، والآخر سلك الميدان الآخر.. يا أخي أنت إذا كنت ترى فلاناً قصر في هذا الميدان فسد هذه الثغرة، والثالث يأتينا فهو مستعد لهذا الميدان فيرى أن الآخر قصر فيه فيسد هذه الثغرة، وهكذا حتى نسد كل هذه الثغرات.

دعني أضرب لك مثالاً آخر:

افترض مثلاً أننا راكبون في السفينة فوقع فيها انفجار فحدثت فيها شقوق وصار يدخل منها الماء، فجاء واحد وسد هذا الثقب، فقال له الثاني: لا يا أخي! سد هذا الثقب، والثالث كذلك.. فمنطقنا هو هذا المنطق.. وترى واحد عنده ثقب صغير وجالس بكل جهده وطاقته يسد هذا الثقب ويطلب الجميع كلهم أن يتضافروا على هذا الثقب والسفينة تدخل عليها المياه من كل جانب ومع ذلك يقول: يجب أن نسد هذا الميدان، وإذا سد هذا الميدان فستنجو من الغرق.

أقول: إن هذا هو واقع من يتراشقون بالتهم، وهذا واقع من يحاول أن يختزل ميدان الدعوة، ويختصر ميدان خدمة الأمة وإنقاذ الأمة وخدمة دين الله سبحانه وتعالى بميدان واحد وزاوية واحدة.

كل ميسر لما خلق له

ثالثاً: كل ميسر لما خلق له.

مثلاً هناك بعض الناس قد يكون عنده حماس وطاقة، وتجده إنساناً مثلاً لا يصبر على البقاء في البيت أبداً، لا بد أن يعمل، لا بد أن يتحرك، لا بد أن يذهب ويأتي، لكن إدراكه العقلي محدود، وحافظته محدودة، فليس مؤهلاً أن يتعلم العلم الشرعي، فجاءنا هذا وقال: والله أنا أريد أن أخدم الإسلام، وأنا عندي طاقة، أريد أن أصرفها في خدمة دين الله سبحانه وتعالى فابحثوا لي عن مجال، قلنا له: تعال فعندنا حلقات علمية فبعد الفجر درس وبعده درس، وبعد الدرس نقول له: تعال هنا، المهم أننا سلكنا به ميداناً، لكنه لا يستطيع أن يسير فيه ثم بعد ذلك لن يفلح، والنتيجة إما أن يترك هذا الميدان كله ويترك طريق الخير كله، أو أن يحس أنه إنسان مفلس، أو غير ذلك..

لكن لو فكّرنا تفكيراً آخر وقلنا: يا أخي هذا ليس ميسراً للعلم، وما دام عنده طاقة وعنده استعداد فلماذا لا نجعله يسافر إلى تلك البلاد فيعطينا تقارير عنها، ويسافر إلى البلاد الأخرى، لماذا لا نجعله مثلاً في جانب إنكار المنكرات؟ لماذا لا نجعله يخدم أحد العلماء الدعاة، هذا داعية يحتاج إلى من يخدمه ويعينه، وهذا عالم يحتاج إلى من ييسر له، والآخر كذلك، فلماذا لا نبحث له عن مجال آخر يمكن أن ينجح فيه؟ وهكذا الثاني، وهكذا الثالث.. فكل ميسر لما خلق له، لا يسوغ أن نأتي لإنسان يعيش طبيعة معينة فنأطره على ميدان ونريد أن نسلك به ميداناً لا يمكن أن ينجح فيه.

إنسان سريع الغضب ولا يجيد التعامل مع الآخرين.. وقد يكون إنساناً صالحاً وفيه خير، لكن هذه طبيعته، فهذا الإنسان مثلاً لا يسوغ أن نجعله في ميدان تربوي؛ لأن الميدان التربوي يحتاج إلى إنسان حسن المعاملة طويل النفس.. لكن لا يعني ذلك أنه إنسان فاشل، لا لكن له ميدان آخر، وهكذا الثالث، والرابع.. فأقول كل ميسر لما خلق له، ولا يسوغ أن نسلك بهذا الإنسان إلا المجال الذي ينبغي أن نراه مؤهلاً له.

لن تحيط بكل ما أمرت به

رابعاً: لن تحيط بكل ما أمرت، فلا تكلف نفسك ذلك، ولا تطالب الناس به.

قد تجد إنساناً فتح الله له في باب من أبواب الخير، مثلاً: واحد من الشباب طالب في الجامعة أو أستاذ وهو مسئول عن مجموعة من طلاب المركز ويستنفذ عليه ذلك وقتاً طويلاً من العصر إلى الساعة العاشرة والنصف مثلاً، ففكّر وقال: أنا يضيع عليّ وقت طويل، والناس يقرءون ويتعلمون، فأنا أريد أن أترك هذا العمل وأذهب إلى طلب العلم، ثم يفكّر تفكيراً آخر فيقول: الناس يسافرون للجهاد في سبيل الله فأريد أن أسافر لأجاهد، ثم يفكّر تفكيراً آخر فيقول: الناس يعينون الفقراء والمعوزين والمحتاجين، ثم يفكّر تفكيراً آخر.. وهكذا تتقلب به الميادين، أو يريد أن يحيط بكل هذه الأبواب، فمرة تلقاه يعمل هنا ومرة يعمل هناك.

فنقول له: لا يا أخي، لا يمكن أن تأتي بكل هذه الأبواب، أنت ما دام أن الله يسّر لك باباً من أبواب الخير لخدمة هذا الدين فاسلكه ولا عليك من الآخرين، ولا تستطيع أن تحيط بها جميعاً.

وكذلك شخص متوقد الحفظ والفهم والذهن ويسّر الله له طريق العلم فرأى غيره متفرغاً لإنكار المنكرات أو للجهاد أو تربية الشباب فقال: أريد أن أعمل في هذا الميدان، وترك ما هو عليه.

فمن العبث ومناقضة الفطرة والواقع أن تحاول أن تحيط بكل الأبواب، فما دمت -يا أخي- سلكت طريقاً من هذه الطرق ففتح الله لك هذا الباب فامض فيه ولا تتصور أن الآخرين فاقوك، فليست القضية في ميدان دون ميدان، القضية أن تسخّر وقتك وجهدك وما أعطاك الله لخدمة دين الله سبحانه وتعالى، وأن تدعو لسبيل الله سبحانه وتعالى، وأبواب الدعوة وطرق الدعوة واسعة ومتنوعة، كذلك لا تطالب الناس بهذا، فإذا كان هناك عالم يفتي ويحل مشاكل الناس في قضايا علمية فمن العبث أن نطالبه أن يتحدث عن قضايا فكرية ومشاكل معينة قد تحتاج إلى شخص آخر، ومن العبث أنا نطالبه أن يتصدى لتربية الشباب وإعدادهم، ومن العبث أن نطالبه أن يخرج للجهاد أو يتفرغ لإنكار المنكر أو غيره.. يا أخي هذا سلك ميداناً فلا داعي لأن نطالبه بغيره. وهكذا، عندما تجد إنساناً يعتني بقضية المرأة فيكتب ويحاضر ويخطب ويتحدث عنها فلا نطالبه أن يلقي محاضرة عن أمور تخص الشباب، أو عن قضية علمية شائكة، أو عن قضية في واقع المسلمين..، وهكذا الثاني والثالث، فلا نطالب الناس بكل هذه الأبواب!

قد يطرأ على المفضول ما يجعله أولى من الفاضل

أمر خامس: قد يأتي للمفضول ما يجعله أولى من الفاضل:

وهذه قاعدة شرعية مهمة نبّه عليها شيخ الإسلام ونبّه عليها ابن القيم ، وهي أنه قد يوجد عمل مفضول فيعتريه أمر يجعله أولى من الفاضل.

مثال: قراءة القرآن أفضل من الدعاء في الجملة فإذا جاء شخص إلى المسجد آخر ساعة في يوم الجمعة، فإنا نقول إن الدعاء في هذه الساعة أولى من قراءة القرآن.

إنسان فرغ من الصلاة فالأفضل له أن ينشغل بالذكر، فالذكر مفضول فأتاه سبب جعله أولى من الفاضل، والدعاء كذلك مفضول فأتاه ما جعله أولى من الفاضل..

تعالوا نطبق هذه القاعدة على هذا الميدان، فقد يكون هذا العلم مثلاً فاضلاً وذاك مفضولاً، لكن يأتينا أمر يجعله أولى فنحتاج مثلاً إلى إنسان يتخصص في الأدب لأن الواقع أن جزءاً من معركتنا معركة الأدب، وتعرفون أنتم أنا غزينا كثيراً من قبل الأدب سواء الأدب اللاأخلاقي والجنسي، أو الأدب الحداثي.. أو غيره، فنحتاج إلى إنسان يتفرغ للأدب فيحفظ الشعر ويقرأ في دواوين الأدب وكتب الأدب والمدارس الأدبية والنقد الأدبي.

مثال أقرب: إنسان مثلاً يقرأ عن الطوائف، يسمع عن القاديانية فيجمع مخطوطات ونشرات ويقرأ عنها وعن عقائدها وما يتعلق بها، ثم عن البهائية ثم عن الوجودية والعلمانية، وغيرها من الطوائف والنحل، وصارف وقته في قراءة خرافات هؤلاء وخزعبلاتهم، الآن أيهما أفضل: القراءة في هذه، أم القراءة في دواوين السنة وكتب السنة؟ لا شك أن القراءة في كتب السنة أفضل، لكن الآن قد نقول لفلان: إن اشتغالك بهذه القراءة أفضل؛ لأن الأمة محتاجة الآن إلى سد هذا الميدان، ومحتاجة إلى سد هذا الثغر.. فهذا مفضول لكن أتاه أمر جعله أولى من الفاضل، ومصداق ذلك من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فإن الخروج للجهاد أفضل من القعود، لكن كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرّج للجهاد يخلّف بعض أصحابه أميراً على المدينة، فقد خلّف علي بن أبي طالب رضي الله عنه في أهله في غزة تبوك، فاعترض على ذلك فقال: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟) لماذا كان علي بمنزلة هارون من موسى؟ ما وجه الشبه هنا، تشبيه تخلف علي في أهل النبي صلى الله عليه وسلم بهارون وموسى؟

نعم لأن هارون خلف موسى في قومه، وعلي رضي الله عنه خلف النبي صلى الله عليه وسلم في أهله، الآن الأفضل لـعلي أن يبقى في المدينة لا أن يخرج إلى الجهاد لأن هذا قد صار متعيناً عليه.

إذاً فنقول: إنه لا مجال لأن تقول لي: هذا الميدان أفضل! وذلك ما دمت أنت ستبدع في هذا الميدان وستفلح فيه، أو لسبب أو لآخر هذا ميدان مهجور أو متروك فاسلكه يا أخي ولا تلتفت إلى ما سواك، وإذا أخلصت النية وصدقت الله سبحانه وتعالى فإن الله يعطيك أجر من عمل ذلك العمل.

ليست الشهرة هي قيمة الإنسان

سادساً: ليست الشهرة هي قيمة الإنسان.

ميادين العمل تختلف، فهناك ميادين تتطلب شهرة مثل الخطيب، أو من يتصدر لقضايا الناس أو لنفعهم أو كاتب أو محاضر أو متحدث، فطبيعة عمله تجعله مشهوراً ومعروفاً عند الناس كلهم، وشخص آخر طبيعة دوره تقتضي أنه لا يشتهر؛ لأنه إذا اشتهر سيضايقه الناس فيزدحمون عليه فيشغلونه عمّا ينبغي أن يتفرغ له، الآن لا يسوغ لهذا الإنسان المغمور أن يقول: والله فلان يعرفه الناس ويدعون له فهو أفضل مني! فالقضية ليست بالشهرة، فرب أشعث ذي طمرين مدفوع بالأبواب لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره، وإن الله يحب العبد التقي الخفي.. إلى آخر حديث هذا العبد البعيد عن الأضواء كما يقال الخفي الغير مشهور يحبه الله سبحانه وتعالى، فليس هناك علاقة مطردة بين الشهرة وبين خدمة دين الله سبحانه وتعالى، وأن مستواك في الدعوة إلى الله عز وجل وما تقدم من خير إنما هو مرتبط بشهرتك، وإن كان عادة ما يشتهر قادة ويشتهر أناس يقدمون الخير للناس فينفعهم الله من هذا الميدان، لكن غيرهم قد ينفعهم الله ويكتب الله لهم الأجر في ميادين أخرى لا يكتب لهؤلاء.

محذورات يجب التنبه لها

لا يترك الواجب بحجة التخصص

الجانب الأول: أنه لا يسوغ أن يترك الواجب بحجة التخصص، يعني هناك شيء واجب على الجميع، فالعلم الشرعي فيه قدر واجب على الجميع لا يسوغ أن تترك.

أنت متخصص في ميدان ما، لكن إنكار المنكرات الظاهرة أمام الإنسان واجب أيضاً، ولا يسوغ أنك تترك إنكار المنكر بحجة أنك متخصص، وهكذا سائر الواجبات الشرعية.

لا يسوغ الخلل التربوي بحجة التخصص

الجانب الثاني أيضاً: لا يسوغ الخلل التربوي بحجة التخصص:

يعني: يكون عنده خلل فيعاني من فقر مدقع في كافة الجوانب بحجة أنه متخصص! لا، فيجب أن يكون فيه نوع من التكامل، ثم يبدو هذا الجانب أقوى عنده من غيره، فمثلاً هذا الإنسان متوجه للعلم وأنفق فيه نفيس وقته، فلا يسوغ أن يكون هذا الإنسان قاسي القلب وما له حظ من عبادة الله عز وجل! ولا يتمعّر وجهه لمعصية الله عز وجل! أو إنسان لا يقدم النفع للناس، أو غير ذلك، فينبغي أن يكون هذا الشاب قد تربى على عبادة الله وطاعته، وتربى على إنكار المنكر وعلى إيجاد الخير للناس، وعلى كل أبواب الخير، لكن غاية مطلوبه تحصيل العلم قد صرف له كل همه، وتكون تلك الجوانب أيضاً موجودة.

يحصل أحياناً خلل واضح من شخصية غير متزنة فعلاً، حيث تجده في جانب من الجوانب مفلس، وهذا يعود أيضاً على الجوانب الأخرى بالإبطال، فمثلاً طالب العلم عندما يكون قاسي القلب لا بد أن يتأثر فيفقد الورع الذي يحتاج إليه في علمه وفي فتاواه، وكذلك المربي عندما يكون قاسي القلب أو يكون ضحل العلم والاطلاع، أو يكون فاقداً لهذا الجانب أو ذاك.. لا بد أن ينعكس هذا الخلل على عمله بوجوه.. إذاً فلا بد من التكامل مع التخصص حتى تكون شخصية الإنسان متكاملة.

الحذر من الإغراق في التخصص المبكر

كذلك الجانب الثالث: يجب أن نحذر من الإغراق في التخصص المبكر:

هناك شباب في سن معينة تكون استعداداتهم وتوجهاتهم متقاربة، وكلما تقدم بالعمر بدأت تتضح معالم شخصيته أكثر، فالتخصص المبكر يوقعنا في أخطاء، لأننا عندما نبدأ به من الصغر في التخصص سيقع في خلل ونفقد الجوانب الأخرى، كذلك أيضاً قد يوقعنا في أخطاء، فقد نتصور أن فلاناً يصلح لهذا الميدان بينما هو يصلح لغيره، لكن عندما نتأخر قليلاً في جانب التخصص نتجاوز تلك السلبيات، سواء الخلل يكون قد أوجدنا عنده قاعدة متكاملة، وأيضاً نتجاوز الخطأ في تقويم الشخصية واستكشاف استعدادات الشخص وطاقاته.

عدم التهوين من شأن الجوانب الأخرى

المحذور الرابع: أن نهون من شأن الجوانب الأخرى:

فلا يسوغ مطلقاً أن نهون ونغض من شأن العلم الشرعي بحجة أننا ننشغل بإنكار المنكرات الظاهرة، ولا يسوغ أن نهون من شأن إنكار المنكر بحجة التفرغ للعلم الشرعي، وهكذا كل هذه الأبواب أبواب شرعية وأبواب مطلوبة لا يسوغ أن نهون منها ونغض منها، وكم ترى من الناس من يقع في زلل أحياناً لحجة أنه يريد أن يدعو الناس إلى جانب من هذه الجوانب، فيحتقر القائمين بذاك الميدان مع أنهم قائمين بواجب شرعي وعمل مشروع، بل قد يكون هذا الميدان أفضل مما هو فيه، فكم ترى مثلاً ممن ينعى على أولئك المتفرغين لتحصيل العلم الشرعي بحجة أن الأمة تعاني من مشاكل وويلات! وكم ترى أيضاً ممن ينعى على من عاش متنقلاً هناك شرقاً وغرباً، وقد عطّل مشاغله وترك راحته يسافر لخدمة المسلمين وقضاياهم.. فينعى عليه أن اشتغل بهذا الميدان وترك الميدان الآخر أو ذاك!

إن هذا إنما هو في النهاية غمط وانتقاص من هذا الواجب الشرعي، فجميع هذه واجبات شرعية لا يسوغ أن ننتقص شيئاً منها ولا أن ننتقص مجالاً منها.

لا ينبغي أن ننشغل بالدون

خامساً: لا ينبغي أن ننشغل بالدون، فقد يكون فلان من الناس وخاصة النوابغ يصلح لميادين كثيرة فينبغي أن يختار الميدان الأولى والأليق به من خلال حاجة المجتمع، وحاجة الدعوة إلى هذا الميدان، أو من خلال أهمية هذا الميدان أو ذاك.. فصلاحية الإنسان لعمل أو لآخر لا تعني مباشرة أن يتوجه إليه، بل لا بد أن يختار العمل الأصلح له، ثم قد نجد إنساناً نبغ مثلاً في ثلاثة ميادين، الميدان رقم (أ) هذا ترتيبه الأول، والميدان (ب) ترتيبه الثاني، والميدان (ج) ترتيبه الثالث، قد نقول: نحن نريد منك الميدان (ج) مع أنه بالنسبة لك في الترتيب الثالث؛ لأن تلك ميادين يوجد من يسدها، لكن هذا الميدان شاغر.

فهذه قضايا ليس هنا مجال تفصيلها إنما أقصد أنه لا ينبغي أن ننشغل بالدون بحجة أننا قد أفلحنا وقد فُتح لنا هذا الباب، فبعض الناس انشغاله بدون ما هو فيه إهمال وإهدار للطاقة، كما حصل لذاك القاضي الذي يُقال إنه كان يقضي ويعلم الناس ويصلح بينهم فلما قرأ حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إماطة الأذى عن الطريق صدقة) ترك القضاء وانشغل بإماطة الأذى عن الطريق، فهذا قد انشغل بباب من أبواب الخير لا شك، ولكنه انشغل بأدنى مراتب الإيمان وترك الميدان الأنفع والأولى بأمثاله.

لابد من التكامل على مستوى الأمة

سادساً: لا بد من التكامل على مستوى الأمة:

يعني: قد نسمح أن فلاناً يكون متفرغاً لهذا الميدان وعنده إبداع فيه، لكن على مستوى الأمة وعلى مستوى توجهات الدعوة يجب أن يكون هناك تكامل، ويجب أن تسد الثغور جميعها، فهناك فرق بين الفرد وبين الأمة أو الدعوة على مستوى الأمة.

الأسئلة

التأسيس في العلم قبل التخصص

السؤال: أليس الأصل أن يتأسس الشاب على قاعدة ثابتة من العلم، ثم يتخصص بعد ذلك فيما يناسبه؛ لأن بعض الشباب إذا سمع كلامكم قد يمتنع عن طلب العلم فيقول: هذا ليس من تخصصي!

الجواب: سبق أن أجبت على هذا الإشكال، وقلت إن الشاب المطلوب منه التكامل حتى يصل إلى منزلة عالية ومن المستوى التربوي ويكوّن عنده شخصية متكاملة ثم بعد ذلك يتخصص، الآن مثلاً الطالب يدرس في المرحلة الابتدائية، ثم المرحلة المتوسطة دروساً يدرسها الجميع، ثم يدخل في المرحلة الأولى الثانوية فيدرس أيضاً دروساً يدرسها الجميع، بعد الأولى الثانوية يتوجه إلى تخصص علمي عام أيضاً، أو يتوجه إلى تخصص أدبي، ثم بعد ذلك يتخرج فيتوجه إلى كلية التخصص فيها أدق، وعندما يتخرج من الكلية ويدرس دراسات عليا يكون هناك تخصص أدق، حيث يكون التخصص أيضاً أدق في مرحلة الماجستير ومرحلة الدكتوراه..، وهكذا.

فنقول: لا بد من التكامل.. فلا بد من أن نعتني بالعلم الشرعي جملة فنربي الشباب عليه ويستغلوا أوقاتهم فيه، ولا بد أن يتربى الشباب على الصلة بالله وعبادة الله سبحانه وتعالى، ولا بد من كل هذه الأبواب جميعاً، ثم بعد ذلك يكون التخصص، وما أظن أنه يفهم من كلامي انتقاص هذا الميدان أو الميدان الآخر، بل أنا أقول: لا يسوغ أن ننتقص هذه الميادين ونحتقرها..

على كل حال أنا أؤيد الأخ فيما قاله، وأنه لا بد من العناية بالعلم الشرعي، وأن كل واحد منا يفرغ جزءاً من وقته لتعلم العلم الشرعي، لكن هذا شيء وأن نطالب الإنسان بأن يتفرغ من كل الأعمال ويترك كل الميادين لتعلم العلم الشرعي هذا شيء آخر، وهناك فرق بين الصورتين والحالتين، فهذا فلان مثلاً يقضي كل يوم ساعتين يقرأ فيها ويتعلم، بل أنت أصلاً داخل هذا المركز الصيفي تتلقى دروساً علمية وحلقات علمية إلى غير هذا، فهذا الإنسان الذي يتعلم ساعتين لا يعتبر متخصصاً، فأنا أعتبره في ميدان آخر لكنه يحتاج إلى ما لا يقل عن ساعتين يومياً من القراءة والاطلاع ومذاكرة العلم.. لكن بقية وقته يستغله في جوانب أخرى، أما الإنسان المتخصص بالعلم نقول له: لا تكفينا ساعتان منك، بل ينبغي أن تنفق نفيس وقتك في تعلم العلم الشرعي، ثم تبقى منك فضول أوقات تستغلها بعد ذلك فيما سواها من الأعمال.

لا يطلب من الناس أن يتجهوا إلى مكان واحد

السؤال: كثيراً ما نسمع عن أشخاص يطلبون من الناس أن يعملوا العمل الذي قصّر فيه الناس، وأنه لا تتم الدعوة إلا بسلوك هذا الأمر لخطورته وحاجة الناس إليه، فكيف التعامل مع هذا الطلب؟

الجواب: نحن ينبغي أن لا نقع في رد الفعل، صحيح أنه قد نجد ميداناً مُقصّر فيه؛ لكن لا ندعو الناس كلهم إلى هذا الميدان، يعني أنا أضرب لكم مثالاً آخر:

لو كنا عشرة أشخاص في خيمة فجاءت الرياح عاصفة فإننا نحتاج أن نمسك الخيمة من كل الزوايا، فيأتي واحد يدعونا كلنا يقول تعالوا هذه الزاوية! فهذا غير صحيح، نعم هناك تقصير وهناك خطر فقد تسقط الخيمة من هذا الجانب، لكن لا يجتمع الجميع إلى هذا الميدان؛ لأنهم إذا أتوا إلى هذا الميدان تركوا ميادينهم، فينبغي أن لا يكون عندنا ردة فعل.

تحريك الطاقة الكامنة في النفس بالعمل

السؤال: أنا شاب مع مجموعة وأشعر في نفسي أني طاقة كبرى، ولكن لم أجد من يحرك هذه الطاقة، فما نصيحتك لي، هل أترك هذه المجموعة أم ماذا أفعل؟

الجواب: هذا وهم ومخادعة للنفس، أنت أصلاً تستطيع أن تحرك نفسك، وتستطيع أن تعمل، لكن الإنسان يكون عنده طاقة وجهد وهو كسول، فيريد أن يبرر الكسل فيتصور أن هذه المجموعة أو هذا المجتمع أو العصر الذي وجد فيه هو السبب في إهماله! ولو كان في الوقت القرن السادس عشر أو في القرن الثالث عشر لكان آية من آيات الله! وهذا غير صحيح صحيح، بل هذا وهم ومخادعة للنفس، ما دمت تزعم وتدّعي أن عندك طاقة فأنت قادر على أن تعمل وتُنتج في أي ميدان كنت حتى وسط هذه المجموعة.

الجمع بين جميع أبواب الدعوة مستحيل

السؤال: عندما قال أبو بكر : ألا يمكن أن يدعى أحد من جميع الأبواب؟ أجاب النبي بالإيجاب، أفليس ذلك دالاً على إمكانية الإحاطة بجميع الخير ليكون كلانا على كل الخير، أرجو الإجابة الوافية عن هذا السؤال؟

الجواب: يمكن أن يُدعى لكن الذين يدعون إلى هذا الخير قلة، وأنا أسألك: هل تستطيع الآن أن تكون عالماً تفتي في الفقه، ومفسّراً، وأصولياً، وأديباً، وعالماً بالمذاهب، وعالماً بالتيارات المعاصرة، وسياسياً بارعاً، وقائداً في الجيش، ومهندساً، وطبيباً، وإنساناً تنفق على المحتاجين، وتربي الشباب، وتدرس، وتؤذن، وتؤم الناس، وتفعل كل هذه الميادين؟ هذا مستحيل لا يمكن.. لكن يمكن أن يكون للإنسان من كل عبادة نصيب، أما أن يسد أبواب الدعوة وميادين الدعوة ويقوم بها شخص واحد فهذا مما لا يمكن ولا يطاق، ولو وجد من يجمع أبواباً كثيرة فهؤلاء أناس نوادر.. أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يدعون كلهم من هذه الأبواب جميعاً.

اتخاذ قرار التخصص بحسب الأغراض الدنيوية

السؤال: بعض الشباب بعد أن اجتاز المرحلة الثانوية ذهب إلى تخصص حسب الأغراض الدنيوية، ولم يذهب إلى المجال الذي يُبدع فيه، فما تعليقكم على ذلك؟

الجواب: هذا إنسان لا تعنيه القضية، أنا أقول: إن الإنسان الذي تعنيه قضية الدين وقضية الدعوة يجب أن تتحكم في كل قراراتك، ومن ذلك اختيار التخصص في الجامعة، اختيار العمل بعد التخرج، حتى اختيار موقع السكن.. قضايا كثيرة يجب أن تؤثر فيها، فهذه تكون عاملاً مؤثراً في اختيار هذه القرارات وحينئذ يختار الإنسان التخصص الذي يرى أنه يفيد الأمة من خلاله، أو العمل الذي يرى أنه سينفع من خلاله.

الموازنة بين خدمة الدين في ميدان والتعرض للانحراف

السؤال: إذا ما نبغ الشخص في مجال نبوغاً فاق فيه الكثير لكن مثل هذه المجالات التي نبغ فيها قد تضعف إيمانه، وقد تؤدي إلى انحرافه، علماً بأن ما هو عليه ثغر ليس له من يسده إلى الآن، فما توجيهكم؟

الجواب: لماذا نضع أبيض وأسود، أضرب لك مثالاً حتى تتضح الصورة:

نحن نحتاج مثلاً إلى طبيب يكون في المستشفى، المستشفيات فيها فساد وسفور وتبرج، فلا يطلق لنفسه العنان ولا يترك العمل، بل يبقى في هذا الميدان ويحاول أن ينكر، ثم يشعر أنه على خطر فيجتهد في العبادة والدعاء والإقبال على الله عز وجل حتى يكون محصناً من ذلك، ويغض بصره ويجتهد في مدافعة المنكر.

الذي ينكر المنكرات في الأسواق مثلاً يحتاج أن يخرج إلى السوق فينكر المنكرات فيتعرض للفتنة، فهو الآخر يحتاج إلى أن يتسلح بالإيمان، وأحوج من غيره إلى زيادة العبادة والطاعة وكلنا نحتاج إلى ذلك، لكن هذا يحتاج إلى أن يكون عنده حرص على العبادة والطاعة ودعاء الله والتوجه إليه، ولو حصل ما حصل عنده من الإخلال بجوانب أخرى نتيجة لأنه سد هذا الميدان فلا حرج، لكن إذا وصلت القضية عند بعض الناس إلى الانحراف في الخطورة فلا، بعض الناس قد يكون عنده شهوة قوية وغريزة قوية ولا يصبر، فهذا مثلاً لا يصلح أن يتصدى لإنكار المنكرات في الأسواق أو الأعمال التي يمكن أن تكون وسيلة لأن يقع في مثل هذا الميدان، فينبغي له أن يبتعد عن هذا الميدان ويسلك الميدان الآخر.

جميع أبواب الدين مفتوحة للعمل فيها

السؤال: هل ترى أن هناك أبواباً من أبواب الخير قد اكتفت وتنصح بالتوجه إلى أبواب تحتاج إلى من يسدها، أرجو ذكر أمثلة على ذلك؟

الجواب: لا.. لا يوجد أبواب.. كل أبواب خدمة الدين وخدمة الأمة لا تزال مفتوحة أمام الجميع، قد يكون هناك باب أولى، وقد يكون هناك مجال أولى، لكن الأبواب جميعاً مطلوبة.

كيفية تحديد منهج النبوغ

السؤال: الشباب يواجه بعض الصراعات في تحديد منهج نبوغه فتكثر الطرق والسبل، كيف يقوم الشاب بالتحديد؟

الجواب: ليس المعنى أن الإنسان ليس إلا خط واحد يسلكه! والتربية تؤثر على الإنسان.. فالإنسان قد يكون أمامه عدة خيارات، لكنك عندما تطوعه يمكن أن يسلك هذا الميدان أو الميدان الثاني، فمثلاً هذه الخرقة التي أمامي يمكن أن أستعملها عدة استعمالات، فيمكن أن أجعل منها حبلاً، ويمكن أستر بها على الجدار، ويمكن أن أستعملها بوسيلة أو أخرى؛ لكن لا يمكن أبداً أن أجعل من هذه الخرقة مكبّر صوت، وكذلك الشاب يمكن أن يسلك أكثر من ميدان لكن هناك ميادين لا يمكن أن يسلكها، والشاب عندما يتقدم به السن يعرف نفسه، ويستطيع أن يستفيد أيضاً من أساتذته ومن حوله من الناس.

اختلاف الناس في التوجه للعبادة

السؤال: هل هذا الموضوع خاص بالأعمال المتنوعة، وهل تدخل فيه العبادات أيضاً، وكيف يكون ذلك؟

الجواب: سبق أن نقلت كلام ابن القيم رحمه الله، والعبادات فيها جانب من ذلك، فمثلاً: الإنسان قد يجد أن نفسه تتوجه لكثرة الصلاة فتراه يكثر من صلاة النافلة لكنه ليس عنده جلد على الصيام، فهذا يجتهد في النوافل مثلاً، أو يرى نفسه تتوجه إلى الإنفاق فيتجه للإنفاق ولو لم يكن له نصيب كبير من الصيام، وهكذا الصيام، أو قراءة القرآن، أو الذكر؛ لكن في الجملة يجب أن يأخذ الإنسان من كل باب بنصيب، فيكون له نصيب من الصيام والصلاة والذكر وقراءة القرآن.

وتأمل أنت في الناس من حولك تجد بعض الناس يقرأ القرآن في قيامه وقعوده وجلوسه، وبعض الناس يداوم على ذكر الله عز وجل، وبعض الناس يكف لسانه عن عيب الناس وانتقادهم، وبعض الناس ينفق في سبيل الله، وبعض الناس يصلح بين الناس..، وهكذا ترى كل إنسان فُتح له باب خير، فأقول: هذا الكلام يشمل أبواب العبادات والتقرب إلى الله، ويشمل أبواب الدعوة لكن قد يكون بينها بعض الفروق.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، وأن يوفقنا وإياكم لسلوك صراطه المستقيم، وأن يجمعنا وإياكم في مستقر رحمته.

هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , كلانا على الخير للشيخ : محمد الدويش

https://audio.islamweb.net