اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , دراسة حول الملائكة للشيخ : عمر الأشقر
وقد وكل الله على كل إنسان ملكين حاضرين لا يفارقانه، يأتيانه ويحصيان عليه أعماله وأقواله، قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:16-18]، قوله: (رقيب عتيد) يعني: مراقب معد حاضر، لا يفارق الإنسان، يعلم حاله لكثرة ملازمته وحضوره، ويعلم كل ما يؤثر ويصدر عن الإنسان من أقوال وأفعال، ويبدو من النصوص التي بين أيدينا أن الملائكة تكتب كل شيء يصدر عن الإنسان من أقوال وأفعال، لقول الله سبحانه وتعالى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ [ق:18]، وهذه تفيد العموم في اللغة العربية، من قول أي قول؛ لذلك فإن يوم القيامة عندما يرى الكفار كتابهم يقول قائلهم: يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49].
وقد نقل ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ [ق:17] أن الحسن البصري -وكان من خيرة الزهاد والوعاظ، وكان رجلاً صالحاً- تلا هذه الآية وقال: يا ابن آدم! بسطت لك صحيفة، ووكل بك ملكان كريمان، أحدهما عن يمينك، والآخر عن شمالك، فأما الذي عن يمينك فيحفظ الحسنات، وأما الذي عن يسارك فيحفظ السيئات، فاعمل ما شئت، أقلل أو أكثر، حتى إذا مت طويت صحيفتك، وجعلت في عنقك معك في قبرك حتى تخرج يوم القيامة، فعند ذلك يقول الله تعالى: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:13-14]، ثم يقول -أي الحسن البصري -: عدل والله فيك من جعلك حسيب نفسك. نعم، فهذا قمة في العدل.
ويذكر ابن كثير عن ابن عباس أنه كان يقول: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18] قال: يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر حتى إنه ليكتب قوله: أتيت، شربت، ذهبت، جئت، رأيت، حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله، فأقر منه ما كان فيه من خير أو شر، وألقي سائره، وذلك قوله تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39].
وذكر ابن كثير عن الإمام أحمد أنه كان يئن في مرضه فبلغه عن طاوس أنه قال: يكتب الملك كل شيء حتى الأنين، فلم يئن أحمد حتى مات رحمه الله.
وما ورد على لسان الحسن البصري من أن صاحب اليمين يكتب الحسنات، وصاحب الشمال يكتب السيئات ورد في حديث صحيح يرويه الطبراني في معجمه أن صاحب الشمال يرفع القلم ست ساعات عن العبد المسلم المخطئ، فإن ندم واستغفر الله منها ألقاها، وإلا كتبت عليه.
كذلك الحديث الآخر أيضاً في البخاري ومسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قالت الملائكة: ذاك عبد يريد أن يعمل سيئة وهو أبصر به، فقال: ارقبوه فإن عملها فاكتبوها بمثلها سيئة، وإن تركها فاكتبوها له حسنة، إنما تركها من جرائي) يعني: لأجلي خوفاً مني، فهذه النصوص تدل على أن الملائكة تعلم إرادة الإنسان لعلم أعطاهم الله يعلمون به ذلك.
وهم يصلون على المؤمنين، ويدعون لهم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الأحزاب:56]، وقال: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب:43].
فالله يذكر العبد في الملأ الأعلى، وإن الملائكة تدعو للعبد الصالح، وقد ذكر لنا الرسول صلى الله عليه وسلم نماذج من الأعمال التي تصلي فيها الملائكة على صاحبها، فمن ذلك: معلم الناس الخير الذي يعلمه، فمن الجوائز التي ينالها أن تصلي ملائكة السماء عليه، كما في الحديث الذي رواه الطبراني والترمذي بسند صحيح قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله وملائكته حتى النملة في جحرها وحتى الحوت في البحر ليصلون على معلم الناس الخير).
وكذلك الذين يقصدون المساجد للصلاة في جماعات، ففي صحيح مسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الملائكة تصلي على الذي يأتي المسجد للصلاة، وتقول: اللهم صل عليه، اللهم ارحمه ما لم يحدث فيه).
وكذلك الذين يصلون في الصفوف الأولى، كما في سنن أبي داود وابن ماجة وفي مسند أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول)، وفي رواية: (إن الله وملائكته يصلون على الصف المقدم).
وكذلك الذين يمكثون في مصلاهم بعد الصلاة، ففي سنن أبي داود والنسائي عن أبي هريرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يحدث أو يقم تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه).
وكذلك الذين يسدون الفرج خلال الصفوف، ففي سنن ابن ماجة ومسند أحمد والحاكم عن عائشة مرفوعاً: (إن الله تعالى وملائكته يصلون على الذين يقيمون الصفوف) أي يسوونها، ومن سد فرجة رفعه الله بها درجة.
وكذلك تصلي الملائكة على الذين يتسحرون في رمضان، كما في صحيح ابن حبان ومعجم الطبراني أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى وملائكته يصلون على المتسحرين).
ومن ذلك صلاة الملائكة على الذين يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث: (ما من عبد يصلي علي إلا صلت عليه الملائكة ما دام يصلي علي فليقل العبد من ذلك أو ليكثر).
كذلك صلاة الملائكة على الذي يعود المريض، ففي صحيح ابن حبان عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من امرئ مسلم يعود مسلماً إلا ابتعث الله سبعين ألف ملك يصلون عليه في أي ساعات النهار كان حتى يمسي، وأي ساعات الليل كان حتى يصبح)، وهذا أجر عظيم وثواب كثير يضيعه المسلمون.
وفي رواية لـأبي داود والحاكم : (ما من رجل يعود مريضاً ممسياً إلا خرج معه سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى يصبح، ومن أتاه مصبحاً خرج معه سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى يمسي)، ولكن من المسلمين من لا يعرف قيمة نفسه، ولا قيمة الأعمال التي يوجهه الله إليها، وكم من أناس ينشغلون بالتفاهات من الأمور وبقضايا جزئية، ويستثقل الإنسان أن يفعل أمور الخير التي هي ثقيلة في ميزان الله سبحانه وتعالى.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)، وفي مسند أحمد والسنن عن أبي الدرداء مرفوعاً: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يطلب).
فالأعمال الصالحة تقربنا من الملائكة مثل زيارة مريض، والصلاة على الرسول، وحضور مجالس العلم تجعل عند الإنسان حالة من السمو الروحي بحيث تقترب منه الملائكة، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم إذ خرجتم من عندي تكونون على الحال الذي تكونون عليه لصافحتكم الملائكة بطرق المدينة) أي: لو كان الإنسان في حالة من السمو الروحي عالية فالملائكة تصافحه؛ وفي سنن الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو أنكم تكونون على الحال التي أنتم عليها عندي لصافحتكم الملائكة بأكفهم، ولزارتكم في بيوتكم، ولو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون كي يغفر لهم).
فهناك ملائكة تنزل وقت العصر وتستمر إلى الفجر، وهناك ملائكة آخرون تنزل وقت الفجر وتستمر إلى العصر؛ فيجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر، قال: (ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم الله وهو أعلم بهم فيقول: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون)، هؤلاء هم الذين يرفعون أعمال العباد الذين يسأل الله سبحانه وتعالى عنهم، ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى جعل صلاتي الفجر والعصر أهم من أي صلاة أخرى، ومن الأدلة التي تدل على أنهما أهم من غيرها من الصلوات قوله تعالى: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78]، وقوله تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238]، قيل: هي صلاة العصر.
وإذا رأى الإنسان الملائكة فهو من الكرامة، كما أنه يبدو أن الرسول لا يستطيع أن يراهم حقيقة، فالرسول صلى الله عليه وسلم ما رأى جبريل إلا مرتين، إلا إذا قلنا: إن جبريل له شأن عظيم عند الملائكة، وعلى كل هذه القضايا قضايا غيبية ما نستطيع أن نحكم إلا إذا ورد في ذلك نصوص ثابتة.
فالرسول صلى الله عليه وسلم ما شاهد جبريل إلا مرتين، أما الصورة التي تشكل فيها جبريل عندما جاءه في الغار، وهناك مناسبة بين الصورة التي يتشكل بها والصورة الأساسية، وهناك نوع من التشابه، ولم يرى جبريل المرة الأولى على هيئتة الحقيقية، ولكنه رآه مرتين بنص القرآن ونص الرسول صلى الله عليه وسلم.
وبعد أن خلق آدم وشكله ونفخ فيه الروح أمر سبحانه وتعالى الملائكة بالسجود لآدم، قال تعالى: إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [ص:71-72]، فالملائكة سجدوا جميعاً إلا إبليس رفض أن يكون مع الساجدين، قال تعالى: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [ص:73-74].
وسجود الملائكة كلهم لا بعضهم هو قول عامة أهل العلم، وسجود ملائكة الأرض واضح من قوله تعالى: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [ص:73] فهذا أسلوب في اللغة العربية يعم الملائكة جميعاً، وقد أكد الله ذلك بكلمتين تفيد هذا العموم إفادة كلية شاملة فقال: (كلهم أجمعون)، فلا يجوز الخلاف في ذلك كما يقول ابن تيمية ، فلا يجوز لأي إنسان أن يقول: إن الذي سجد نفر من الملائكة؛ لأن اللفظ هنا واضح لا لبس فيه في أن الساجد هم الملائكة جميعاً.
ومن الأشياء التي روتها لنا السنة: أن الله سبحانه وتعالى لما خلق آدم وأسجد له ملائكته أمر الله سبحانه وتعالى آدم أن يذهب إلى نفر من الملائكة قريبين منه فيسلم عليهم فيقول كما ردوا به عليه، فهي تحيته وتحية ذريته، وهذا حديث صحيح رواه البخاري ومسلم ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعاً فلما خلقه قال: اذهب فسلم على أولئك النفر، وهم نفر من الملائكة جلوس، فاستمع ما يحيونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك، فذهب فقال: السلام عليكم فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، قال: فزادوه ورحمة الله).
وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون مثل ذلك علقة، ثم يكون مثل ذلك مضغة، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح)، ففي الحديث الأول تشكيل للإنسان، وهنا بعد هذه الفترة ينفخ الملك فيه الروح ليصبح إنساناً قال: (فيؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله، وشقي أو سعيد).
وفي الصحيحين أيضاً عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وكل الله تعالى بالرحم ملكاً فيقول: أي رب! نطفة؟ أي رب! علقة؟ أي رب! مضغة؟ فإذا أراد أن يقضي خلقها قال: أي رب ذكر أم أنثى؟ أشقي أم سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيكتب كذلك في بطن أمه).
فالمخلوقات متفاوتة، وعجائب الله في خلقه لا تحصى ولا تعد، فالديك عنده القدرة على أن يبصر الملائكة، كما أن الحمار يبصر الشيطان، والبشر يستطيعون أن يروا الملائكة في حالة واحدة إذا تشكلوا، ونادراً ما يستطيع البشر أن يرى الملك على حقيقته، وهذا حدث مع الرسول صلى الله عليه وسلم مرتين فقط؛ لذلك يعتبر تعنتاً من الكفار أن يطلبوا رؤية الملائكة في الدنيا في وضح النهار، قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا * يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا [الفرقان:21-22]، والملائكة تظهر للإنسان في حالة العذاب عندما يعذب الله الناس في الآخرة، ولكن في الدنيا ليس عندنا قدرة على أن نتحمل رؤية الملائكة على صورهم وعلى حقيقتهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم عندما رأى جبريل ذهب مرعوباً إلى زوجته، وذلك حين رآه على صورته الحقيقية.
وعندما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأتيه جبريل يتصل به فيوحي إليه بطبيعته الملائكية كان هذا شاقاً على الرسول صلى الله عليه وسلم وصعباً عليه، فلذلك من رحمة الله بنا ألا نستطيع أن نرى الملائكة، فهم يحيطون بنا، ولو كان عندنا القدرة على إبصارهم لما استطعنا أن نعيش، ومن رحمة الله كذلك أننا نسمع كل هذه الأصوات التي في الدنيا، ولو كان أذن الإنسان كالراديو يستقبل كل الموجات، ويستقبل كل الحركات التي في الدنيا لما استطاع أن يعيش، فهذا من رحمة الله سبحانه وتعالى ألا يرى الإنسان كل هذه العوالم، وليس هذا عيباً في الإنسان بل كمال في الإنسان أنه لا يستطيع أن يسمع ولا يرى كل هذه العوالم التي تحيط به، ويقول الله سبحانه وتعالى مجيباً على الكفار: قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا [الإسراء:95] أي: نرسل لهم رسولاً من جنسهم ومن طبيعتهم، حتى ولو أراد الله أن ينزل ملائكة لا ينزلهم بصورتهم الحقيقية، قال تعالى: وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ [الأنعام:8-9]، فول أنزل الله ملكاً لجعله بصفات الرجال حتى يستطيع أن يؤدي ما يريد ويتفاهم مع الناس.
والحقيقة كما أخبر الله أن هؤلاء الذين كانوا يطلبون هذا الإعجاز بأن تأتي إليهم الملائكة تكلمهم وتخاطبهم هو تعنت منهم، ولا يريدون من ورائه الحقيقة؛ ولذلك قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ [الأنعام:111].
فالحفظة الذين يرسلهم الله هم المعقبات المذكورون في سورة الرعد.
وليس الأمر كذلك فقط، بل حفظ الإنسان من الناحية العقدية بحفظ الوحي من السماء، وهذه من جملة أعمال الملائكة أيضاً، كما يقول الله سبحانه وتعالى: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ [البقرة:97]، وقال: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ [الشعراء:193-194] والروح الأمين هو جبريل، فلا يأتي بالوحي ملك غير جبريل؛ أو لأن جبريل هو المتخصص بالوحي، كما في الحديث الذي يرويه مسلم في صحيحه عن ابن عباس قال: (بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ سمع نقيضاً من فوقه، فرفع رأسه -أي: جبريل- فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم، لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم، وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته)، فهذا وحي من الله لم يأت به جبريل، إنما جاء به ذلك الملك الذي لم ينزل من قبل إلى الأرض، وهذه عناية من الله سبحانه وتعالى.
وجاء عن ابن عباس بإسناد صحيح عن حذيفة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني ملك فسلم علي، نزل من السماء لم ينزل قبل فبشرني أن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة).
وفي مسند أحمد والترمذي والنسائي عن حذيفة بإسناد صحيح يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة ! أما رأيت العارض الذي عرض لي قبيل؟ هو ملك من الملائكة لم يهبط إلى الأرض قط قبل هذه الليلة، استأذن ربه عز وجل أن يسلم علي ويبشرني أن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة).
أيضاً مما يدل على أن بعض الملائكة قد تأتي محمداً صلى الله عليه وسلم غير جبريل بالوحي قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث يرويه الترمذي : (أتاني جبريل وميكائيل فقعد جبريل عن يميني وميكائيل عن يساري، فقال جبريل: يا محمد! اقرأ القرآن على حرف، فقال ميكائيل: استزده فقلت: زدني قال: اقرأه على ثلاثة أحرف، فقال ميكائيل: استزده، فقلت: زدني، كذلك حتى بلغ سبعة أحرف وقال: اقرأه على سبعة أحرف كلها شافٍ كافٍ)، والعلماء مختلفون في معنى سبعة أحرف، لكن حديث سبعة أحرف حديث صحيح متواتر، وأسانيده تزيد على أربعين، وليس هذا مجال القول في تفصيل ما المراد بسبعة أحرف.
قال: (وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول)، ولا يتصل به، بل يتحول إلى الطبيعة البشرية، أو إلى شيء يشابه الطبيعة البشرية، وكما قلنا: الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتصل به جبريل بطبيعته الملائكية، لكن لا يراه على صورته الملائكية، إنما الاتصال بطريقة لا نعرف ولا ندري كيف ذلك، أما الرؤية التي رأى الرسول صلى الله عليه وسلم فيها جبريل على صورته فكانت مرتين، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه البخاري : (بينما أنا أمشي قرب مكة إذ سمعت صوتاً من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه فرجعت فقلت: زملوني)، والمرة الثانية عندما عرج به إلى السماء، وهاتان المرتان هما المذكورتان في سورة النجم، قال تعالى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى [النجم:5] أي: جبريل، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا [النجم:6-8]، أي اقترب من الرسول صلى الله عليه وسلم فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى [النجم:8-9]، ما بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم إلا قوسان، قال تعالى: فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [النجم:10]، فأوحى جبريل إلى عبد الله الذي هو محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى، قال تعالى: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى [النجم:11-13]، أين؟ قال تعالى: عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [النجم:14-17].
وهذا هو الصحيح لا كما يقول بعض الناس: إن هذه الرؤية رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لربه، وهذا خطأ كبير، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم ير ربه رؤية عين ببصره.
وفي مسند أحمد وسنن الترمذي والنسائي وأبي داود عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمني جبريل عند البيت مرتين فصلى بي حين زالت الشمس وكانت قدر الشراك)، والشراك: النعل، يعني: الظل بعد الزوال كان قليلاً، يعني: في أول وقت الظهر، قال: (وصلى بي العصر حين كان ظل الشيء مثله، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء حين غاب الشفق، وصلى بي الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم، فلما كان الغد صلى بي الظهر حين كان ظل الشيء مثله -يعني في آخر وقت الظهر-، وصلى بي العصر حين كان ظل الشيء مثليه -يعني: والشمس لم تصفر- وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم)، فصلى به المغرب في وقت واحد دلالة على أن المغرب له وقت واحد، قال: (وصلى بي العشاء إلى ثلث الليل)، وليس آخر الليل عند الفجر، فالصحيح أن وقت العشاء إلى نصف الليل، وليس إلى الفجر، وهذا الحديث يدل على أن وقت صلاة العشاء إلى ثلث الليل، لكن هناك أحاديث صحيحة تدل على أنه إلى نصف الليل، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وصلى بي الفجر فأسفر، ثم التفت إلي وقال: يا محمد! هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت ما بين هذين الوقتين) أي: بين هذا وهذا صلوا.
وفي مستدرك الحاكم ومسند أحمد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني جبريل في أول ما أوحي إلي فعلمني الوضوء والصلاة فلما فرغ من الوضوء أخذ غرفة من الماء فنضح بها فرجه) أي: أخذ غرفة من الماء فنضح الفرج حتى لا يبقى للشيطان شيء يتعلق به، فيشرع بعد الوضوء أن تنضح فرجك حتى لا يبقى للشيطان شيء يدخل فيه.
فكان يقوم بالأمور العملية ليس فقط للتعليم، وإنما للعمل كذلك، عندما كان يمرض الرسول صلى الله عليه وسلم كان يأتيه جبريل فيرقيه كما في حديث مسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل وقال: يا محمد ! اشتكيت؟ قلت: نعم. قال: باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من كل نفس وعين حاسد باسم الله أرقيك، والله يشفيك)، ومن ذلك أيضاً أنه حارب مع المسلمين في معركة بدر والخندق وفي غيرها.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , دراسة حول الملائكة للشيخ : عمر الأشقر
https://audio.islamweb.net