إسلام ويب

عرض الشيخ في هذا الدرس قصصاً لأئمة تحملوا المشاق واللأواء في سبيل الله من أجل طلب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وجمع سنته. ثم ذكر آداباً لطالب العلم، وما يجب عليه أن يتحلى به. ثم تحدث عن بعض معوقات طلب العلم، وما الواجب على طالب العلم لكي يرتقي بعلمه إلى الدرجة التي بها يحفظ السنة.

رحلة موسى عليه السلام في طلب العلم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ففي هذه السلسلة التي كنا قد ابتدأنا فيها عن طالب العلم والتي تضمنت: طالب العلم والمنهج، وطالب العلم والحفظ، وطالب العلم والقراءة، نتكلم أيضاً في هذه الليلة إن شاء الله عن طالب العلم والرحلة.

ولا شك أن الرحلة في طلب العلم من الأمور العظيمة التي هي من أسباب تحصيل العلم، وهذه الرحلة حكمها يختلف بحسب حال الشخص والعلم الذي يريد أن يتعلمه، فإن كان علم فرضٍ لا يمكن تحصيله إلا بالرحلة، وجب عليه أن يرحل ويأثم لو لم يرحل، والله سبحانه وتعالى يقول: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ [التوبة:122].

فطلب العلم فريضة على كل مسلم، وقد أوجب الله الخروج لتحصيل العلم الواجب تحصيله، وقد تكون الرحلة مستحبة إذا كانت للزيادة من علمٍ ليس بفرض تحصيله، وقد تكون مكروهةً إذا كان يمكن أن يكون في بلده يحصل العلم فإذا رحل تألم أهله -مثلاً- وأولاده للفراق، وقد تكون الرحلة محرمة إذا كان فيها تضييعٌ للأولاد والأهل مع عدم وجود ما يوجب عليه الذهاب أو إذا قصد بالرحلة حب الظهور والشهرة، وأن يقال عنه: رحل للقاء فلان أو فلان، ويعدد المشايخ والبلدان ونحو ذلك.

والرحلة في طلب العلم -أيها الإخوة- قديمة؛ فإننا نذكر من الأمثلة التي وردت في القرآن والسنة رحلة موسى صلى الله عليه وسلم في طلب العلم على يد الخضر عليهما السلام، كما روى خبر ذلك الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه في كتاب العلم، باب ما ذكر في ذهاب موسى في البحر إلى الخضر عليهما السلام، وقوله تعالى: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً [الكهف:66].

وهذا الحديث العظيم الذي ساقه البخاري رحمه الله والذي يفسر فيه النبي صلى الله عليه وسلم قصة موسى مع الخضر كما جاء في القرآن، وفي هذه القصة يقول صلى الله عليه وسلم: (بينما موسى في ملأ من بني إسرائيل إذ جاءه رجل فقال: هل تعلم أحداً أعلم منك؟ قال موسى: لا، فأوحى الله إلى موسى: بلى.. عبدنا الخضر) يعني عبدنا الخضر أعلم، فسأل موسى السبيل إليه، فجعل الله له الحوت آية، وقيل له: إذا فقدت الحوت فارجع فإنك ستلقاه، وكان يتبع أثر الحوت في البحر، فقال موسى لفتاه: قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً [الكهف:64] فقص الأثر إلى مكان فقد الحوت فوجد الخضر، ثم كان من شأنهما الذي قص الله عز وجل في كتابه.

وذهب موسى لملاقاة الخضر، وطلب من الله أن ييسر له الرحلة لطلب العلم، ولذلك قال في الحديث: (فسأل موسى السبيل إليه) وأراد من الله أن يبين له الطريق لملاقاة هذا العالم وهو الخضر.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في هذا الباب الذي عقده البخاري: هذا الباب معقود للترغيب في احتمال المشقة في طلب العلم؛ لأن ما يغتبط به تحتمل المشقة فيه. فالعلم شيءٌ عظيم، ولا شك أن هذا العلم العظيم الجميل الجليل تهون المشاق في سبيل تحصيله.

وكذلك في هذا الحديث من الفوائد: ركوب البحر في طلب العلم، بل في طلب الاستكثار من العلم، ومشروعية حمل الزاد في السفر -لأنه أخذ معه الحوت- ولزوم التواضع في كل حال، وخضوع الكبير لمن يتعلم منه، ولهذا حرص موسى على الالتقاء بالخضر عليه السلام، مع أن موسى أفضل من الخضر ولا شك، وموسى من أولي العزم ولا شك، ورغم ذلك لم يمنعه فضله وارتفاع رتبته على الخضر أن يسافر إليه لطلب العلم، ويتحمل المشاق لطلب علم عند الخضر ليس عند موسى، ولا شك أن هذا من تواضعه صلى الله عليه وسلم.

وكذلك فإن الله سبحانه وتعالى أخبرنا عن صفيه وكليمه الذي كتب له التوراة بيده أنه رحل إلى رجلٍ عالمٍ يتعلم منه، ويزداد علماً منه، وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً [الكهف:60] كل ذلك حرصاً منه على لقاء هذا العالم، وعلى التعلم منه؛ فلما لقي موسى الخضر سلك معه مسلك المتعلم مع معلمه، وقال له بكل أدب: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً [الكهف:66]، أولاً: بدأه بالسلام، ثم بعد ذلك بالاستئذان على متابعته، وأنه لا يتبعه إلا بإذنه، وقال: عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً [الكهف:66] وقال: أنا جئت لأتعلم ولم آت لأناقش وأجادل، وأظهر ما عندي، ولا جئت أمتحنك وإنما جئت أستزيد علماً، وكفى بهذا فضلاً وشرفاً للعلم، فهذا نبي الله سافر ورحل لتحصيل ثلاث مسائل من رجلٍ عالم، لما سمع أن هناك من هو أعلم منه ما هدأ له بال حتى ذهب، ولم يقر له قرار حتى سافر لمتابعة التعليم.

وهذا في حال الأنبياء رضوان الله تعالى عليهم.

أما من بعدهم فالصحابة قد ضربوا المثل أيضاً في طلب العلم؛ امتثالاً لأمره تعالى لما قال: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ [التوبة:122].

ولذلك جاء أنه كان ينطلق من كل حيٍ من العرب عصابة -يعني: مجموعة- فيأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسألونه ويتفقهون في أمر دينهم ويقولون: ماذا تأمرنا أن نفعل؟ وماذا تأمرنا في عشائرنا؟ ويبعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى قومهم ليقوموا فيهم بأمر الله سبحانه وتعالى.

قصص واقعية لأئمة رحلوا في طلب العلم

كان كثيرٌ من الصحابة يرحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم الإمام العظيم أبو ذرٍ الغفاري رضي الله تعالى عنه، الذي جاء في قصة إسلامه كما في صحيح البخاري لما سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأخيه أنيس: اركب إلى هذا الوادي -اذهب إلى مكة- فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء، فاسمع من قوله ثم ائتني، فانطلق أنيس حتى قدم مكة وسمع من قول النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى أبي ذر، فقال: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وسمعته يقول كلاماً ما هو بالشعر، فقال أبو ذر: ما شفيتني فيما أردت.

فتزود أبو ذرٍ -رضي الله عنه- وحمل شنة له فيها ماء -قربة- حتى قدم مكة والتمس النبي صلى الله عليه وسلم حتى وقع عليه وعثر عليه وأسلم على يديه وتحمل في سبيل ذلك أذى أهل مكة حتى إنهم ما تركوا حجرة ولا مدرة ولا عظماً إلا ضربوه به، لما علموا أنه جاء يسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم، حتى قال: خررت مغشياً عليَّ فارتفعت حين ارتفعت كأني نصبٌ أحمر يعني: من كثرة الدماء التي سالت عليه... وبعد ذلك لزم النبي صلى الله عليه وسلم وهاجر معه.

وكان الصحابة يرحلون في طلب العلم، فهذا عمر هو وجاره كانا يتناوبان في طلب العلم، يجلس هذا في المزرعة يوماً، وينزل الآخر يوماً ليتعلم، فيجمعان بين مصلحة طلب العلم، وبين القيام على الأموال واستصلاح الأرض والزراعة.

وكذلك فإنه قد جاء في مناقب أهل اليمن في الصحيح عن عمران بن حصين قال: (دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعقلت ناقتي بالباب فتاهت، فأتاه ناس من بني تميم فقال: اقبلوا البشرى يا بني تميم، قالوا: بشرتنا فأعطنا مرتين) ظنوا المسألة فيها عطايا مادية، قالوا: ما دامت بشرى فتوجد عطايا مادية، فتغير وجهه صلى الله عليه وسلم: (ثم دخل عليه ناسٌ من أهل اليمن، فقال: اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم، قالوا: قبلنا يا رسول الله، قالوا: جئناك من اليمن -يرحلون- لنتفقه في الدين ونسألك عن أول هذا الأمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كان الله ولم يك شيءٌ قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السماوات والأرض، وكتب في الذكر كل شيء).

فهذه رحلة أهل اليمن في طلب العلم، ومنهم أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، وله فضلٌ عظيم، وهذا دليلٌ على الرحلة في طلب العلم.

وكذلك فإن هناك أمراً من الأمور العظيمة التي فاتتنا مع الأسف في هذا الزمان وكانت من أكبر أسباب الرحلة في طلب العلم وهي جمع الحديث.

ولا شك -أيها الإخوة- أن من أكبر الأسباب الدافعة لعلماء السلف للرحلة في طلب العلم هي جمع الحديث، فإن القرآن مجموعٌ معلوم، ولا حاجة إلى الرحلة لجمعه؛ لأنه مجموع، أما الحديث فإنه كان قد تفرق في البلدان بتفرق الصحابة، والصحابة علموا من بعدهم، وتفرق الحديث في البلدان فلما أراد العلماء جمع الحديث وكتابة الحديث رحلوا في طلب الأحاديث وجمعها، بل كانوا يرحلون في طلب الحديث لأجل علو السند، فإذا سمعه من رجل قال: من حدثك به؟ قال: فلان بـالكوفة، فيسافر إلى فلان بـالكوفة لكي يسمعه من الشيخ الأصلي لكي يكون سنده أعلى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الشيء الذي نتحسر عليه في هذه الأيام؛ لأن جمع الحديث قد انتهى، ولذلك الرحلة في جمع الحديث انتهت بجمع الأحاديث وكتابة الأحاديث وتدوين الأحاديث، ونقول في أنفسنا: يا ليتنا كنا معهم فنفوز فوزاً عظيماً.

رحلة جابر بن عبد الله إلى عبد الله بن أنيس

وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم على رأس الراحلين في سماع الأحاديث، فإن جابر بن عبد الله رحل شهراً إلى عبد الله بن أنيس في حديثٍ واحد، كما أخرج البخاري رحمه الله في الباب المفرد في باب المعانقة، من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: (بلغني عن رجلٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتريت بعيراً -من أجل الرحلة اشترى بعيراً- ثم شددت رحلي فسرت إليه شهراً حتى قدمت الشام فإذا عبد الله بن أنيس، فقلت للبواب: قل له: جابر على الباب، فقال: ابن عبد الله ؟ قلت: نعم. فخرج عبد الله بن أنيس فاعتنقني. فقلت: حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فخشيت أن أموت أو تموت قبل أن أسمعه، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يحشر الله الناس يوم القيامة عراة أي: يعني غير مختتنين- بهماً، قلنا: ما بهماً؟ قال: ليس معهم شيء. فيناديهم بصوت يسمعه من بَعُدَ كما يسمعه من قَرُبَ: أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحدٍ من أهل الجنة يدخل الجنة وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار يدخل النار وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة) لا بد من تصفية الحسابات... الحديث.

وهذا دليل على أن الصحابة رضوان الله عليهم رغم أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وسمعوا الأحاديث لكنهم يطلبون المزيد والسماع المباشر، وهذا الحديث الذي يرحل من أجله كان السابقون يقدرون له قيمته، ففي الصحيحين من حديث الشعبي، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: عبد مملوك أدى حق الله وحق مواليه، ورجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي، ورجل كانت له أمة فأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها فتزوجها)، ثم قال الشعبي : خذها بغيرما شيء -خذ هذا الحديث مجاناً- فقد كان الرجل يرحل في مثلها إلى المدينة ، أي: يذهب من الكوفة إلى المدينة من أجل حديثٍ واحد.

رحلة بعض التابعين في طلب العلم

كذلك فإن التابعين قد ساروا على نهج الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، فهذا التابعي الجليل أبو العالية قال: [كنا نسمع الرواية عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بـالبصرة فما نرضى حتى نركب إلى المدينة فنسمعها من أفواههم].

وكذلك قال الإمام مالك رحمه الله عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب : [كنت أرحل الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد].

وعن الشعبي رحمه الله أنه خرج من الكوفة إلى مكة في ثلاثة أحاديث ذكرت له، فقال: "لعلي ألقى رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم".

وكان الشعبي رحمه الله من كبار الحفاظ، وكان يقول: "ما كتبت سوداء في بيضاء إلى يومي -لا يحتاج إلى كتابة لأن العلم كله محفوظ في الذهن- ولا حدثني رجل بحديث قط إلا حفظته، ولا أحببت أن يعيده علي، ولقد نسيت من العلم ما لو حفظه أحد لكان به عالماً.

قيل للشعبي : من أين لك هذا العلم كله؟

قال: بنفي الاعتماد، والسير في البلاد، وصبر كصبر الجماد، وفي رواية: كصبر الحمار- لأنه معروف بصبره على الذل وقلة التفقد، أي: أنه لو ما تفقده أحد فهو يصبر، وبكور كبكور الغراب.

كانت العرب تقول: تعجبنا من أربعة أشياء: من الغراب والخنزير والكلب والسنور، فأما الغراب فسرعة بكوره وسرعة إيابه قبل الليل.

وكذلك قال أبو قلابة الجرمي رحمه الله: أقمت في المدينة ثلاثة أيام ما لي بها حاجة إلا قدوم رجل بلغني عنه الحديث، فبلغني أنه يقدم فأقمت حتى قدم فحدثني به.

وكان مكحول رحمه الله عبداً لـسعيد بن العاص ، فوهبه لامرأة من هذيل بـمصر ، فأنعم الله عليه بـمصر وأعتق، قال عن نفسه: فلم أدع بها علماً إلا حويته فيما أراه -في ظنه- ثم أتيت العراق فلم أدع بها علماً إلا حويته عليه فيما أراه، ثم أتيت المدينة فكذلك، ثم أتيت الشام فغربلتها، كل ذلك أسأل عن النقل.

رحلة ابن فروخ إلى الأعمش

وكان الإمام عبد الله بن فروخ رحمه الله يرحل ويسافر، قال: لما أتيت الكوفة وأكثر أملي السماع من الأعمش ، فسألت عنه -سأل عن الأعمش - فقيل لي: غضب على أصحاب الحديث فحلف ألا يسمعهم مدة.

هذا جاء إلى الشيخ، والشيخ يبدو أن بعض الطلبة قد ضايقوه، فـالأعمش حلف ألا يسمعهم مدة، مثلاً قال: والله لا أحدثكم شهراً عقوبة لهم حتى يتأدبوا، هذا الطالب جاء إلى البلد فوجد الشيخ فحلف ألا يحدث.

قال: فكنت أختلف إلى باب داره لعلي أصل إليه فلم أقدر على ذلك -ما استطعت- فجلست يوماً على بابه وأنا متفكر في غربتي وما حرمته من السماع، إذ فتحت جارية بابه يوماً وخرجت منه، فقالت لي: ما بالك على بابنا؟ فقلت: أنا رجل غريب، وأعلمتها بخبري. قالت: وأين بلدكم؟ قلت: أفريقيا . فانشرحت إلي وقالت: تعرف القيروان؟ قلت: أنا من أهلها. قالت: تعرف دار ابن فروخ؟ قلت: أنا هو. فتأملتني ثم قالت: عبد الله؟ قلت: نعم. وإذا هي جارية كانت لنا بعناها صغيرة، فسارعت إلى الأعمش وقالت: إن مولاي الذي كنت أخبرك بخبره في الباب، فأمرها بإدخاله، فدخلت وأسكنني بيتاً قبالة بيته، فسمعت منه وحدثني وقد حرم سائر الناس إلى أن قضيت أربي منه.

رحلة الإمام أحمد في الطلب

وهذا الإمام أحمد رحمه الله تعالى طلب الحديث وهو ابن ستة عشر سنة، وخرج إلى الكوفة في أول سفرة، وخرج إلى البصرة ، وخرج إلى سفيان بن عيينة بـمكة -وهي أول سنة حج فيها- وخرج إلى عبد الرزاق بـصنعاء اليمن ، ورافق يحيى بن معين في هذه السفرة.

قال أحمد رحمه الله: رحلت في طلب العلم والسنة إلى الثغور، والشامات، والسواحل، والمغرب ، والجزائر ، ومكة ، والمدينة ، والحجاز ، واليمن ، والعراقين جميعاً، وفارس ، وخراسان ، والجبال والأطراف، ثم عدت إلى بغداد ، وخرجت إلى الكوفة فكنت في بيت تحت رأسي لبنة -وسادة- فحممت فرجعت إلى أمي رحمها الله ولم أكن استأذنتها، ولو كان عندي تسعون درهماً كنت رحلت إلى جرير بن عبد الحميد إلى الري ، وخرج بعض أصحابنا ولم يمكنني الخروج لأنه لم يكن عندي شيء.

وقال ابن الجوزي رحمه الله: طاف الإمام أحمد بن حنبل الدنيا مرتين حتى جمع المسند.

وكان من تلامذته إسحاق بن منصور الكوسج ، وكان فقيهاً عالماً، جمع مسائل عن الإمام أحمد ثم بلغه أن الإمام أحمد رجع عن تلك المسائل التي كتبها عنه، فجمع إسحاق بن منصور المسائل في جراب وحملها على ظهره وخرج راجلاً إلى بغداد وهي على ظهره، وعرض خطوط أحمد عليه في كل مسألة -استفتاه فيها، قال: هذه كتبتها عنك رجعت عنها؟ هذه رجعت عنها؟ هذه رجعت عنها؟- فأقر له بها وأعجب أحمد بذلك. فهذا رحل في التأكد هل العالم رجع عن مسألة أم لم يرجع.

رحلة بقي بن مخلد إلى الإمام أحمد

كذلك فإن من أئمة الدنيا وطلاب العلم الكبار والعلماء الأفذاذ بقي بن مخلد رحمه الله، وهذا من علماء الأندلس ، وهذا الرجل رحل من الأندلس إلى بغداد لملاقاة الإمام أحمد رحمه الله، وحصلت له قصة عجيبة مع الإمام أحمد، قال فيما يروى عنه: لما قربت من بغداد اتصلني خبر المحنة التي دارت على أحمد بن حنبل.

والمحنة التي جرت على الإمام أحمد معروفة، وكان مما حصل على الإمام أحمد السجن والضرب، والإقامة الجبرية، ومنع من التحديث والتدريس بقي بن مخلد رحل من الأندلس وجاء إلى بغداد لملاقاة أحمد بن حنبل فوجده مفروضاً عليه الإقامة الجبرية والمنع من التدريس ولا يستطيع أحد أن يقترب من بيت الإمام أحمد ، فماذا فعل؟

قال: فاغتممت بذلك غماً شديداً، فلم أعرج على شيء بعد إنزال متاعي في بيت اكتريته -في بعض الفنادق- أن أتيت الجامع الكبير -نزل العفش في الفندق وأتى إلى الجامع الكبير- وأنا أريد أن أجلس إلى الحلق وأسمع ما يتذاكرونه، فدفعت إلى حلقة نبيلة، فإذا برجل يكشف عن الرجال فيضعف ويقوي -فلان ثقة، فلان ضعيف.. وهكذا- فقلت لمن كان بقربي: من هذا؟ قالوا: هذا يحيى بن معين ، فرأيت فرجة قد انفرجت قربه -قرب الشيخ- فقمت إليه، فقلت له: يا أبا زكريا رحمك الله.. رجل غريب، نائي الدار، أردت السؤال فلا تستخفني. فقال لي: قل. فسألته عن بعض ما لقيته من أهل الحديث فبعضاً زكى وبعضاً جرح، فسألته في آخر السؤال عن هشام بن عمار؟ فقال: صاحب صلاة دمشقي ثقة وفوق الثقة... إلخ، فصاح أهل الحلقة: يكفيك رحمك الله، غيرك له سؤال، فقلت وأنا واقف على قدمي: أكشفك عن رجل واحد -أريد أن أسألك عن رجل: أحمد بن حنبل؟ فنظر إلي يحيى بن معين كالمتعجب، وقال لي: ومثلنا نحن يكشف عن أحمد بن حنبل ؟ إن ذاك إمام المسلمين وخيرهم وفاضلهم.

ثم خرجت أستدل على منزل أحمد بن حنبل فدللت عليه، فقرعت بابه، فخرج إلي ففتح الباب، فنظر إلى رجل لم يعرفه -ما عرفني- فقلت: يا أبا عبد الله ! رجل غريب الدار، هذا أول دخولي هذا البلد، وأنا طالب حديث ومقيد سنة، ولم تكن رحلتي إلا إليك، فقال لي: ادخل الاسطوان -أي: الممر إلى داخل الدار- ولا تقع عليك عين -غيره تحت- فقال لي: وأين موضعك؟ قلت: المغرب الأقصى . فقال لي: أفريقيا ؟ فقلت: أبعد من ذلك، أجوز من بلدي البحر إلى أفريقيا ، الأندلس . فقال لي: إن موضعك لبعيد، وما كان شيء أحب إلي من أن أحسن عون مثلك على مطلبه، غير أني في حيني هذا ممتحن بما لعله قد بلغك، فقلت له: قد بلغني، وأنا قريب من بلدك مقبل نحوك -وصلني الخبر بمنعك من التدريس وأنا داخل على البلد- فقلت له: يا أبا عبد الله ! هذا أول دخولي، وأنا مجهول العين عندكم -أنا غير معروف في البلد- فإن أذنت لي أن آتي في كل يوم في زي السؤال -ألبس ملابس الشحاذين- وآتي إلى بيتك فأقول عند باب الدار ما يقولونه -أي: أقول عند باب البيت ما يقوله الشحاذون- فتخرج إلى هذا الموضع، فلو لم تحدثني في كل يوم إلا بحديث واحد لكان فيه الكفاية.

فقال لي: نعم. على شرط ألا تظهر في الحلق ولا عند أصحاب الحديث، فقلت: لك شرطك -حتى لا يعرف، ويبقى هذا غريب مجهول- فكنت آخذ عوداً بيدي -مثل الشحاذ- وألف رأسي بخرقة، وأجعل ورقي ودواتي في كمي -التي يكتب بها في كمه- ثم آتي في بابه أصيح: الأجر رحمكم الله. فيخرج إلي ويغلق باب الدار ويحدثني بالحديثين والثلاثة والأكثر.. وهكذا حتى اجتمع لي نحواً من ثلاثمائة حديث، فالتزمت ذلك حتى مات الممتحن له - الخليفة الذي امتحن أحمد مات- وولي بعده من كان على مذهب السنة، فظهر أحمد بن حنبل وسما ذكره... إلى آخر القصة.

قال فيها: فكنت إذا حضرت حلقته فسح لي وأدناني، ويقول لأصحاب الحديث: هذا يقع عليه اسم طالب العلم.

أحمد يقول للناس بعدما رجع إلى التدريس وانفك من المحنة: هذا فعلاً يسمى طالب علم، هذا الذي ركب البحر من الأندلس إلى أفريقيا وجاء إلى بغداد ، هذا الذي رضي أن يلبس ملابس الشحاذين حتى يتعلم كل يوم حديثاً أو حديثين، هذا يصلح أن يقع عليه اسم طالب علم، فالآن اسم طالب العلم صار اسماً ممتهناً للكل، يقولون: فلان طالب علم، وما فعل شيئاً مما فعله بقي .

قال: ثم يقص عليهم قصتي معه، كان يناولني الحديث مناولة ويقرأه عليه وأقرأه عليه، فاعتللت علة -يقول: مرضت مرضة- ففقدني من مجلسه فسأل عني فعلم بمرضي، فقام مباشرة عائداً إليَّ -هذا كان قد استأجر غرفة في الفندق- قال بقي وهو مريض في الفندق: فسمعت الفندق قد ارتج بأهله وأنا أسمعه، يقول: هو ذاك أبصروه، هذا إمام المسلمين.

الإمام أحمد رفع الله ذكره، كان إذا دخل حارة أو مكاناً أو فندقاً قام الناس وقالوا: جاء أحمد ، جاء أحمد، كان بقي مريضاً في الفندق، فلما دخل أحمد ضج أهل الفندق، فبدر إلي صاحب الفندق مسرعاً، فقال لي: يا أبا عبد الرحمن ! هذا أبو عبد الله أحمد بن حنبل إمام المسلمين مقبلاً إليك عائداً لك، فدخل فجلس عند رأسي وقد احتشى البيت من أصحابه فلم يسعهم؛ حتى صارت فرقة منهم في الدار وقوفاً وأقلامهم بأيديهم، فما زادني على هذه الكلمات، فقال لي: يا أبا عبد الرحمن ! أبشر بثواب الله، أيام الصحة لا سقم فيها، وأيام السقم لا صحة فيها، أعادك الله إلى العافية.

ثم خرج عني فأتاني أهل الفندق يلطفون بي ويخدمونني ديانة وحسبة فأحدهم يأتي بالفراش، وآخر باللحاف وبأطايب من الأغذية، وكانوا في تمريضي أكثر من تمريض أهلي لو كنت بين أظهرهم.. لماذا؟ لعيادة الرجل الصالح لي أحمد بن حنبل.

وبقي بن مخلد قد رحل إلى مصر والشام والحجاز وبغداد رحلتين: امتدت الرحلة الأولى أربعة عشر عاماً، والثانية عشرين عاماً؛ ولذلك كتب مجلدات.

رحلة الإمام أبي حاتم الرازي

وهذا الإمام أبو حاتم الرازي لما ذكر رحلته في طلب العلم، قال: سمعت أبي يقول: أول ما خرجت في طلب الحديث أقمت سبع سنين، أحصيت ما مشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ.

الفرسخ أكثر من خمسة كيلو مترات! أي: أن هذا مشى على قدميه أكثر من خمسة آلاف كيلو متر، والمشي على الأقدام غير الرواحل.

يقول: كنت أسير من الكوفة إلى بغداد ما لا أحصي كم من مرة، ومن مكة إلى المدينة مرات كثيرة، وخرجت من البحر في المغرب الأقصى إلى مصر ماشياً، ومن مصر إلى الرملة ماشياً، ومن الرملة إلى بيت المقدس ، ومن الرملة إلى عسقلان ، ومن الرملة إلى طبرية ، ومن طبرية إلى دمشق ، ومن دمشق إلى حمص ، ومن حمص إلى أنطاكية ، ومن أنطاكية إلى طرسوس ، ومن طرسوس إلى حمص ، وكان بقي علي شيء من حديث أبي اليمان فسمعته، ثم خرجت من حمص إلى بيسان ، ومن بيسان إلى الرقة ، ومن الرقة ركبت الفرات إلى بغداد ، وخرجت قبل خروجي إلى الشام من واسط إلى النيل ، ومن النيل إلى الكوفة ... كل ذلك ماشياً، هذا في سفري الأول وأنا ابن عشرين سنة أجول سبع سنين.. هذا من رحلته رحمه الله تعالى..!

كذلك فإن ابن مندة رحمه الله أراد أن يخرج إلى الرحلة، فخرج وكتب شيئاً كثيراً جداً، وكانت رحلته خمسة وأربعين سنة، رحمه الله تعالى!

علماء تعرضوا في رحلتهم للأذى

ابن السمعاني وأسره في رحلته

خرج ابن السمعاني من مرو ودخل بغداد سنة أربعمائة وواحد وستين، وناظر الفقهاء، ثم خرج منها إلى الحجاز على غير الطريق المعتاد -وهذه القصة تبين أن بعض العلماء عندما كانوا يرحلون في طلب العلم يصابون بمصائب وتحصل لهم حوادث ومع ذلك يتحملون- فهذا يقول: خرجت على غير الطريق المعتاد فأسرني عرب البادية، وكانوا يأخذونني مع جمالهم إلى الرعي، ولم أقل لهم: إني أعرف شيئاً من العلم، فاتفق أن رئيسهم أراد أن يتزوج، فقال: نخرج إلى بعض البلدان نبحث عن فقيه ليعقد لنا، فقال أحد الأسرى: هذا الرجل الذي يخرج مع جمالكم إلى الصحراء فقيه خراسان ، فاستدعوني وسألوني عن أشياء فأجبتهم وكلمتهم بالعربية فخجلوا واعتذروا، فعقدت لهم العقد ففرحوا، وسألوني أن أقبل منهم شيئاً فامتنعت، وسألتهم فحملوني إلى مكة في وسط السنة، فبقيت فيها مجاوراً لـمكة ؛ ولقي الحافظ الزنجاني رحمهما الله.

خيثمة بن سليمان وأسر الروم له

كذلك الحافظ محدث الشام خيثمة بن سليمان القرشي هذا أيضاً ركب البحر وقصد جَبَله، فلقيه المركب فقاتلوه، ثم تسلموا المركب من الإمام فأخذوني ثم ضربوني -كان بعض العلماء يقعون في أيدي الروم، بعضهم يقع في أيدي قطاع الطرق وهم في الرحلة، يتعرضون للإهانات- قال: وكتبوا أسماءنا، فقالوا: ما اسمك؟ قلت: خيثمة . فقال: اكتب حمار بن حمار -إهانة- ولما ضربت سكرت -أي: أصابني الغشي من شدة ألم الضرب- ونمت فرأيت كأني أنظر إلى الجنة -أي: في المنام- وعلى بابها جماعة من الحور العين، فقالت إحداهما: يا شقي! إيش فاتك؟ -إيش اختصار أي شيء- قالت أخرى: إيش فاته؟ قالت: لو قتل كان في الجنة مع الحور العين. فقالت لها: لئن يرزقه الله الشهادة في عز من الإسلام وذل من الشرك خير له. ثم انتبهت، قال: ورأيت كأن من يقول لي: اقرأ سورة براءة، فقرأت إلى قوله تعالى: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [التوبة:2] قال: فعددت من ليلة الرؤيا أربعة أشهر ففك الله أسري.

مكابدة الأئمة لأمراض في رحلاتهم

رحل الحافظ الرواسي حتى سقطت أصابعه من شدة البرد؛ لأنهم كانوا إذا مروا من بلدان باردة لا يكون عندهم شيء للتدفئة، فإن الأعضاء تتساقط من شدة البرودة، فبعض العلماء رحلوا حتى سقطت أعضاؤهم من شدة البرد، وكانوا يرحلون ويقابلون المشايخ حتى إن بعضهم لقي ثلاثة آلاف وستمائة شيخ!

وكان بعضهم إذا أراد قصد شيخ عجل إليه، فربما سافر ودخل البلد فوجد الشيخ قد مات، قال بعضهم: إنه سافر إلى نيسابور إلى بيت أحمد بن خلف فكان قد مات لتوه، قال لما سمع خبر موته: فكادت مرارتي تنشق!

أبو الوقت الهروي يرحل مشياً هو ووالده

كذلك فإن الحافظ أبا الوقت عبد الأول السجزي الهروي رحمه الله تعالى كان من مشاهير الذين طوفوا البلدان، قال أحد تلاميذه: لما رحلت إلى شيخنا ومسند العصر أبي الوقت قدر الله لي الوصول إليه في آخر بلاد كرمان فسلمت عليه، وقبلته، وجلست بين يديه، فقال لي: ما أقدمك هذه البلاد؟ قلت: كان قصدي إليك، ومعولي بعد الله عليك، وقد كتبت ما وقع علي من حديثك بقلمي، وسعيت إليك بقدمي. فقال: وفقك الله وإيانا لمرضاته، وجعل سعينا له وقصدنا إليه، لو كنت عرفتني حق معرفتي لما سلمت علي -هذا من تواضعه- يقول: لو عرفتني على الحقيقة ما سافرت إلي ولا جلست بين يدي، ثم بكى بكاءً طويلاً وأبكى من حضره، ثم قال: اللهم استرنا بسترك الجميل، ثم قال: يا ولدي! تعلم أني رحلت أيضاً لسماع الصحيح ماشياً مع والدي من هراة إلى بوشنج ولي من العمر دون عشر سنين.

هذا أبوه علمه الرحلة في طلب الحديث، أخذه وعمره عشر سنين، قال: فكان والدي يضع على يدي حجرين -يقول: وأنا عمري عشر سنين كان والدي يعطيني حجرين أحملهما في السفر- أمشي وهو يتأملني، فإذا رآني قد عييت أمرني أن ألقي أحد الحجرين فألقيه فيخف عني فأمشي، إلى أن يتبين له تعبي، فيقول: هل عييت؟ فأخاف وأقول: لا. فيقول: لم تقصر في المشي؟ فأسرع ساعة ثم أعجز، فيأخذ الحجر الآخر فيلقيه فأمشي حتى أعطب، فحينئذ يأخذني ويحملني، وكنا نلتقي جماعة الفلاحين، فيقولون: يا شيخ عيسى ! ادفع إلينا هذا الطفل نركبه وإياك إلى بوشنج . فيقول والدي: معاذ الله أن نركب في طلب أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بل نمشي.

وهكذا كانوا من الصغر يتعلمون على الرحلة في طلب الحديث، فلا غرابة إذاً إذا كبروا أن يفعلوا ذلك.

رحلة السمعاني

وكذلك فإن من الذين طوفوا البلدان أبو سعد السمعاني رحمه الله تعالى، نهض برحلات قاربت عشرين سنة، الرحلة الأولى: كان مدتها عشر سنوات، كانت من خراسان شرقاً إلى الشام غرباً، ومن العراق شمالاً إلى الحجاز جنوباً.

وكذلك فإنه لما أراد أن يخرج لم يرض أهله حتى يخرج مع عمه مرافقة، خرج مع عمه وجلس في البلد يطلب العلم، يريد من عمه أن يطفش ويفارق حتى يكمل هو الرحلة، واختبأ في البلد من هنا إلى هنا ولكن عمه بقي ينتظره، ثم إن الابن قد جاء له بالسفر فسافر ومات في سفره عمه والوصي عليه، وأكمل الرحلة رحمه الله تعالى.

ورحلته الثانية: كان مدتها ست سنوات، زار فيها مدن خراسان ، ورحلته الثالثة أربع سنوات زار فيها بلاد ما وراء النهر، وزار مدناً كثيرةً جداً فدخلها وكتب عن العلماء فيها..!

وكان بعض المحدثين ربما بال الدم في طلب الحديث، من شدة الحر والمشي في الهواجر.

الرامهرمزي يصف حال الأئمة في رحلتهم للطلب

هذه طائفة من سير المحدثين الذين رحلوا في طلب الحديث، وقلنا أيها الإخوة في أول الأمر إن الدافع والداعي للرحلة في طلب الحديث كان موجوداً في البداية بخلاف ما هو عليه الآن، لكن لقيا العلماء وطلب العلم لا زال الدافع إليه موجوداً في عصرنا ولا شك، أما هؤلاء المحدثين فلا بد من ذكرهم والتعويل على سيرهم لأن لهم حق علينا، لا يوجد حديث في الكتب إلا وهم الذين نقلوه، وهم الذين رووه؛ ولذلك كان لا بد من ذكر حالهم.

وقد قال الحافظ الرامهرموزي في شأن أهل الحديث: يرحلون من بلاد إلى بلاد خائضين في العلم كل واد، شعث الرءوس، خلقان الثياب، خمص البطون، ذبل الشفاة، شحب الألوان، نحل الأبدان، قد جعلوا لهم هماً واحداً، ورضوا بالعلم دليلاً ورائداً، لا يقطعهم عنه جوع ولا ظمأ، ولا يملهم منه صيف ولا شتاء، مائزين الأثر صحيحه من سقيمه، وقويه من ضعيفه بألباب حازمة، وآراء ثاقبة، وقلوب للحق واعية، فلو رأيتهم في ليلهم وقد انتصبوا النسخ ما سمعوا -في الصباح يسمعون وفي الليل ينسخون- وتصحيح ما جمعوا، هاجرين الفرش الوطي، والمضجع الشهي، غشيهم النعاس فأنامهم، وتساقطت من أكفهم أقلامهم فانتبهوا مذعورين، قد أوجع الكد أصلابهم، وتيه السهر ألبابهم، فتمطوا ليريحوا الأبدان، وتحولوا عن مرقدهم ليفقدوا النوم من مكان إلى مكان، ودلكوا بأيديهم عيونهم ثم عادوا إلى الكتابة حرصاً عليها وميلاً إليها، لعلمهم أنهم حراس الإسلام وخزان الملك العلام، فلما قضوا من بعض ما راموا أوطارهم انصرفوا قاصدين ديارهم، فلزموا المساجد، وعمروا المشاهد، لابسين ثوب الخضوع، مسالمين ومسلمين.

فنلاحظ من حال هؤلاء أنهم بالرغم من عدم وجود طائرة ولا قطارات ولا سيارات، ما في من وسائل المواصلات الحديثة هذه، لكنهم ساروا مشياً وركوباً وعلى الرواحل الأسفار الشاسعة والسنوات الطويلة، هجروا الأهل والأولاد والبلدان لأجل حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وكان بعضهم يخرج من بلده فلا يرجع إلا وقد كبر ولده وشب، ولقوا مصاعب وربما وقع بعضهم في الأسر كما ذكرنا، وكانت الرحلات تأخذ من عمرهم السنين الطوال، هذا يدل على علو همتهم وصبرهم وتحملهم رضي الله تعالى عنهم.

وصف الرامهرمزي حال الأئمة في رحلتهم للطلب

هذه طائفة من سير المحدثين الذين رحلوا في طلب الحديث، وقلنا أيها الإخوة في أول الأمر: إن الدافع والداعي للرحلة في طلب الحديث كان موجوداً في البداية بخلاف ما هو عليه الآن، لكن لقيا العلماء وطلب العلم لا زال الدافع إليه موجوداً في عصرنا ولا شك، أما هؤلاء المحدثين فلا بد من ذكرهم والتعويل على سيرهم لأن لهم حق علينا، لا يوجد حديث في الكتب إلا وهم الذين نقلوه، وهم الذين رووه؛ ولذلك كان لا بد من ذكر حالهم.

وقد قال الحافظ الرامهرمزي في شأن أهل الحديث: يرحلون من بلادٍ إلى بلاد خائضين في العلم كل واد، شعث الرءوس، خلقان الثياب، خمص البطون، ذبل الشفاة، شحب الألوان، نحل الأبدان، قد جعلوا لهم هماً واحداً، ورضوا بالعلم دليلاً ورائداً، لا يقطعهم عنه جوع ولا ظمأ، ولا يملهم منه صيف ولا شتاء، مائزين الأثر صحيحه من سقيمه، وقويه من ضعيفه، بألباب حازمة، وآراء ثاقبة، وقلوب للحق واعية، فلو رأيتهم في ليلهم وقد انتصبوا النسخ ما سمعوا -في الصباح يسمعون وفي الليل ينسخون- وتصحيح ما جمعوا، هاجرين الفرش الوطي، والمضجع الشهي، غشيهم النعاس فأنامهم، وتساقطت من أكفهم أقلامهم فانتبهوا مذعورين، قد أوجع الكد أصلابهم، وتيه السهر ألبابهم، فتمطوا ليريحوا الأبدان، وتحولوا عن مرقدهم ليفقدوا النوم من مكان إلى مكان، ودلكوا بأيديهم عيونهم ثم عادوا إلى الكتابة حرصاً عليها وميلاً إليها، لعلمهم أنهم حراس الإسلام، وخزان الملك العلام، فلما قضوا من بعض ما راموا أوطارهم انصرفوا قاصدين ديارهم، فلزموا المساجد، وعمروا المشاهد، لابسين ثوب الخضوع، مسالمين ومسلمين.

فنلاحظ من حال هؤلاء أنهم بالرغم من عدم وجود طائرة ولا قطارات ولا سيارات، لكنهم ساروا مشياً وركوباً وعلى الرواحل الأسفار الشاسعة، والسنوات الطويلة، هجروا الأهل والأولاد والبلدان لأجل حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وكان بعضهم يخرج من بلده فلا يرجع إلا وقد كبر ولده وشب، ولاقوا مصاعب وربما وقع بعضهم في الأسر كما ذكرنا، وكانت الرحلات تأخذ من عمرهم السنين الطوال، هذا يدل على علو همتهم وصبرهم وتحملهم رضي الله تعالى عنهم.

فوائد الرحلة في طلب العلم

إذا أتينا للكلام عن فوائد الرحلة في طلب العلم فإن الرحلة في طلب العلم فيها فوائد كثيرة، فإن الإنسان إذا رحل لطلب العلم فإنه يلاقي أهل العلم وعندهم معارف مختلفة فيأخذ عنهم من معارفهم، ويتحلى من فضائلهم وأخلاقهم؛ لأن العلم يتعلم بأمور، منها: الملاقاة، والمحاكاة والتلقين المباشر، فإذا لقي الشيوخ وجلس إليهم فاحتك بهم يصل إليه من خيرهم ويرسخ في نفسه مما ينطبع فيها من أخلاقهم وشمائلهم؛ فيكون هذا الرسوخ قوياً.

وكذلك فإن العلماء قد رحلوا وقرءوا واستفادوا، فالإنسان إذا لقيهم وجلس إليهم يأخذ عنهم فوائد ربما لا يحصلها في الكتب سنين طويلة، أي: ربما تأخذ فائدة عن عالم لو جلست تبحث الكتب سنين ربما لا تجدها، لكن هو قد سبقك إليها وقرأ الكتب قبلك وحازها، فهو يعطيك نتائج سنوات طويلة من البحث، ويهبك بالمجان فوائد وفرائد قد لا تقع عليها في الكتب إذا قرأت، فلذلك فيها اختصار للأوقات، وفيها الحصول على كنوز وفرائد.

وكذلك فإن عندهم ضوابط وتحذيرات وفوائد علمية تجل عن الحصر، ولا شك أن العلم الذي يؤخذ بصعوبة لا يفلت بسهولة، وهذا مجرب، فالإنسان إذا سافر ورحل وصرف المال ليلقى شيخاً يسمع منه ويأخذ منه فائدة يصعب أن تنسى هذه الفائدة، لكن الشيء الذي يؤخذ في البيت وتحت المكيفات بدون تعب من الصحف قد ينسى بسرعة؛ لأنه لم يتعب في تحصيله، فالمعلومات التي يتعب الإنسان في تحصيلها لا تنسى بسهولة، وهذه فائدة مهمة من فوائد الرحلة في طلب العلم.

آداب الرحلة في طلب العلم وموانعه

نتكلم الآن عن بعض الآداب المهمة في طلب العلم:

الإخلاص لله تعالى

فمنها: الإخلاص لله سبحانه وتعالى، هذا رأس الأمر؛ لأن بعض الناس يقولون: ذهبنا للقاء فلان.. دخلنا البلد الفلاني.. جلسنا مع الشيخ الفلاني والشيخ الفلاني، وبعضهم يتباهى بهذا ويتفاخر ويرائي، وربما لا يكون عنده شيء، ربما لم يقل للشيخ: إلا كيف حالك فقط، وهو يرجع ويقول: دخلت البلدة الفلانية ولقيت الشيخ الفلاني، وزرت كذا بلد، ولا شك أن هذا ينافي الإخلاص (ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) فالذي يخرج ابتغاء مرضاة الله فالله عز وجل يعطيه من الأجر العظيم، وتكون رحلته هذه سبب لدخوله الجنة.

من آداب الرحلة: استئذان الأبوين في السفر

ومن آداب الرحلة في طلب العلم: استئذان الأبوين في السفر لطلب العلم، فأما إن كان العلم الذي يريد طلبه مفروضاً فإنه لا يتوقف طلبه على الإذن، لكن إن كان ليس بفرض فيجب استئذان الوالدين شرعاً، ولا يجوز له السفر إلا باستئذانهما، حتى إن بعض العلماء لما أصيب بالعمى قال: ربما كان هذا العمى بسبب دموع أمي التي ذرفتها بكاءً على فراقي لما رحلت فعوقبت بها، فإذاً لا بد من الاستئذان إذا كان لا يمكن تحصيل العلم الواجب إلا بالسفر، أما إذا كان عنده في بلده من يعلمه العلم الواجب فلا يجوز له أن يسافر إلا بإذن أبويه.

وعن أحمد بن أصرم المزني قال: سمعت رجلاً يسأل الإمام أحمد : طلب العلم أحب إليك أو أرجع إلى أمي؟ وكان السائل غريباً في بلده، فقال: إذا كان العلم فيما لا بد منه أن تطلبه فلا بأس أن تذهب ولو لم توافق أمك.

قال الخطيب البغدادي رحمه الله في كتابه الجامع : إذا منع الطالب أبواه عن تعلم العلم المفترض فيجب عليه مداراتهما والرفق بهما حتى تطيب له أنفسهما ويسهل من أمره ما يشق عليهم، ثم ذكر باباً بعنوان "ذكر شيء من وجوب طاعة الوالدين وبرهما وترك الرحلة مع كراهتهما ذلك وسخطهما"، وكان بعضهم يقيم عند أمه حتى إذا ماتت ذهب فرحل في طلب العلم.

كذلك من الأشياء التي قد تمنع الإنسان عن الرحلة ويكون جلوسه شرعياً بسببها: الزوجة والأولاد، عن حميد بن الأسود قال: قال لي سفيان : تجيء حتى نخرج إلى يونس بن يزيد الأيلي . قال: قلت: أنت فارغ وأنا علي عيال. أي: أنت لست متزوجاً ولا عندك عيال، وأنا متزوج وعندي عيال لو سافرت وتركتهم ضاعوا، فلا بد من المقام عندهم؛ فليس بعيب إذاً أن يجلس إذا لم يكن هناك من يقوم بأمر أهله في حال غيابه.

قد يمنع طالب العلم من الرحلة: المال؛ لأن الرحلة تحتاج إلى مصاريف.. تحتاج إلى تذاكر سفر.. ركوب.. تحتاج إلى نفقة طريق.. تحتاج إلى أجرة فندق.. تحتاج إلى قيمة كتب وأشياء، فلا بد من مادة، وقد لا يجد الطالب مادة للسفر فيكون هذا أحياناً من أسباب امتناعه، والحيلولة بينه وبين الطلب أو السفر.

عن صالح بن أحمد بن حنبل قال: قال لي أبي: لو كان عندي خمسون درهماً كنت خرجت إلى الري إلى جرير بن عبد الحميد ، فخرج بعض أصحابنا ولم يمكنني الخروج؛ لأنه لم يكن عندي شيء.

أما إذا أراد أن يخرج للسفر فإنه يستخير الله عز وجل، ويخرج يوم الخميس، ويستحب التبكير كما هي السنة، وأذكار السفر والدعاء في السفر، ويودع الإخوان والمعارف، عن ابن عباس قال: [من السنة إذا أراد الرجل السفر أن يأتي إخوانه فيسلم عليهم، وإذا جاء من سفر يأتيه إخوانه فيسلمون عليه].

من آداب الرحلة: التماس الرفيق قبل الطريق

كذلك من آداب السفر في طلب العلم: التماس الرفيق قبل الطريق.. يلتمس أهل التقى ويحرص عليهم، عن مبارك بن سعيد قال: أردت سفراً فقال لي الأعمش: سل ربك أن يرزقك أصحاباً صالحين؛ فإن مجاهداً حدثني قال: خرجت من واسط فسألت ربي أن يرزقني أصحاباً ولم أشترط في دعائي، فاستويت أنا وهم في السفينة، فإذا هم أصحاب طنابير. أي: معازف.

والتماس الرفيق في الرحلة مهم جداً؛ لأنه يعين ويساعد، وقد خرج موسى ومعه فتاه يوشع، وقال بعض السلف: "التمسوا الرفيق قبل الطريق" وقيل: "ابتغ الرفيق قبل الطريق فإن عرض لك أمر نصرك، وإن احتجت إليه رفدك" -أي: أعانك- وينبغي للطالب أن يتخير لمرافقته من يشاكله ويوافقه على غرضه ومطلبه، لا يذهب شخص إلى الشرق والآخر إلى الغرب، أو رجل عنده غرض غير الغرض الذي خرج له هذا، لأنهما سيختلفان ويختصمان ويؤدي ذلك إلى الافتراق.

ومراعاة الرفيق مهمة، عن الأصمعي قال: الصاحب والرفيق رقعة في قميص الرجل، فلينظر بمن يرقعه.

وإذا خرج مع رفيقه أو رفقائه فإن عليه أن يحسن المعاشرة، ويكون جميل الموافقة في المرافقة في سفر الطلب، فقد ورد في الأثر: (خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه).

وقال مجاهد: [صحبت ابن عمر وأنا أريد أن أخدمه فكان هو الذي يخدمني].

وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه قال: للسفر مروءة وللحضر مروءة: فأما مروءة السفر فبذل الزاد، وقلة الخلاف على أصحابك، وكثرة المزاح في غير سخط الله؛ لأن السفر فيه مشاق.

وعن صدقة بن محمد أنه قال: "يقال: إنما سمي السفر سفراً؛ لأنه يسفر عن أخلاق الرجال".

وقال عمر بن مناذر: كنت أمشي مع الخليل بن أحمد فانقطع شسعي فخلع نعليه، فقلت: ما تصنع؟ قال: أواسيك في الحفاء. ما دام أنه انقطع نعليك وأنا عندي نعلين أخلعهما وأمشي معك حافٍ، أواسيك في الحفاء.

من آداب الرحلة: اغتنام الفرصة في السماع من المشايخ

ينبغي للطالب إذا نزل بالبلد الذي رحل إليه أن يقدم لقاء من به من المشايخ، ويتعجل السماع خوف اعتراض الحوادث، وقد يمرض هو، قد يمرض الشيخ أو يموت وقد يزول الأمن؛ فلا بد من انتهاز الفرصة، والفرصة كما قيل: سريعة الفوت، بطيئة العودة". تفوت بسرعة ولا تعود إلا ببطء.

ولا بد من استغلال الغربة في البلد إذا نزل بها، وليعلم أن شهوة السماع لا تنتهي، والعلم كالبحر، فينبغي أن يستغل الفرصة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب مال) .

ومن العلماء الذين كان يضرب بهم المثل في انتهاز الفرصة في السفر في طلب العلم الحافظ أبو طاهر السِلَفِي رحمه الله تعالى، هذا الرجل رجل عجيب! مصنفاته عجيبة ورحلاته عجيبة! بل إن الله سبحانه وتعالى أمد له في العمر فحدث أجيال وأخذ عنه العلم أجيال.

قال عبد القادر الرهاوي : بلغني أنه في مدة مقامه بـالإسكندرية - أبو طاهر السِلَفِي - ما خرج إلى بستان ولا فرجة غير مرة واحدة، بل كان عامة دهره ملازماً مدرسته، وما كنا ندخل عليه إلا نراه مطالعاً في شيء، وكان مغرماً بجمع الكتب، وما حصل له من المال يخرجه في ثمن الكتب، وكان عنده خزائن كتب فعفنت وتلصقت لنداوة البلد؛ فكانوا يخلصونها بالفأس من كثرة الكتب..!

وهذا يقول: لي ستون سنة ما رأيت منارة الإسكندرية -وكانت من عجائب الدنيا السبع- إلا من هذه الطاقة، أي: طاقة حجرته في المدرسة، فكان لا يذهب يتفرج على المناظر والآثار وإنما نزل في البلد وجلس يلازم في الطلب والتعلم، ولم ير منارة الإسكندرية إلا من النافذة.

وينبغي عليه أن يدون الفوائد، ويكتب الشوارد، فإن بعض الأشياء التي يقولها الشيخ لا توجد بسهولة في الكتب ولذلك ينبغي أن تكتب، فإذا كان الشيخ يشرح متناً يكتب على حاشية المتن في كتاب يصطحبه، أو كانت فوائد متناثرة يكتبها في دفتر الفوائد، وكان بعض العلماء يصنفون في فوائد رحلاتهم كما صنف صديق حسن خان رحمه الله رحلة الصديق إلى البيت العتيق، وصنف الشنقيطي رحمه الله كتاباً في رحلته إلى مكة وما جمع فيها من فوائد، وهذه الدفاتر -دفاتر الفوائد- لا شك أنها تكون مرجعاً للشخص ذات قيمة لا توصف.

فإذا بلغ الطالب الغرض وحاز في الرحلة ما قصد له وحقق الهدف، فينبغي أن يرجع إلى وطنه ويعجل الرجوع، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه، فإذا قضى أحدكم نهمته من وجهه فليعجل إلى أهله) لأن الأهل أيضاً لهم حق، ولا يجوز للإنسان أن يترك زوجته أكثر من أربعة أشهر بحال كما ذكر بعض أهل العلم، وبعضهم قال: ستة أشهر وهذا يختلف باختلاف الأحوال، وبعض الزوجات في بعض البلدان لا تستطيع أن تجلس لوحدها ولو أسبوعاً؛ ولذلك يجب أن يكون الإنسان حكيماً.

الرحلة في طلب العلم في عصرنا الحاضر

ننتقل الآن إلى الرحلة في طلب العلم في عصرنا وملاحظات على هذا الأمر، وهذا أمر مهم بل ربما يكون من الأشياء الحساسة في واقعنا نحن الآن.

قلنا سابقاً: إن جمع الحديث قد انقطع، وإن أهم سبب من أسباب السفر هو جمع الحديث وقد انتهى، لكن لا زال هناك في عصرنا فوائد في السفر لطلب العلم كما قال شيخنا عبد العزيز بن عبد الله بن باز نفع الله به، قال: إن السفر مطلوب، وما زالت فوائده قائمة في لقي علماء أهل السنة الذين صاروا قليلين في البلدان في هذا الزمان.

وقال: لقد صار في الأسفار خطورة؛ لذلك ينبغي عليه إذا أراد أن يسافر أن لا يقع في أشياء تمنعه من مراده.

وكذلك فإن فيها ملاقاة الإخوان وطلبة العلم والمباحثة والمناظرة، فصحيح أن جمع الحديث قد انقطع لكن لا زالت الرحلة فيها فوائد.. قلة العلماء في هذا الزمن جعلت -أيضاً- الرحلات في طلب العلم جدواها أقل مع الأسف، وهذا أمر محزن.

بعض معوقات الرحلة في هذا الزمن

من الأمور والعوائق الموجودة في هذا الزمان عدم التفرغ للرحلة، كان أحدهم ربما يتاجر سنة.. يكسب قوت سنة تالية فيذهب طيلة السنة التالية مسافراً، تنتهي الأموال فيرجع ينزل السوق يبيع ويشتري ويتكسب قوت سنة ويسافر.. وهكذا، لكن الآن هل يستطيع أحد أن يفعل هذا بسهولة؟

الجواب: لا. هناك عوائق كثيرة تحول دونك ودون الكسب، لم تعد التجارة سهلة كالسابق، وكذا الأوضاع لم تعد كما كانت مثل الأيام الماضية، كذلك الآن أنت موظف مثلاً لو جئت تأخذ إجازة كم يعطوك إجازة لتسافر مثلاً؟ تستطيع تسافر ستة أشهر أو سنة أو سنين كما فعل العلماء القدامى؟ هذا صعب جداً، كذلك لو كنت طالباً في مدرسة أو جامعة تستطيع أن تترك المدرسة وتمشي أو تترك الجامعة وتمشي؟ وهذا يفوت عليك أشياء وربما حرمت من الدراسة وفصلت من الجامعة.. ونحو ذلك.

بالإضافة إلى ذلك: الثغرات الموجودة الآن كثيرة، والمجتمع يحتاج إلى طاقات كثيرة في الدعوة إلى الله.. وتعليم الناس، وإنكار المنكر، والتربية، وبر الوالدين، وصلة الرحم، الآن أصبحت العوائل من ضيق الأمور المادية يحتاج البيت أن يكون فيه أكثر من واحد يعمل، في كثير من البلدان يعمل الزوج وتعمل الزوجة، وربما يعمل الزوج دواماً إضافياً، ولابد أن يكون في البيت أحياناً أكثر من رجلين حتى يستطاع الوفاء بحاجات أهل البيت.

ثم إن الأمور قد تشعبت في هذا الزمان، حتى الحاجات المآكل والمشارب والملابس والبيوت، مطالب الحياة الدنيا الآن في هذا الزمان تعقدت وزادت وتشابكت الأمور وليست كما كانت في الماضي في سهولة عيشهم وفي يسر أمورهم، كانت الأمور ميسرة كثيراً، حتى الآن السفر.. هل هو مثلما كان؟ كان سابقاً يركب ويمشي ولا يوقفه أحد على هذه الراحلة أو مشياً اللهم إلا قاطع طريق، أما الآن فيحتاج إلى تأشيرات وجواز سفر، ويحتاج إلى تصديق وأختام وأشياء، وفي الحدود وفي المطارات، فإذاً تعقيد الأمور في هذا الزمان لا شك أنه من العوائق في قضية الرحلة في طلب العلم، وهذا أمر ينبغي أن يحسب له حسابه.

صحيح أنه عندما نسمع سيرة العلماء والسلف الماضين نتحمس، ونقول: نريد أن نفعل مثلهم، لكن ينبغي أن يكون عندنا حكمة وتعقل في وزن الأمور.

لذلك نقول الآن مراعاة للظروف الموجودة أولاً: يا أخي المسلم، ينبغي عليك أن تحصل العلم الذي في بلدك أولاً.. هذا شيء مهم جداً وقد يكفيك عناءً كثيراً، قال الخطيب البغدادي رحمه الله في كتابه الجامع: المقصود في الرحلة في الحديث أمران: أحدهما: تحصيل علوم الإسناد وقدم السماع، والثاني: لقاء الحفاظ والمذاكرة لهم والاستفادة منهم، فإذا كان الأمران موجودين في بلد الطالب ومعدومين في غيره فلا فائدة في الرحلة.

وقال بعض أهل العلم: ينبغي للرجل أن يقتصر على علم بلده وعلم عالمه، فلقد رأيتني أقتصر على علم سعيد بن عبد العزيز فما أفتقر معه إلى أحد.

فالأصل إذاً للطالب أن يأخذ العلم عن أهل بلده فلا يذهب إلى البعيد وعنده قريب؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما.

وكذلك أهل العلم -حتى المعاصرين مثل الشيخ الشنقيطي والشيخ سعد بن حمد بن عتيق رحمهما الله وغيرهم من أهل العلم- متى رحلوا؟ بعد أن أنهوا طلب العلم، حصلوا العلم عن العلماء الذين في بلدانهم.

الرحلة إذاً ليست مطلوبة لذاتها وليست لشهوة؛ فإن السفر قطعة من عذاب، وليس من مصلحة أن يترك أسرته وأولاده ويمشي إلا لشيء أعظم.

الاقتصار في الطلب على المشهورين من العلماء

أريد أن أنبه إلى قضية مهمة تعرض لبعض الشباب أو الذين يريدون طلب العلم ألا وهي: أن بعضهم يريد الطلب على المشهورين من العلماء، يقول: أريد أن أسافر إلى البلد الفلاني أو إلى الإقليم الفلاني وآخذ على العالم الفلاني، وقد يكون عنده في بلده من طلبة العلم من يسد حاجته، لكن يريد طلباً ربما يكون مقصده حسناً في الذهاب إلى الأعلم وهذا شيء طيب جيد ولا إشكال فيه، لكن أحياناً يكون العالم المشهور ما عنده حلق علم للمبتدئين وإنما حلق العلم التي عنده للمتوسطين أو المتقدمين، وكثير من حلق علم العلماء المشهورين لا تصلح للشباب المبتدئين في الطلب؛ فلذلك لا يركب رأسه ويقول: أريد أن أذهب إلى الشيخ الفلاني وأستأجر هناك وأجلس وأتغرب وأترك البلد، ثم يذهب ويجلس ولا يفهم، ويريد أن يصعد السلم بالمقلوب.. وهذا خطأ؛ ولذلك إذا استطاع أن يجد في بلده من طلبة العلم من يكون عنده دروساً للمبتدئين يلزم هذه الدروس؛ لأن هذا هو الوضع الطبيعي في التسلسل في التعلم، ويترقى ويتدرج ويحصل ويحصل حتى إذا تمكن وقوي عوده ذهب للقاء الكبار وطاف وسافر ورحل.. وهكذا.

ولا يستبعد أن يستفيد المبتدئ أبداً من طالب علم أكثر مما يستفيد من عالم من جهة السهولة؛ على أن بعض طلبة العلم ربما يشرحون شرحاً يجمعون فيه من الأقوال والترجيحات والأشياء ما لا يفعله بعض العلماء في تشعبهم، ولذلك إذا وجدت حلق علم وجلسات ذكر للمبتدئين في طلب العلم في بلدهم فهي البداية الطبيعية.

التدرج في الطلب

كذلك فإن بعض العلماء كان لهم حلق علم للمبتدئين، مثل العلامة الشيخ/ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله، والشيخ/ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله، كان له حلق للمبتدئين والمتوسطين والمتقدمين، وكان لو أتى شخص من المبتدئين وجلس عند المتقدمين طرده.

ولذلك فإنه لا بد من التدرج، ثم لا بد من تحقيق فكرة مهمة خصوصاً أنها جربت فنفعت وهي: قضية استدعاء العلماء وطلبة العلم الكبار إلى البلد واستضافتهم، لا بد أن يسعى الشباب في هذا ويحمسوا الجهات التي تستطيع أن تستدعي أهل العلم وتطلبهم فيقيم -مثلاً- في البلد شهراً أو شهرين أو ثلاثة أو الصيف أو غيره مثلاً، فيكون مجيئه للبلد مسهلاً على الطلاب الطلب؛ لأنه قد أتى إليهم ووفد عليهم، فمن العيب أن يترك وقد جاء إليهم وذهبوا إلى غيره بغير سبب وجيه.

وقد يكون أحياناً إتيان العالم إلى بلد للتدريس أسهل من ذهاب الطلاب إلى بلده؛ ولذلك فإن السعي لاستجلاب العلماء واستضافتهم لإعطاء دورات لا شك أن هذا من الأفكار المهمة التي ينبغي تنفيذها لحل هذه المشكلة وهي الصعوبة في الرحلة الآن وضيق النطاق.

وكذلك فإن في بعض البلدان قد عملوا مدارس خيرية علمية، فيؤتى بشيخ يعلم الفرائض، وشيخ يعلم اللغة العربية، قد يكون أستاذاً في النحو، قد لا يكون شيخاً مشهوراً، وآخر يدرس -مثلاً- الأحاديث بالتدريج: الأربعين النووية ، فإذا أخذ شهادة فيها انتقل مثلاً إلى عمدة الأحكام ، ثم ينتقل إلى بلوغ المرام.. وهكذا، وكذلك في التجويد يأخذ دورة مبتدئة ثم متوسطة ثم متقدمة، ولا بأس أن تدفع الأجور لتفريغ بعضهم أو لبعض طلبة العلم أو أهل العلم لكي يدرسوا في هذه المدارس، وفكرة المدارس الخيرية من أنجح الأفكار، وقد آتت ثماراً عظيمة.

السفر لطلب العلم في جامعة شرعية

كذلك من الأمور المهمة -أيضاً-: السفر للدراسة في الجامعات الشرعية، يتساءل بعض الشباب: هل الذهاب للدراسة في جامعة شرعية هو من الرحلة في طلب العلم؟

الجواب: لا شك في ذلك، أن السفر للدراسة في جامعة شرعية هو من الرحلة في طلب العلم، لكننا ننبه على أشياء:

أولاً: ينبغي على الإنسان أن يراعي أهله، فلا يذهب بدون رعايتهم، أو موافقة الأبوين.

ثانياً: إذا كان على ثغرة لا يسدها إلا هو فلا يذهب ليستزيد وعنده ثغرة لابد من سدها.

ثالثاً: هناك أشياء مهمة في بناء النفس ينبغي أن تحصل .. هناك قضايا تتعلق بالإخلاص والتربية على الأدب، فقبل أن يذهب لابد أن يكون عنده قواعد، هذا مهم؛ لأنه قد يذهب وينحرف في القصد، أو يذهب ويموت، وأقصد بيموت، أي: يبرد وتفتر همته.

رابعاً: لا بد من الاستشارة .. استشارة من حوله، لأن هذه القضية تختلف باختلاف أحوال الشباب والناس، واختلاف الواقع الذي حوله، ولذلك ينبغي أن يستشير أقرب الناس إليه وأعرفهم بواقعه من الذين عندهم علم وتقى، وعندهم عقل راجح، يقول: وضع أهلي كذا، ووضعي في الدراسة كذا، ووضعنا الاجتماعي كذا، ووضعنا المادي كذا، وأنا عملي كذا، وما أقوم به من المعروف كذا، هل يناسب أن أسافر الآن لأدرس في جامعة أم أبقى في البلد؟ فالاستشارة من الأمور المهمة جداً في هذا المجال.

كذلك فإن بعض الشباب الذين يذهبون للدراسة في بعض الجامعات الشرعية يكون قصده في البداية طلب العلم، فإذا ذهب إلى تلك الجامعة وسجل فيها وبدأ يدرس المقررات والكتب والمناهج ويمتحن فيها تنقلب النية عنده من طلب علم إلى طلب شهادة، وينسى الحماس الذي خرج به من بلده، وينسى النية التي عقد عليها العزم من بلده، وتصبح القضية الآن اجتياز امتحانات، وكثير من هؤلاء الشباب بالتجربة التي رأيناها تبرد هممهم، ويصبحون أصحاب أغراض دنيوية من شهادة ونحوها، ويأتون إلى الفصول الدراسية وليس عندهم وعي ولا قلب للسماع، ولا مناقشة، ولا اقتناع، وكذلك فإنهم يسعون إلى إسقاط المباحث والمقررات، فيقولون: يا أستاذ خفف علينا، احذف لنا هذا الفصل، احذف لنا هذا واحذف لنا هذا، ويتملقون للمحاضرين والأساتذة، وقد ينجحون عند بعضهم فيسقطون عنهم فصولاً، وهذا يضرهم ولكنهم يفرحون بذلك، وفي النتيجة النهائية فإنهم لا يحققون الهدف من ذهابهم للرحلة لطلب العلم.

وبعضهم قد يكمل الدراسة فيحصل على الشهادة العالية والعالمية والماجستير والدكتوراه، وبعد ذلك ينتهي طلبه، وبعدها يتعين مدرساً وينتهي طلبه، ولا يواصل البحث، فنقول: أنت رحلت من أجل الهدف فأين تحقيقه واستمراره؟

السفر إلى بلاد الكفار لطلب العلم

كذلك فإن من المصائب العظيمة في هذا الجانب: ابتعاث الناس للدراسة في الخارج في بلاد الكفار، ويقولون: هذا طلب علم، ورحلة في طلب العلم، وما هو إلا طلب الفسق والفجور وانحلال الدين والأخلاق، والسقوط في براثن أهل الكفر، والعودة بعقول ممسوخة، وقلوب خاوية، فيرجعون شخصيات أخرى، وهذا ليس بطلب علم أبداً، ولذلك فإن من الأمور المضحكة جداً أن يقال: فلان أخذ العلم الشرعي من جامعة.. أو شهادته من جامعة السوربون أو من جامعة أوكسفورد، بعيد..

وبعضهم يقول: هناك عند المستشرقين أبحاث وأشياء، فيرجع بشبهات وأخطاء، وكثير منهم الآن ابتليت بهم الجامعات في بلاد العالم الإسلامي، بل يرجعون للتدريس في الشريعة بعقول مملوءة شبهات في التاريخ الإسلامي ومطاعن في السنة النبوية، بسبب دراستهم على أيدي الكفرة والمستشرقين، يقولون: ذهبنا لطلب العلم، طلب العلم في بلاد الكفار!!

وكلامنا كله في طلب العلم الشرعي، أما الذهاب لطلب الأشياء الأخرى فإنه لا يجوز، والأصل عدم جواز الذهاب إلى بلاد الكفار إلا بشروط:

أولاً: أن يكون العلم مما يحتاج إليه المسلمون ولا يوجد في بلاد المسلمين.

ثانياً: أن يكون عنده علم يدفع به الشبهات، وعقل يدفع به الشهوات، من أجل أن يجوز له السفر.

ثالثاً: لا بد أن يراعي الإنسان الغربة، فبعض الشباب قد لا يتحمل الغربة، وربما ينشغل بأهله وأولاده، كان في البلد عنده أهل زوجته، يضع أهله وأولاده عندهم ويذهب هو يحضر حلقة أو يدرس أو يقرأ... فعندما يذهب إلى بلد يتغرب ويقول: لأطلب العلم، ليس هناك أهلها ولا أقرباؤها ولا جيران تعرفهم مثل السابق، ولذلك ينشغل بهم، لأنهم يشغلون رأسه لا بد نذهب ولا بد نخرج ولا بد نفعل، كل شيء هو لا بد أن يفعله، بخلاف ما لو كان في بلده كان ربما ساعده من أقربائه وأقربائها في أمور كثيرة، لذلك لا بد من دراسة الأمور بشكل جدي.

وعلى أية حال أعود وأقول: أيها الإخوة .. إن بعض الناس يندفعون بحماس في قضية السفر لطلب العلم دون تقديرٍ للثغرة التي يتركها، أو الجو الذي سيذهب إليه، وقد يترك مسئوليات شرعية، وفروض كفاية هو قائم بها، لا يجوز له تركها، وليس هناك من يسدها وراءه، وإنما يتركها ويذهب، ولذلك نعود ونقول: لا بد من استشارة أهل الخبرة وأولي الألباب، والناس الذين يحبون العلم، لا نقول: استشر أناساً يكرهون العلم، لا ينصحوك والله! وإنما استشر أناساً يحبون العلم الشرعي.. العلم الشرعي هو منهجهم.

كذلك أحياناً قد يكون الطالب في بلد يُستغرب أن يترك البلد، قد يكون في بلد فيه جامعات شرعية.. علماء ومشايخ في كل الفروع والفنون: في العقيدة والفقه والحديث والأصول والفرائض واللغة، فهذا يرحل لأي شيء؟ نعم قد يوجد بعض طلبة العلم المتقدمين جداً، ربما يوجد شيخ في شنقيط لم يلقه بعد، فهو يريد أن يسافر إليه ربما يجد عنده شيئاً، لكن بعد أن حصَّل العلم القريب.

السفر القصير في طلب العلم

هناك فكرة تطرح في هذا، وهي قضية السفر القصير، الأسفار القصيرة، صحيح ربما لا تخدمنا الظروف في قضية الأسفار الطويلة بالسنين والشهور، لكن يمكن أن الشخص يسافر لمدة أسبوع مثلاً وهذا متيسر، ولذلك فإن عندي رأياً أقوله مع شيء من النظر والتأمل إن شاء الله: أقول: طالب العلم إذا كان في بلده يدرس وهو جاد يقرأ ويطالع ويستمع لشروح المشايخ من الأشرطة، ويحضر الدروس الموجودة مثلاً في بلده، يدون المشكلات التي اعترضته في طلب العلم، ويدون الإشكالات التي واجهته، ويدون ما استغلق عليه مما لم يستطع حله في بلده، أو الاتصال مثلاً هاتفياً لإزالته، يكتب هذه الأشياء وهذه الأسئلة والإشكالات، ثم يسافر مثلاً أسبوعاً بعد أن يرتب أمره ويتصل مثلاً بمشايخ، مثلاً: افترض أنه هنا في المنطقة الشرقية فهو يتصل مثلاً ببعض أهل العلم في الرياض، يقول: أستأذنك يا شيخ أن أزورك، حدد لي وقتاً مثلاً ولو ربع ساعة، أو نصف ساعة، أو عشر دقائق، فيسأله عن مشكلةٍ الشيخ متخصص فيها فيزيلها له، فيكون حصّل ما يريده، ويتصل بشيخ آخر فيقول: أتأذن لي يا شيخ أن أقرأ عليك مثلاً فصلاً في الكتاب الفلاني، أو باباً في الكتاب الفلاني، ينهيه في ثلاثة أيام أو في أسبوع، وفي سفرة أخرى ينهي فصلاً آخر، وفي سفرة ثالثة ينهي فصلاً آخر، وهكذا قد ينهي أشياء.

وهذه الطريقة أقول: إنها إن شاء الله طريقة جيدة، وتناسب الواقع الموجود والتعقيدات الموجودة عندنا، وهذه الأسفار القصيرة هي من طلب العلم، وإن شاء الله يسهل الله لك بها طريقاً إلى الجنة، وتشعر بلذة فيها، وهذا يمكن أن تستثمر فيه أوقاتاً، ويحصل الإنسان فيه أجراً كثيراً وعلماً، خذ دفترك معك وقيد المسائل التي اعترضتك واذهب واجلس إليهم واسألهم، لأن الإنسان في بلده قد يكون له ارتباطات وأعمال وأهل وأولاد ووظيفة، والسفر الطويل ليس بمتيسر له، فأقول: هذه الأسفار القصيرة جيدة للغاية ونافعة إن شاء الله لمن جربها.

وبعض الشباب نجدهم الآن والحمد لله يسافر إلى الرياض أو إلى القصيم ويرجع في نفس اليوم لمشكلة عرضت له، يرجع لسؤال في مسألة واحدة، فيجد الجواب ويرجع، وهذا جيد للغاية بل إنه من سنن السلف بل هو مشي على منوالهم.

هذا ما تيسر جمعه وذكره في هذا الموضوع، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم الإخلاص والاستقامة والسير على نهج السلف رحمهم الله تعالى.

الأسئلة

كذلك من الأمور المهمة -أيضاً-: السفر للدراسة في الجامعات الشرعية، يتساءل بعض الشباب: هل الذهاب للدراسة في جامعة شرعية هو من الرحلة في طلب العلم؟

الجواب: لا شك في ذلك، أن السفر للدراسة في جامعة شرعية هو من الرحلة في طلب العلم، لكننا ننبه على أشياء:

أولاً: ينبغي على الإنسان أن يراعي أهله، فلا يذهب بدون رعايتهم، أو موافقة الأبوين.

ثانياً: إذا كان على ثغرة لا يسدها إلا هو فلا يذهب ليستزيد وعنده ثغرة لابد من سدها.

ثالثاً: هناك أشياء مهمة في بناء النفس ينبغي أن تحصل .. هناك قضايا تتعلق بالإخلاص والتربية على الأدب، فقبل أن يذهب لابد أن يكون عنده قواعد، هذا مهم؛ لأنه قد يذهب وينحرف في القصد، أو يذهب ويموت، وأقصد بيموت، أي: يبرد وتفتر همته.

رابعاً: لا بد من الاستشارة .. استشارة من حوله، لأن هذه القضية تختلف باختلاف أحوال الشباب والناس، واختلاف الواقع الذي حوله، ولذلك ينبغي أن يستشير أقرب الناس إليه وأعرفهم بواقعه من الذين عندهم علم وتقى، وعندهم عقل راجح، يقول: وضع أهلي كذا، ووضعي في الدراسة كذا، ووضعنا الاجتماعي كذا، ووضعنا المادي كذا، وأنا عملي كذا، وما أقوم به من المعروف كذا، هل يناسب أن أسافر الآن لأدرس في جامعة أم أبقى في البلد؟ فالاستشارة من الأمور المهمة جداً في هذا المجال.

كذلك فإن بعض الشباب الذين يذهبون للدراسة في بعض الجامعات الشرعية يكون قصده في البداية طلب العلم، فإذا ذهب إلى تلك الجامعة وسجل فيها وبدأ يدرس المقررات والكتب والمناهج ويمتحن فيها تنقلب النية عنده من طلب علم إلى طلب شهادة، وينسى الحماس الذي خرج به من بلده، وينسى النية التي عقد عليها العزم من بلده، وتصبح القضية الآن اجتياز امتحانات، وكثير من هؤلاء الشباب بالتجربة التي رأيناها تبرد هممهم، ويصبحون أصحاب أغراض دنيوية من شهادة ونحوها، ويأتون إلى الفصول الدراسية وليس عندهم وعي ولا قلب للسماع، ولا مناقشة، ولا اقتناع، وكذلك فإنهم يسعون إلى إسقاط المباحث والمقررات، فيقولون: يا أستاذ خفف علينا، احذف لنا هذا الفصل، احذف لنا هذا واحذف لنا هذا، ويتملقون للمحاضرين والأساتذة، وقد ينجحون عند بعضهم فيسقطون عنهم فصولاً، وهذا يضرهم ولكنهم يفرحون بذلك، وفي النتيجة النهائية فإنهم لا يحققون الهدف من ذهابهم للرحلة لطلب العلم.

وبعضهم قد يكمل الدراسة فيحصل على الشهادة العالية والعالمية والماجستير والدكتوراه، وبعد ذلك ينتهي طلبه، وبعدها يتعين مدرساً وينتهي طلبه، ولا يواصل البحث، فنقول: أنت رحلت من أجل الهدف فأين تحقيقه واستمراره؟

كيفية تحصيل العلم الشرعي

السؤال: هل تعتقد أن قراءة كتب الفقه والحديث وحضور المجالس والدروس الفقهية لبعض المشايخ يكفي في تحصيل العلم؟

الجواب: هذا جزء من تحصيل العلم، لكن أيها الإخوة: القراءة الجادة والاهتمام الشخصي هذا هو الذي عليه المعول أكثر، وما يشكل عليك قيد واسأل، مع الطلب في الحلق، ولا بد من القراءة والمراجعة، بل العلماء قالوا في الرحلة في طلب العلم: إذا رجع إلى بلده جمع محفوظاته ومكتوباته وراجعها، لأن بعض الناس قد يرحلون يجمعون فوائد لكن يجعلونها في دفاتر على الرفوف، لا يراجعونها بين فترة وأخرى، فلذلك تُنسى، فما فائدة الرحلة إذا لم يكن هناك مراجعة بعد الرحلة لما حصله في الرحلة؟

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم تسليماً كثيراً.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , طالب العلم والرحلة للشيخ : محمد المنجد

https://audio.islamweb.net