إسلام ويب

تتابع علامات الساعة الكبرى كتتابع انفراط العقد بعد قطعه، فما أن يحصل خراب يثرب وعمران بيت المقدس حتى تقع بين المسلمين والروم ملحمة عظيمة بالشام، وهذه الملحمة تكون تمهيداً لما بعدها من فتح القسطنطينية وخروج المهدي والقحطاني وعيسى ابن مريم.

إخراج الأرض من كنوزها

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:

فقد تقدم معنا فيما مضى ذكر جملة من أشراط الساعة أو جل أشراط الساعة الصغرى، ونكمل ما تبقى من أشراط الساعة الصغرى.

من هذه الأشراط: إخراج الأرض من كنوزها، وهذا قد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدة معان، منها: ما رواه محمد بن فضيل ، عن أبيه ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( تقذف الأرض بكنوزها كأمثال الأسطوان من الذهب والفضة، حتى يأتي القاتل فيقول: على مثل هذا قَتلت، ويأتي القاطع -يعني: رحمه- فيقول: على مثل هذا قطعت، ويأتي السارق فيقول: على مثل هذا قطعت يدي، فيدعونه ولا يأخذون منه شيئاً )، وقد جاء تخصيص ذلك من بعض البلدان، وهنا قد جاء على وجه العموم.

وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أن الفرات يحسر عن جبل من الذهب، يقتتل عليه الناس، فيقتل من كل مائة تسعة وتسعون، كل واحد منهم يظن أنه الناجي )، وقد يقال: ليس في هذا ما أشار إليه النبي عليه الصلاة والسلام على سبيل العموم؛ وذلك أن الأول كان فيه مقتل، وأما الثاني فكان فيه قتل، فيظهر أن ما كان في العراق من انحسار الجبل عن الذهب يكون في ابتداء خروجه؛ ولهذا قال في الخبر من حديث أبي هريرة عليه رضوان الله تعالى قال: ( يأتي القاتل فيقول: في مثل هذا قتلت )، يعني: قتلت الناس على هذا المال، وأما في حال الاستفاضة كأن الناس أمسكوه، قال: ( ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئاً )، وبه يعلم أن استفاضة المال وكثرتها تكون بعد انحسار الفرات عن جبل من الذهب.

الحكمة من تقييد نوعية الكنوز بالذهب والفضة

وثمة جملة من المسائل ينبغي الإشارة إليها في هذا، وهي أن مسألة المال المخصوص هنا في الذهب والفضة كما في الحديثين: في قوله عليه الصلاة والسلام: ( تقذف بأمثال الأسطوان من الذهب والفضة )، هل هو مقيد بهذا النوع أم المراد بذلك نفاسة المال؟ هذا محتمل أن يكون على الذهب والفضة على سبيل التخصيص، ومن الاحتمال أيضاً أن يكون المراد به ما هو أوسع من ذلك من خروج الأرض كنوزها سواء كان من المعادن أو من غيرها، وإنما كان الإشارة إلى الذهب والفضة لأن كل ما كان له قيمة عند الناس إنما هو راجع عنه؛ ولهذا فإن النقدين الذهب والفضة به يتعامل الناس، وبه يتبايع الناس من جهة البيع والشراء، فالإنسان يشتري طعامه من ذهب، أو يشتري أرضه من ذهب، وربما يزرع بستاناً من ذهب، واستحالة ذلك في الأزمنة المتأخرة من انتشار العملات النقدية والعملات الورقية هي أصلها من الذهب والفضة، وأشير إلى هذا الأمر إلى أنه أصل كل شيء.

وربما يشار إلى الثروات التي تخرجها الأرض سواء من النفط ومشتقاته لكي يعضد الذهب والفضة، فمنها يستلهمون من جهة المشتقات القيمة ومن جهة التحصيل؛ والإنسان قد يريد أن يحوز الذهب والفضة ولو دفع ما لديه من أموال، ونص عليها تخصيصاً لأنها أبلغ للفهم، وقد يكون المراد من ذلك أي الذهب والفضة على سبيل التخصيص لشدة تعلق الناس بها.

عظم الأمل مع تعلق القلب بالمال

ومن هذه المسائل المتعلقة في هذا أن الإنسان كلما تعلق قلبه بالمال عظم أمله، حتى إنه يرى الهلاك العظيم البين الذي يراه ذو البصيرة بأدنى نظر وأدنى تأمل فلا يراه هلاكاً، وإنما يرى تلك النافذة في حائط الهلاك يرى أنه هو الناجي منها؛ لهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام في الخبر: ( يهلك من كل مائة تسعة وتسعون، فيبقى واحد، كل واحد منهم يظن أنه الناجي ) باعتبار ذلك الواحد، وهذا يدل على قوة الأمل في الناس، وإذا قوي الأمل في الناس لم ينظروا إلى أسباب الهلاك، فانغمسوا في الدنيا وشهواتها وملذاتها، وهذا من أعجب أمور الأمل وسعته عند الناس.

قلة قيمة السلعة المعروضة

ومن المسائل أيضاً في هذا الباب الإشارة إلى قاعدة أو فائدة يذكرها أهل الاختصاص وأرباب الأموال أنهم يقولون: إن السلعة إذا كثر العرض قل الطلب، وإذا قل الطلب قلت القيمة، وهذا بينها تلازم، وهذه قاعدة اقتصادية معروفة من هذا الخبر؛ لأن السلعة إذا انتشرت في الناس وأصبحت تعرض قل طلب الناس عليها، وإذا قل طلب الناس عليها قلت قيمتها، وإذا قلت قيمتها تدرج ذلك إلى انعدامها؛ لأنها توفرت في أيدي الناس كلهم.

استفاضة المال

وربما يكون هذا الخبر فيه إشارة إلى الفتنة العظيمة التي تدب في الناس حتى ينصرفوا عن المال، فلا يريدون ولا يمكن أن يريدوا المال، وهذا يتضمن ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث عوف بن مالك لما قال له: ( أعدد ستاً بين يدي الساعة )، قال عليه الصلاة والسلام: ( ثم استفاضة المال حتى يعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطاً )، وهذا الحديث متضمن للسخط أن الإنسان إذا أعطي المال مطالباً بالمزيد، وهنا في الخبر أنه يدع المال، مما يدل على وجود هذه الأحوال الثلاثة في المال:

الحال الأولى: هو بسبب انحسار الفرات عن جبل من ذهب، فيقتتل الناس عليه.

الحال الثانية: أن الناس يفيض فيهم المال، فيعطى الإنسان مائة دينار ويبقى ساخطاً للمزيد.

وبعد الاستفاضة وهي الحالة الثالثة حينما يستكثر المال عند الناس ( يدعونه فلا يأخذون منه شيئاً )، يعني: أننا كنا نقتتل على هذا المال، ونتقاتل عليه، ونقطع الأرحام، وتقطع أيدينا عليه، ثم بعد ذلك يدعونه ولا يأخذون منه شيئاً.

والذي يظهر والله أعلم أن هذه تكون في زمن واحد؛ ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( القاتل يأتي فيقول: في مثل هذا قتلت ) يعني: أنه أغلب الأحوال، الأمر الثاني أن السارق يأتي ( فيقول: في مثل هذا قطعت يدي )، أي: أنه بنفسه، يقول: قطعت يدي في مثل هذه الحال، مما يدل على أنه قد مر بهذه الأحوال الثلاثة في زمن واحد.

وربما يكون أن المراد على سبيل الإجمال، وفي آخر الزمان في زمن المهدي وعيسى .

واستفاضة المال ليس المراد منها الاستفاضة العينية للمال، وإنما في عيون مالكيها يرونها كثيرة، ومعلوم أن الإنسان كلما قل الأمل في قلبه ولو ملك ديناراً ظن أنه ملك الدنيا وحازها، بخلاف لو تعلق المال بقلبه لو ملك المثاقيل لظن أنها قليلة، وهذا يرجع إلى طبع الإنسان ويرجع إلى بذل المال من جهة عدده؛ ولهذا يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( لو أعطي ابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثاً، ولا يملئ جوف ابن آدم إلا التراب )، وهذا يدل على أن الإنسان إذا تعلق بالمال وعظم أمله ولو كان المال كثيراً فإنه يطلب المزيد.

وهذا فيه إشارة إلى ضعف الأمل، والفتنة إذا عظمت في حياة الناس، وكثر في ذلك القتل، وانشغلوا عن المال أصبح الناس منشغلين بما يعظم عندهم وقت الفتنة، وهذا يعلم في حال المعارك التي تقع في كثير من البلدان، ففي حال الفتن التي تتعلق بالدماء والأعراض، تجد الناس لا يلتفتون إلى الأموال، وإنما كل يذود عن نفسه وعن عرضه، وهذا معلوم مشاهد.

ويظهر لي والله أعلم أن استفاضة المال بهذه الصورة والكثرة حتى إن الأرض تقذف ما فيها من الذهب والفضة على شكل الإسطوان، وهذا متضمن الكثرة، ومتضمن أيضاً صفة الخروج أن يكون كالحجر، وقد يكون هذا متضمناً للزلازل وانشقاق الأرض ونحو ذلك حتى يستهين الناس بهذا، فيذهلون من انشقاق الأرض عن كسب المال، وكل ذلك محتمل، سواء ما تقدم الإشارة إليه من جهة كم المال، أو من جهة الأمل الذي يتعلق في قلوب الناس.

المراد بالعدد في قوله: (يقتل من كل مائة تسعة وتسعون)

وما جاء في هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: ( يقتل من كل مائة تسعة وتسعون ) هذا ليس على ظاهره، فيما أرى، والله أعلم أن المقتلة ليست المراد بها هذا العدد، والعرب تطلق أمثال هذه الأعداد سواء كان التسعين، أو التسعمائة، أو السبعين تريد بذلك التكثير، والدليل على ذلك فيما يظهر والله أعلم ما جاء في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( يقال لـآدم يوم القيامة: يا آدم! أخرج بعث النار، قال: يا رب! وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون في النار وواحد في الجنة )، وقد جاء في بعض الأخبار: ( من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون )، وجاء في بعض الأخبار: ( من كل مائة تسعة وتسعون )، فالحديث الثاني أنه في كل ألف يكون عشرة في الجنة وتسعمائة وتسعون في النار، وأما في اللفظ الآخر وهو الأشهر أنه يكون في الجنة واحد، ومن الألف تسعمائة وتسعون إلى النار، وثمة فرق بين هذا العدد مما يدل على أنه ليس المراد بذاته، وإنما المراد التكثير، أي: أن الناس يقتتلون، فيرى الإنسان الناس صرعى أمامه على هذا المطلب.

تقديم المال على حفظ النفس

وفيه أيضاً من الفوائد التي تتعلق بهذا: أن الإنسان لطمعه يقدم المال على النفس؛ على حفظ نفسه، فإذا طلب أحد أخذ المال دفع عن نفسه؛ ولهذا ترى من هذه الثمرات ما تقدم الإشارة إليه في مسألة الزهد بالجهاد، والذود عن حياض الدين والملة، وهو فيه مظنة إزهاق النفس، وإذا كان الإنسان يرى الناس صرعى أمامه لأجل دنيا، ويريد دنيا، فهو من باب أولى لا يكون من أهل الدنيا، فإن هذا من مظنة الهلكة، والهلكة في سبيل الله أقل من الهلكة على هذا المال، فإن العدد ذكر هنا أنه كثير، بخلاف المقتلة التي تكون في سبيل الله والعدد في ذلك أقل بكثير، مما يدل على أن الناس إذا تعلقت قلوبهم بالدنيا والمال قل حبهم للقتال في سبيل الله، وانصرافهم إلى اللهو في الدنيا ومتعها في سائر الأعذار، وتقدم الإشارة إلى هذا المعنى.

عمران بيت المقدس وخراب يثرب

ومن أشراط الساعة وعلاماتها ما رواه الإمام أحمد و أبو داود و الترمذي من حديث عبد الرحمن بن ثوبان عن أبيه، عن مكحول ، عن جبير بن نفير ، عن مالك بن يخامر ، عن معاذ بن جبل أن سول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( عمران بيت المقدس خراب يثرب، وخراب يثرب خروج الملحمة، وخروج الملحمة فتح القسطنطينية، وفتح القسطنطينية خروج الدجال ).

وفي هذا الحديث تسلسل لمجموعة من الأحداث ينبغي أن تضبط على الترتيب؛ حتى لا يقع خلط في فهم بعض أشراط الساعة وعلاماتها.

عمران بيت المقدس

أول هذه الأشراط التي ذكرها النبي عليه الصلاة والسلام ( عمران بيت المقدس ) وجاء بعده متلازماً مع خراب يثرب وهي المدينة، والمراد بالخراب هو الهجران، وقد جاء تفسير ذلك في البخاري من حديث أبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( لتتركن المدينة على أحسن ما تكون )، وجاء عن النبي عليه الصلاة والسلام أيضاً من حديث أبي هريرة وغيره في المسند وغيره، قال: ( لتتركن المدينة حتى لا يغشاها إلا الكلاب فيغذي -يعني: يبول- على السواري)، يعني: سواري مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا متضمن أن عمران بيت المقدس بالمباني، وكذلك الناس طمعاً لا في دين، وإنما الطمع في دنيا، وهذا يدل على انفتاح الخير في أبواب الشام بعد ما كان الانفتاح في جزيرة العرب، وكذلك في المدينة على وجه الخصوص؛ ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( عمران بيت المقدس خراب يثرب )، أي: أن علامة عمران بيت المقدس هو خراب المدينة.

المقصود بعمران بيت المقدس

ويظهر في هذا جملة من المعاني:

أولها: العمران المادي، وهذا ظاهر في هذا الخبر.

ثانياً: حصول الخلافة في بيت المقدس، والدليل على هذا ما جاء عند أبي داود وغيره من حديث ضمرة ، عن ابن زغب ، عن عبد الله بن حوالة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا ابن حوالة ! إذا رأيت الخلافة في بيت المقدس فانتظر الزلازل، والبلابل، والأمور العظام، والساعة حينئذٍ كيدي من رأسك. ووضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على رأسه )، وإسناده لا بأس به، وقد جاء من طرق متعددة عن عبد الله بن حوالة ، وعبد الله بن حوالة من أهل حمص وممن بقي فيها، واعتماده لفقه هذه المسائل دليل أخذ فقهاء حمص عن ابن حوالة ، وهذا الخبر مما هو مقبول عند أئمة النقد.

والعمران على نوعين: عمران خلافة، تكون خلافة المسلمين سواء كانت على استقامة أو اعوجاج، ويظهر أنها على اعوجاج، وليست على استقامة في مثل هذه الحال؛ لأن هذا متضمن لخراب يثرب، والدليل على هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث آخر كما في مسلم من حديث العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة : ( ليقولن الرجل لقريبه وابن عمه: هلم إلى الرخاء، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، إن المدينة لتنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد )، وفي هذا الإشارة أن الناس يتواصون حتى وإن كانوا في المدينة ( هلم إلى الرخاء ) يعني: إلى الشام، ويتركون بذلك المدينة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: ( المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون )، وهذا فيه إشارة إلى أن أكثر الناس يذهبون إلى الشام وبيت المقدس طلباً للدنيا، وطلباً للمتع، وعمرانها بالمادة، وكذلك الملبس والمأكل والمشرب ونحو ذلك.

أحوال الشام من جهة الفتنة

وهذا لا يعني أن الشام ليست بموضع أرض مباركة، فقد جاء بيان أن الشام من الأرض المباركة في جملة من الأحاديث، وتقدم الكلام عليها على وجه الخصوص في محاضرة بعنوان (المسجد الأقصى فضائل ومسائل) يحسن الرجوع إليه. ولكن علاقة الشام بالنسبة لهذا الموضوع من جهة الفتنة على أحوال متعددة:

الحال الأولى: إذا كان يتضمن عمران بيت المقدس خراب المدينة فهذه مذمة وليست بمحمدة، وعمران بيت المقدس يظهر أنه بعد فتح المسلمين لبيت المقدس، ويكون بعد ذلك سعة في المال وترك للمدينة، والمدينة هي أفضل البقاع بعد مكة عند عامة العلماء وجمهورهم.

الحال الثانية: في حال الفتن والملاحم والقتال فإن الذهاب إلى الشام أفضل من أي بلد آخر، بل أنه أولى من الرجوع إلى مكة والمدينة، لا للفضل، وإنما أن الشام هي أرض المحشر، وأرض الملحمة بين المسلمين والروم، والدليل على ذلك ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح من حديث عوف بن مالك أن النبي عليه الصلاة والسلام قال له: ( أعدد ستاً بين يدي الساعة )، قال عليه الصلاة والسلام في هذا الخبر: ( ثم يكون بينكم وبين بني الأصفر عهد، ثم يغدرون، فيأتونكم على ثمانين غاية، على كل غاية مائة وعشرون ألفاً )، يعني: مائة وعشرون فرداً من المقاتلين، وهذا قريب من المليون إلا يسيراً، وهذا عدد مبالغ فيه جداً لا يمكن إلا مع التجييش الكثير المتضافر، وهذا الحديث في صحيح الإمام البخاري ، وهو من أصح الأحاديث في أشراط الساعة، ويكون ذلك في أرض الشام.

خروج الملحمة بالشام وما يلحقها من علامات

ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( وخراب يثرب خروج الملحمة ) والملحمة تكون بالشام.

وقد جاء دليل ذلك على الصراحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في جملة من الأحاديث، قال عليه الصلاة والسلام: ( تقاتلون الروم على نهر الأردن، أنتم شرقيه وهم غربيه )، وهذا دليل على أن المعركة تكون في الشام.

المراد بالشام جغرافياً

والمقصود بالشام من أطراف العراق من جهة الغرب، وكذلك ما تسمى بسوريا بجميع أطرافها وبلدانها، وكذلك الأردن ولبنان وفلسطين، وشيء يسير من شمال الجزيرة العربية داخلة في بلاد الشام.

وهذه التقسيمات الجغرافية الحديثة لا صلة لها بالأمصار النبوية التي تذكر في الأحاديث، ومعلوم أن التقسيمات الإقليمية التي تحدث سواء من أبواب التنظيم السياسي، أو التقسيمات الدولية وغير ذلك لا شأن لها، ومعلوم أن الحجاز يمتد إلى تبوك بإجماع أهل المعرفة من أهل الإسلام، فتبوك تكون داخلة في أبواب الحجاز إلى المدينة، وحكمها في سائر الأحكام كحكم الحجاز حكماً واحداً، وإذا أخذت إلى جهة المشرق بدأت ودخلت في الشام، وإذا نزلت يسيراً دخلت في بوابة مصر من جهة الشمال.

والمقتلة والملحمة التي تكون بين المسلمين هي بينهم وبين الروم، وهي قريب من نهر الأردن، وتمتد إلى دمشق ببلدة يقال لها الغوطة، وقد جاء هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في المسند والسنن وغيرها، والغوطة هي بلدة قريبة من دمشق مما يدل على أن الصراع يمتد في هذه المنطقة إلا أنهم لا يقدرون ولا يصلون إلى جزيرة العرب في ظاهر النصوص.

تمهيد الملحمة لغيرها من الأحداث

وهذه الملحمة التي أخبر عنها النبي عليه الصلاة والسلام هي تكون قبل فتح القسطنطينية، بل هي تمهيد لها، وقبل خروج المهدي والقحطاني وعيسى ابن مريم، فهي كالتمهيدات له.

وقيل: إن بين الملحمة وبين ما يأتي من الفتوحات وخروج المهدي سبعة أشهر، ومعلوم أن المهدي هو في زمن عيسى يأتي المهدي ، وقيل يتبعه بعد ذلك القحطاني، ثم يأتي بعد ذلك عيسى، والمقطوع به أن المهدي هو قبل عيسى.

وهل يكون المهدي معقباً لعيسى؟ ظاهر النصوص تدل عليه أنه يبدأ بخروج المهدي ، ثم بعد ذلك يخرج عيسى عليه السلام ويوافق المهدي .

وهل هو الذي يصلي بالناس أم القحطاني؟

النصوص في ذلك متقاربة ومحتملة، والذي يظهر والله أعلم أن الذي يصلي بالناس أنه أمير المؤمنين في زمنه، ولكن ليس عيسى عليه السلام.

والملحمة هنا هي الفيصل بين أهل الإسلام، ثم تمتد هذه الملحمة حتى تصل إلى فلسطين وفتح بيت المقدس، وهو الفتح الأخير.

نطق الشجر والحجر وغيرهما

ويتبع هذا جملة من علامات الساعة التي تكون كالعقد، انفراطاً وتمهيداً لنشر الخير في الأرض، وهذا قد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال: ( لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، حتى يختبئ اليهودي خلف الشجر والحجر، فيقول الشجر والحجر: يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي خلفي، فتعال فاقتله )، يعني: أن من ورائه يختبئون خلف الشجر والحجر من قوة المسلمين وسطوتهم.

وفي هذا أيضاً جملة من المسائل التي تكون متداخلة في هذا الباب؛ أن ما جاء في بعض الأحاديث من نطق الشجر ومن نطق السوط وشراك النعل والفخذ أنه في هذا الزمان لا قبله؛ ولهذا جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع )، يعني: تتحدث كما يتحدث الناس ( وعذبة سوط الرجل، وشراك نعله، وتخبره فخذه بما أحدث أهله بعده )، وهذه الإخبارات هي مقترنة بما يظهر بإخبار الشجر والحجر في ذلك الزمن ( يا مسلم يا عبد الله! هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله ) .

تقديم القتل على الأسر والغنيمة

وفيه أيضاً أنه في آخر الزمان القتل هو الشريعة الراجحة على الأسر والغنيمة؛ لأنه لا ينبغي للمسلمين أن يلتفتوا في ذلك الزمن إلى مغنم وغيره، وجاء تفسير ذلك في صحيح الإمام مسلم من حديث يسير عن عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا تقوم الساعة حتى لا يقسم ميراث، ولا يطمع في غنيمة ). وقيل في تفسير ذلك جملة من المسالك، منها: أن المواريث تكون قد جهلت في هذا الأمر، وهذا متجه، وقد جاء في ذلك جملة من النصوص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا يقول الناظم الرحبي في منظومته:

وأنه أول علم يفقد في الأرض حتى لا يكاد يوجد

يعني: علم الفرائض محتمل أن يكون محتملاً لهذه الحال.

ومحتمل أن المراد من ذلك أن الناس منشغلون من شدة القتل: من الوارث ومن المورث، هذا قتل، وهذا قتل؛ وجاء من حديث عبد الله بن مسعود قال: (إن أبناء الرجل الواحد مائة، لا يبقى منهم إلا واحد)، فلا يعلمون من الوارث ولا من المورث؛ لانتشار القتل، ولا يطمعون في غنيمة؛ لشدة المصائب والبلايا من قتل فلان وفلان ونحو ذلك، فيكون الأمر بين الناس مشاعاً.

ويظهر والله أعلم أن هذا المغنم الذي جاء في حديث عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى هو بعد ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( أن تتخذ الغنيمة مغنماً، والفيء دولاً )، يعني: أن هذا في ابتداء الأمر.

أحوال الغنيمة في آخر الزمان

والغنيمة في آخر الزمان على حالين:

الحال الأولى: أن تكون مغنماً، فيحرص عليها فيسهمون في الجهاد لأجلها، فيتقاتلون لأجل الكسب، وفي هذا هل يكون الجهاد شرعياً أم لا؟ يقال: إن هذه المسألة لا تخلو من حالين:

الحال الأولى: أن الإنسان إذا قصد النية لله سبحانه وتعالى وصاحبها شيء من مطامع الدنيا جاز ذلك، والدليل على هذا أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يحدث أصحابه عن القتال فقال: ( من قتل قتيلاً فله سلبه )، يعني: فله ماله كالشرط والجزاء، فيكون هذا في حال المقايضة، فيجوز للإنسان أن يقتل شخصاً أكثرهم مالاً طمعاً بما لديه من مال، فيقصدون من يحمل من السلاح والعتاد أكثر، لأن ما دونهم يهون.

وهذا فيه مقاصد متعددة:

المقصد الأول: أن الإنسان يأخذ من المال ما يتقوى به لصالح دينه ودنياه.

المقصد الثاني: أن في قتل من بيده كثيراً من المال مضرة على أهل الشرك والعناد، فإن في ذلك إزهاقاً للأنفس النفيسة فيهم، وتقليلاً للمال الذي كان عندهم، ورفد ذلك بأهل الإسلام، وهذا لا يناقض النية؛ ولهذا (النبي عليه الصلاة والسلام كان يجعل للفارس سهمين وللراجل سهماً واحداً)، وفي هذا تأنيس للإنسان أن يقاتل في سبيل الله ولو أخذ شيئاً من مغانم الدنيا.

الحال الثانية: أن يقصد الإنسان المغنم بذاته كحال الأجراء، وهذا محرم ولا يجوز، وهذا ما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام ( أن من أول من تسعر بهم النار ثلاثة: ومنهم رجل قاتل في سبيل الله حتى يقال أنه جري)، وهذا من أخطر الأمور التي بين الشارع حالها، وهذا يختم له ما كان عليه.

وقد جاء في بعض الأخبار وفيها ضعف أن (الجهاد في سبيل الله في آخر الزمان يكون أجرة)، يعني: يدفع للإنسان مال حتى يقاتل في سبيل الله.

وفي هذا مجموعة من المسائل:

منها أنه لا حرج على المسلمين وعلى ولي الأمر إذا لم يستطع فتح الثغور وأن يجاهد في سبيل الله إلا بدفع الأجرة، ومن خبثت نيته أنه لا حرج عليه في تحقيق المقصد والأجر، والدليل على هذا ما جاء في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله ليؤيد الدين بالرجل الفاجر )، وهذا ظاهر إذا تحقق أمر الدين ولو بإزهاق نفس الفاجر، فإن هذا من المقاصد المحمودة إذا لم تصحح نية الناس، ولكن لا يقال: إن المؤمن يدفع له المال فتفسد نيته حتى يصلح أمر الإسلام لفساد نيته، يقال: إن الشريعة جاءت لإصلاح الأفراد، وجاءت لإصلاح المجتمعات وإصلاح، فينبغي أن يحافظ على ذلك المؤمن، لكن إذا لم يتحقق ذلك إلا على هذا النحو فإنه لا حرج عليه.

غدر بني الأصفر بالمسلمين

وفي هذا إشارة إلى أن المسلمين يتصالحون ويتعاهدون مع بني الأصفر، فيقاتلون عدواً دونهم، وقد جاء هذا في صحيح الإمام مسلم من حديث عبد الله بن مسعود، مما يدل على جواز المصالحة مع المشركين لقتال عدوهم، ولو كان مشتركاً من جهة العداوة بين المسلمين الكفر، وهذا أمر جائز، يشير إلى هذه المسألة التي تقدم الإشارة إليها، ثم يكون الغدر بعد ذلك، يكون في بداية الأمر صلحاً، ثم يقاتلون عدواً دوننا، يعني: دون الروم بيننا وبينهم، الله أعلم بحاله، وفسره كثير من العلماء بجملة من الاجتهادات التي لا دليل عليها، ولا ينبغي أن يتعلق الإنسان بها.

فيكون بعد هذه المقتلة وهذا التحالف بين المسلمين والروم غدر الروم على المسلمين وهم أهل غدر، فيأتون إلى المسلمين على حين غرة، والدليل أنه على حين غرة أنهم يأتون في بلاد الشام، وبلاد الشام هي من بلاد المسلمين، ولا يمكن أن يأتي هذا العدو ثمانين غاية على كل غاية مائة وعشرون ألفاً، إلا أن يكون ذلك على حين غرة ومفاجأة من المسلمين، سواء أن يمكنوا من بلاد المسلمين بدعوى حماية المسلمين، أو قتال عدوهم من دونهم، فيخرجون لذلك وهم يريدون أهل الإسلام.

ومن جهة الأصل فإن مطامع أهل الكتاب من اليهود والنصارى هي مطامع دنيا، ويظهر أن غدرهم بالمسلمين هو لأجل مطمع في دنياهم، وهذا ظاهر.

وفي قوله عليه الصلاة والسلام: ( ثم خروج الملحمة ) هي بعد خراب يثرب، وبعد عمران بيت المقدس، ثم تكون الملحمة بين المسلمين والروم، وبه يعلم أن من ينتظر هذه الملحمة ولم يأت خراب المدينة، ولا عمران بيت المقدس فإنه يستعد لأمر ليس هذا محله، ثم تكون الغلبة لأهل الإسلام، والدليل على ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام: (وخروج الملحمة فتح القسطنطينية )، يعني: أن المسلمين يفتحون القسطنطينية بعد ذلك، وتكون الغلبة لهم، وحماية ثغور الإسلام حتى يصلوا إلى ما يسمى بأوروبا في زمننا الحالي، وهذا مما وعد الله عز وجل به المسلمين.

خروج الدجال

قال عليه الصلاة والسلام: ( وفتح القسطنطينية خروج الدجال )، وخروج الدجال هو مصاحب لمجموعة من أشراط الساعة متتالية، وبينها جملة من التتابع، فالمهدي مصاحب لخروج الدجال، وكذلك القحطاني، ويأتي عيسى عليه السلام بعد ذلك كله، فيقتل المسيح الدجال عند بيت المقدس كما يأتي الكلام عليه في أشراط الساعة الكبرى.

وفي هذا الحديث من إخبار النبي عليه الصلاة والسلام بخروج الدجال لا يعني أنه يتخللها مجموعة من أشراط الساعة الأخرى، وإنما تكون هي على هذا الترتيب وعلى هذا النسق، بل يقال: إن النبي عليه الصلاة والسلام أراد أن يشير إلى ما كان علماً من أمور الفتن.

إخفاء ذكر الدجال في القرآن وبيانه في السنة

والفتنة في ذكر بعض أشراط الساعة والتكثير منها قد تظهر للبعض وقد لا تظهر، فمثلاً حينما ننظر إلى الدجال نجد أن الله عز وجل يقص لك خبره في كلامه سبحانه وتعالى على سبيل الخفاء، وإنما جاء في كلام بعض المفسرين تفسير بعض الآي أن المقصود بها الدجال، وهذا محتمل في قوله سبحانه وتعالى: ((يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ))[الأنعام: 158]، فبعض المفسرين كـعبد الله بن عباس و مجاهد وغيرهما أن المراد بذلك الدجال ، وهذا محتمل.

والله سبحانه وتعالى ذكر جملة من أشراط الساعة من انشقاق القمر وقد مضى وزال أمره، وهو من الأمور العظيمة والصادقة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وذكر الدابة ويأجوج ومأجوج، وأعظم من ذلك كله هو الدجال ؛ لأنه قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( ما من شيء منذ أن خلق الله آدم أعظم أمراً إلى قيام الساعة من الدجال )، ومع ذلك لم يرد ذكره في كلام الله سبحانه وتعالى على سبيل الصراحة؛ مما يدل أن أمره يحتاج إلى مزيد بيان، وهو في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة التفصيل أظهر وأبين، وكلام الله سبحانه وتعالى يأتي على سبيل الإجمال.

فوائد بيان أمر الدجال في السنة أكثر من القرآن

وفي هذا جملة من الأمور والفوائد:

من هذه الفوائد أنه ينبغي أن تقدس السنة وتعظم كما نقدس معاني القرآن، وذلك أن السنة من الوحي؛ ولهذا قال الله سبحانه وتعالى عن نبيه عليه الصلاة والسلام: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4]، وإذا ترك الناس السنة وتعلقوا فقط بالقرآن ضلوا؛ لأن السنة هي المبينة للقرآن، فإذا كانت أعظم مصيبة على البشرية منذ أن خلق الله آدم إلى قيام الساعة ادخرها الله جل وعلا على لسانه نبيه دل على تعظيم هذه السنة وجلالة قدرها.

ومعلوم أن الشيء يعرف أمره بمضمونه ومحتواه، وما يدفع من الشر، وما يدل على الخير، فإذا كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على هذا القدر العظيم من دفع الشر دل على وجوب التمسك بها، هذا في زمن من يتأول السنة عن مرادها، ولو تليت آي القرآن وآي السنة البينة الظاهرة التي أظهر تفصيلاً وأسهب تدقيقاً وبياناً من مجمل القرآن.

والمقصود قد فصل الله جل وعلا في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهناك من يقول: إن فيمن يقول: إنك لم تأت بجديد ولم تأت بأمر بين يزيل هذا الإشكال؛ ولهذا ينبغي للإنسان أن يتشبث بظواهر الأدلة من كلام الله سبحانه وتعالى وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وألا يلتفت إلى أقوال الناس، وإن قالوا: هذا ليس بدليل، وليست بينة؛ لهذا قال الله سبحانه وتعالى حاكياً عن حال قوم هود مع هود حينما أنزل الله جل وعلا عليهم الحجج: قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ [هود:53]، إذاً كان كلام الله جل وعلا ليس ببينة، وأظهر بياناً، وما أرسل الله جل وعلا من رسول إلا بلسان قومه، ثم هؤلاء يقولون: ما جئتنا ببينة، من الذي يأتي ببينة حينئذٍ أقوى بياناً من رب العالمين، ليعلم أن هذه من الحجج الباطلة التي يعلمون الحق في قلوبهم، ولكنهم يجحدونها كما فعل ذلك كفار قريش؛ ولهذا قال الله جل وعلا في كتابه العظيم حاكياً حال كفار قريش: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14]، يعني: يجحدون بهذا الحق ولهذا يخرج يوم القيامة، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم في سورة الأنعام: بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ [الأنعام:28] يخفون ذلك الحق في قلوبهم، لكنه يظهر عند سطوة العذاب وحينما يعرضون على النار.

وينبغي على طالب الحق من الوحي إذا ظهر له الدليل وتمكن من قلبه؛ لا عليه من أي صاحب دعوى؛ أنك لم تقم الدليل ولم تقم البينة، أقمنا البينة والحجة، وإن لم تتبع، فلك أسلاف قد ضلوا وهلكوا، كما ضل قوم هود وقوم صالح وثمود وقوم موسى وعيسى وكفار قريش، حينما أنزل الله جل وعلا على أنبيائه الحجة والبيان من كلامه سبحانه وتعالى وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

خروج القحطاني

ومن أشراط الساعة: خروج رجل من قحطان، وهذا قد جاء في صحيح البخاري وغيره من حديث أبي سعيد أن رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه )، وفي هذا جملة من المسائل:

ظلم القحطاني وعدله

المسألة الأولى: أما اسم هذا الرجل: فلا يثبت فيه شيء، وكذلك في موضع خروجه لا يثبت فيه شيء، وكذلك في ظلمه أو عدله لا يثبت في ذلك شيء إلا جملة من القرائن، ومن هذه القرائن قوله: ( يسوق الناس بعصاه )، فقيل: إن المراد بذلك هو إشارة إلى ظلمه وجوره، وإلا الناس إذا كانوا يساقون طواعية عن هداية لا يحتاجون إلى عصا وسياط، وهذا فيه إشارة إلى الظلم.

ومن قرائن ذلك ما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( صنفان من أمتي لم أرهما قط: أقوام معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس )، وهنا قال: ( يسوق الناس بعصاه )، وهذا فيه إشارة إلى أن سوق الناس بالعصا إشارة إلى الظلم والبغي، والظلم والبغي ليس من سيما ومن علامات أهل الصلاح، ومن علامات أهل الصلاح أن يساق الناس وأهل الإيمان بالطاعة والإيمان، وقد يؤطرون في ابتداء الأمر أطراً، ولكن يكون منهم من لا يحتاج إلى سوط، ولما كانوا على هذه الحال دل أنه يسوقهم إلى شيء من مصالح الدنيا.

وجاء في بعض الروايات أنه رجل صالح، وفي ذلك أنه قد روى نعيم بن حماد في كتابه الفتن من حديث ابن قيس بن جابر عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( يخرج رجل من قحطان وهو بعد المهدي وهو رجل صالح )، وهذا الخبر مردود، وقد جاء في كلام بعض التابعين عند نعيم بن حماد أيضاً من قول عطاء بن المنذر أنه يكون بعد المهدي وهو رجل صالح، وهذا لا يصح.

الاختلاف في كون القحطاني هو الجهجاه أو المهدي

واختلف كلام العلماء في هذا الرجل من قحطان هل هو منفرد غير المهدي وغير الجهجاه الذي يخرج؟

قيل: إنه الجهجاه، وقيل في قول ضعيف: إنه المهدي، وهذا روي عن ابن سيرين بإسناد فيه ضعف، ولا يصح، وبه يعلم أنه لا يصح في المرفوع ولا الموقوف لا عن تابعين ولا عن أتباعهم بإسناد صحيح أن القحطاني هو المهدي ، ولا أن القحطاني هو الجهجاه، ولا أن الجهجاه هو المهدي، فلا يصح في ذلك شيء، وإنما هي نصوص متباينة.

والذي أجزم به أن القحطاني ليس هو الجهجاه، وذلك أن قحطان قبيلة، والجهجاه من الموالي، فقد جاء في صحيح الإمام مسلم أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( لا تقوم الساعة حتى يملك رجل من الموالي يقال له: جهجاه )، والموالي الأصل فيهم أنهم لا ينتسبون، وقول النبي عليه الصلاة والسلام في الصحيح: ( رجل من قحطان ) يعني: أنه على ظاهره ينتسب إلى هذه القبيلة، ويقر له بذلك الأمر، وهناك قال: إنه من الموالي، وقد أشار بعض العلماء إلى احتمال أن يكون القحطاني هو الجهجاه، وفي ذلك نظر على هذا التعليل.

الأوجه الدالة على أن القحطاني من أهل الظلم

ويظهر من قوله عليه الصلاة والسلام: ( يسوق الناس بعصاه ) أنه من الظلمة، وليس من أهل العدل، وهذا من وجوه:

الوجه الأول: تقدم الإشارة إليه من الصنفين الذين معهم السياط.

الوجه الثاني: أن الأصل في أشراط الساعة إذا ذكرت أنها في العرب، وفي مثل هذا الزمان يكون أهل الإيمان متوافرون؛ لأن خروج القحطاني متزامن مع خروج المهدي وقيل بعده، وفي هذا الزمن أهل الإيمان متواجدون لا يحتاجون إلى السوق بالعصا، يحتاجون إلى جمع الناس بالكلمة، ولما كانت يخاطب به العرب دل على أن المراد بذلك في قوله: (يسوق الناس) أي: يسوق المسلمين والعرب، ولا يسوق العجم، وهذا ظاهر، وأما لو كان يسوق العجم ودلت قرينة على ذلك لاحتمل أن يكون من أهل العدل والصلاح.

ويظهر في بعض النصوص أن خروج القحطاني يكون بعد المهدي كما جاء عند نعيم بن حماد، وفي ذلك ضعف، لكن قرائن النصوص تحتمل هذا الأمر.

وخلاصة هذا الأمر أنه لا ينبغي الخوض في تفاصيل القحطاني؛ لا من جهة اسمه، ولا من جهة البلد التي يخرج فيها، ولا من جهة أيضاً ما هي دعواه في الناس، وإذا خاض فيها الإنسان يخوض فيها من غير عمل؛ لأن الخوض في تفاصيل ذلك مع العمل ربما يورث مفاسد في الدين والدنيا، وإلا فخبر القحطاني من الأحاديث الصحيحة في الصحيح.

وثبوت خروج القحطاني أثبت إسناداً من خروج المهدي ، وذلك أن البخاري قد أخرج حديث القحطاني، ولم يخرج شيئاً لا هو ولا الإمام مسلم في حديث المهدي مع شهرة أخبار المهدي عند أرباب الفتن، وعند عامة الناس.

خروج المهدي

ومن أشراط الساعة في ذلك: خروج المهدي ، وخروج المهدي في هذا هو مشابه لخروج عيسى.

و المهدي خروجه قد صححه جماعة من الأئمة، ومن أول من جزم به وقطع من السلف سفيان الثوري ، وصححه واحتج بالأحاديث التي أوردها جماعة من العلماء كـالدارقطني و البيهقي ، وجماعة من المتأخرين كـابن كثير و ابن حجر و الذهبي وغيرهم على صحة الأحاديث.

حال الأحاديث الواردة في المهدي

وقد جاء في ذلك جملة من الأحاديث؛ أصحها ما جاء عند الإمام أحمد من حديث أبي معبد عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى قال: ( يخرج الله في آخر الزمان رجلاً من أهل بيتي؛ يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، وأرجو كما ابتدأها الله بنا أن يختمها بنا )، يعني: من أهل بيته عليه الصلاة والسلام.

وقد جاء في بعض الأخبار أن اسمه كاسم النبي عليه الصلاة والسلام، وقد جاء في جملة من الأحاديث وإسنادها أيضاً لا يستقيم، وقد سئل الإمام أحمد عن أصح شيء في المهدي، فقال: حديث أبي معبد عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى، وهذا أمثل شيء في هذا الباب.

موضع خروج المهدي

و المهدي إذا قلنا أنه تمهيد لخروج عيسى وتمهيد لأشراط الساعة الكبرى فهل ثمة دليل على موضع خروج المهدي في زمن بعينه أم لا؟

جاء عن نبينا عليه الصلاة والسلام ما يسمى بالرايات السود، قال عليه الصلاة والسلام في حديث ثوبان : ( إذا رأيتم الرايات السود قد جاءت من قبل خراسان فاستقبلوها، فإن فيها عبد الله المهدي )، وهذا إسناده ضعيف، ولا يصح هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن في إسناده انقطاعاً.

وقد جاء من غير هذا الوجه ذكر الرايات السود، كما عند الطبراني وغيره من حديث يزيد بن أبي الزياد عن إبراهيم النخعي عن علقمة عن عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى بنحوه، أو بمعناه، وهذا لا يصح؛ ولهذا قال: (والله لو جاءني يزيد بخمسين يميناً قسامة في هذا الخبر ما قبلته منه)، يعني: أن هذا الخبر يرويه إبراهيم ، و إبراهيم له أصحاب كثر، فأين الذين ينقلونه عنه، وكذلك علقمة أيضاً أين الذين ينقلونه عنه، وكذلك عبد الله بن مسعود مع ما الحاجة لمثل هذا المعنى.

وأمثل ما جاء في ذلك عند الحاكم في مستدركه من حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة ، وقد أعل حديث الرايات السود الإمام أحمد عليه رحمة الله في علله، وأعله بعض الأئمة كـإسماعيل بن علية ، وبه يعلم أنه لا يصح في الرايات السود خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما جاء في ذلك فهو من الأحاديث الضعيفة.

وبه يعلم أن الجهة أو الناحية أو البلد التي يخرج منها المهدي لا يصح منها شيء.

القول بإعلال أحاديث المهدي

ولم أعلم أحداً من الأئمة من المتقدمين من أئمة النقد من أعل أحاديث المهدي ، وقال: لا يصح منها شيء، وإنما هو في كلام بعض الأئمة المتأخرين، وأظهر هذا القول ابن خلدون في كتابه المقدمة، وقال: إنه لا يكاد يصح منها إلا القليل. وجاء في ذلك جملة من الأحاديث نحو عشرين خبراً في أحوال المهدي ومواضع خروجه، ولا يصح من ذلك إلا الشيء اليسير، وأصح ما جاء في ذلك حديث أبي معبد عن عبد الله بن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والثابت في ذلك أنه من ذرية النبي عليه الصلاة والسلام، وهو أقرب إلى أن يكون من ذرية الحسن بن علي بن أبي طالب ، واسمه كاسم النبي عليه الصلاة والسلام، واسمه محمد بن عبد الله .

انتساب المهدي لأهل البيت

وينبغي أن يعلم أن في هذه المسألة في خروج المهدي وانتسابه للنبي عليه الصلاة والسلام جملة من الأمور:

الأمر الأول: أن كون الانتساب إلى البيت لا يعني الانسياق خلف الدعوى، ما الدليل على هذا؟

الدليل أنه جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث عبد الله بن مسعود قال: ( يخرج رجل من أمتي من أهل بيتي لست منه وليس مني )، وهذا فيه إشارة إلى أنه ربما يدعي رجل وهو من أهل البيت الحق وهو مخطئ، مما ينبغي أن يكون للإنسان حذراً من ذلك حتى لو ثبت نسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا مشكل ومشتبه، فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام أشار إلى أنه يخرج رجل من أهل بيته، ولكن من جهة الحقيقة ( ليس مني ولست منه )، وهذا خارج عن حال المهدي الذي يكون من نسب النبي عليه الصلاة والسلام، ويدعو إلى ذلك.

ما الذي يخرج من هذا؟ يخرج من هذا أهل العلم والحق الذي يتم على يديه، والدعوة التي يدعوها؛ ولهذا لا ينظر إلى نسب، ولا ينظر إلى دعاوى ما لم يكن ثمة عمل، فإذا كان ثمة عمل فيؤخذ من قول الإنسان؛ ولهذا لا ينظر إلى دعاوى الناس وأقوالهم وأنسابهم حتى ينظر إلى حالهم؛ ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام مشيراً إلى هذا المعنى: ( إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولا ينظر إلى أعمالكم، ولكن ينظر إلى القلوب التي في الصدور )، هذا في حق الله، أما في حق البشر فالنظر إلى الأعمال مهم؛ لأن السرائر مردها إلى الله، وكأن النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الخبر يقول: انظروا إلى أعمال الناس، ولا تشقوا القلوب، فإن طابقت الحق فخذوها، وأما ما عدا ذلك من الدعاوى مثل من يقول: أنا من آل البيت ونحو ذلك، فإن هذا ليس بدليل، وهذا النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ( من أهل بيتي لست منه وليس مني )، يعني: في الحق شيئاً.

انتظار المهدي

ومن المهمات أيضاً في أمر المهدي : أن المهدي لا ينبغي لأهل الإسلام أن يكونوا في انتظار له، فإن في ذلك شبهاً بأهل الرفض؛ ولهذا ما يطلقونه المهدي المنتظر هذا من الباطل، نحن لا ننتظر المهدي، ننتظر ماذا؟ ننتظر الأعمال ومواسم الخيرات حتى نقوم بها، ننتظر دخول رمضان، ننتظر دخول صلاة الفجر حتى نقوم لها، والضحى حتى نصليه، والظهر حتى نصليه، وننتظر مواسم العبادات حتى نؤديها، وننتظر مواضع الخير حتى نقبل عليها، أما أن نعلق الخير بأشخاص وذوات فهذا ليس من هدي الإسلام.

وقد انتشر عند الرافضة مهدياً ليس بمهدي أهل الإسلام، وهو من الدجل العظيم؛ ولهذا أهل الإسلام يسمونه مهدياً كما جاء في النص؛ وذلك إما أنه يمهد الأرض بالخير، وقيل أنه يمهد ذلك لعيسى ابن مريم عليه السلام.

ظهور الخسف والمسخ قبل خروج المهدي

وبين المهدي وخروج عيسى عليه السلام خروج الدجال ، ويصاحب ذلك ربما جملة من الفتن، من هذه الفتن: ظهور الخسف والمسخ في الناس؛ وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا تقوم الساعة حتى يظهر خسف ومسخ )، (خسف) قيل: خسف بالمشرق والمغرب تفصيلها عن النبي عليه الصلاة والسلام في خبر تقدم الكلام عليه، وقيل: إن المراد بذلك هو الإشارة إلى كثرة الخسوف في الأرض.

والمراد بالمسخ أن يمسخ أقوام كما مسخ من الأمم السالفة، فيصبحون كالبهائم، سواء كانت من بهيمة الأنعام، أو يمسخون قردة أو خنازير، ولم يثبت دليل في ذلك بين على التفصيل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

نزع البركة من الأرض قبل خروج المهدي

ومن ذلك قبيل أو مصاحب لخروج المهدي قبل بدئه بنشر العدل أن تنتزع البركة من الأرض، فلا يمطر الناس مطراً فينتفعون به، وقد جاء عند أحمد وغيره من حديث قتادة عن أنس بن مالك قال: ( إنك تحدثت أنه لا تقوم الساعة حتى لا يمطر الناس ولا تخرج الأرض )، وجاء في خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تقوم الساعة حتى تمطر الأرض، لا تكن له بيت مدر، وإنما تكن له بيت الشعر )، والمراد من هذا أنه تأتي أمطار تفسد بيوت المدر؛ الطين والحجر، ولكن بيوت الشجر لا تتأذى، وفي هذا إشارة إلى جملة أمور:

الأمر الأول: أن هذا يقصد به الهلاك، والهلاك يكون في المدن؛ بيوت المدر، وأما بيوت الشعر فهي البوادي، لا تتأذى، فيكون المطر قصد به أذية الناس وإفساد ما انتشر فيهم من الناس، فيكون حينئذٍ نزول المطر في الخبر في آخر الزمان نزول فساد.

الأمر الثاني: أن يكون نزول ولا ينبت، فلا يستفيدون منه.

الأمر الثالث: تمسك السماء القطر، والأرض النبات فلا تنبت، وفي ذلك انتزاع للبركة، ويكون هذا في أمر يسير.

وهذه الأمور المتسارعة عن النبي عليه الصلاة والسلام تكون في زمن متقارب، قيل: سبعة أشهر، وقيل: ستة أشهر، والنصوص في ذلك محتملة.

وينبغي أن يعلم أن أشراط الساعة لفترتها والتباس بعضها يضل في ذلك كثير من الناس، سواء في اتباع بعض التأويلات الفاسدة في هذا، وتقدم الإشارة إليه. والأمر الآخر: الانفكاك عن مسألة الاجتهاد في وقوعها؛ وقد روى ابن أبي شيبة من حديث ابن عون عن ابن سيرين قال: قال ابن مسعود : كل ما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام من أمر الساعة ظهر إلا أربع، قال عبد الله بن مسعود: يأجوج ومأجوج، والدابة، و الدجال ، وطلوع الشمس من مغربها. فهنا ما يروى عن عبد الله بن مسعود أنه يرى أنها خرجت، مما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا إما ما بلغ عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى في أشراط الساعة، وقطعاً أن عبد الله بن مسعود لم يحط إحاطة بما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام من أخبار الفتن وأشراط الساعة؛ لأن الإحاطة ليست لأحد من الخلق على الإطلاق، وإنما ما بلغه من ذلك رأى أنه ظهر، ولكن يعلم أنه بعد التدوين وكثرة الكتب، وتوافر كثير من المسائل للناس مما يغيب عن الأفراد الأوائل لا يعني توفيق أولئك الناس، بل يكون فتنة وضلال.

ولهذا ينبغي للإنسان أن يحذر من ذلك حتى لو ملك زمام العلم من مسائل العلم أن يسأل الله عز وجل التوفيق والإعانة والصواب؛ لأن كثرة المسائل والفتن التي يحويها الإنسان بين يديه سواء في بطون الكتب أو على صدره تكون مظنة لكثرة الاشتباه، فلا يدري هذه أول أو هذه أول؛ وينبغي للإنسان أن يتمسك بما ظهر من الأدلة، وأن يتمسك أيضاً بالحقائق، ولا يلتفت إلى المصطلحات التي يدعو إليها الناس، أو إلى الدعاوى التي يتشبثون بها.

هدم الكعبة

ومن أشراط الساعة ما تقدم الإشارة إليه على سبيل الإجمال وهو: هدم الكعبة، ويهدمها ذو السويقتين .

الأحوال التي تتعرض لها الكعبة من الأذية والهدم

وجاء في قصد البيت الحرام بالأذية أخبار مجموعها على هذا النحو:

الأمر الأول: يكون فيه محاولة لهدم البيت الحرام وأذيته فتبوء بالخسارة، وقد جاء ذلك في حديث عائشة عليها رضوان الله تعالى قال: ( يغزو جيش الكعبة حتى إذا كانوا ببيداء إذ يخسف الله بهم الأرض )، وهذا لم يحدث، ويدل أنه آخر الزمان يكون ثمة قصد للبيت الحرام، ولا يتمكنون من ذلك.

الأمر الثاني: يتبعه بعد ذلك ذو السويقتين ، فيهدم الكعبة وهو من الحبشة، ويتمكن من هدمها، وهذا الهدم يظهر أنه قبل خروج المسيح عيسى عليه السلام، والدليل على ذلك أنه جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الحج قائم بعد المسيح، ويطاف بالبيت، فإذا هدمت الكعبة تكون أزيلت، إما أن يكون الطواف بمثابة، وهذا احتمال وهو ضعيف، وإما أن تكون هدمت ثم بنيت، فيكون ذلك بعد عمارة، وتقدم الإشارة إلى عمارة التشييد في خبر موقوف عن عبد الله بن عمرو عند ابن أبي شيبة في المصنف، وإما أن يكون ذلك الهدم بعد ذلك، فلا يطاف بعد ذلك بالبيت، وقد جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في الصحيح أنه قال: ( ليطافن بالبيت الحرام بعد المسيح )، وقد جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في الصحيح أيضاً قال: ( ويحج ابن مريم بالحج والعمرة أو بأحدهما)، يعني: يعتمر أو يحج، أو قارناً، وهذا يكون في حال وجود الكعبة.

والذي يظهر والله أعلم أن الهدم إما أن يكون قبل المسيح هدماً، ثم تبنى بعد ذلك، أو يكون بعد ذلك ولا يكون ثمة قائم؛ ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( لا تقوم الساعة إلا ولا يطاف بالبيت الحرام )، يعني: لا يكون ثمة أحد يطوف، وهذا يكون بعد الريح التي تقبض أرواح المؤمنين.

الرد على حصول الإحباط عند سماع أحاديث هدم الكعبة

بعض الناس يصاب بنوع من الإحباط، يقول: إذا هذه الأدلة ( لا يطاف بالبيت ) ( تهدم الكعبة ) ونحو ذلك، يدل على اضمحلال الإسلام، فكيف أجمع بينها وبين هذا؟

هذا يكون بعد قبض أرواح المؤمنين في حال قيام الساعة، ويكون الناس في الأرض هم الشرار، ويرفع العلم، ويرفع المصحف من الكتب ومن الصدور، ولا يبقى أحد من المسلمين حينئذٍ تكون قيام الساعة، وهذا في زمن متداخل ومتقارب على خلاف عند العلماء فيه.

وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام إذا كان ثبت أن المهدي يظهر قبل خروج الدجال وقبل خروج عيسى، فيخرج الدجال بعد عيسى يدل على أنه في عمر الإنسان السوي من الستين إلى السبعين، وفي زمن متقارب، ومع ذلك دل الدليل على أن المهدي لا يخرج ولا يقوم في الناس إلا وقد استوى وبلغ أشده، وهذا يعضده قرائن من الأدلة.

وقد جاء في بعض الأخبار الموقوفة أنه ستة أو سبعة أشهر، يعني: يكون انفراط العقد، وجاء عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى عن النبي عليه الصلاة والسلام أن أشراط الساعة الكبرى كالخرزات تتابع، يعني: كانفراط العقد، فإن الإنسان إذا فرط عقداً انفرطت خرزته واحدة تلو الأخرى: خروج المهدي ، القحطاني، المسيح الدجال ، عيسى ابن مريم، هدم الكعبة، الروح التي تقبض المؤمنين، ثم متسارعة، وقد تقدم معنا أن ثمة تداخلاً بين أشراط الساعة الكبرى والصغرى نوع منها، كما تقدم الإشارة إليه في مسألة الجهجاه يظهر أنه أحد الفتن، وكذلك القحطاني مصاحب للمهدي، وهي متداخلة في أشهر، وربما تكون في عام واحد؛ ولهذا الظن أن أشراط الساعة الصغرى منفكة انفكاكاً تاماً عن الكبرى هذا قول ليس بسديد، أكثرها منفك، ولكن منها ما هو متداخل مع أشراط الساعة الكبرى كما تقدم.

وفي هذا كفاية، أسأل الله عز وجل أن يوفقني وإياكم لمرضاته، وأن يجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , أشراط الساعة رواية ودراية [5] للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي

https://audio.islamweb.net