إسلام ويب

شهر رمضان المبارك يذكرنا بأعظم نعمة، وهي نزول هذا القرآن الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، وصنع من هذه الأمة أجيالاً تعيش في الأرض وأرواحهم في السماء. وإن هذا الشهر محطة للمراجعة والمحاسبة وتجديد العلاقة بين الإنسان وربه.

القرآن سبب العزة والرفعة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

إن في عمر البشر، وفي عمر الأفراد، وفي حياة الأمم عبر تاريخها مناسبات غالية على النفوس، يحاول البشر أن يحيوا هذه المناسبات بأشكال مختلفة تعبيراً عن فرحتهم بهذه المناسبة.

ومن هذه المناسبات: ذكرى انتصار في معركة، أو ذكرى قائد فذ في تاريخ الأمة، أو ذكرى حادثة معينة، وكل أمة تحتفل في أعيادها بما يناسب توجهاتها.

وإن في تاريخ هذه الأمة ذكريات لها أثر كبير، ومناسبات عظيمة من أعظمها إن لم يكن أعظمها تنزل هذا الكتاب الذي صنع هذه الأمة، فصحح عقيدتها، وزكى فكرها، وأصلح سلوكها، وأقام علاقاتها.

إن تنزل هذا الكتاب من أعظم الأحداث، لا أقول في تاريخ الأمة فحسب، بل في تاريخ البشرية أجمع، فرب الكائنات ينزل كتاباً هو كلامه، على رجل من البشر يختاره، لكي يصنع هذه الأمة، بل ليكون رسالة للبشرية جميعاً؛ ولذلك حمد الله تبارك وتعالى نفسه، وأثنى على نفسه؛ لأنه أنزل هذا الكتاب فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا [الكهف:1]، إنها نعمة تستحق أن يحمد الله تبارك وتعالى عليها. وأخبر أن هذا الكتاب هو عز هذه الأمة فقال تعالى: لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنبياء:10] أي: فيه عزتكم.

أترون أن هذه الأمة التي كانت تعيش في مجاهل الصحراء الشاسعة في الجزيرة العربية، كان سيكون لها ذكر لو لم ينزل عليها هذا الكتاب؟ هل رعاة الإبل الذين كانوا يتصارعون على لقمة العيش يخرج منهم القواد الذين دوخوا العالم، ورفعوا هذا الكتاب عالياً لتهتدي به البشرية؟ لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أي: فيه عزتكم ورفعتكم في الدنيا وفي الآخرة.

من تلك الأمة المشتتة أخرجت خير أمة أخرجت للناس، تحكم الأرض بميزان السماء، وتقيم من البشر أنموذجاً ينافس ملائكة السماء، وإن الله تبارك وتعالى في كثير من المواقف كما أخبر رسولنا صلى الله عليه وسلم يباهي ملائكة السماء بأفراد من البشر.

شهر التغيير

لقد جعل الله تبارك وتعالى الشهر الذي أنزل فيه هذا الكتاب خير الشهور، والليلة التي أنزل فيها خير الليالي. قال تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185]، فكان شهر رمضان خير الشهور؛ لأن الله أنزل فيه كتابه، بل كما في الحديث أن جميع الكتب السماوية أنزلت في هذا الشهر: التوراة، والإنجيل، والزبور، والقرآن.

وكانت الليلة التي أنزل فيها القرآن خير الليالي: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر:1-3].

إن هذا الشهر الكريم يذكر المسلمين بعزهم الذي فقدوه، ومكانتهم التي هبطوا عنها، وبدورهم الذي تنكبوا عنه، فمناسبة هذا الشهر الكريم تأتيهم لتقول لهم: اغسلوا ذنوبكم، اغسلوا آثامكم، ارتبطوا بكتابكم، ارتفعوا إلى المستوى الذي يريده ربكم.

هذا الشهر لا نفرح فيه كما يفرح البشر بأعيادهم: يطلقون الصواريخ، ويلعبون، ويرقصون، ويهزجون، إنه نمط آخر من الأفراح، إنها أفراح الروح يلجأ فيها المسلمون إلى ربهم، ويهذبون هذه النفوس التي رانت عليها أقذار الذنوب، وغشتها المعاصي، يتبتلون إلى الله بالصيام، ويتبتلون إلى الله بالقيام، ويتبتلون إلى الله بقراءة القرآن، ويصلون ما انقطع بينهم وبين الله من حبال، ويرتفعون مرة أخرى.

يأتيهم هذا الشهر ليذكرهم بكل شيء، يذكرهم أنهم هم الأمة التي أنقذها هذا الكتاب، ليذكرهم أن منهج هذا الكتاب غير منهج روسيا وأمريكا وهيئة الأمم ومجلس الأمن، بل فيه أحكام إلهية، وتشريعات ربانية، غير ما جاء به علماء الشرق وعلماء الغرب والفلاسفة من قوانين ونظريات فاسدة كالنظريات الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية، التي هي كموج البحر تغشى عقول المسلمين وتغطي قلوبهم.

هذا كتاب من نمط فريد، ضيعه المسلمون وجعلوه وراء ظهورهم، يأتي هذا الشهر ليقول: ابتعدتم كثيراً، نسيتم الله فأنساكم أنفسكم، نسيتم الله فضاعت دياركم، وانتهب الأعداء بلادكم وأرضكم وأموالكم، يا مسلمون! هذا كتاب ربكم أنزل في هذا الشهر فاستمدوا منه الهداية، وعودوا مرة أخرى، اغسلوا هذه الذنوب التي وقفت حوائل وحجباً وحواجز بينكم وبين الله تبارك وتعالى.

وفي هذا الشهر الكريم يضاعف الله أجر العبادة وثوابها وخيرها وعطاءها، وتغل فيه أيدي الذين يبعثون الشر من الشياطين المردة، فيتدفق النور والضياء إلى قلوب البشر لعلهم يهتدون، وهذه فرصة قد لا ندركها مرة أخرى، كم من رجال كانوا معنا في رمضان الفائت، ثم اليوم قد طواهم الردى وهم تحت التراب، ولعل بعضنا قد لا يدرك هذا الشهر في سنة أخرى، فعلى المسلم أن ينتهز هذه الفرصة.

ومن هنا دعا الرسول صلى الله عليه وسلم بالخسران على من أدرك رمضان ثم خرج رمضان ولم يغفر له فقال: (رغم أنفه، رغم أنفه، رغم أنفه)، وأحد الثلاثة الذين رغمت أنوفهم (من أدرك رمضان ولم يغفر له) وقال صلى الله عليه وسلم: (رمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما إذا ما اجتنبت الكبائر)، فهو كفارة لما بينهما، أجر عظيم تحدثت عنه النصوص، وثواب جزيل قد لا ندركه مرة أخرى.

فليعزم المسلم على أن ينتهز هذه الفرصة فيستغل أيام هذا الشهر ولياليه وساعاته وأوقاته في التقرب إلى الله تبارك وتعالى، في أن يحط عن ظهره الذنوب والآثام والخطايا التي أثقلت ظهره، ويتخفف منها كي يجوز عقبات الطريق وهو يغادر الدنيا إلى الآخرة، وهو يبعث من قبره، وهو يقف بين يدي ربه، وهو يجوز الصراط، ليتفكك من ذنوبه وآثامه، ويكثر من حسناته ويقلل من سيئاته.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم إنه هو الغفور الرحيم.

شهر الرحمة

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

إن هذا الشهر ينبغي أن يكون انطلاقة لإصلاح النفس الإنسانية وتهذيبها، وتدريبها على فعل الخير، وإحياء شعور المسلمين بأنهم كالجسد الواحد، فينظر إلى مآسي المسلمين وأحوالهم، وينظر إلى هذا الغثاء الذي يعشش هنا وهناك في نفوس المسلمين؛ فيوطن النفس على أن يكون دائماً صوت إصلاح وصوت هداية وشعلة خير.

لا تدري ما الذي يرجح في ميزان حسناتك يوم القيامة؟ قد يرجح بها تمرة، أو شق تمرة، وقد يرجح بها درهم، أو فعل خير، أو كلمة تقولها، أو دعوة تدعو بها، أو هداية لضال، أو سد جوعة لجائع، وحث الناس على أن يتحاضوا على الخير، يحض بعضهم بعضاً، ويتواصوا به، فيحض بعضهم بعضاً على إطعام المسكين والفقير، ويكونوا إخوة فيما بينهم يمثلون جسداً واحداً وبناءً واحداً متلاحماً، وهذه صفة المسلمين إذا كانت فيهم حياة، وإذا كان فيهم بقية خير، وبقية إيمان، واعتزاز بهذا الدين، وتلبية لنداء القرآن، فلتكونوا كذلك أمة واحدة، قد فرقتنا الرئاسات، والزعامات، والسياسة، فلتبق شعوب المسلمين تشعر فيما بينها بالصلة والأخوة، والمودة، والمحبة.

والله تبارك وتعالى يثيب بالنيات، ويثيب على ما في القلوب، فإذا طبق العباد دينهم، وعرفوا طريقهم، وقصدوا الخير دائماً؛ فالله معهم، وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69].

اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وكفر عنا سيئاتنا، وألهمنا رشدنا.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.

اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، إنك قريب مجيب سميع الدعوات.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , ذكرى نزول القرآن للشيخ : عمر الأشقر

https://audio.islamweb.net