إسلام ويب

الإيمان يزيد وينقص، فيزيد بالعمل الصالح، كالصلاة والزكاة واتباع الجنائز وأداء الخمس وغير ذلك، ولا يزال إيمان العبد يزيد حتى يحسن، فيعظم الأجر لصاحبه حينئذٍ، وكما أن الإيمان يزيد بالطاعة فهو ينقص كذلك بالمعصية، بل ينقص بكثرة الوقوع في الشبهات، لذا وجب على العبد أن يستبرأ لدينه، وأن يخاف من حبوط عمله.

باب الصلاة من الإيمان

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فاللهم إنا نسألك الفقه في الدين وعلم التأويل.

قال الإمام البخاري رحمنا الله وإياه: [ باب الصلاة من الإيمان. وقول الله تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ[البقرة:143] يعني: صلاتكم عند البيت.

حدثنا عمرو بن خالد، قال: حدثنا زهير، قال: حدثنا أبو إسحاق، عن البراء ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول ما قدم المدينة نزل على أجداده - أو قال: أخواله - من الأنصار، وأنه صلى قبل بيت المقدس ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر شهراً، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر، وصلى معه قوم فخرج رجل ممن صلى معه، فمر على أهل مسجد وهم راكعون، فقال: أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت، وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قبل بيت المقدس وأهل الكتاب، فلما ولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك )، قال زهير: حدثنا أبو إسحاق، عن البراء في حديثه هذا أنه مات على القبلة قبل أن تحول رجال وقتلوا، فلم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ[البقرة:143] ].

قول المصنف رحمه الله في هذا الباب: (باب الصلاة من الإيمان) هو نظير ما تقدم الإشارة إلى أن العمل من الإيمان، ولكن في قوله هنا: (باب الصلاة من الإيمان) مع أن الله سبحانه وتعالى قد جعل الصلاة هي الإيمان، كما في الآية التي ذكرها في الترجمة وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ[البقرة:143]، يعني: أن الله سبحانه وتعالى قد جعل الصلاة من الإيمان، وليست الإيمان كله، وهذا ظاهر ترجمة المصنف رحمه الله، وذلك لوجود أعمال أخرى أيضاً تشارك الصلاة في هذا المسمى وهو الإيمان، وجاء تفسير ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث البراء، وجاء أيضاً عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى لله عليه وسلم أن المراد بالإيمان في قول الله عز وجل: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ[البقرة:143] يعني: الصلاة.

وسببها ما أورد عليه المصنف رحمه الله تعالى هذا، والنبي عليه الصلاة والسلام كان أول قبلته إلى بيت المقدس، وكان يوافق عليه الصلاة والسلام أهل الكتاب من اليهود الذين كانوا يصلون إلى المسجد الأقصى، وأثاروا ذلك في قولهم: إن النبي عليه الصلاة والسلام يخالفنا في أعمالنا وعقيدتنا، ثم يستقبل قبلتنا، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يحب أن يتوجه إلى المسجد الحرام، فنسخ الله سبحانه وتعالى ما كان عليه من استقباله للمسجد الأقصى، إلى استقبال المسجد الحرام، وكان عليه الصلاة والسلام يصلي لما قدم المدينة في مسجده ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر شهراً، مستقبلاً المسجد الأقصى، نزل الأمر بتغيير القبلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة العصر.

وفي هذا الحديث وهو حديث البراء دليل على أن من تعبد لله بالمنسوخ قبل نسخه كمن تعبد لله عز وجل بالناسخ بعد نسخ المنسوخ، وذلك في الأجر سواء.

باب حسن إسلام المرء

قال رحمه الله: [ باب حسن إسلام المرء. قال مالك: أخبرني زيد بن أسلم أن عطاء بن يسار أخبره أن أبا سعيد الخدري أخبره أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إذا أسلم العبد فحسن إسلامه يكفر الله عنه كل سيئة كان زلفها، وكان بعد ذلك القصاص، الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنها ) ].

شرح حديث أبي سعيد الخدري: (إذا أسلم العبد فحسن إسلامه يكفر الله عنه كل سيئة...)

هذا الحديث هو حديث أبي سعيد الخدري في حسن الإسلام إشارة إلى أن الإسلام يكون حسناً ويتباين في درجة الحسن، ويكون العامل أيضاً مسرفاً على نفسه، فلم يحسن إسلامه، فيكون الإسلام ضعيفاً، وهذا دليل على زيادة الإسلام والإيمان بعمل الإنسان، ويقول العلماء: كما أن الإيمان يزيد، كذلك فإن الإسلام يزيد أيضاً، فالإيمان يزيد والإسلام يزيد بحسب العمل الصادر من الإنسان؛ لهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( إذا أسلم العبد فحسن إسلامه )، يعني: بمجرد دخوله الإسلام يتدرج في العمل، وهذا فيه إشارة إلى أن الإنسان أول دخوله للإسلام يدخل مقصراً من جهة العمل الظاهر، وقد جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام كما في المسند أنه قال: ( الإسلام العلانية، والإيمان السر )، يعني: الإيمان ما في القلب، وكذلك الإسلام علانية، يكون الإنسان أول دخوله للإسلام مقصراً بأنه لا يعلم من الأعمال شيئاً، أو ربما يعمل ويقصر لضعف الإيمان ابتداء، فيبدأ بزيادة العمل حتى يكتمل ويحسن إسلامه.

وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يكفر الله عنه كل سيئة كان زلفها )، يعني: أن الله جل وعلا يفرق بين الإسلام الحسن، وبين الإسلام مع الريب، فالمسلم الذي يسلم مع الريب والشك لا يكفر الله جل وعلا له ما زلف من سيئاته التي كان عليها، وأمارة ذلك أن الإنسان إذا كان على كفر وكان على إسراف كالإنسان الذي يكون على النصرانية يكون على عقيدة نصرانية، أو يكون على جملة من الكبائر، يشرب الخمر، أو يسرق، أو يزني، أو يغتاب، أو نحو ذلك، فدخوله في الإسلام مجرداً لا يعني أنه أقلع عن الكبائر.

ولهذا كثير من الناس يسلمون ويبقون على ما هم عليه، أو تسلم المرأة وتبقى على تبرجها وسفورها واختلاطها بالرجال وغير ذلك من المحرمات، إذا دخل الرجل أو المرأة في الإسلام وبقي على ما هو عليه من الكبائر أو الذنوب، فهذا أسلم ولم يحسن إسلامه؛ ولهذا نقول: دخوله في الإسلام لا يكفر ما كان عليه في الجاهلية مما أصر عليه في الإسلام، وما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في صحيح الإمام مسلم من حديث عمرو في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الإسلام يهدم ما قبله، والهجرة تهدم ما قبلها، والحج يهدم ما قبله )، المراد بهدم الإسلام لما قبله أي: لما كان عليه الإنسان ثم انسلخ منه بالكلية إحساناً لما كان عليه، وأما الكافر إذا دخل في الإسلام وأصبح على ما كان عليه من ذنوب، فهذا لا يكفر الله عز وجل عنه تلك الذنوب السابقة، فإن شرب الخمر حال كفره أخذ بالجاهلية والإسلام؛ ولهذا يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( من أحسن إسلامه لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أخذ بما أساء في الإسلام والجاهلية ) إشارة إلى أن الإنسان عند وقوعه في الذنوب والمعاصي في حال الجاهلية، لا بد أنه يعلم أن هذه الأمور محرمة، ويقع فيها سرفاً على نفسه، كمثل بعض أتباع الشرائع المبدلة، أو بعض الكفار من الوثنيين، يعلمون أن الزنا حرام ويقعون فيه، ويعلمون مثلاً أن التعري حرام ويقعون فيه، ويعلمون أن الشذوذ محرم ويقعون فيه، ولكنهم على شيء من شريعة مبدلة، وما وقعوا فيه من مخالفة أمر الله هو ضعف إيمان في عملهم بالنسبة لشريعتهم كما يكون المؤمن ضعيف الإيمان في دينه.

فيوجد من المؤمنين من يشرب الخمر وهو في الإسلام، كذلك يوجد من أهل الكتاب من يخالف ما يجده من محرمات في شريعته المبدلة، التي لم يطرأ على حكمها تبديل، فخالف فيه الحق، فيقع في الإثم؛ لأنه يعتقد أنه حق فوقع في مخالفته؛ لذلك يؤاخذ بالجاهلية والإسلام.

ولهذا يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( يكفر الله عنه كل سيئة كان زلفها )، يعني: مضى عليها قبل ذلك؛ لهذا نقول: إن تكفير الإسلام لما مضى من الإنسان مشروط بحسن الإسلام، يعني: دخل الإسلام بكل ما فيه، حتى لو وقع الإنسان بعد ذلك في الإثم، مثل الإنسان الذي يدخل الإسلام ثم يتوب من الخمر، ويتوب من الكذب والزنا والسرقة ونحو ذلك، ثم بعد سنة أو سنتين يقع في شرب الخمر، هل هذا يرجع عليه ذلك الذنب؟ لا يرجع عليه، كحال المؤمن الذي يقع في الكبيرة، ثم يتوب منها، ثم يقع فيها مرة أخرى.

وقوله صلى الله عليه وسلم هنا: ( وكان بعد ذلك القصاص )، يعني: جريان ما كان على الإنسان في أمر القصاص، وهو على ما تقدم في ذكر المظالم، المتعلقة بحقوق بني آدم.

وقوله صلى الله عليه وسلم: ( الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنها )، وهذا من رحمة الله بعبادة، وهذا مقتضى أن رحمة الله سبقت غضبه جل وعلا، وتضعيف الله عز وجل للحسنات ثمرته في ذلك دخول المؤمنين الجنة، وأن المؤمنين من هذه الأمة أكثر من يدخلون الجنة وأقل أهل النار؛ ولهذا جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام: ( أهل الجنة مائة وعشرون صفاً، أمتي منهم ثمانون )، وجاء كذلك عن النبي عليه الصلاة والسلام ( أن هذه الأمة في النار كالشعرة السوداء في جلد الثور الأبيض )، يعني لقلتهم، وذلك لهذه البركة التي جعل الله عز وجل للأمة، فالحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، ما الذي يقدر هذا التضعيف من جهة الأعمال؟ الله سبحانه وتعالى يقدره بحسب ما يصدر من العبد من إحسان للعمل؛ لهذا جاء التحسين بعد إحسان العمل، إذا أتقن الإنسان العمل وأخلص ارتفعت الحسنة وتضاعفت، فإذا أتى بالصلاة بخشوع وإقبال على الله عز وجل زاد التضعيف معه، فكلما أحسن زاد التضعيف حتى يصل إلى الكمال، ويقل التضعيف بتقصير الإنسان في أبواب الإحسان.

والسيئة تعظم ولكن لا تضاعف، تعظم لورود أسباب منها:

تعظيم المكان، فمثلا في المسجد الحرام، لقوله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ[الحج:25] إشارة إلى أن إرادة الإلحاد في المسجد الحرام يختلف عن غيره.

أو ما يتعلق بتعظيم الزمن، فمثلاً في رمضان، فالسيئة فيه أعظم من غيره، وفي الأشهر الحرم السيئة أعظم من غيرها، ومثله أيضاً اليمين بعد العصر كما جاء في الحديث ونحو ذلك.

وكذلك تعظم السيئة بعمل القلب وهو الغفلة عن تعظيم الله سبحانه وتعالى، فربما تكون السيئة التي يفعلها الإنسان صغيرة فتكون كبيرة عند الله سبحانه وتعالى؛ وسبب ذلك أن الإنسان فعل هذه السيئة باستهتار وغير مبالاة بالله جل وعلا، فما نظر إلى عظمة الخالق سبحانه وتعالى، وإنما نظر إلى صغر معصيته.

ولهذا قال ابن شهاب الزهري كما روى الإمام مسلم رحمه الله: أعجب حديثين حُدثت بهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حدثني بها حميد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( دخلت امرأة النار في هرة حبستها، لا هي أطعمتها، ولا هي جعلتها تأكل من خشاش الأرض )، أما الحديث الثاني: ( فرجل لم يعمل خيراً قط، فقال لأبنائه: إن أنا مت فأحرقوني، ثم اطحنوني، ثم ذروني في الريح، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً من العالمين ) .

فعذب الله تلك المرأة بالهرة حبستها، وذاك لم يعمل خيراً قط، لكن هل بقي صامتاً؟ لا، يعني ثمة أعمال عملها لكنها في الحرام، ومن ذلك أنه ربما قتل البهائم وحبسها، يعني أنه فعل زيادة عما فعلت المرأة ومع ذلك دخل الجنة، يعني أن الذنب يعظم عند الله بحسب انصراف قلب الإنسان عن هيبة الخالق في حال وقوع الذنب؛ لهذا المرأة التي حبست الهرة ما فكرت بعد ساعة ماذا تفعل هل ستموت أو نحو ذلك، فهو ليس حبساً مؤقتاً، مما يعني ديمومة قسوة القلب، وهذا لا يتحقق إلا مع الغفلة، ولهذا أشار النبي عليه الصلاة والسلام إلى ذلك فقال: ( لا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض )، يعني أنها لم تطلقها حتى تأكل، ومعلوم أن حاجة البهيمة للطعام ليست في الدقيقة، أو في الساعة، أو في الساعتين، أو في الثلاث، ربما تحتاج إلى ما هو أبعد من ذلك، يعني أن هذا دليل على الاستهانة، فالحبس ليس حبساً مؤقتاً، وإنما هو دائم، كذلك أيضاً فإن ذلك التعظيم يرجع فيه إلى ذات الإنسان من جهة باطنه، ويرجع إلى ما هو خارج عنه من جهة الزمن، ومن جهة المكان.

شرح حديث أبي هريرة: (إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب له بعشر...)

قال رحمه الله: [ حدثنا إسحاق بن منصور، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن همام، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا أحسن أحدكم إسلامه، فكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وكل سيئة يعملها تكتب له بمثلها ) ].

الإحسان هو بالإتقان في العبادة؛ ولهذا يقال: أحسن الإنسان عمله إذا أتقنه وجاء به على وجهه، وفلان محسن متقن، والإحسان في كل عبادة إحسان أياً كانت، سواء كانت واجبة أو كانت مستحبة ونفل، كذلك أيضاً فإنه ينبغي أن نعلم أن دائرة الإحسان تقع في الغالب على الاستحباب أي: الإتيان بالتمام، والفريضة فيها واجبات، وفيها أركان، وفيها مستحبات، فقدر الإحسان في الصلاة هو الإتيان بالمستحبات، كالإتيان بالخشوع، والتسبيح إلى درجة الكمال ثلاث فما فوق، وكذلك أيضاً القراءة في المطول في مواضع المطول، وفي الأواسط في مواضع الأواسط، وفي القصار في مواضع القصار، والإشارة بالسبابة، والافتراش، والتورك، كذلك الطمأنينة في الصلاة.

إذاً: ما كان من السنن فهي مرتبة الإحسان؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما سأله جبريل سأله عن الإيمان، وسأله عن الإسلام، وسأله عن الإحسان؛ لهذا قال: ( الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك )، الإنسان إذا كان يرى من يحاسبه فإنه سيقوم بالعمل على أحسن وجه، وهذه طبيعة فطرية تجدها عند الخادم إذا عملت معه، أو عند الأجير، أو عند الشريك، ستجده يقوم بالإتقان، وهذه طبيعة فطرية، والنبي عليه الصلاة والسلام أشار إلى هذا المعنى فقال: ( أن تعبد الله كأنه يراك ) على ماذا سيكون خشوعك؟ سيكون على التمام، ولكن اعلم إن لم تكن تراه أنت فهو يراك، يعني أن لا يختل ميزان الإحسان عندك.

باب أحب الدين إلى الله عز وجل أدومه

قال رحمه الله: [ باب أحب الدين إلى الله عز وجل أدومه.

حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا يحيى، عن هشام، قال: أخبرني أبي عن عائشة ( أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة، قال: من هذه؟ قالت: فلانة تذكر من صلاتها. قال: مه عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا، وكان أحب الدين إليه مادام عليه صاحبه ) ].

في هذه الترجمة وهي قوله: (باب أحب الدين إلى الله أدومه) إشارة إلى أن مراتب الدين تتفاوت، وإذا تفاوتت تفاوت أثرها على الإنسان، من جهة قوة عمله، وقوة إيمانه، وكذلك إسلامه، وقصوره، والنبي صلى الله عليه وسلم حينما قال: ( مه عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا ) فقد أشار إلى أن الطاقة ينبغي أن تكون بطاقة الإنسان لا على أصل التشريع، وهذا هو المقياس الشرعي، فمن الناس من هو ضعيف، ويتكلف إذا جاء بالقدر التام من أمر الدين، فنقول: إن هذا قد جاء بشيء يمله، فينبغي له أن يأخذ من الدين بالقصد، ومن الناس من يطيق التمام، وقصده في ذلك أن يأتي بالتمام، طبعاً بعيداً عن مسألة التشهي، وإنما عمَّا كان في ذات الإنسان من طاقة؛ لهذا ينبغي للإنسان أن يعلم أن ما مقامه من جهة القوة والإتيان بالدين كما شرعه الله، وهو ما يطيقه البدن.

والنفوس لها إقبال وإدبار، وكذلك الأجساد فيها قوة وضعف، فينبغي للإنسان أن ينظر إلى ذلك، النفوس المتجردة من الحق حينما تقبل عليه ينبغي أن تساس، وأن يبدأ معها بالتدرج شيئاً فشيئاً، ولا يبدأ بالأعلى حتى لا تمل وتضعف وترجع إلى الوراء، وهذا معلوم أن الإنسان يسوس نفسه كما يسوس صاحب الخيل الخيل، يسوسها من جهة تربيتها، فيبدأ بالتدرج شيئاً فشيئاً، إذا كان مقصراً في قيام الليل يبدأ صلاته بركعتين، ثم يستمر عليها، ثم يصلي بعد ذلك أربعاً، ثم بعد ذلك ستاً، ثم بعد ذلك ثماناً، حتى يصل إلى درجة التمام، ثم يثبت عليه، وأما إذا ابتدأ بالأعلى بعد انقطاع سيرجع إلى ما كان عليه؛ لأن النفوس تمل، ولا تقبل الأعلى، ولهذا حتى تتوطن النفوس جاءت الشريعة أولاً بالفرائض وما كان ثمة سنن مقدرة، ثم جاءت السنن شيئاً فشيئاً، ثم تباينت من جهة تأكيدها.

وفي قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( من هذه؟ ) إشارة إلى أنه يجوز للمرأة أن تدخل بيت زوجها من تشاء من أهلها ومعارفها وأصحابها من غير إذن زوجها؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من هذه؟ )، ولو عرفها لما سأل عنها، وينبغي للزوجة أيضاً أن لا تدخل من النساء في دارها إلا من تعلم أو يغلب على ظنها أن زوجها لو علم بها لرضي ولو لم يعلم بعينها.

وفي قوله: ( قالت: فلانة تذكر من صلاتها ) أنه لا حرج على المرأة أن تذكر لزوجها أيضاً أحوال النساء لتستفتي، أو تعرف أحوالهن، وقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( مه ) وهي كلمة تضجر، ( عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا )، المراد بالملل ونسبته إلى الله عز وجل ذلك من باب المقابلة، وهو من الصفات الخبرية، والصفات الخبرية يجوز للإنسان أن يذكرها على سبيل المقابلة؛ ولهذا يقول الله جل وعلا: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ[الأنفال:30]، اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ[البقرة:15]، فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ[الأعراف:51]، يعني يكون النسيان لكن في مقابل نسيان، وهذا من باب المقابلة في الجزاء، وهكذا أيضاً في غير هذه المعاني، هل للإنسان أن يولد شيئاً من ذلك؟ نقول: لا حرج عليه أن يولد ما لم يستقبح المعنى، فإن هذا مما لا حرج معه.

وقوله: ( وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه )، المراد بالمداومة هنا أن يداوم الإنسان على عمل ولو كان قليلاً خير من الكثير الذي ينقطع، لماذا كان القليل أفضل؟ لأن العبرة بالخواتيم، فيختم لك على قليل خير دائم، خير من أن يختم لك على قديم كثير، فالعمل الذي تؤديه هذه السنة ثم تنقطع عنه ولا يأتي بعده، وتمر عليك السنوات ثم يختم لك على عدم، هذا أقل مرتبة من أن يختم لك بخير قليل، فلو كنت تصلي عاماً تاماً الليل كاملاً، فذلك أهون وأقل من أن تصلي طول عمرك بركعتين، أو أربع، يختم لك عليها؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول كما جاء في الصحيح من حديث سهل قال: ( إنما الأعمال بالخواتيم )، ومعناها أن الإنسان إذا ختم له بالصلاة وختم له بالنوافل والسنن والعبادة يختم له عمره الماضي كله على هذا اليوم أم لا؟ نقول: نعم، يختم له ما كان مضى من عمره على اليوم الذي ختم عليه، رجل في آخر عمره في السنة الأخيرة أو السنتين الأخيرتين من عمره كان يقوم الليل كله، وعمره سبعون، نقول: في هذه السبعين كلها وهو يقوم الليل، وإذا كان الإنسان في خمسين سنة يقوم الليل، وفي أعوام أخيرة قصر في دينه، وأسرف، أو انتكس ختم له على هذا، وما مضى كأنه ما قام بذلك العمل؛ لأن العبرة بالخواتيم؛ لأن عمل القلب له أثر في محو ما مضى، وما مضى من إنسان مما أخلصه إذا قصر الإنسان فيه، وكان ثمة سبب غير الأسباب القدرية التي يقدرها الله عز وجل على الإنسان، يكون في الغالب إشارة إلى عدم القناعة، وهو شعبة من النفاق بما مضى من الإنسان؛ لهذا كثير من الذين ينتكسون يندمون على الحق الذي فعلوه قبل ذلك، من إكثار من عبادة وصلاة وصيام والعياذ بالله، أما إذا كان الإنسان ينشط في حال نشاطه، ثم طرأ عليه من الأسباب القدرية من مرض، أو إجهاد، أو كبر، فبلغ السبعين، أو بلغ الثمانين، أو بلغ التسعين، فخف من جهة الصلاة، وضعف نظره من جهة قراءة القرآن، والتعبد لله، ونحو ذلك، نقول: فضل الله عز وجل في ذلك أنه في حال مرضه آجره كما كان في السابق فضلاً عما كان بعد وفاته.

ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام يقول كما جاء في الصحيح من حديث أبي موسى: ( إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له ما يعمل وهو صحيح مقيم )، والهرم مرض، والكبر مرض؛ ولهذا الإنسان الذي يقرأ مثلاً في المصحف، ويديم، ثم يصاب بالعمى، فلم يستطع القراءة، ولم يحفظ شيئاً من القرآن، يختم له على ما كان عليه قبل العمى، وكأنه يقرأ المصحف كل يوم إلى أن يختم عليه وهو على هذا الأمر، وهذا فضل الله.

كذلك أيضاً الشخص الذي يكون على عبادة، ثم جن في يوم، أو أصبح مختل العقل، أو صار عليه حادثاً، واختل عقله، وفقد أهليته في التكليف، نقول: انتهى أجله في هذا الموضع، وما كان عليه يحاسب على ما هو عليه في آخر أيامه؛ ولهذا نعلم قيمة الثبات على الحق، والمداومة عليه؛ فالنبي عليه الصلاة والسلام حينما سأله الثقفي قال: ( قل لي في الإسلام لا أسأل عنه أحد بعدك. قال: قل: آمنت بالله فاستقم )، يعني: استقم على ما أنت عليه لعل المنية تأتيك على هذا الأمر فيختم لك به.

باب زيادة الإيمان ونقصانه

قال رحمه الله: [ باب زيادة الإيمان ونقصانه. وقول الله تعالى: وَزِدْنَاهُمْ هُدًى[الكهف:13]، وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا[المدثر:31]، وقال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ[المائدة:3] فإذا ترك شيئاً من الكمال فهو ناقص] .

في قول المصنف رحمه الله: [ باب زيادة الإيمان ونقصانه ] استدل بجملة من الآي، وقد تقدمت معنا الإشارة إلى زيادة الإيمان في قوله: وَزِدْنَاهُمْ هُدًى[الكهف:13]، وقوله: وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا[المدثر:31] .

وقوله سبحانه وتعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي[المائدة:3]، الدين قبل كماله هو كامل بحق أهله، ومن مات من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل كمال الدين فهو على دين تام، ومن اختارهم الله عز وجل على شيء من العبادة حتى قبل فرض الشرائع فإن هؤلاء على دين تام، ومن توفي قبل أن يفرض الصيام، أو يفرض الحج ولم يحجوا فهم على دين تام على ما هم عليه يخاطبون من الشريعة، وفي قوله سبحانه وتعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ[المائدة:3]، يعني من نزل عليه الخطاب فدينه كامل على هذا النحو، وتقصيره في هذه الأحكام تقصير في دينه، فمن قصر في شيء من الأحكام فقد قصر في شيء من الكمال.

شرح حديث أنس: (يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير...)

قال رحمه الله: ]حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا هشام، قال: حدثنا قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير )، قال أبو عبد الله: قال أبان، قال: حدثنا قتادة، قال: حدثنا أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( من إيمان مكان من خير ) ].

وهذا تقدم الكلام عليه أيضاً، وفي حديث أبي هريرة ( مثقال ذرة من خير ) إشارة إلى أن رحمة الله عز وجل سبقت غضبه، وفيه أيضاً إشارة إلى أن المؤمن لا يخلد في النار، فلا بد أن يخرج في يوم من الأيام، ولكن الله عز وجل ينقيه من الذنوب إذا كان ممن لم يكتب الله عز وجل لهم الرحمة، ولم يشأ أن يغفر لهم.

شرح حديث عمر بن الخطاب: أن رجلاً من اليهود قال له: (يا أمير المؤمنين آية في كتابكم...)

قال رحمه الله: [ حدثنا الحسن بن الصباح سمع جعفر بن عون قال: حدثنا أبو العميس، قال: أخبرنا قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب أن رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرءونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، قال: أي آية؟ قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا[المائدة:3]، قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم، والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قائم بعرفة يوم جمعة ].

في هذا إشارة إلى حسد اليهود لهذه الأمة، وهم أيضاً من أعلم الناس بفضائل هذه الأمة، وأكثرهم إدراكاً لما خصها الله عز وجل به من الخصائص، وكذلك فإن معرفتهم في هذه الآية وقولهم لـعمر بن الخطاب في خلافة عمر: آية في كتابكم لو علينا أنزلت معشر اليهود. إشارة إلى أنهم يقرءون القرآن، ويعلمون معانيه، ولكن منعهم من قبول الحق والإذعان له الكبر والحسد.

وهذه الآية من أعظم الآيات التي أنزلت على هذه الأمة، فيها تمام الشريعة، وهي أيضاً تتضمن حفظ هذا الدين إلى قيام الساعة، كما في قول الله سبحانه وتعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[الحجر:9]، هذا الدين الكامل محفوظ من أن يبدل، أو يغير، أو يزاد في كلام الله عز وجل شيئاً ما ليس منه، وهذا أعظم الفضل؛ لهذا نقول: إن من أعظم آي القرآن قول الله جل وعلا: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ[المائدة:3].

والآية الأخرى إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[الحجر:9]، هذه من أعظم آيات القرآن؛ وذلك أنها تعطينا برهاناً أن ما في أيدينا محفوظ لا يمكن أن يطرأ عليه تبديل، ومن ظن أن في كلام الله حرفاً زائداً، أو حرفاً ناقصاً فقد كفر بالله سبحانه وتعالى، ولا خلاف في ذلك عند أئمة الإسلام، وهنا سمى الدين تاماً باعتبار نزول الآية وما بعدها، وكذلك أيضاً بالنظر إلى الحال السابقة، فإن الحال اللاحقة تامة، والحال السابقة منفردة كاملة قبل مجيء ما لحق لها.

باب الزكاة من الإسلام

قال رحمه الله: [ باب الزكاة من الإسلام. وقوله عز وجل: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ[البينة:5] .

حدثنا إسماعيل، قال: حدثني مالك بن أنس عن عمه أبي سهيل بن مالك عن أبيه أنه سمع طلحة بن عبيد الله يقول: ( جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس، يسمع دوي صوته ولا يفقه ما يقول، حتى دنا، فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خمس صلوات في اليوم والليلة. فقال: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وصيام رمضان، قال: هل علي غيره؟ قال: لا إلا أن تطوع. قال: وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة، قال: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع. قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلح إن صدق ) ].

هذا الحديث أو ما ترجم عليه المصنف رحمه الله في قوله: (باب الزكاة من الإسلام) فيه ما تقدم من دلالات أن العمل من الإيمان أياً كان، سواء كان صلاة، أو كان زكاة، أو صياماً، أو كان قياماً، كل ذلك من الإيمان إشارة إلى زيادة الإيمان ونقصانه، وكذلك أيضاً كما أن الإيمان يزيد، فإنه ينقص، ويسلب بسبب عمل الإنسان، وتقصيره في هذا.

وفي هذا الحديث أشار المصنف إلى قول الله جل وعلا: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ[البينة:5]، وإيراده لهذه الآية ومناسبتها للحديث باعتبار أنها ذكرت العمل الباطن، وذكرت العمل الظاهر، فذكرت ما يتعلق بعمل القلب وهو الإخلاص لله سبحانه وتعالى، وتقدم الإشارة معنا أن للقلب قول وله عمل، بالنسبة للقول هو التصديق، وبالنسبة للعمل هو الإخلاص لله سبحانه وتعالى، وهي المقصودة، وقد جاءت في هذه الآية، وفي قوله جل وعلا: وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ[البينة:5]، يعني: الدين التام الكامل القيم الذي لا نقص فيه.

وهنا ذكر في مسألة الصلاة إنما سأل عن الإسلام، وهذا نظير ما جاء في حديث عبد الله بن عمر في قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان )، ذكر هنا أركان الإسلام، وفسرها بالصلاة والصيام، وهذا فيه إشارة إلى أنه في الأغلب أن الإسلام يفسر بالأعمال الظاهرة، والإيمان يفسر بالأعمال الباطنة.

باب اتباع الجنائز من الإيمان

قال رحمه الله: [ باب اتباع الجنائز من الإيمان.

حدثنا أحمد بن عبد الله بن علي المنجوفي، قال: حدثنا روح، قال: حدثنا عوف عن الحسن ومحمد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من اتبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً، وكان معه حتى يصلى عليها، ويفرغ من دفنها، فإنه يرجع من الأجر بقيراطين، كل قيراط مثل أحد، ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن فإنه يرجع بقيراط )، تابعه عثمان المؤذن قال: حدثنا عوف عن محمد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه ].

هنا أراد أن يذكر المصنف أيضاً الأعمال النوافل والطاعات المستحبات أنها أيضاً من الإيمان، تزيد إيمان العبد، وتنقصه أيضاً، وهذا فيه دليل على أن الزيادة للإيمان تكون بالطاعات النوافل، وأن النقص أيضاً يكون بالنوافل، وليس بمجرد ارتكاب المحرمات وترك الواجبات، بل ينقص الإيمان أيضاً بنقص الطاعات والنوافل.

وقول هنا: ( من اتبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً ) هذا خاص بجنازة أهل الإسلام، بخلاف غيرهم، ومن تبع جنازة غير مسلم لا يثاب على ذلك، وأما ما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في جنازة غير المسلم فإنما هو القيام لها تعظيماً للموت لا تعظيماً للميت؛ ولهذا لما قام النبي عليه الصلاة والسلام لجنازة مشرك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن للموت لفزع )، وجاء في رواية: ( أليست نفساً؟ ) يعني: أي ليست نفساً تموت.

وقوله صلى الله عليه وسلم: ( وكان معه حتى يصلى عليها، ويفرغ من دفنها ) هذا تقييد للثواب وضبط له، أن المراد بذلك هو أن يصاحبها حتى تدفن، ( فإنه يرجع من الأجر بقيراطين، كل قيراط مثل أحد )، هناك من الناس من يصلي على الجنائز ولا يتبعها، وهذا له قيراط، ومن تبعها ولم يصل عليه فله قيراط، ومن تبعها وصلى عليها فله قيراطان، ومن تبعها ولم يحضر دفنها، وإنما تبعها حتى وضعت؛ فهذا يقصر منه ثوابه بقدر قصور عمله، لماذا؟ نقول: أولاً لأن هذا مقتضى زيادة الإيمان بورود شيء من العمل، والله عز وجل لا يضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى.

كذلك أيضاً فإن الشارع إنما شرع حضور الجنازة حتى تدفن لسبب المؤانسة والتعزية، فإن الحضور حتى تدفن لها أثر على الميت بالدعاء، فالإنسان إذا حضر كان لذلك أثر على الميت، بالدعاء له، والاستغفار، والنظر والتأمل في حاله، وربما رق قلب الإنسان فاستغفر ودعا له، وتحقق ذلك للميت، وله أثر على أهله بأن يصبروا، وألا يجزعوا، ولها أثر أيضاً على الزائر من جهة زيارته، وهذا كله أثر على إيمانه من جهة قربه من الآخرة؛ ولهذا يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكر الآخرة )، وجاء في زيادة: ( وتزهد في الدنيا )، إذاً فزيارة القبور واتباع الجنائز لها أثر على الميت، ولها أثر على أهله، ولها أثر على الزائر أيضاً، وتعلق الإنسان بالله وتزيده إيماناً.

باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر

قال رحمه الله: [ باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر.

وقال إبراهيم التيمي: ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذباً. وقال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ].

وهذا إشارة إلى أنه ينبغي للمتعبد وينبغي للصالح أن يقرن ما لديه من عبادة ويعملها بما لديه من علم، وإذا وجد بون بين العلم الذي لديه -والعلم محله القلب، وهو تصديقه بهذا الشيء- وبين عمله، فليعلم أن فيه شعب من النفاق بقدر البون الذي لديه؛ ولهذا يقول سفيان رحمه الله: ما ازداد الرجل علماً فازداد من الدنيا قرباً إلا ازداد من الله بعداً.

لهذا المعادلة في ذلك أن الإنسان كلما ازداد من العلم، ينبغي أن يزداد من الخشية، وإذا ازداد من الإيمان، ينبغي أن يزداد من الخشية، ولازم الخشية العمل، وكلما كثر علمه ويقينه بالله وقل عمله فليعلم أن فيه نفاق.

ولهذا يقول إبراهيم التيمي رحمه الله: ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذباً. ولهذا العالم بالله هو الذي يخشاه، ويقول سفيان: كلما ازددت علماً ازددت حزناً، ولو لم أعلم لكان أيسر لحزني. يعني الإنسان كلما ازداد من العلم خشي الله سبحانه وتعالى، ووجل منه، ونظر في حكمه العظيمة، فكان ذلك أعظم لاعتباره.

قال رحمه الله: [ وقال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل ].

لهذا الذي يأمن في عمله، ويقبل ويغلب ظنه أن عمله مقبول ونحو ذلك، هذا في الغالب أن فيه تقصير في إيمانه، وإحسان الظن بالله عز وجل شيء، والأمن من مكر الله شيء؛ لهذا ينبغي للإنسان أن يحسن الظن بالله سبحانه وتعالى، وأن لا يأمن من مكر الله، والأمن من مكر الله أن الإنسان يقع في الإسراف والمعاصي، ويغلب جانب الرحمة، وأما إحسان الظن بالله، أن الإنسان يأتي بالطاعات ويغلب جانب قبول هذه الطاعات من الله مع عدم وجود ضدها من المعاصي، فالذي يأمن مكر الله هو غالباً وابع في المعاصي والذنوب، فهو يقع في الذنوب ويسرف على نفسه ويأمن من مكر الله، أما الذي يحسن الظن بالله فهو الذي يأتي ويعمل الطاعات ويجتنب السيئات ويحسن الظن بالله أن الله سيقبل منه ذلك العمل، هذا موضع إحسان ظن العبد بربه سبحانه وتعالى.

والصحابة عليهم رضوان الله تعالى كانوا أكثر الناس خوفاً من النفاق، والنفاق كما تقدم بيانه هو الفرق بين الباطن والظاهر، الفرق بين الباطن والظاهر أن يضمر الإنسان شراً ويظهر خيراً، وما يكون من بون في الإنسان بين علمه وعمله فهذا شعبة من النفاق؛ لهذا ينبغي للإنسان أن يتقلل منه قدر وسعه وإمكانه، وأعظم ما يتقلل به الإنسان هو في عبادة السر، عبادة السر هي التي تطهر عبادة العلن؛ لهذا كل عبادة يكثر من فعلها في العلن، فليبحث عن عبادة من جنساها في السر، إذا كان يصلي في العلانية كثيراً فعليه أن يخص عبادة السر بشيء خفي، لماذا؟ حتى تطهر العلانية، إذا كان يتصدق علانية وينفق يمنة ويسرة، ويتحدث عنه الناس، عليه أن يجعل نصيباً في السر، إذا كان يقرأ القرآن أمام الناس ونحو ذلك، ويسمعه القريب والبعيد عليه أن يخص السر أيضاً بشيء من قراءة القرآن، ويكثر من ذلك، حتى تطهر عبادة السر عبادة العلانية وما يطرأ عليها؛ ولهذا يقول حذيفة لما سأل عن النفاق قال: أتصلي إذا خلوت؟ قال: نعم. قال: اذهب فما جعلك الله منافقاً. وتقدم معنا هذا.

قوله رحمه الله: [ ويذكر عن الحسن ما خافه إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق ].

ولهذا ينبغي للإنسان أن يأخذ بالحزم، والحزم أمارة على اليقظة، وكذلك الخوف مما لا يخطر في بال الإنسان؛ ولهذا الكفار يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ولكنهم تفاجئوا بعذاب الله سبحانه وتعالى؛ لأنهم ما توقعوه؛ لهذا ينبغي للإنسان أن يوجل، وأن يتوقع السوء، وأن يغلب أيضاً إحسان الظن بالله جل وعلا.

قوله رحمه الله: [ وما يحذر من الإصرار على النفاق والعصيان من غير توبة لقول الله تعالى: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ[آل عمران:135] ].

ومن يقابل هؤلاء هم الذين يأمنون من مكر الله، ويقعون في المعاصي ويصرون عليها، ويحسنون الظن بالله، فهؤلاء الذين يأمنون من مكر الله؛ لأنهم علموا الإثم وما تابوا.

قال رحمه الله: [ حدثنا محمد بن عرعرة، قال: حدثنا شعبة عن زبيد، قال: سألت أبا وائل عن المرجئة، فقال: حدثني عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر ).

أخبرنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر عن حميد حدثني أنس، قال: أخبرني عبادة بن الصامت ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يخبر بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال: إني خرجت لأخبركم بليلة القدر، وإنه تلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيراً لكم، التمسوها في السبع والتسع والخمس ) ].

شرح حديث: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)

في حديث عبد الله بن مسعود: ( سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر )، سباب المسلم من الكبائر، وقتاله من الكبائر أيضاً، ولكنه في قتله يقع في الكفر أصغر، وهذا يناسب (باب كفر دون كفر) كما تقدم معنا، وهذا إشارة إلى أن الكفر يحبط الشيء من عمل الإنسان، وأن المرجئة إنما وقعوا في الضلال؛ لأنهم أمنوا من إحباط عملهم، وأمنوا من مكر الله، فغلبوا جانب الأمان في وقوع العقاب على العصاة، فناسب إيراد هذا الحديث في هذا الباب؛ لأن عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى عليه، أورد هذا الحديث في المرجئة؛ لأنهم يرون أن العصاة لا يحاسبون على ذنوبهم، وإذا كانوا لا يحاسبون على ذنوبهم، فهذا يعني أن أعمال الطاعات هي التي تنجيهم، وأن السيئات لا تحبط الحسنات، وأجرهم في ذلك ثابت؛ لهذا المرجئة يرون أن الحسنة ثابتة، لا يبطلها إلا الكفر، ولا تبطلها السيئة، وهذا من العقائد الفاسدة، بل يقال: إن الإنسان بالحسنة يبطل السيئة، وبالسيئة أيضاً يبطل الحسنة، على القدر الذي يراه سبحانه وتعالى على عبده، بحسب مناسبة السيئة لما يقابلها من حسنات.

شرح حديث عبادة بن الصامت: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يخبر بليلة القدر...)

وما ذكر هنا في حديث عبادة بن الصامت عليه رضوان الله تعالى في ليلة القدر، أي: أن الإنسان يحرم الخير بالذنب يصيبه، فالله سبحانه وتعالى رفع أمر تحديد ليلة القدر بسبب الخصومة التي وقعت بين الناس؛ لهذا من الناس من يحرم بركة المال بسبب ذنب بينه وبين الله، وربما يحرم رضا والده ووالدته، أو رضا زوجته بسبب ذنب بينه وبين الله.

ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام لما خرج إلى أصحابه ليخبرهم بليلة القدر فقال: ( إنه تلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيراً لكم )، هذا فيه جملة من الفوائد منها: أن ما يقع على الإنسان من حرمان ينبغي أن يربطه بالذنب، كذلك أيضاً فيه من المسائل أن الأمة قد تحرم بعمومها الخير بسبب أفراد؛ ولهذا الإخبار بليلة القدر لا يتعلق بهذين الاثنين، بل يتعلق بأمة محمد، ويتعلق على الأقل بالمجتمع الذي كان في زمن النبي عليه الصلاة والسلام من أهل المدينة وغيرهم، مع ذلك رفع الإخبار بليلة القدر، والسبب في ذلك هو تلاحي اثنين، وهذا يؤكد الأخذ على يد السفهاء، وأصحاب الفساد؛ لأن ذلك يمنع الخير على الأمة.

وكذلك أيضاً من المسائل في هذا الحديث أنه ينبغي للإنسان إن وقع في شر أو تسبب ذنبه بشر أن يحسن الظن بالله أن ذلك خير له أيضاً؛ ولهذا قال: ( وعسى أن يكون خيراً )، يعني أن الله عز وجل يريد بالأمة خير، ويريد بالرجل خير، وإن كان رفع عنه خيراً، وهذا من إحسان الظن بالله، وهو من وجوه التوبة والإيمان، أي: أن الإنسان إذا نزلت به مصيبة يعلم أنها بذنب، ولكن يقول -من باب الإيمان- إن الله أراد بي خيراً وهو إيقاظ القلب والرجوع إلى الحق، فيرضى بالعقوبة، ويجعلها خيراً، وهذا من إحسان الظن بالله، وأما الانسياق خلف الذنوب والاستمرار على ذلك، وعدم ربط ذلك بالله فهذا مما حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الأمن من مكر الله.

وفي هذا الحديث أيضاً أن الله سبحانه وتعالى لا يلغي الخير عن العامة بسبب الخاصة، وإنما يضيق أمره؛ ولهذا الله عز وجل ما رفع ليلة القدر بالكلية، وإنما رفع تحديدها؛ لأن الذين وقعوا في الذنب الخاصة، ولو وقع في الذنب العامة لرفع الخير كله؛ ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( التمسوها في السبع والتسع والخمس )، وهذا إشارة إلى أن الخير لم يرفع بالجملة، وإنما ضيق بابه.

باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان وعلم الساعة

قال رحمه الله: [ باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان، وعلم الساعة، وبيان النبي صلى الله عليه وسلم له. ثم قال: ( جاء جبريل عليه السلام يعلمكم دينكم، فجعل ذلك كله ديناً )، وما بين النبي صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس من الإيمان، وقوله تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ[آل عمران:85].

حدثنا مسدد، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: أخبرنا أبو حيان التيمي عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم بارزاً يوماً للناس، فأتاه جبريل، فقال: ما الإيمان؟ قال: الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، وبلقائه، ورسله، وتؤمن بالبعث، قال: ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به، وتقيم الصلاة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان، قال: ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: متى الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، وسأخبرك عن أشراطها، إذا ولدت الأمة ربها، وإذا تطاول رعاة الإبل البهم في البنيان في خمس لا يعلمهن إلا الله، ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ[لقمان:34] الآية، ثم أدبر، فقال: ردوه، فلم يروا شيئاً، فقال: هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم )، قال أبو عبد الله: جعل ذلك كله من الإيمان ].

وفي هذا الحديث ما تقدم الإشارة إليه في الفروق بين الإيمان والإسلام والإحسان، وفيه أيضاً أنه جعل كل ما تقدم من الدين، جعل الإسلام والإيمان والإحسان كلها من الدين، وفي إتيان جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسؤاله جواز أن يسأل العالم غيره حتى يتعلم من كان حاضراً، وفيه أيضاً جواز التصنع للمصلحة، أن يتصنع الإنسان الجهل حتى يفهم غيره، وفيه أيضاً جواز التمثل بشخصية شخص أو نحو ذلك؛ ولهذا جبريل جاء متمثلاً بصورة رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه أيضاً إجابة الرجل العالم لعالم يعلم والمقصود غيره؛ ولهذا العالم ربما يخاطب غيره والمقصود لم يبن، سواء من العامة، أو من الأفراد، أو نحو ذلك، وفي هذا إشارة أيضاً إلى أن علم أشراط الساعة والأمارات من الدين الذي ينبغي أن يضبط؛ ولهذا جعل ذلك كله من الدين، فمعرفة التاريخ ومعرفة أشراط الساعة وأحوال الأمم اللاحقة وكذلك السابقة كل ذلك من الدين، وتقدم معنا في أقسام القرآن أنه قصص وأخبار وأخلاق وعقائد وأحكام.

من أسئلة هرقل لأبي سفيان مما يتعلق بالإيمان

قال رحمه الله: [ باب: حدثنا إبراهيم بن حمزة، قال: حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله أن عبد الله بن عباس أخبره، قال: أخبرني أبو سفيان أن هرقل قال له: سألتك هل يزيدون أم ينقصون؟ فزعمت أنهم يزيدون، وكذلك الإيمان حتى يتم، وسألتك هل يرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فزعمت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد ].

هذا فيه ما يتضمن في مسألة زيادة الإيمان ونقصانه، وفيه إشارة أنه كلما كثر أهل الإيمان زاد الإيمان، فمع العدد يزيد، وهذا أمر الجماعة التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم، والإنسان إلى الحق مع أخيه أقرب منه منفرداً، وهذا في الأغلب، وأراد المصنف رحمه الله في إيراده هذا الحديث الإشارة إلى زيادة الإيمان ونقصانه، وأن هذا موجود حتى في بني إسرائيل في مسألة زيادة الإيمان ونقصانه.

باب فضل من استبرأ لدينه

قال رحمه الله: [ باب فضل من استبرأ لدينه.

حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا زكريا عن عامر قال: سمعت النعمان بن بشير يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( الحلال بين والحرام بين، وبينهما مشبهات، لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى المشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله في أرضه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ) ].

لما ذكر المصنف رحمه الله فيما سبق ما يزيد الإيمان من الطاعات، وما ينقص الإيمان من المعاصي والتفريط بترك الواجبات، أراد رحمه الله أن يبين في مسألة المتشابهات أنها أيضاً لها أثر في إيمان العبد، وأنه كلما أكثر الإنسان من الوقوع في المتشابهات فإن ذلك سيجرئه على الحرام حتى ينقص إيمانه من حيث لا يشعر؛ ولهذا ذكر أن الحلال بين والحرام بين، وتقدم في ذلك أن مسألة الواجبات من الأركان وغير ذلك هي من الأمور البينة، وثمة قدر في ذلك بين الحلال والحرام، وهي المتشابهات التي ينبغي للإنسان أن يقلع عنها.

وتقدم معنا مسألة الخوف والرجاء والمحبة، وأنه ينبغي للإنسان أن يتوسط بين الخوف والرجاء على الدوام، ويكون ذلك ممتطياً للمحبة، وهذا له أثر في مسألة من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، فالشبهات نسبية، قد تكون شبهات لديك لكنها محكمة عند غيرك؛ لهذا ينبغي للإنسان في حال الشبهات أن يسأل غيره، لقوله سبحانه: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ[النحل:43]، وقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إنما شفاء العي السؤال )، فينبغي للإنسان إن جهل شيئاً من أحكام الدين أن يعلم أن جهله ذلك دليل على عدم علمه، وعدم علمه لا يعني عدم العلم بها عند غيره، فينبغي أن يسأل.

وإذا تردد الأمر المتشابه لدى الإنسان، لا يدري حلال أو حرام، اختلف فيه العلماء، فينبغي أن يغلب جانب الاحتياط في دينه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ( فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه )، تقدم معنا مسألة الاستبراء للعرض، وأن الإنسان إذا ترك المحرم خشية أن يقع الناس في عرضه هل هذا جائز أم ليس بجائز؟ فذكرنا جوازه، وكذلك أيضاً في تمثيل النبي عليه الصلاة والسلام كالراعي يرعى حول الحمى، وهذا من ضرب الأمثلة في بيان الحق، وليفهم الناس.

قوله صلى الله عليه وسلم: ( ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله )، هذا إشارة إلى أهمية القلب، والذي به يعي الإنسان، فينبغي للإنسان أن يهتم بالأعمال القلبية أكثر من الأعمال الظاهرة؛ ولهذا يقول النبي عليه الصلاة والسلام كما جاء في حديث أبي هريرة: ( إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم، وإنما ينظر إلى القلوب التي في الصدور ).

باب أداء الخمس من الإيمان

قال رحمه الله: [ باب أداء الخمس من الإيمان.

حدثنا علي بن الجعد، قال: أخبرنا شعبة عن أبي جمرة، قال: ( كنت أقعد مع ابن عباس يجلسني على سريره، فقال: أقم عندي حتى أجعل لك سهماً من مالي، فأقمت معه شهرين، ثم قال: إن وفد عبد القيس لما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم قال: من القوم، أو من الوفد؟ قالوا: ربيعة. قال: مرحباً بالقوم، أو بالوفد غير خزايا ولا ندامى، فقالوا: يا رسول الله، إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام، وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، فمرنا بأمر فصل نخبر به من وراءنا، وندخل به الجنة، وسألوه عن الأشربة، فأمرهم بأربع، ونهاهم عن أربع، أمرهم: بالإيمان بالله وحده، قال: أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس، ونهاهم عن أربع عن: الحنتم، والدباء، والنقير، والمزفت، وربما قال: المقير، وقال: احفظوهن، وأخبروا بهن من وراءكم ).

مناسبة هذا الحديث للترجمة ظاهرة، وذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام جعل إعطاء الخمس من الإيمان، وهذا الحديث فيه جملة من المسائل: أولها ما يتعلق بـأبي جمرة مع عبد الله بن عباس، وأنه كان طالباً عنده يتعلم منه، فأجلسه وأكرمه، وكان يضرب له شيئاً من ماله، فجلس عنده مدة شهرين، وأخذ منه جملة من الأحاديث، وقد روى عنه شيئاً من ذلك في الصحيحين وغيرهما.

وفي هذا أيضاً حرص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من وفد عبد القيس على الخير، فإنهم كانوا يأتون جماعات وأحياء وقبائل وقرى إلى رسول الله صلى الله عليه يسألونه.

وفي هذا أيضاً أنه ينبغي لمن زاره أحد أن يسأله ممن هو؟ وممن جاء؟ ومن أي بلد جاء؟ وهذا حتى يتألف الإنسان القلب، بخلاف عدم سؤاله؛ وذلك أنه ربما يتحرج الإنسان من طلب شيء ونحو ذلك، وحينما بادره بالسؤال عنه، أخرج ما لديه من سؤال أو علم، أو حاجة، وإذا وجد جفوة ممن زاره فإنه ربما يحجم عن كثير من الحق الذي أراده، وهذا إضافة إلى استحباب معرفة أحوال الناس، وقبائلهم، وأجناسهم، وبلدانهم، وأعراقهم، ونحو ذلك.

وفي قوله: ( مرحباً بالقوم أو بالوفد غير خزايا ولا ندامى ) إشارة إلى أنه ينبغي للإنسان أن يرحب بأضيافه مرة تلو أخرى، فهذا الترحيب جاء بعد قعودهم وبعد معرفة أحوالهم، وأن يخصهم إذا عرفهم بأسرهم أو بعوائلهم بمزيد ترحيب كي يتألف قلوبهم، وأن يقربهم إليه، وهذا لقبول الحق، وهؤلاء ما جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا طلباً للحق واتباعاً له.

وكذلك أيضاً قد بينوا عذرهم، أنهم لا يستطيعون أن يأتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في الشهر الحرام؛ لأنه ليس فيه قتل، ولا قطع طريق، فإن العرب كانت تعظم الأشهر الحرم، فلا يقطعون فيها السبيل، وبينوا ذلك بقولهم: ( وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر ) .

وفي هذا أنه ينبغي للإنسان أن يهتم بنوع العلم، إذا كان لا يجد من عمره وقتاً يأخذ الأهم؛ ولهذا قالوا: ( يا رسول الله أخبرنا بأمر فصل نخبر به من وراءنا ) إشارة إلى أنه ينبغي للإنسان إذا كان الوقت ضيقاً، أن يأخذ الأهم في ذلك والخلاصة، وأن يبين حاله.

وكذلك أيضاً إذا نزل الطالب عند العالم، أن يعرف مثلاً مدة إقامته: أسبوعاً، أو شهراً، أو سنة، أو سنتين، أو نحو ذلك، أن يخبره أن مدة إقامته كذا، فما هو الواجب علي أن آخذ من العلم في مدة الإمة.

وهذا فيه أنه ينبغي أن يكون الطالب والعالم على علم فيما بينهما من جهة الحاجة، وكذلك الحال حتى في أمر الدنيا، أن يعلم الإنسان ما يأخذ من جهة العلم والمعرفة، وكذلك ما كان فضلاً، وما كان واجباً عليه بعينه.

وفي هذا أيضاً أنه ينبغي للعالم أن يسأل عن بعض المجمل مما يبينه للناس؛ لهذا النبي عليه الصلاة والسلام لما أمرهم بالإيمان قال: ( أتدرون ما الإيمان؟ )، يختبر ما لديهم من علم ومعرفة ونحو ذلك، فالسؤال على سبيل الاختبار، ومزيد تفصيل وهو من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر جملة من أركان الإسلام، وقال: ( وأن تعطوا من المغنم الخمس ) .

وإنما لم يذكر في ذلك الحج لاحتمالين: إما أن يكون ذلك لم يفرض، وإما أن يكون ذلك مما يشق عليهم، وهم قد أرادوا المختصر في أعمالهم، فأخبرهم النبي عليه الصلاة والسلام بما يحتاجون، ونهاهم عن الحنتم والدباء والنقير والمزفت، وهي من أنواع الخمر الذي يتخذونه من بعض الخضروات، فيأخذون مثلاً من الدباء ويفرغونها من محتواها، ويضعون فيها شيء مثلاً من العنب أو التمر، ويكتمونه، ثم يتخمر فيه أياماً، وهذا ربما كان مشتهراً، فعلمه النبي عليه الصلاة والسلام من أحوالهم؛ لهذا ينبغي للإنسان أن يعرف أحوال المخاطبين، وما هم فيه في بلدهم، ما الذي ينتشر عندهم؟ ينتشر الخمور، أو ينتشر الزنا، أو ينتشر مثلاً الكذب، أو ينتشر غيره، ثم ينزل عليهم النص لحاجتهم، وهذا من الحكمة ومن الفقه في الدين.

وفي قوله: ( احفظوهن ) إشارة إلى أهمية الحفظ، ورعايته وصيانته.

قال: ( وأخبروا بهن من روائكم ) إشارة إلى أن تبليغ الدين لا يقتصر على العالم الكامل، بل حتى على المتعلم علماً يسيراً أن يبلغه لمن وراءه.

باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة ولكل امرئ ما نوى

قال رحمه الله: [ باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة ولكل امرئ ما نوى، فدخل فيه الإيمان، والوضوء، والصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، والأحكام، وقال الله تعالى: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ[الإسراء:84] على نيته، نفقة الرجل على أهله يحتسبها صدقة، وقال: ( ولكن جهاد ونية ) .

حدثنا عبد الله بن مسلمة، قال: أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم، عن علقمة بن وقاص، عن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( الأعمال بالنية، ولكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه ) ].

شرح حديث عمر: (الأعمال بالنية، ولكل امرئ ما نوى...)

أمر النية معلوم، والنية مشتقة من النوى، وهو في جوف الثمرة؛ ولهذا النية محلها القلب، وإخراجها من الجوف يخالف مقصدها، فمن جهر بالنية أخرج المعنى عن حقيقته وما وضع عليه، والجهر بالنية بدعة، والنية داخلة في سائر الأعمال كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ( إنما الأعمال بالنيات )، أي: كل عمل يعمله الإنسان يحتاج إلى نية حتى يثاب ولا يعاقب عليه، وأما بالنسبة للتروك فيحتاج للنية حتى يكسب الإنسان الأجر، ولا يحتاج للنية لرفع الإثم، وإنما المقصود بذلك أن يدع، فقوله: ( الأعمال بالنية، ولكل امرئ ما نوى ) يدخل فيه أيضاً الأقوال من التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير، فالإنسان يحتاج للنية، لأن الذي يناقض ذلك الرياء.

قال صلى الله عليه وسلم: ( ولكل امرئ ما نوى ) أي: ليس له غير ما نوى، فليس له، ما يفعله الإنسان عفواً وخطأ، أو يفعله رياء، لقول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة قال: ( قال الله عز وجل: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من أشرك معي غيري تركه وشركه ).

قال صلى الله عليه وسلم: ( فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله )، الهجرة على نوعين: هجرة الذنوب والمعاصي، وهجرة البلدان، وهجرة الذنوب والمعاصي أعظم من هجرة البلدان؛ لأنه يلزم من هجرة المعاصي هجرة البلدان، ولا يلزم من هجرة البلدان هجرة المعاصي؛ لأن المعصية تصاحب الإنسان، قد يكون الإنسان مرتكباً لكبيرة وهو وسط مؤمنين؛ لهذا أقول: إنه ينبغي للإنسان أن يقلع عن النوعين.

وقوله: ( فهجرته إلى الله ورسوله ) إشارة إلى منزلة الهجرة حيث جعل الثواب وجواب الشرط هو كالشرط.

قال: ( ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها ) الدنيا سميت دنيا لدنوها، وقيل: لقرب منزلتها بالنسبة للآخرة؛ ولهذا تسمى بعض الأشياء بأنها دنيا بالنسبة للقصوى، وقيل لدناءتها وحقارتها.

قال: ( أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هجر إليه ) يعني: أن الإنسان في مثل ذلك لا يثاب، وإنما يأخذ نصيبه من أمر الدنيا، وهذا الحديث له شروح، منها منفردة، ومنها عامة، وقد شرحه السيوطي رحمه الله في رسالة سماها "بلوغ الآمال في شرح حديث إنما الأعمال"، وتكلم عليه بإسهاب الحافظ ابن حجر، وغيره من الأئمة.

شرح حديث أبي مسعود: (إذا أنفق الرجل على أهله يحتسبها فهو له صدقة)

قال رحمه الله: [ حدثنا حجاج بن منهال، قال: حدثنا شعبة، قال: أخبرني عدي بن ثابت، قال: سمعت عبد الله بن يزيد عن أبي مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أنفق الرجل على أهله يحتسبها فهو له صدقة ) ].

إنما نص النبي عليه الصلاة والسلام على إنفاق الرجل على أهله، لأنه غالب ما يصدر من الناس على سبيل العادة، وأن الإخلاص لا يستحضرونه، ويظنون أن الله عز وجل لا يثيب عليه؛ لهذا خص قضية الأهل؛ لأن الإنسان يدفعها كرماً من عنده، وهو ما تتشوف لديه النفوس في الغالب، ويغيب فيه النية، وما يدفعه الإنسان من غير تشوف نفس يستحضر النية؛ لأن النية هي التي تخرج؛ لهذا النبي عليه الصلاة والسلام قال في عكس ذلك مما تهواه أنت أخلص فيه حتى تثاب عليه؛ لهذا الإنسان الذي يستروح الطاعات، ويرتاح لها، ويحب مثلاً أن يذهب إلى مكة، وأن يعتمر كل شهر أو كل شهرين، أو يذهب مثلاً إلى زيارة أقاربه، يجد متعة وراحة بصلة الأرحام والاجتماع ونحو ذلك، نقول: تثاب على هذا فقط أخلص ولو ارتحت في ذلك؛ لهذا ينبغي للإنسان أن يغلب جانب النية حتى فيما يفعله في أمور العادات، أو ما يتحبب إليه من جهة النفس.

شرح حديث سعد: (إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها...)

قال رحمه الله: [ حدثنا الحكم بن نافع، قال: أخبرنا شعيب عن الزهري، قال: حدثني عامر بن سعد عن سعد بن أبي وقاص أنه أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعل في في امرأتك ) ].

وهذه النفقة عامة، حتى ما كان في البهائم، فإنه في كل كبد رطب أجر، فإذا كان هذا في البهائم فبني آدم من باب أولى، ينبغي للإنسان أن يحتسب، وفي هذا الحديث ما تقدم من حديث أبي مسعود .

قال رحمه الله: [ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ).

وقوله تعالى: إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ[التوبة:91] ].

الدين النصيحة يعني: مجموعه وكله هو النصيحة، والمراد بالنصح هو الخلوص وتمحض الشيء للإنسان، وهذا الحديث وهو قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( الدين النصيحة ) قد وصله الإمام مسلم رحمه الله في كتابه الصحيح من حديث تميم الداري .

وقوله: إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ[التوبة:91] أي: أخلصوا العمل لله عز وجل، وأيضاً كان عملهم الذي يبادرونه في غيرهم كان عن صدق وإخلاص، وكذلك حباً ووفاء للناس وإتيانهم بالخير.

شرح حديث جرير: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة...)

قال رحمه الله: [ حدثنا مسدد، قال: حدثنا يحيى عن إسماعيل، قال: حدثني قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله، قال: ( بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم ) ].

وهذا فيه منزلة النصح؛ ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام جعل يبايع عليه، وإذا بايع النبي عليه فإنه ينبغي أن تكون بيعة المسلمين أيضاً لحاكمهم على النصح، والنصح لهم ولغيرهم ببيان الحق، وذلك أن الأمة إذا غاب عنها معنى التناصح ضلت، وبقي الخطأ وانتشر؛ لهذا ينبغي للمسلم ألا يبايع بيعة على السمع والطاعة مجرداً بل والنصح فيها، وفيه إشارة أيضاً أنه إذا كان هذا من النبي عليه الصلاة والسلام، فإنه لغيره من باب أولى، والنبي عليه الصلاة والسلام هو المعصوم.

وقوله: ( والنصح لكل مسلم ) وهذا شامل لجميع الخلق مهما كانت منزلتهم، النبي عليه الصلاة والسلام يعان من أصحابه؛ ولهذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما من نبي إلا وله بطانتان: بطانة ) تأملوا اللفظ ( بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر )، نبي له بطانة تأمره بالمعروف، وتنهاه عن المنكر هل يعقل هذا؟ هذا إذا كان في مقام نبي، فكيف بالسلطان أو الأمير؟! كيف يترفع عن هذا؟ يجب عليه أن يؤمر بالحق، أبى أو لم يأبى، وهذا من البطانة التي ينبغي للإنسان أن يتوجه بها خلوصاً لله سبحانه وتعالى، لوالٍ، أو لعالم، أو لصديق، أو لجار، أو لقريب أن يمتحض له بالنصيحة والصدق، فإذا كان هذا الأمر يتوجه لبطانة النبي فإنها لمن دونه من باب أولى؛ لهذا النبي عليه الصلاة والسلام كان يبايع على هذا الأمر.

وفيه إشارة إلى تحقق أمرين أن الحق لا يثبت إلا بأمرين: بالدعوة إلى الحق الوارد، والنهي عن المخالف له، فالحقائق لا تثبت إلا بشيئين: ببيان الحق، والنهي عن ضده، فإذا اختل هذا الميزان تسلل شيء من هذا إلى هذا فاختلط الحق بالباطل؛ لهذا نقول: إن مسألة النصيحة هي كحال السياج الذي يفصل بين الحق والباطل.

شرح حديث جرير: (عليكم باتقاء الله وحده لا شريك له والوقار والسكينة...)

قال رحمه الله: [ حدثنا أبو النعمان، قال: حدثنا أبو عوانة عن زياد بن علاقة، قال: سمعت جرير بن عبد الله يقول يوم مات المغيرة بن شعبة قام فحمد الله وأثنى عليه، وقال: ( عليكم باتقاء الله وحده لا شريك له، والوقار والسكينة حتى يأتيكم أمير، فإنما يأتيكم الآن، ثم قال: استعفوا لأميركم، فإنه كان يحب العفو، ثم قال: أما بعد فإني أتيت النبي صلى الله عليه وسلم قلت: أبايعك على الإسلام، فشرط علي: والنصح لكل مسلم، فبايعته على هذا ورب هذا المسجد إني لناصح لكم، ثم استغفر ونزل ) ].

في هذا الحديث أنه ينبغي لأهل العقل والعلم في حال فزع الناس ونزول مصائب بهم، كموت السلطان، أو ورود ثورات، أو نحو ذلك، أن يقوم أهل العلم ويسكت الناس؛ ولهذا جرير بن عبد الله لما مات المغيرة قام بتسكينهم، قال: عليكم بالسكينة؛ لأن الناس تفزع وتوجل وتضطرب، وربما تتخذ قولاً أو رأياً أو تعمل شيئاً مما يخالف أمر الله سبحانه وتعالى؛ لهذا قام وحمد الله وأثنى عليه اعتقاداً أنه يعمل ما أوصاه رسول الله صلى الله عليه وسلم به في مبايعته، وهو النصح لكل مسلم، وهذا استشعار لذلك الأمر؛ لهذا حمد الله وأثنى عليه، ويشرع للإنسان أن يحمد الله وأن يثني عليه في الخطب؛ ولهذا قال: [ عليكم باتقاء الله وحده لا شريك له، والوقار والسكينة ] وفيه إشارة إلى ربط الناس بالتقوى، حتى في حال اضطراب الناس فيما يتعلق في السياسات ونحو ذلك، ربطهم بالتقوى، والإيمان بالله، وكذلك دعوتهم إلى السكينة، وكذلك الحرص على جمع الناس وتأليفهم والألفة فيما بينهم.

كذلك فيه إشارة إلى أن الأمم لا تصلح إلا بسلطان، ولو كان ظالماً؛ لأنه يمنع كثيراً من المظالم التي ربما لا يستحضرها الإنسان، ربما الإنسان يتمنى زوال الحكام؛ لأنه يستحضر ظلماً معيناً، صورة معينة، لكن لا يعلم كم من المظالم التي تدفع، والشرور من السرقات، والسطو، والزنا، وكذلك القتل، وغير ذلك من الأمور التي كان يمنعها السلطان، فيستحضر نوعاً من أنواع المظالم ينشغل ذهنه بها، فيجعل تلك الأمور، أو تلك الأمنيات، أو زوال السلطان الفلاني والحاكم الفلاني مرتبطاً بما في ذهنه؛ لهذا العاقل والعالم والعارف بالله عز وجل هو الذي يعلم من المصالح ما بطن، كما يعلم الناس ما ظهر.

ولهذا قوله: ( استعفوا لأميركم فإنه كان يحب العفو ) فيه إشارة إلى مبدأ المسامحة والعفو فيما يرد من الناس من أخطاء فيما بينهم، وخاصة ما يتعلق بينهم وبين الولاة، خاصة فيما مضى.

ثم قال: ( أما بعد فإني أتيت النبي عليه الصلاة والسلام ) وفيه إشارة إلى أن الإنسان يقول: أما بعد كلما فصل، وجاء بمعنى آخر، فتلك فصل خطاب ولو كان في ثنايا الخطاب، وفي هذا أنه ينبغي للإنسان إذا أنشأ كلاماً أو قال شيئاً أن يبين مبرره في هذا القول، فهو قام فيهم مجرداً، فربما يخشى أنه يريد بذلك تصدراً، أو يظنون أنه ربما يريد الإمارة، أو أن يبرز وجهه، أو ليراه الناس، أو يستغل الظروف، ونحو ذلك، لكن ينبغي له أن يذكر المبرر الذي أخرجه في مثل هذا، كما قام هنا قال: ( فإني أتيت النبي عليه الصلاة والسلام قلت: أبايعك على الإسلام، فشرط علي: والنصح لكل مسلم، قال: فبايعته على هذا، ورب هذا المسجد إني لناصح لكم، ثم استغفر ونزل )، وفي هذا إشارة إلى أنه لا حرج على الإنسان أن يبدي صدقه ونيته، ويقسم على هذا، أني والله ما أردت إلا النصيحة لك، ولو كان الذي أمامك يصدق لا حرج عليه أن يبدي ما في قلبه، كذلك أن يختم حديثه بالخلوص والنصح؛ ولهذا في ختام هذا الدرس أقول: ورب هذا المسجد إني لناصح لكم استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح كتاب الإيمان من صحيح البخاري [5] للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي

https://audio.islamweb.net