إسلام ويب

مخاطبة المصلي في شرع من قبلنا جائزة، وكذلك كانت في بداية الإسلام حتى نزل قوله تعالى: (وقوموا لله قانتين). لكن يجوز مخاطبة المصلي بالقدر الذي لا يشغله كما سئلت عائشة وهي في صلاة الكسوف فأشارت إلى السماء. وأما السلام على المصلي فالجمهور على الاستحباب؛ لعموم الأدلة ولأن فيه تطميناً. وأما الحركة في الصلاة فلا تجوز إلا إذا كانت يسيرة لا تذهب بجوهر الصلاة.

قوله تعالى: (فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب...)

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

مخاطبة المصلي

فنتكلم هذا اليوم على قول الله عز وجل: يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:43]، قبل ذلك في قول الله سبحانه وتعالى: فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى [آل عمران:39]، هذه تتضمن حكماً قد تجاوزناه، وبالتأمل يظهر أن في هذه الآية حكماً وهذا الحكم هو مخاطبة المصلي.

الصلاة في هذه الآية تحمل على معنيين:

المعنى الأول: تحمل على الدعاء.

والمعنى الثاني: تحمل على الصلاة ذات الركوع والسجود، وهذا قال به غير واحد من المفسرين، وذهب إلى هذا السدي، ورواه ابن المنذر عن جعفر بن محمد عن ثابت البناني عليه رحمة الله، وقد اختار ذلك ابن جرير الطبري رحمه الله كما في التفسير أن المراد بالصلاة هنا هي الصلاة ذات الركوع والسجود، فنداء الملائكة له هنا بأن الله عز وجل يبشره بغلام هذا هل هو مما له صلة بالصلاة من جنسها، أم خلاف ذلك؟

ظاهر هذا أنه إجابة لدعائه في الصلاة، وإجابة الدعاء في الصلاة والإخبار بذلك هذا أمر ليس من كنه الصلاة، فدل على جواز مخاطبة المصلي لظاهر هذه الآية، ولا شك أن هذا في شرعتهم جائز وصحيح، ولكن هل هو في شرعة أمة محمد صلى الله عليه وسلم أم لا؟

نقول من جهة الأصل: أن ما يتعلق بالمصلي شيء، وما يتعلق بغير المصلي من جهة خطابه شيء آخر، فقد يجب على المصلي حكم، ويجب على من كان خارج الصلاة تجاه المصلي حكمٌ آخر.

بالنسبة للمصلي أمره الله عز وجل بالإنصات، كما تقدم معنا في قول الله عز وجل: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، وقد جاء في ذلك حديث زيد بن أرقم قال: (كنا نتكلم في الصلاة حتى نهينا عن ذلك)، وذلك في قول الله جل وعلا: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، يعني: صامتين ممسكين خاشعين، وهذا المعنى تقدم الإشارة معنا إليه، ويكفي في ذلك ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن هذه الصلاة لا يجوز فيها الكلام، وإنما هي للتسبيح والتهليل وقراءة القرآن ).

إذاً: فيحرم على المصلي أن يتكلم في صلاته، وأما بالنسبة لمخاطبة المصلي بأي نوع من أنوع الخطاب، نقول: إن الخطاب في ذلك على حالين: خطاب يتعلق بالصلاة، كبيان حكم للمصلي، كأن يكون على ثوبه نجس، أو توجه إلى غير القبلة، فذلك جائز، ولهذا جاء في حديث البراء لما غيرت القبلة، فجاء إلى مسجد قباء، فقال لهم: إن القبلة قد غيرت، فداروا كما هم، فهذا الخطاب يتوجه إلى مصلٍ، فإذا توجه فيما هو من ذات الصلاة فإن هذا جائز، وقد يتأكد إذا كان ذلك يتعلق به حكم من الأحكام الشرعية.

الحالة الثانية: إذا كان ذلك في شيء خارج الصلاة، ولا صلة للمصلي به، فنقول: إنه على حالين: الحالة الأولى: إذا كان ذلك يمكن إرجاؤه، فالأولى إرجاؤه حتى لا ينشغل المصلي في صلاته، وأما إذا كان ذلك لا يمكن إرجاؤه، فنقول: يجوز للإنسان أن يخاطب المصلي، ولو خاطبه في أمرٍ يمكن إرجاؤه لا تبطل صلاة المصلي، ولا يأثم المخاطب باعتبار أن هذا من الأشياء العارضة، وإنما التفريق بين الحالين، بين فاضل ومفضول؛ لأن المصلي يخاطب وليس هو من أهل التكليف؛ لأنه مأمور بالإنصات، أما بالنسبة للسماع فهذا أمر خارج عن الصلاة ومسكوت عنه، ولكن هذا هو فرع عن مسألة من المسائل وهي الخشوع في الصلاة: هل الخشوع في الصلاة واجب أم لا؟ اختلف العلماء عليهم رحمة الله في الخشوع في الصلاة على قولين: ذهب عامة العلماء إلى أن الخشوع في الصلاة ليس بواجب، وأنه متأكد، وذهب بعض العلماء إلى وجوبه، وهذا ظاهر قول البخاري رحمه الله.

ويختلف العلماء عليهم رحمة الله تعالى في المقدار الذي إذا لم يع الإنسان شيئاً من صلاته فإنه يجب عليه أن يعيدها، وهذا ليس محل البحث عندنا في هذه الآية.

ولهذا نقول: إن مخاطبة المصلي بالقدر الذي لا يشغله في صلاته جائز، لهذه الآية، وكذلك بعض الأحاديث التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعض أصحابه عليهم رضوان الله، ومن ذلك ما جاء في حديث عائشة عليها رضوان الله تعالى، وذلك في صلاة الكسوف لما سئلت وهي في الصلاة: فأشارت بيدها إلى السماء يعني: أن الشمس قد كسفت، فهذا دليل على أمرين:

الأمر الأول: جواز مخاطبة المصلي.

الأمر الثاني: جواز مخاطبة المصلي غيره بالإشارة، كأن يسأله عن أمر فيشير إلى موضعه، فهذا جائز.

ويدل هذا وهو في الصحيح على نكارة الحديث الذي جاء من حديث أبي غطفان عن أبي هريرة فيما يروى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( من أشار في صلاته إشارة تفهم عنه فليعدها )، وهذا الحديث منكر، قد أنكره جماعة من الأئمة، كـأبي حاتم وغيره، بل حكم بعض العلماء بوضعه، وهذا هو الأظهر؛ لأنه يخالف الأحاديث الثابتة في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك عن جماعة من أصحابه.

فعلى هذا نقول: إن مخاطبة المصلي جائزة بكل حال، ولكن إذا كان ذلك يمكن إرجاؤه فهو الأولى.

بذل السلام على المصلي

ويتفرع لدينا هنا جملة من المسائل، منها: بذل السلام على المصلي، هل يشرع ذلك أم لا؟

نقول: بالنسبة لبذل السلام على المصلي هذا قد اختلف العلماء عليهم رحمة الله فيه على قولين: ذهب جمهور العلماء إلى استحباب ذلك، وهذا القول ذهب إليه الإمام مالك، و الشافعي، وأحمد، وأبو ثور أنه يستحب بذل السلام على المصلي، قالوا: لعموم الأدلة، وكذلك يعلل هذا بأن بذل السلام فيه تأمين وتطمين، أن الإنسان ربما يدخل عليه ولا يعلم من الداخل عليه وهو في صلاته، فإذا بذل السلام عليه ولو لم يرد السلام فإن هذا يعطيه تأميناً وتطميناً في صلاته، ولهذا نقول: العلة والحكمة من ذلك قائمة، ولو كان المسلم يعذر المصلي في عدم رده للسلام لمعرفته بأنه في صلاة.

وذهب أبو حنيفة إلى كراهة السلام على المصلي، وأما من قال بالكراهة فيستدلون بعموم وجوب الإنصات، وكذلك بأدلة الخشوع، ويستدلون بما جاء في حديث عبد الله بن مسعود قال: كنا نسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيرد علينا، ثم إنا سلمنا عليه فلم يرد علينا، فقال: إن الله عز وجل يحدث من أمره ما شاء، وإن مما أحدث ألا تكلموا في الصلاة، نقول: هذا الحديث ليس فيه دليل على تحريم التسليم، وإنما فيه دليل على كراهة رد السلام؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( وإن مما أحدث ألا تكلموا في الصلاة )، يعني: يعتذر في عدم رده عليه.

وهذا إشارة إلى أنه لا يجوز للمصلي أن يرد السلام، ورد المصلي للسلام قد اختلف فيه، ذهب جماهير العلماء إلى تحريم ذلك، وهذا القول ذهب إليه الأئمة الأربعة، وهو قول الإمام مالك و الشافعي و أبي حنيفة وأحمد عليهم رحمة الله، إلى أن رد السلام يحرم على المصلي، و أبو حنيفة رحمه الله على ما تقدم يرى كراهة بذل التحية، فرد المصلي عنده من باب أولى.

وقد ذهب بعض السلف إلى جواز رد التحية، وهذا قد جاء عن ابن المسيب، وابن شهاب الزهري لعموم الأدلة، قالوا: وكذلك فإن رد السلام فيه ذكر ودعاء من جنس الصلاة، فهو يقول: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، فهذا دعاء، فلو دعا الإنسان من غير تحية بذلت إليه، أن الله عز وجل يسلم ويؤمن فلاناً، وينزل عليه رحمته وبركاته، صح منه ذلك، ولكن من يقول بالكراهة والمنع، قال: لأن النية والمقصد في ذلك يختلف، والأظهر في هذا هو المنع، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بالإنصات في الصلاة، وهذا ظاهر القرآن، كذلك فإن النبي عليه الصلاة والسلام أقر الصحابة حينما أنكروا على من شمت عاطساً وهو يصلي، كما جاء في حديث معاوية بن الحكم قال: ( عطس رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في الصلاة فحمد الله فشمته، قال: فابتدرني الناس بأبصارهم ) إلى آخر الخبر، فيه إشارة إلى إقرار النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك منعه من تشميت العاطس.

وتشميت العاطس من جهة الأمر جاء فيه الأمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتأكيد، حتى قال بعض العلماء بوجوب تشميت العاطس، فهو من جهة التأكيد يقارب السلام، أو قد يتأكد عليه، فإذا نهي ذلك في تشميت العاطس فإنه في رد السلام من باب أولى.

ولهذا نقول: إنها تشرع التحية من غير المصلي للمصلي، وأما رد المصلي فهذا على حالين: الحالة الأولى: باللفظ، وقد تقدمت، وهذا منهي عنه، لعموم الأدلة، وهذا قول الأئمة الأربعة، وأما بالإشارة فإن هذا جائز، وقيل بسنته، والأدلة في هذا استدل بما جاء في حديث عبد الله بن عمر في سؤاله لـبلال قال: ( كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليهم السلام إذا سلموا عليه؟ فقال: بالإشارة ) وكذلك ما جاء في حديث صهيب، وهو في السنن: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرد بالإشارة ) وكذلك في حديث جابر وهو في صحيح الإمام مسلم في رد السلام بالإشارة، وجاء ذلك عن غير واحد من الصحابة، جاء ذلك عن عبد الله بن عمر فيما رواه مالك في كتابه الموطأ عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه رأى رجلاً يصلي فسلم عليه فرد السلام فقال: إن رد السلام يكون بالإشارة بيدك، وجاء ذلك عن عبد الله بن عباس بإسناد صحيح، كما رواه عبد الرزاق في كتابه المصنف، أن رجلاً سلم عليه فقبض ابن عباس يده، يعني: رد السلام كأنه حركها، وهذا أظنه هكذا كأنه أشار بيده إلى شيء من التحية، نقول: هذا من الأمور المباحة، وقيل بسنتها باعتبار ورودها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأظهر أنها سنة، وعلى من قال بوجوب رد السلام عند بذله من أحد، وهذا هو القول الصحيح، فإنه لا يوجبها في هذا الموضع؛ لتأكد الإنصات وتحول الرد من اللفظ إلى الإشارة؛ لأن الوجوب يكون باللفظ، وإذا منع من اللفظ فإنه يتحول إلى الإشارة، والعذر قد قام في ذلك، وإساءة الظن مدفوعة؛ لأنه مأمور بالإنصات.

الحركة في الصلاة

فأما بالنسبة لحركة المصلي في صلاته لأمرٍ من غير الصلاة، معلوم أن الله عز وجل إنما أمر بالإنصات والقنوت في الصلاة لأجل الخشوع والسكينة، حتى لا يخرج الإنسان الصلاة عن وقارها وسمتها، فإذا قلنا بهذا: فهل الحركة في الصلاة تأخذ حكم الكلام؟ نقول: إن الحركة في الصلاة لا تأخذ حكم الكلام من جهة الأصل، باعتبار أن الكلام إذا تكلم المصلي متعمداً فإن صلاته باطلة، ولو كانت كلمة واحدة فتبطل بذلك صلاته، فلو نادى رجلاً: أن هلم إلي، أو اذهب، أو غير ذلك، بطلت صلاته، وأما بالنسبة للحركة فلا تبطل بمثل هذا المقدار، كأن يشير الإنسان بيده أو نحو ذلك، أو يشير إلى السماء كما جاء في حديث عائشة في صلاة الكسوف، فنقول: إن هذا لا تبطل به الصلاة، ولكن ما هو المقدار في هذا؟

نقول: الحركة في الصلاة جائزة إذا كانت لحاجة ولا تذهب جوهر الصلاة من جهة الطمأنينة والخشوع، والأدلة على ذلك كثيرة، سواءً كان ذلك في المرفوع أو الموقوف، منها: ما جاء في حديث أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( اقتلوا الأسودين في الصلاة )، وهذا دليل على جواز قتل الحيات والعقارب وما يؤذي الإنسان، ولو كان في ذلك حركة، ومعلوم أن قتل الإنسان للحية والعقرب يلزم من ذلك حركة وذهاب وتحرك بجسمه كله أو ربما يلزم من ذلك شيء من الانحراف اليسير، فهذا لا يضر، لمصلحة الصلاة.

وكذلك جاء عند أبي داود من حديث عائشة عليها رضوان الله، أنها استفتحت على رسول الله صلى الله عليه وسلم الباب وهو في صلاة ففتح لها، وجاء في ذلك جملة من الأحاديث الموقوفة، نقول: هذه في الأشياء العارضة اليسيرة التي لا تبطل أصل الطمأنينة ولا الخشوع، فإن ذلك لا ينافي أصل الصلاة، ولا القنوت فيها، وحينئذٍ يقال بجوازه.

قوله تعالى: (يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين)

في قول الله سبحانه وتعالى: يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:43]، الله عز وجل نادى مريم وأمرها بالقنوت.

المراد بالقنوت في قوله تعالى: (اقنتي لربك)

القنوت قيل: إن المراد بذلك هو طول الركوع كما جاء تفسيره عن غير واحد من السلف عن مجاهد بن جبر وغيره.

وقيل: إن المراد بذلك هو طول القيام في الصلاة والركوع والسجود، فلا يخص ذلك الركوع بعينه.

وقيل: إن المراد بذلك هو طول الدعاء في الصلاة، تضرعاً لله عز وجل وإبداءً للحاجة: اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:43]، ويظهر في عطف السجود والركوع على القنوت أن المراد بالقنوت معنىً أعم وهو الإطالة في الصلاة، وأمر الله عز وجل لـمريم بالسجود والركوع دليل على أن هذه الصفة في السجود والركوع هي من جوهر الصلاة وصفتها حتى عند السابقين من بني إسرائيل، ولكنهم يختلفون في عدد الركوع والسجود وعدد الصلاة.

مفاد الأمر في قوله تعالى: (واركعي مع الراكعين)

وفي قول الله سبحانه وتعالى: وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:43]، هل هذا خطاب لها بأن تتوجه إلى الصلاة مع الناس؟

هذا خطاب لا يفهم منه على سبيل الانفراد؛ لأن المرأة مأمورة بحضور وشهود الصلاة مع الجماعة، ولكن الخطاب هنا أن تشرك المسلمين والمصلين في عملهم ولو كانت بعيدة عنهم، وهذا كقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119]، فلو كان الإنسان بعيداً ما أشركهم في هذا الخلق، فإنه يكون من أهلهم، فالمراد بالمعية هنا: وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:43]، الاشتراك بالمعنى والصفة لا الشهود.

صلاة الجماعة للنساء عند الأمم السابقة

وهل صلاة الجماعة موجودة عند الأمم السابقة بالنسبة للنساء؟

بالنسبة للرجال صلاة الجماعة معروفة عندهم، أما بالنسبة للنساء مع الرجال، فقد جاء في ذلك بعض الموقوفات، جاء هذا عن عائشة عليها رضوان الله فيما رواه عبد الرزاق في كتابه المصنف، قالت: كانت نساء بني إسرائيل يشهدن المساجد، فاتخذن نعالاً من خشب يتشرفن إلى الرجال فمنعن من ذلك، وجاء ذلك في حديث عائشة عليها رضوان الله تعالى، قالت: ( لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء من بعده لمنعهن كما منعن نساء بني إسرائيل ) يعني: أنهن قد أحل الله عز وجل لهن ذلك، ثم منعن لتلك العلة، وجاء هذا موقوفاً عن عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله وهو في المصنف، فهن يشهدن الصلاة ولكن بالمفارقة في الصفوف كما هو ظاهر، وربما كان بينهن وبين الرجال حائل، وهي كحال السترة التي يفعلها المتأخرون والتي تكون بين صفوف الرجال وبين صفوف النساء، قالت عائشة : يتخذن نعالاً من خشب يتشرفن إلى الرجال، يعني: أنهن لا يرين الرجال إذا كن من غير شيء مرتفع يرتفعن عليه.

فنقول في هذا: إن هذا من المشروع عند الأمم السابقة، ولكن هذه الآية لا دلالة فيها صريحة، وإنما المراد بذلك هو الاشتراك مع المتعبدين.

وفي هذا إيناس للاشتراك في الحكم، فإن الإنسان إذا أشرك مع غيره في حكم؛ إشارة إلى أنه ليس منفرداً بتلك العبادة، فيستوحش من عملها، لاستنكار الناس له، أي: أن هذه العبادة من الركوع والسجود هي التي كان عليها السالفون ممن سبق، فأمرها الله عز وجل بالسجود والركوع مع الراكعين.

صلاة المرأة جماعة في المسجد

بالنسبة لصلاة الجماعة للنساء نقول: يتفق العلماء على أن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها مع الجماعة ولا خلاف في ذلك، وقد حكى الإجماع على هذا ابن عبد البر رحمه الله أنهم لا يختلفون على أن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المساجد، سواءً كانت منفردة أو كانت مع الجماعة، وإذا قلنا بذلك فهل صلاة الرجل مع الجماعة التي تفضل صلاة الفرد بسبع وعشرين أفضل من صلاة المرأة منفردة؟

نقول: صلاة المرأة منفردة في بيتها تساوي صلاة الرجل مع الجماعة، وهذا مقتضى المساواة في الأجر، وهذا ظاهر في قول الله سبحانه وتعالى: أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى [آل عمران:195]، فالاستواء من جهة الأجر بين الرجال والنساء من جهة مقدار الحسنات وعدها واحد في ذات الأعمال، فالله عز وجل لا يوجد عملاً من الأعمال ولو كان من خصائص الرجال فيثيب عليه إلا جعل عملاً ولو كان من غير جنسه للنساء يثبن عليه، فلما شرع الله عز وجل الجهاد للرجال وما فيه من ثواب جعل الله عز وجل الحج والعمرة من الجهاد، كما جاء في حديث عائشة : ( عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج )، وهذا فيه إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى إذا خص أحداً بخصيصة من الفضل جعل ما يقابله لغيره، وهذا يكون بين الرجال فيما بينهم كرجل غني ورجل فقير، ورجل سلم له بدنه، ورجل لم يسلم له بدنه، ورجل بصير، ورجل ليس ببصير، والمرأة مع الرجل كذلك في ذات العمل، فإذا أعطى الله عز وجل رجلاً خصيصة من خصائص العمل وذلك كالغنى، فالرزق في هذا من جهة الأصل أمر قدري، قد يؤتى للإنسان من إرث، أو يؤتى من حظ أتي إياه، ولو سعى في الأرض وضرب فربما افتقر.

فنقول في مثل هذا: الله عز وجل يعطي عبده الفقير ما يساوي به ذلك كما جاء في حديث: ( سبق أهل الدثور بالأجور ) فجعل الله عز وجل لأولئك الفقراء من الذكر والتسبيح ما يساوون به أولئك، وهذا مقتضى عدل الله سبحانه وتعالى، وهذا كما أنه في الجنس الواحد من الرجال، كذلك هو بالنسبة للرجال والنساء، فصلاة المرأة في بيتها تساوي صلاة الرجل مع الجماعة، وأما بالنسبة لصلاتها في بيتها، وصلاتها في المسجد نقول: صلاتها في المسجد مفضولة، وصلاتها في البيت أفضل، هذا على ما تقدم محل اتفاق، وأما إذا رغبت الصلاة في المسجد فتصلي في المسجد ولا يجوز لزوجها أن يمنعها، هل هذا بالإطلاق؟

نقول: لا، هو مقيد بصلاة الليل، جاء في حديث عبد الله بن عمر و أبي هريرة و زيد بن خالد الجهني و عائشة عليها رضوان الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله )، جاء في صحيح البخاري من وجه آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا استأذنكم نساءكم للخروج إلى المساجد ليلاً فلا تمنعوهن )، يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قيد عدم المنع هنا في الصلاة ليلاً لأنه أستر لهن، أما صلاة النهار فعلى الأرجح أنه يجوز للرجل أن يمنع امرأته من الخروج إلى الصلاة؛ لأن حديث عبد الله بن عمر و أبي هريرة و زيد بن خالد و عائشة في المنع من الصلاة بإتيان المساجد أن هذا عام، وما جاء في البخاري من تقييد ذلك أنه يكون في صلاة الليل.

وأما الزيادة في حديث عبد الله بن عمر : ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتهن خير لهن )، هذا جاء عند أبي داود، وهذه الزيادة شاذة، قد روى هذا الحديث عن عبد الله بن عمر جماعة من أصحابه، رواه نافع، و سالم بن عبد الله بن عمر و مجاهد عن عبد الله بن عمر، كلهم يروون هذا الحديث عن عبد الله بن عمر، ولا يذكرون قوله: ( بيوتهن خير لهن ).

وأما حبيب بن أبي ثابت فقد رواه عن عبد الله بن عمر وذكر هذه الرواية، و حبيب ممن يدلس، فربما دلس هذه الرواية، أو حمل حديثاً آخر على حديث، نقول: هذا المعنى قد جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في وجه آخر، قد أخرجه الإمام أحمد عليه رحمة الله من حديث أم حميد، وهي زوجة أبي حميد الساعدي الذي روى حديث صفة صلاة النبي عليه الصلاة والسلام أنها استأذنت صلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ( صلاتك في بيتك أفضل من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك أفضل من صلاتك في دارك، وصلاتك في مسجد قومك أفضل من صلاتك في مسجدي )، يعني: كلما قربت المرأة إلى بيتها فهذا أفضل وعظم لها أجراً، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: ( الصلاة في بيتك أفضل من صلاتك في حجرتك ) ومعلوم أن بيوتهم على أقسام:

القسم الأول: هو البيت، والبيت هو الذي يبات فيه وينام، وهي الغرف المسقوفة، وأما بالنسبة للحجر الحجرة هي التي تفتح غرفة المبيت والمنام عليها، وهي ما تسمى الأحواش لدينا، فهذه الأحواش تسمى حجراً، ولهذا عائشة عليها رضوان الله تعالى تقول: (حجرتي) وهي الحجرة التي يكون فيها الضيوف، وليست الحجرة التي فيها المنام، فثمة باب بينها وبينه، والدليل على هذا في حديث عائشة عليها رضوان الله تعالى تقول: ( إن النبي صلى الله عليه وسلم يصلي العصر وإن الشمس لفي قعر حجرتي )، يعني: ليست الغرفة أو البيت المسقوف وإنما الحجرة المفتوحة، وأما الدار فإنه يشمل مجموعة دور، كالحي الذي يجتمع فيه الناس، فإن هذا يسمى دار بني فلان، كدار بني النجار الذي يجتمعون فيه من قراباتها، فكلما قربت المرأة إلى خدرها فصلاتها أعظم، وكأن النبي عليه الصلاة والسلام حينما جعل صلاتها في بيتها وهو موضع المبيت والمنام أفضل من صلاتها في حجرتها، لأن السقف مفتوح، فكيف بفضاء مفتوح؟ وكيف بخروج المرأة إلى الطرقات، وهذا في موضع عبادة وموضع صلاة، فكيف بما عدا ذلك.

وهذا دليل على أهمية بقاء المرأة وقرارها في دارها، وقلة خروجها من غير حاجة.

الأذان والإقامة لجماعة النساء

وهنا مسألة يتكلم عليها وهي مسألة صلاة النساء جماعة وأذانهن وإقامتهن. نقول: تصلي النساء جماعة، قد صح ذلك عن أم سلمة، وجاء عن عائشة عليها رضوان الله تعالى في الصلاة وتقوم وسطهن، وأما بالنسبة للنداء نقول: النداء قد اختلف فيه، ويتفق العلماء على أن نداء المرأة إذا سمعه الرجال فإنه يكره، واختلفوا في حال عدم سماع الرجال لأذانها، كأن تكون المرأة في بيتها أو في بستانها، أو في موضعٍ لا يسمعها أحد فيه من الرجال، فهل لها أن ترفع صوتها؟ قد اختلف في هذا، منهم من قال: إنه مشروع للنساء بهذا القيد، ومنهم من قال: هو من خصائص الرجال، وسئل أنس بن مالك عليه رضوان الله عن أذان النساء؟ فقال: ذكر الله أأنهى عنه؟ يعني: لا أنهى عنه، وكأنه أخذ بالعموم. أما إقامة المرأة فإن الإقامة في ذلك هي من مواضع الخلاف، وعامة السلف على أن المرأة تقيم كالرجل، وهذا هو الأظهر.

قوله تعالى: (ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك...)

يقول الله سبحانه وتعالى: ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران:44].

حكم القرعة

في هذه الآية إشارة إلى معنى وهو مشروعية الاقتراع، وهي القرعة والإسهام، وأن هذا من هدي الأنبياء السابقين، والاقتراع المراد به هو الإسهام بين المتنازعين عند اشتباه الحقوق وعدم اتضاحها، وذلك نزعاً ودفعاً للخصومة، يجوز للقاضي أن يصير إليه.

وهنا في قوله: يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ [آل عمران:44]، وذلك لما تنازعوا في مريم وهي ابنة سيدهم عمران، فتنازعوا في ذلك احتساباً للأجر وطلباً للجاه، فاقترعوا لتساوي الحقوق.

القرعة لا تكون إلا عند تساوي الحقوق وعدم وجود البينة في ذلك، وأما إذا وجدت البينة وظهرت الحجة فلا يصار إلى القرعة، بل المصير إليها محرم، لأنها أكل لأموال الناس بالباطل، وانتزاع للحق بشيء لا يجوز في موضعه، وإنما هي عند اشتباه الحقوق، وقد ترجم على هذا البخاري رحمه الله أن القرعة تكون عند المشكلات، يعني: الأمور المشتبهة والمشكلة وعدم جلاء حق بعينه، وعامة العلماء وهو قول عامة السلف إلى أن العمل بالقرعة جائز وقد يجب وقد يتأكد إذا كانت الخصومة لا تدفع إلا بها؛ لأن ما لا يدفع المحرم إلا به فهو واجب ما لم يكن محرماً في ذاته، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ما لم يكن محرماً في ذاته أغلظ من تفويت ذلك الواجب، ولهذا نقول: إذا وقعت خصومة بين اثنين لا ترفع إلا بالاقتراع فإنه يصار إليه وجوباً، فهي تأخذ الأحكام التكليفية الخمسة في مسألة الإباحة والاستحباب، والوجوب، والكراهة والتحريم، والتحريم عند اتضاح الحقوق فإنه لا يصار إلى الاقتراع؛ لأن الحق ينتزع بها، ويعطى لغير صاحبه، وهي ليست بينة وإنما لدفع النزاع.

ذهب أبو حنيفة إلى عدم الأخذ بالاقتراع، وله قولان في هذا الأمر، والمشهور عنه كراهة الاقتراع وعدم الأخذ به، ويرى أن الحكم في ذلك منسوخ، وذهب إلى هذا أصحابه، وله قول آخر قد نقله عنه ابن المنذر أنه قال: إن الاقتراع ينافي القياس، ولكن تركنا القياس أخذاً بالسنة والأثر، وقوله مع الجماعة أولى من قوله إذا كان منفرداً، ولكن أصحابه على الأخذ بعدم الاقتراع وهو قوله الأول.

ونقول: إن الأدلة في ذلك ظاهرة عن النبي عليه الصلاة والسلام، وقد قال أبو عبيد : ثلاثة من الأنبياء عملوا بالإسهام والقرعة، هو زكريا و يونس : فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ [الصافات:141]، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لما أقرع بين نسائه، فهؤلاء أنبياء أخذوا بذلك، فهي متواترة مستفيضة، وقد ذكرت القرعة في موضعين في كلام الله عز وجل في هذه الآية، وفي سورة الصافات في قصة يونس عليه السلام، والعمل بذلك قطعي، ولا يجوز رد ذلك لظهور الأدلة وتواترها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلاً عن جلائها وظهورها في كلام الله سبحانه وتعالى، وقد شدد الإمام أحمد رحمه الله على من رد القرعة وقال بعدم الأخذ بها، وقال من قال: إنها منسوخة فقد قال كذباً وشهد زوراً، فقيل له: إن أقواماً يقولون: إن القرعة هي شبيهة بالاستقسام بالأزلام، فقال: هذا قول رديء خبيث، ثبتت فيه خمس سنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الأحاديث عن النبي عليه الصلاة والسلام في الاقتراع والإسهام عند تشابه الحقوق وعدم اتضاحها كثيرة، وهي شبيهة بالمتواتر، جاء ذلك في حديث عمران بن حصين، وحديث عائشة عليها رضوان الله ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر أقرع بين نسائه ) وهو في الصحيحين، وجاء هذا من حديث زينب بنت جحش، وجاء في حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لو يعلمون ما في النداء والصف الأول ولا يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه )، وجاء كذلك من حديث سعد بن أبي وقاص عليه رضوان الله فيما رواه الطبراني في كتاب المعجم من حديث شقيق قال: أصيب مؤذن سعد في القادسية، فاختصم الناس في الأذان، فأقرع بينهم سعد بن أبي وقاص دفعاً لنزاعهم واختلافهم أيهم أحظ بالأذان.

وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً في حديث أم سلمة فيمن اختلف على الميراث فأقرع بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدم وجود بينة في ذلك، وكذلك في حديث عمران بن حصين وهو في الصحيح فيمن أعتق أعبده الستة في ذلك، ثم مات وليس له مالٌ إلا هذه الأعبد، فمعلوم أنه لا يجوز للإنسان أن يوصي بما زاد عن الثلثين، فأعتقهم جميعاً في مرض موته، فجمعهم النبي عليه الصلاة والسلام فأقرع بينهم، فجعل العتق في اثنين منهم، وكذلك قد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الإقراع بين المهاجرين والأنصار لما قدم النبي عليه الصلاة والسلام من مكة إلى المدينة ومعه فئة من المهاجرين، نازعهم الأنصار كلٌ منهم يريد أن يقاسمه داره، قالت أم العلاء الأنصارية عليها رضوان الله: فأقرع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيننا، فكان عثمان بن مظعون من حقنا، يعني: من نصيبهم الذي رجحوا فيه.

وفي هذا حرصهم على المهاجرين، وكذلك تفانيهم في تقاسم أموالهم وما يملكون.

وجاء عن جماعة من الصحابة عليهم رضوان الله تعالى الإسهام، جاء ذلك عن عثمان بن عفان، وعن صفية بنت عبد المطلب وهي عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي شقيقة لـحمزة لما قتل حمزة عليه رضوان الله، جاءت كما روى الإمام أحمد من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن الزبير قال: رأيت امرأة تأتي بين القتلى، فنظرت فإذا هي صفية، ومعها ثوبين، فرأت حمزة بن عبد المطلب وأنصاري قد فعل فيه ما فعل بـحمزة، وأحد الثوبين أكبر من الآخر، فوجدت في نفسها أن تجعل لـحمزة ثوبين ولا تجعل للأنصاري فأقرعت بينهما في الثوبين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد، وجاء ذلك أيضاً عن جماعة من السلف الإقراع فكان مستفيضاً، ولا أعلم من أنكره، لا من الصحابة ولا من التابعين إلا بعض الفقهاء من أهل الرأي، وبعضهم من أهل الرأي من الحنفية قالوا: إن الاقتراع المنسوخ هو الذي يفصل في الحقوق وليس ما كان تطييباً للنفس، وهذا قول الإمام الطحاوي رحمه الله قال: ما كان تطييباً للنفس كقسم الرجل بين أزواجه بالإسهام إذا أراد أن يسافر فإنه يقرع بينهن قال: هذا تطييب للنفس، وليس المراد بذلك الفصل في الحقوق، وهذا التقييد فيه نظر.

أولاً: لمعارضته للأحاديث الظاهرة المتواترة عن النبي عليه الصلاة والسلام حتى في الحقوق المالية، بل حتى في إلحاق النسب، إذا اشتبه في نسب ولد ينتسب لفلان أو لفلان ولا يخرج عنهما، ولم يكن ثمة بينة لأحد منهما، فإنه يقرع بينهما، وقد جاء ذلك عند الإمام أحمد، وجاء في السنن من حديث علي بن أبي طالب عليه رضوان الله أنه لما كان في اليمن أتي بامرأة وطأها ثلاثة رجال في طهر، وجاءت بولد فأخذ باثنين، فقال: أتقرون بأنه ولد هذا؟ فقالا: لا، فيأخذ بآخرين، ثم بآخرين، ثم أقرع بينهما الولد، فمن خرج في نصيبه ذلك الولد حمله ثلثي الدية أن يعطي كل واحد الثلث، فيرى في ذلك عدلاً، فبلغ النبي عليه الصلاة والسلام ذلك فضحك حتى بدت نواجذه، يعني: من حسن قضاء علي بن أبي طالب عليه رضوان الله، وبقي هذا الأمر متواتراً مستفيضاً، حتى وصف الإمام أحمد رحمه الله من يقول بخلاف ذلك أنه كاذب وقائل زور، بل قال: إن هذا القول قول رديء، وقد اعتنى الأئمة من الحنابلة عليهم رحمة الله بهذه المسألة، وفرعوا في ذلك، وصنف أبو بكر الخلال كتاباً في الاقتراع والإسهام، وبين وفصل في مواضعها، وما يكون فيه.

ونقول: إن الاقتراع في ذلك الأحاديث فيه متواترة، والأدلة فيه قطعية، ورد ذلك خطأ بين ممن كان قائله؛ لأن الله عز وجل ذكره، ولا يكون من نبي في مثل هذا الموضع وفي قصة يونس، واقتراع النبي عليه الصلاة والسلام، وإقراعه في مواضع عديدة إلا وهو حق لا يشوبه شيء من الباطل.

الحالة التي تشرع فيها القرعة

وفي قول الله سبحانه وتعالى هنا: إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران:44]، في هذا أن الله سبحانه وتعالى إنما شرع الاقتراع دفعاً للخصومة، وفي هذا رد على الحنفية الذين يقولون: إن الاقتراع إنما يكون تطييباً للنفوس، فإنهم قد اختصموا وتنازعوا الحق، فالله عز وجل جعل الاقتراع والإسهام في ذلك دافعاً للخصومة التي تقع بينهم، وكذلك فإن في هذه الآية دليل على الإلزام بالاقتراع والإسهام، فإذا فعل القاضي بالاقتراع فوضع قرعةً لحق قد نزع فيه ولا بينة لأحد، فإنه حينئذٍ يلزم بذلك، ولا صفة للاقتراع بين.

المراد بالأقلام في قوله: (يلقون أقلامهم) وبيان صفة الإلقاء

ولهذا قد اختلف المفسرون في قول الله عز وجل: يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ [آل عمران:44]، قيل: إن الأقلام هي أقلام الكتابة، وقيل: إن المراد بالأقلام هي العصي، وقيل: إن المراد بالأقلام الأقداح.

واختلف في الصفة قيل: إنهم رموا بأقداحهم في النهر، وجعلوا آخرها بقاءً في النهر هو يكون من نصيبه مريم، قالوا: فبقي قدح زكريا.

ومن العلماء من يقول: إنما هو رمي للأقلام والعصي في النهر، فما انغمس في النهر أولاً أو جرفه النهر، أو كان آخرها بقاءً، فهو أحظ بها، ومنهم من قال: هي الأقلام المعروفة.

وعلى كل: هي على صفات متعددة، سواءً كانت بالأقلام، أو كانت بأوراق، أو كانت بأواني، أو غير ذلك، فإن هذا سائغ، ومن شبه الاقتراع بالاستقسام بالأزلام، وهذا ما قال به البعض، فهذا لا شك أنه فرية، ومعلوم أن الاستقسام بالأزلام إنما كان أهل الجاهلية يستقسمون بالأزلام فيضعون ثلاثة أواني إذا عزم أحدهم على سفر فيكتب في هذا الإناء، فيقول: الله أمرني بكذا، يعني: بهذا، والثاني: الله نهاني عنه، والثالث: لا يكتب فيه شيئاً، ثم يأتون بهذه الأقداح ويرمونها، فما تناول من قدح، فإذا كان فيه الله نهاني عن ذلك يمتنع عن السفر، أو يمتنع عن زواجه، أو يمتنع عن فعل أمرٍ عزم عليه، وإذا كان فيه الله أمرني بهذا، فإنه يقدم عليه، وإذا وجد الإناء فارغاً أعاده مرة أخرى حتى يقع عليه.

هذا فيه كذب وافتراء من وجوه: الوجه الأول: أنه كذب على الله؛ لأن الله لا يأمر بهذا، إذا أردت أن تسافر سافر، لا تجعل ذلك وحياً، ولا تجعل الله عز وجل أمرك بالبقاء، خذ بالمصالح في هذا، وهذا كذب على الله.

الأمر الثاني: أن الاستسقام بالأزلام فيه تعظيم لما يستقسمون به، فإنهم يستقسمون عند أصنامهم، وهذا تعظيم لهذه المواضع، ولهذا الاقتراع لا يشرع للإنسان أن يفعله في مسجد، أو يفعله في المسجد الحرام، يقال: لا حاجة إلى هذا، يفعله في أي موضع، فهي ليست موضعاً للتعظيم، وإنما هي حلاً للنزاع والخصومة، فلا يوجد فيها تعظيم، ولا يوجد فيها كذب على الله سبحانه وتعالى، فعلى هذا هي تختلف عن مسألة الاستقسام بالأزلام.

كذلك هي تتضمن شيئاً من التطير، وكذلك فإن الاستقسام بالأزلام يكون عند عدم الخصومات من الواحد في نفسه، إذا أراد أن يسافر لا يخاصمه في ذلك أحد، وأما بالنسبة للاقتراع فإنه لا يكون إلا عند وجود خصومة بلا بينة.

أما إذا فعلها الإنسان منفرداً، فهل يجوز له ذلك؟

نقول: هذا الذي يشابه الاستقسام بالأزلام، فيقول: إني أفعل كذا إن ظهرت على هذا النحو فسأسافر أو أتزوج، هذا الذي يدخل في هذا الأمر إن وقع فيه تعظيم، أو نسبه إلى الله؛ كان شركاً، وإذا لم ينسبه إلى الله وإنما أراد أن يحسم في ذلك أمره وقع في الابتداع والإحداث في دين الله سبحانه وتعالى ما ليس منه، وعلى هذا نعلم أنه ثمة فرق بين الاستقسام بالأزلام، وبين الاقتراع، والفرق في ذلك ظاهر، ومن شبه بين هذه وهذه فلا شك أنه قد أعظم الفرية، وعظمة الفرية تظهر أن الله عز وجل حكاه عن نبيين من أنبيائه، وفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتواترت الأحاديث في هذا، ولا يعلم عن أحدٍ من الصحابة ولا عن أحدٍ من التابعين أنه كره ذلك أو منع منه، ولكن الاقتراع على ما تقدم يكون بقيود وضوابط في حال الاشتباه، وعدم ظهور البينة حتى لا تؤكل أموال الناس بالباطل.

نكتفي بهذا القدر، ونسأل الله عز وجل الإعانة والسداد، ومنه نستمد التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

ونتكلم بإذن الله عز وجل في المجلس القادم في قول الله عز وجل: أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ [آل عمران:49]، إذا صنع تمثالاً قبل أن ينفخ فيه، فهل الرسم أو التمثال العارض الذي يزال ويتلف أو يستحيل بعد ذلك يجوز فعله أم لا؟ نتكلم على هذا، وكذلك في قول الله سبحانه وتعالى: وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ [آل عمران:49]، نتكلم فيما يسمى بإظهار الأموال للناس، ما يسمى بأرقام المدخرات والمخزونات، هل هذا جائز أو ليس بجائز؟ ما يسميه بعض المعاصرين: محاربة الفساد أو نحو ذلك، أن يظهر الإنسان ما يدخره الناس، هل هذا من كشف الأسرار، أن نعلم كم عندك من الإبل، كم عندك من البقر، كم عندك من رءوس الأموال، هل هذه سر أو ليست بسر، هل هو حق يحفظ أو لا يحفظ، الشريعة أذنت بذلك، ولماذا جعلها الله معجزة؟ وهل المعجزة تكون محظورة أو ليست بمحظورة؟

هذا سوف نتكلم عليه بإذن الله عز وجل في المجلس القادم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير آيات الأحكام [49] للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي

https://audio.islamweb.net