إسلام ويب

نظم الله سبحانه وتعالى علاقة المسلمين بأهل الكتاب من اليهود والنصارى, سواء كانوا في بلاد الإسلام أو في بلادهم, فإن كانوا في بلاد الإسلام فلا يخلو أن يكونوا إما مستأمنين أو أهل ذمة, وإن كانوا في بلادهم لزمهم الجزية عن يد وهم صاغرون, فإن أبوا فالقتال. ومما شرعه الله للمسلمين في علاقتهم مع أهل الكتاب أن أباح لهم نكاح نساء أهل الكتاب بشروط معلومة, وبين لهم أيضاً كيفية معاملة أهل الكتاب في بدء السلام ورده.

فضل الأمة المحمدية على سائر الأمم

الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فقد أكرم الله جل وعلا هذه الأمة بهذا الدين العظيم, وقد أنعم الله سبحانه وتعالى وتفضل عليها بجملة من الفضائل والمكارم, ويكفي أن الله سبحانه وتعالى قد أرسل إلى هذه الأمة سيد ولد آدم, وأنزل الله جل وعلا على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كتابه العظيم، وقد أكرم الله جل وعلا هذه الأمة أن جعلها خاتمة للأمم, ومعلوم أن خاتمة الشيء يكون فضله به يعني بتلك الخاتمة, ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح من حديث سهل: ( إنما الأعمال بالخواتيم )، والنبي صلى الله عليه وسلم قد بين أن الأفراد يختم لهم في أعمالهم بحسب ما كانوا عليه, وهذا إذا كان في الذوات والأفراد كذلك فإنه أيضاً في أبواب الأزمنة والدهور, وكذلك المجتمعات، فإذا كان المجتمع في آخره فاضلاً فإن هذا دليل على فضل الأمة ومنزلتها الآخرة, وقد جعل الله جل وعلا هذه الأمة مفضلة ومكرمة على غيرها, ويكفي أن الإنسان يرى ثمرة ذلك في جملة من النصوص والأخبار التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، منها ما جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي موسى, وكذلك من حديث عبد الله بن عمر في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنما مثلكم ومثل الذين من قبلكم من اليهود والنصارى كرجل استأجر أُجراء, فقال: من يعمل لي من غدوة إلى صلاة الظهر على قيراط, فعملت اليهود, ثم قال: من يعمل لي من صلاة الظهر إلى صلاة العصر على قيراط, فعملت النصارى, ثم قال: من يعمل لي من صلاة العصر إلى صلاة المغرب على قيراطين, فعملتم أنتم, فقالوا: ما لنا أكثر عملاً وأقل أجراً, فقال الله جل وعلا: ذلك فضلي أوتيه من أشاء ).

ويكفي هذا أيضاً أن الله سبحانه وتعالى قد جعل لهذه الأمة من حسن العاقبة عنده ما ليس لغيرها من الأمم، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك جملة من الأخبار, من أظهرها أن هذه الأمة هي أكثر أهل الجنة دخولاً وأقل أهل النار دخولاً، ويكفي في هذا ما جاء عند الطبراني وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أهل الجنة مائة وعشرون صفاً أمتي منهم ثمانون )، وهذا دليل على منزلة هذه الأمة وفضلها على سائر الأمم، وهي أمة مرحومة, وقد اجتمعت فيها أسباب الرحمة والفضل من جهة تضعيف الأجر, وكذلك الخصائص التي خصت بها بكتابها المحفوظ الذي لا يبدل, وهذا هو عين الرحمة, ولهذا قال الله جل وعلا في كتابه العظيم: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58]، وقد جاء عن غير واحد من السلف كما جاء عن عبد الله بن عباس وكذلك جاء عن مجاهد بن جبر في قول الله جل وعلا: (( قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ )), قال: هو الإسلام والقرآن, أي: أن الله جل وعلا قد جعل فضله وهو الإسلام والقرآن هو ما ينبغي للإنسان أن يفرح ويسعد به، وأن يعلم أن الله جل وعلا قد خصه وقدمه على غيره من الأمم والشعوب، فالله سبحانه وتعالى قد أنزل في هذه الأرض ديناً واحداً لا يتغير ولا يتبدل من جهة أصوله، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما روى البخاري وغيره: ( نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات، ديننا واحد )، والمراد بذلك: هم الأخوة غير الأشقاء الذين ينتسبون إلى نسب واحد؛ ولكن أمهاتهم شتى، والمراد من ذلك: أن الأحكام التي ينزلها الله جل وعلا على عباده تختلف وتتباين من شريعة إلى شريعة, وهذا ما يتعلق في أبواب الفروع, وأما ما يكون من أبواب الأصول فإن الأصول ثابتة من جهة العقائد وأصول الديانة، وأما فرعيات الدين فإنها من جهة الأصل متشابهة إلا أنها تختلف من جهة الهيئة وتتفق من جهة الأصل، يعني: بوجود الصلاة والصيام والزكاة وغير ذلك وعتق الرقاب وغيرها, وذلك أن هذه الصور تتباين بحسب الأسباب الشرعية المؤدية إليها, وإنما ظهرت جملة من الشرائع على بعض في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم للخصائص التي قد احتفت بها, وهذه منزلة ليست لأحد إلا لهذه الأمة, أن الله جل وعلا جعل كتابها بيناً, وجعل رسالة النبي صلى الله عليه وسلم رسالة تامة, وجعل الله جل وعلا نبيه شاهداً على سائر الأمم وسائر الخلق يوم القيامة, وجعل الله جل وعلا أبناء هذه الأمة لمنزلتها وفضلها شهداء على الناس, وهذه خصيصة ليست لأمة ولا لشعب من الشعوب إلا لأمة الإسلام، الله سبحانه وتعالى الدين الذي أنزله على سائر أنبيائه هو دين الإسلام, ولا يقبل الله جل وعلا ديناً غيره, ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85]، فدين الإسلام هو دين التوحيد الذي أنزله الله جل وعلا على سائر الأنبياء, فهو ثابت ومستقر، ولا يكذب خبر عند نبي أو في شرعة من الشرائع إلا ويؤيد ذلك النص الذي جاء بعده, وهذا ما ينبغي أن يعلم وأن يؤكد عليه.

الإسلام وأهل الكتاب

ما يتعلق بمحاضرة اليوم وهو ما نتكلم عليه هو مسألة الإسلام وأهل الكتاب, هذا العنوان من المسائل المهمة وعلى الأخص في زمننا هذا الذي كثر فيه اللبس والخلط, وكذلك أيضاً قد دخل في هذا الباب جملة من المسائل الشائكة التي يحتاج إليها كثير من المسلمين فيما يتعلق بشأنهم من أمر الدنيا أو ما يتعلق بمسائل عقائدهم وإيمانهم مما له صلة بأصل الإيمان وثباته واستقراره، فجملة من المسائل تتعلق بأصل الإيمان, التحول عنها تحول عن الإيمان بالكلية, وثمة مسائل هي من مسائل الأحكام الفقهية, وثمة أيضاً مسائل تسمى من أبواب الآداب والسلوك ونحو ذلك، هذه من الأمور التي ينبغي للإنسان أن يكون على بينة وبصيرة بها.

حفظ الله للدين الإسلامي من التبديل والاندثار

إنما قلنا: الإسلام وأهل الكتاب؛ لأن الإسلام شيء وأهل الكتاب شيء؛ وذلك أن الله سبحانه وتعالى أنزل كتابه على سائر الأنبياء, سواء ما أنزله الله جل وعلا من الصحف على إبراهيم وعلى موسى وعلى عيسى, أو ما أنزله الله جل وعلا من الفرقان والهدى المبين على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم, من جهة الحقيقة هو دين الإسلام، ولكن قد نال هذا الدين في بعض الفترات شيء من التحريف والتبديل, ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة قال: ( كانت بنو إسرائيل تسوسهم أنبياؤهم, كلما ذهب نبي جاء نبي بعده )، وقال عليه الصلاة والسلام: ( وختم الله جل وعلا بي الأنبياء ), وفي هذا إشارة إلى مسألة مهمة، وهي أن الشريعة الإسلامية محفوظة من التبديل بالكلية من جهة اللفظ والمعنى, فلا ينطمس أو يندثر أو يدرس معنى الإسلام بالكلية إلى قيام الساعة, بل يقال: إنه قد يندثر من بلد ولكنه من جهة الأصل باقٍ, وهذا أمر ينبغي أن يكون الإنسان على بينة منه, ولا يكون ذلك إلا في آخر الزمن حينما يقبض الله جل وعلا أرواح أهل الإيمان, أو في الفترة التي تسبق ذلك بقليل، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رواه ابن ماجه وكذلك الحاكم في كتابه المستدرك من حديث ربعي أن حذيفة بن اليمان عليه رضوان الله تعالى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب -يعني: يدفن- حتى لا يدرى ما صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا نسك، إلا رجال يقولون: لا إله إلا الله، سمعنا آبائنا يقولونها فنحن نقولها, وقال صلة لـحذيفة عليه رضوان الله تعالى, قال: وما تغنيهم لا إله إلا الله؟ قال: تنجيهم من النار لا أب لك! ), وهذا الإشارة من حذيفة بقوله: تنجيهم من النار, باعتبار أن هذا لا يدري, والإنسان قد فعل ما كلف به وما وصل إليه علمه، فإن الإنسان إذا فعل ما وصل إليه علمه قد أدى ما عليه, وإذا جهل شيئاً فإن الله جل وعلا يعذره بجهله, ولهذا يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، وخلفاء الرسل هم النذر من العلماء والدعاة والمصلحين والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر, الذين هم خلفاء الأنبياء في هذه الأرض, فوجب أولاً أن يعلم أن دين الإسلام محفوظ, وأن الدروس الذي ذكره حذيفة بن اليمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعلق ببعض البلدان لا بكونه يزول من هذه الأرض بالكلية, ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه الإمام مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، يقاتلون في سبيل الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة )، وفي هذا إشارة إلى بقاء شوكة الإسلام ظاهرة, ولهذا قال: (ظاهرين على الحق)، يعني: أن لهم صولة وجولة وقوة في هذه الأرض, ومن علامة قوتهم وصولتهم أيضاً أنهم يحيون شريعة المقاتلة على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن الأمور المهمة التي ينبغي أن تعلم أن دين الإسلام إنما يسمى بدين الإسلام ما لم ينله ويطله التحريف والتبديل والتغيير, فإذا نال الدين التحريف والتبديل فإنه لا يسمى ديناً, ولهذا لما جاءت الكتب السماوية على أنبياء الله جل وعلا وقعت في أيدي الأتباع من الأحبار والرهبان من بني إسرائيل فبدلوا فيها ما بدلوا, فناداهم الله جل وعلا بجملة من النداء مما يشير إلى تحريفهم لكلام الله جل وعلا، وبين أنهم ليسوا على شيء، يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ [المائدة:68]، وبين الله سبحانه وتعالى في غير ما موضع أنهم حرفوا الكلم عن مواضعه, وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يأتي بيانه من اتباع ما كان بأيديهم بعدما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.

التعريف باليهود والنصارى

اليهود هم من أهل الكتاب والنصارى من أهل الكتاب, وأهل الكتاب هم اليهود والنصارى, وإنما سمي اليهود يهوداً قيل: يسمون انتساباً ليهودا بن يعقوب وقيل: إنهم يسمون باليهود؛ لقول موسى عليه السلام لما رجع إلى قومه ووجد أنهم قد اتخذوا العجل جسداً فعبدوه من دون الله جل وعلا, فقال موسى عليه السلام لربه: إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ [الأعراف:156]، فسموا على هذا الاسم, وثمة أقوال أخرى الله أعلم بها.

وأما بالنسبة للنصارى فكانوا أنصاراً لعيسى بن مريم, وكان موسى قد أنزل الله جل وعلا عليه كتابه التوراة, وهو الذي يسمى في اصطلاح بني إسرائيل في زمننا العهد القديم, والإنجيل أنزله الله جل وعلا على عيسى عليه السلام, وكان أتباعه النصارى, وعيسى جاء بعده نبينا محمد صلى الله عليه وسلم, والإنجيل هو الذي يسمى بالعهد القديم.

ينبغي أن يعلم أن اليهود والنصارى قد خصهم الله جل وعلا بجملة من الخصائص ليست لغيرهم من الكفار والمشركين, وذلك من أبواب التشديد ومن أبواب التيسير, وهذا ينبغي أن يحيط به طالب العلم, وأن يعلم أن ما جاء من كلام الله جل وعلا في تخصيص أهل الكتاب بجملة من النداءات أن ذلك لكونهم أقرب أهل الأرض إلى معرفة الحق لوجود إرث سابق لديهم, بخلاف غيرهم من الصابئين والمجوس وكذلك الملحدين والذين أشركوا والزنادقة وغيرهم الذين لا يدينون بشيء من دين الحق, فبدلوا دين الله سبحانه وتعالى تبديلاً، ولم يكن لديهم شيء من الأصول ولا من الفروع إلا النزر اليسير، بخلاف اليهود والنصارى فلديهم شيء من الحق، ولكن الباطل قد ظهر وطغى على حقهم, وأشركوا مع الله جل وعلا غيره.

نسخ الإسلام لكل الشرائع السابقة له

ينبغي أن يعلم أن الله جل وعلا قد نسخ شريعة عيسى بشريعة محمد عليه الصلاة والسلام, ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح, قال: ( أنا أولى الناس بعيسى بن مريم؛ وذلك أنه ليس بيني وبينه نبي )، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أرسله الله جل وعلا إلى الناس كافة, ومعنى إلى الناس كافة أنه لا يستثنى أحد من البشر بعدم دخوله بالخطاب الذي يخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم الخلق، ولهذا قال الله جل وعلا: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [سبأ:28]، قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]، تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان:1]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح من حديث أبي سعيد وأبي هريرة، قال: ( كان النبي يبعث إلى قومه خاصة, وإن الله بعثني إلى الناس كافة )، وهذا دليل على أن من لم يستجب لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه ليس من أهل الإيمان, وأنه من أهل الكفر, والأدلة في ذلك ظاهرة بينة, ولم يقل أحد من أهل الإسلام قاطبة ممن ينتسب إلى الإسلام من أهل الطوائف السنية والبدعية الداخلة في دائرة الإسلام أن اليهود والنصارى على حق في يوم من الأيام وأنهم ناجون، ويستثنى من ذلك من كان من اليهود والنصارى ممن لم يبلغه الدليل, لم تبلغه رسالة النبي صلى الله عليه وسلم, ولهذا يقول الله جل وعلا مخاطباً نبيه عليه الصلاة والسلام: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ [التوبة:6]، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن استجارة المشركين بالنبي صلى الله عليه وسلم لعدم العلم السابق لديهم توجب أن يجيرهم وأن يعطيهم الأمان, وكذلك أن يسمعهم كلام الله ثم يبلغهم المأمن, أي: يكون بينه وبينهم عهد إلى أمد معلوم, ثم يكون بينه وبين هؤلاء ما سنه الله جل وعلا من المنابذة وكذلك العداء والمجاهدة أو الجزية وغير ذلك مما يأتي الكلام عليه.

الله جل وعلا قد حكم على كل من خالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسلك منهجه بأنه كافر خارج من ملة الإسلام, ولا خلاف في ذلك أياً كان دينه ومذهبه, سواء كان كتابياً أو غير كتابي, ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة، قال: ( والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا أدخله الله النار )، وفي هذا حينما خصص النبي صلى الله عليه وسلم اليهود والنصارى بالخصيصة هنا: (لا يسمع بي أحد من هذه الأمة), وأكد ذلك بالقسم بقوله: (والذي نفسي بيده), إشارة إلى أن اليهود والنصارى هم الذين يسبق إلى الأذهان أنهم من أهل الحق السابق قبل ورود الإسلام, وأنهم إذا دخلوا في هذه الدائرة فإنه يدخل في هذا ممن كان أبعد منهم من باب أولى, فإذا كان الذي دخل في هذا الباب هو اليهودي والنصراني فإن الوثني الذي يعبد الحجر والشجر أو المجوسي أو الصابئ أو غير ذلك يدخلون في هذا من باب أولى, ولا خلاف عند العلماء في ذلك.

ثمة طوائف نشأت في هذا من الاتحادية والحلولية؛ كـابن سبعين وابن هود والتلمساني وغيرهم من الطوائف المعاصرة أيضاً الذين يدعون إلى ما يسمى بوحدة الأديان, باعتبار أنها كلها تؤدي إلى الله جل وعلا وأنها تؤدي إلى الحق وغير ذلك, وهذا هو داخل فيما نتحدث عنه بداهة, باعتبار أن الله جل وعلا قد حسم كل دين وشرعة سابقة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، ويكفي في ذلك ظهور النصوص الواضحة البينة من كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم, فاليهود يقولون: نحن على الحق, والنصارى يقولون: نحن على الحق, والله جل وعلا يبين الحق، وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [البقرة:135]، فبين الله جل وعلا أن اليهود والنصارى ليسوا على شيء، وأن الحق في ذلك إنما هو لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم, الذي جدد الله جل وعلا به الحنيفية السمحاء كما جاء عنه عليه الصلاة والسلام: ( إنما بعثت بحنيفية سمحاء )، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه انفرد بذلك عن غيره, وأن الحق الذي يطلب عند غيره ولو كان عند موسى وعيسى ممن سبقه من الأنبياء أن ذلك ضلال بصورة حق، وقد روى الإمام أحمد وغيره وكذلك ابن أبي شيبة وأبو عمرو الداني وغيرهم من حديث مجالد عن الشعبي ( أن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى أتى بلوح أو صحيفة من التوراة إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: يا رسول الله, هذه التوراة أقرأ فيها, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أمتهوكون يا ابن الخطاب؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية، والذي نفسي بيده لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي )، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في رواية أخرى: ( والله لو كان موسى حياً فاتبعتموه وتركتموني لضللتم )، وفي هذا إشارة إلى أن موسى يتبع النبي صلى الله عليه وسلم باعتبار أن شرع النبي صلى الله عليه وسلم ناسخٌ لما سبق, وكذلك عيسى في آخر الزمان حينما يرجع يحكم بالحنيفية, ولا يؤم المسلمين وإنما إمامهم منهم, مع فضله وجلالته على أمة محمد بالنبوة ومقامها الذي شرفه الله جل وعلا بها.

التوراة وأقسامها

من الأمور المهمة أن يُعلم أن ما لدى اليهود والنصارى من كتب مما تقدم الكلام عليه ويصطلح عليه بالعهد القديم والعهد الجديد، أن المراد بالعهد القديم هو التوراة وما أنزله الله جل وعلا على موسى, والتوراة هي التي تقسم إلى خمسة أقسام, وهي: سفر التكوين, وسفر الخروج, وسفر التثنية, وسفر اللاويين, وسفر العدد, وهذه الأسفار الخمسة هي التي تسمى بالعهد القديم, فأما سفر الخروج فالمراد بذلك ما تضمنه هذا السفر من ذكر خروج البشرية، وكذلك طوفان نوح وما نجى الله جل وعلا به البشرية بعد ذلك, ثم ذكر فيه قصة إبراهيم مع قومه, وكذلك ذكروا قصة يعقوب ويوسف إلى وفاته, ثم ما جاء بعد ذلك من سفر التثنية، وما جاء فيه من جملة الأحكام الفقهية في أمور النكاح والاقتصاد والبيوع وغير ذلك, وأما سفر اللاويين فإنه ينسب إلى لاوي بن يعقوب، فقد ذكروا فيه قصة يعقوب مع قومه، وذكروا فيه جملة من قصص موسى عليه السلام, وكذلك جملة من الأحكام الفقهية في هذا الباب, وكذلك سفر العدد ذكروا فيه عدد بني إسرائيل وأماكنهم وقصصهم, وكذلك مواشيهم ودوابهم وغير ذلك, وهذه الأسفار قد طالها جملة من التناقض والتدليس، وقد أجمع العلماء قاطبة من أهل الإسلام على أن ما جاء في التوراة أنه ناله التحريف على خلاف عند العلماء في التحريف, هل ينضم إلى التحريف المعنوي تحريف الألفاظ أم لا؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال، مع إجماعهم على أن الإنجيل قد ناله التحريف، أعني: تحريف الألفاظ وتحريف المعاني, وأما ما كان من تحريف التوراة فقد اختلف العلماء فيها على ثلاثة أقوال مع اتفاقهم على تحريف المعاني.

ومعلوم أن التوراة قد أنزلها الله جل وعلا على لغة بني إسرائيل من قوم موسى, وهذه اللغة إذا نالها التحريف من جهة المعنى وقلبت المعاني ومناسبات النزول وسياقاتها فإن الأحرف والألفاظ لا تغني أصحابها شيئاً إذا جردت من كتب التأويل والتفسير على غير المعنى, فإذا كانت كتب التفسير تطبق على خلاف معنى مراد الله جل وعلا منها، فلو قيل بعدم تحريف اللفظ بحسب الموضع فإنه يقال: إن وجود اللفظ كعدمه، ومن العلماء من قال: إنه لم ينل هذا الكتاب تحريف الألفاظ وإنما طاله تحريف المعاني حتى غلب عليه، وقد نص على هذا جماعة من العلماء؛ كـالبخاري عليه رحمة الله فإنه قال ذلك في كتابه الصحيح, قال: فإنه لا يمكن أن يزيل أحد حرفاً من حروف الله جل وعلا في كتابه, وإنما تأولوه أي: قلبوا معانيه، وذهب بعض العلماء إلى أن فيه تحريفاً ولكنه قليل, وقد نص على هذا شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله, وثمة طوائف قالوا: إنه كله محرف, ولا يوجد فيه شيء مما ينسب لله جل وعلا, حتى قيل في هذا: إنه لا ينسب لله، وإنما هو من أقوال الناس، ولو استنجى به الإنسان لما كان محرماً, وهو قول مردود ممن حسم بهذا وجزم به ومع بعد هذا القول إلا أن الأمة قد اتفقت على تحريف المعنى فيه, وأن ما جاء فيه قد نسخه الله جل وعلا بشريعتين:

الشريعة الأولى: شريعة عيسى, وأن من لم يؤمن من اليهود بشريعة عيسى عليه السلام فهو كافر, وأن الله جل وعلا قد نسخ الشريعتين شريعة النصارى واليهود بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم كما تقدم بيانه, وهذا لا خلاف عند العلماء فيه, أن الله جل وعلا قد نسخ سائر الشرائع السابقة بشرعة الإسلام, ولهذا قال جل وعلا: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85].

مما ينبغي أن يعلم أن القول بأن اليهود والنصارى لهم الحق بالتدين بما هم فيه, وكذلك التعبد لله جل وعلا, وأنهم يؤجرون على ما هم عليه من الحق، أن ذلك كفر وردة مخرج عن دين الإسلام, ولا خلاف عند العلماء في ذلك كما تقدم بيانه, مما جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا أدخله الله النار )، وكذلك ما جاء في قول الله جل وعلا: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85]، قد خص الله جل وعلا جملة من الأحكام وجعلها خاصة بأهل الكتاب, يأتي الكلام عليها بإذن الله جل وعلا فيما يتعلق بالأصول والفروع.

من عقائد اليهود الباطلة

وأما ما يتعلق بالإشارة إلى عقائد اليهود فإن اليهود كما بين الله جل وعلا أشد الناس عداوة للذين آمنوا؛ وذلك لما كان فيهم من حقد وغل, وكذلك ما يعتقدونه في قلوبهم أنهم الشعب المختار الذين اصطفاهم الله جل وعلا على سائر الخلق, والنصارى يؤمنون بالعهد القديم وهو التوراة, وأما اليهود فلا يؤمنون بالعهد الجديد وهو الإنجيل, ولهذا فإن النصارى في دواوينهم ومصنفاتهم وكذلك في فقههم يشيرون إلى العهد القديم والعهد الجديد؛ ولهذا يعظم النصارى اليهود بهذه المنزلة باعتبار ما كان في العهد القديم من بيان منزلتهم ومكانتهم وأنهم الشعب المختار؛ ولهذا يذل النصارى أمام اليهود في كثير من الأمور, فمع كون اليهود لا يؤمنون بما كان لدى النصارى فإنهم لا يقرون بكتابهم، فإذا كانوا لا يقرون بكتاب النصارى الذي أنزله الله جل وعلا على عيسى عليه السلام وهو الإنجيل وهم من بني إسرائيل، فكيف يقرون ويؤمنون بالكتاب الذي أنزله الله جل وعلا على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو من العرب؟ فاختلف عنهم جنساً ولغة, فإن ذلك أدعى إلى العناد والتكبر, وكذلك ما كان فيهم من خصال قد جرأتهم على جناب الله جل وعلا, فكان في اعتقادهم أنهم قالوا: إن عزيراً ابن الله, وقالت النصارى: إن المسيح ابن الله, وتعالى الله جل وعلا عن ذلك علواً كبيراً.

ومن عقائد اليهود أنهم يقولون: إن الملائكة بنات الله, والله جل وعلا قد تزوج من الجن فأنجبت ملائكة, تعالى الله جل وعلا عن ذلك علواً كبيرا, ولهذا قال الله جل وعلا: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا [الصافات:158]، قال ابن جرير الطبري في كتابه التفسير: عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال: اعتقدوا أن الله جل وعلا تزوج من الجن فأنجب الملائكة، وما هؤلاء إلا عباد مكرمون عند الله سبحانه وتعالى، وهذا من ضلالهم وزيغهم، وقد تجرؤوا على الله جل وعلا في جملة من المواضع، منها في قولهم: إن يد الله مغلولة, غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا [المائدة:64], وهذا من الضلال والزيغ, فإذا تجرؤوا على كلام الله جل وعلا وعلى ذات الله سبحانه وتعالى فإنه فيما كان من غيره من الأحكام والذوات من باب أولى.

سبب تخصيص اليهود والنصارى عند ندائهم في القرآن بلفظ (أهل الكتاب)

وإنما كانت خصائص النداء لليهود والنصارى في كلام الله جل وعلا في جملة من المواضع يذكر الله سبحانه وتعالى اليهود والنصارى ويناديهم بأهل الكتاب؛ وذلك لحكم وعلل:

من أظهرها: أن أهل الكتاب هم أظهر الناس تمسكاً بالحق قبل مجيء الإسلام, فإن الناس كانوا يتيمنون بالحق الذي لديهم حتى الوثنيون, ولهذا قد جاء عند أبي داود في كتابه السنن وكذلك عند ابن جرير الطبري من حديث أبي بشر عن سعيد بن جبير أن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى قال في قول الله جل وعلا: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ [البقرة:256]، قال: كانت الأنصار حينما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة إذا ولدت المرأة منهم وكانت مقلاة, يعني: إذا كانت تنجب ويموت في بطنها, تنذر أن الله جل وعلا إن سلم لها ولدها وخرج حياً أن تجعله عند اليهود يرضعونه وأن تهوده, وهذا فيه إشارة إلى أنهم يتيمنون بالكتاب الذي لديهم, ولهذا وجه الله جل وعلا لهم الخطاب بذلك، فيدخل في الخطاب من كان غيرهم من الوثنيين من باب أولى.

الأمر الثاني: أن أهل الكتاب هم أكثر أمم الأرض, فوجه الله جل وعلا لهم الخطاب باعتبار الأكثرية.

الأمر الثالث: أن الحق الذي لديهم أظهر من غيرهم وهم أقرب إلى الاستجابة, ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لاقى من العناد من المشركين من كفار قريش أكثر وأشد من العناد الذي لاقاه من النصارى, وهذا ظاهر بين, ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد ظهر من لعنه وكذلك دعائه ومقاتلته لكفار قريش أكثر مما كان لليهود والنصارى مع كثرتهم وكونهم ليسوا من أهل الإسلام وليسوا على الحق.

وكذلك أيضاً من هذه الظواهر أن الله جل وعلا لم ينزل على نبيه عليه الصلاة والسلام آية أخذ الجزية إلا في السنة التاسعة من الهجرة, وذلك بعد أن فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتال المشركين, وذلك أن المشركين على قول غير واحد من العلماء لا تؤخذ منهم الجزية بل يقاتلون, ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقاتل كفار قريش, ولم يعرض عليهم الجزية باعتبار تأخر إنزالها، فلما نزلت عليه آية الجزية لم يكن ثمة أحد من العرب على الشرك, وما كان من أهل الكفر كانوا هم اليهود والنصارى.

أقوال أهل العلم في أخذ الجزية من المشركين

وقد اختلف العلماء في أخذ الجزية على المشركين؛ هل تؤخذ مع إجماعهم على أخذها من أهل الكتاب, وذلك لعموم قول الله سبحانه وتعالى: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29]، فخص الله جل وعلا أهل الكتاب بذلك, وأما أهل الشرك فهل تؤخذ منهم الجزية أم لا؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:

ذهب جماعة من العلماء إلى أن الجزية تؤخذ من سائر أهل المذاهب, سواء كانوا من اليهود والنصارى أو كانوا من المشركين, قالوا: هذا على الإطلاق، قالوا: وذلك لعموم ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث بريدة وهو في الصحيح: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أمر أميراً على سرية أو جيش أوصاه بتقوى الله في نفسه وفي المسلمين, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إذا نزلت على قوم فادعهم إلى الإسلام, فإن هم أجابوك إلى ذلك فاقبل منهم وكف عنهم, وإلا فاطلب الجزية منهم, فإن أجابوك إلى ذلك فاقبل منهم وكف عنهم )، وهذا في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا لقيت عدوك من المشركين )، قالوا: وهذا عام, يشمل اليهود والنصارى باعتبار أن الله جل وعلا سماهم مشركين, ولهذا قال الله سبحانه وتعالى حينما ذكر عقائد اليهود والنصارى, قال سبحانه: لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة:31], ويقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: ( أخرجوا المشركين من جزيرة العرب )، والمراد بالمشركين الذين أخرجهم هم اليهود والنصارى, وكلمة المشركين تطلق على اليهود باعتبار التجوز, وبحال الاجتماع تطلق على الوثنيين, والأصل أنه يطلق على اليهود والنصارى بأنهم أهل الكتاب, وهذا للخصائص التي يأتي الكلام عليها بإذن الله تعالى.

وذهب بعض العلماء إلى أن الجزية تؤخذ من سائر المشركين إلا من مشركي العرب, ذهب إلى هذا جماعة من الفقهاء, وقال به الإمام مالك، وهو رواية عن الإمام أحمد عليه رحمة الله.

وذهب بعض العلماء إلى أن المشركين لا تؤخذ منهم الجزية على الإطلاق, وأما اليهود والنصارى فإنهم تؤخذ منهم الجزية وكذلك أيضاً المجوس, ولهذا قد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أنه أخذ الجزية من مجوس هجر ), كما جاء في صحيح البخاري: ( أن عمر بن الخطاب لم يأخذ الجزية من المجوس إلا لما شهد عنده عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر, وهم مجوس البحرين ), فقالوا: في هذا إشارة إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأخذ الجزية من أهل الكتاب, وأما بالنسبة لغيرهم من المشركين فإنه لا تؤخذ منهم الجزية, وذهب إلى هذا جماعة من العلماء وهو ظاهر مذهب الإمام أحمد والظاهرية, وكذلك ذهب إلى هذا الشافعية في ظاهر مذهبهم, إلى أن الجزية لا تؤخذ من المشركين على الإطلاق.

والذي يظهر -والله أعلم- أن الجزية تؤخذ من المشركين, وأن ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يأخذ الجزية من المشركين أن ذلك باعتبار تأخر آية الجزية، وذلك في السنة التاسعة بعد أن لم يبق في جزيرة العرب أحد من الوثنيين إلا وقد دخل في الإسلام أو قتل أو أصبح طريداً, وبقي أهل الكتاب في ذلك والمجوس, وهم الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وفرض عليهم عليه الصلاة والسلام الجزية, وأما المجوس فهذا محل اتفاق عند العلماء ولا خلاف عندهم فيه، وقد جاء في ذلك جملة من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وجاء أيضاً جملة من الأخبار في: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية على المشركين ), ومن ذلك ما جاء عند أبي داود من حديث أنس بن مالك: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى أكيدر وهو على دومة الجندل, فجيء به مقيداً, فقبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزية وأطلق قيده ), وكان وثنياً ومشركاً ولم يكن من أهل الكتاب, وكذلك عموم الأدلة التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قبل من المجوس, والمجوس أشد شركاً من الوثنيين, كما نص على ذلك غير واحد من العلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية، قال: الشرك في المجوس أظهر من عباد الأوثان؛ وذلك لشركهم في سائر أنواع التوحيد؛ في الربوبية والألوهية وكذلك الأسماء والصفات, فإن شركهم في أبواب الربوبية ظاهر, أظهر من كونه في كفار قريش, وإن كان كفار قريش شركهم في أبواب الربوبية موجوداً إلا أن أغلب شركهم يكون في توحيد الألوهية.

وينبغي أيضاً أن يعلم أن الله جل وعلا قد قسم الناس المعادين للإسلام إلى قسمين: إلى كفار, ومنافقين، وقسم الله جل وعلا المنافقين إلى أقسام متباينة, وهم على درجات أيضاً, وليس هذا محل الكلام عليهم.

وأما بالنسبة للكفار فإنهم أيضاً على أقسام, ومنهم أهل الكتاب, وهم اليهود والنصارى، اليهود والنصارى للكلام على علاقتهم بأهل الإسلام ينبغي أن يُعلم أن ما جاء في حديث بريدة وكذلك ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة عليه رضوان الله تعالى في الأمر بالمقاتلة أنه يدخل في هذا الباب سائر أهل الملل والطوائف, سواء كانوا من أهل الكتاب أو من غيرهم, ويدخل فيه الكفار من أهل الكتاب من باب أولى باعتبار أن الخطاب إذا جاء مطلقاً من الكفار فإنه ينصرف إلى الكتابيين من باب أولى باعتبار أنهم الكثرة, ولا ينصرف الخطاب إلى ما كانوا قلة ويترك الكثرة إلا مع وجود قرينة أو دليل يخصص ذلك، فإذا جاء اللفظ بمخاطبة الكفار والمشركين فإنه يدخل في هذا الأمر أهل الكتاب من باب أولى لدخولهم في أبواب وألفاظ الشرك وكذلك أيضاً في ألفاظ الكفر ومحاربة دين الله سبحانه وتعالى.

من كان في بلدان المسلمين ممن ينضوي تحت لوائهم فإنهم على أنواع: مسلمون وكفار، الذين يكونون في بلدان المسلمين على نوعين: مسلمون, وكفار. المسلمون هم: أصل ذلك المجتمع, وما سمي المجتمع بالإسلام إلا لأجل دينهم وسلامة عقيدتهم وباعتبار أن الكثرة فيهم.

أقسام الكفار في بلاد الإسلام

وأما بالنسبة للكفار الذين في بلدان المسلمين فإنهم على نوعين: النوع الأول: أهل ذمة, والنوع الثاني: المستأمَنون, وثمة فرق بينهم.

القسم الأول: أهل الذمة

النوع الأول: وهم أهل الذمة, والمراد بالذمة هي: العهد والأمان, وكذلك الكفالة والضمان, فالمراد بهم الذين دخلوا في لواء المسلمين وكانوا جماعات ولكنهم يعطون الجزية, وهؤلاء يقامون ويقرون على ما هم عليه إذا دفعوا الجزية, وذلك باعتبار الصغار الذي ضربه الله جل وعلا عليهم, ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29]، فمن كان من أهل الكتاب وهم في بلدان المسلمين ومن كان من غيرهم إذا أخذنا بالقول القائل بأخذ الجزية من غير أهل الكتاب أنهم يكونون إذا دفعوا الجزية من أهل الذمة, أي: أهل الضمان والعهد والميثاق وكذلك الكفالة, يبقون على ما هم عليه من غير بيان حد معين إلا ما خصه الله جل وعلا من جملة من الخصائص من الإطلاقات من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أخرجوا المشركين من جزيرة العرب )، وكذلك ما جاء في قول الله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [التوبة:28]، فهذا من الخصائص التي خصها الله جل وعلا لأهل الكتاب ولغيرهم, خص الله جل وعلا هذه البلدان, فليست داخلة في عموم إقرارهم على هذا, بخلاف ما كان عارضاً من أهل الأمان, ويأتي الكلام عليهم فإنهم ربما يدخلون حتى المسجد الحرام كما يأتي بيانه بإذن الله تعالى.

أهل الذمة هم الذين تركوا محاربة المؤمنين ببذل الأمان أو بالموادعة أو المهادنة أو دفعوا الجزية وبقوا على ما هم عليه فاختاروا دفع الجزية على الإسلام, فهؤلاء لا يُقتلون؛ وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كما جاء في حديث بريدة ؛ قال عليه الصلاة والسلام: ( ادعهم إلى الإسلام، فإن هم قبلوا منك فاقبل منهم وكف عنهم, وإن لم يقبلوا فخذ الجزية منهم فإن هم أعطوك فاقبل منهم وكف عنهم )، ومن تعدى على أحد من أهل الذمة ممن دفع الجزية فقد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح قال عليه الصلاة والسلام: ( من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة )، والمراد بالمعاهد هو الذي كان في بلدان المسلمين وقد دفع الجزية للمسلمين, وهؤلاء هم أهل الذمة.

وثمة شروط يتفق العلماء على وجوب توفرها فيهم:

الأمر الأول مما اتفق العلماء عليه في أهل الذمة: أن يكفوا عن أذية المسلمين وأن يحترموا الدين.

الأمر الثاني: أن يكفوا عن التناول لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم بسب أو شتم أو الوقيعة في عرضه أو التهكم فيه.

الأمر الثالث: أن يجتنبوا الكلام بالطعن أو القدح بكتاب الله جل وعلا، القرآن الكريم والتعدي عليه بالتهكم أو الاستهزاء أو السب أو التناول بشيء من أنواع القدح.

الأمر الرابع: عدم إعانة أعداء الله جل وعلا ممن كان محارباً, سواء ببيان أحوال المسلمين وكذلك أيضاً بإيواء جواسيس ونحو ذلك, فإن هذا مما يبعد أمانهم في بلدان المسلمين ولا يقرون عليه, ويدخل في هذا الباب ويجعله العلماء منفرداً، وهو داخل في عدم أذية المسلمين في دينهم، وهو الكف عن المسلمين أن يمتحنوا في دينهم, بمعنى أنهم لا يدعون إلى دينهم أهل الإسلام, وهذا ما يسمى بالتبشير أو الدعوة إلى النصرانية في بلدان المسلمين، كذلك أيضاً ألا يواقعوا مسلمة بزنا أو فاحشة أو نحو ذلك, فإن هذا مما يخرم ذمتهم, وثمة أمور هي محل أمر ونهي ويؤطرون عليه إلا أنها لا تخرم الذمة, وهي تميزهم باللباس، وكذلك أيضاً بعدم ظهور احتفالاتهم ومناسباتهم وشعائرهم ونحو ذلك, فهذا مما لا يظهر نقض عهدهم وأمانهم, وإنما الأمر في ذلك إلى أَطرهم وعدم قتلهم لأجل ذلك, ومرد ذلك -أعني هذا الأمر في مسألة الأمان والذمة- هو إلى ولي أمر المسلمين باتفاق العلماء, وليس لأحد من أفراد المسلمين أن يعطي أحداً ذمة إلا ما كان من مسألة الأمان, ويأتي الكلام عليه بإذن الله عز وجل في مسألة الأفراد, يعني: أنه ليس للأفراد أن يعطوا بلداً ذمة, فيقول الإنسان من أفراد الناس: إن البلد الفلاني له ذمة ونحو ذلك أو أن يسقط ذمته من دون ولي أمر المسلمين, فإن هذا من الأمور الباطلة.

القسم الثاني: المستأمنون

والقسم الثاني ممن كان في بلدان المسلمين من غير المسلمين: هم المستأمَنون, الذين يعطَون الأمان, ولكن هذا الأمان محدود باتفاق العلماء، الأمان يكون محدوداً باتفاق العلماء ولا خلاف عند العلماء في ذلك، والمراد بالمستأمنين الذين أصلهم محاربون ولكنهم دخلوا بلدان المسلمين لزمن محدود من غير إقامة بخلاف أهل الذمة, أهل الذمة الذين يبقون مثلاً في بلدان المسلمين مثلاً في الشام أو في بعض أطراف جزيرة العرب أو كذلك أيضاً في العراق أو في مصر وغير ذلك, فهؤلاء يبقون على ما هم عليه ويكونون من أهل الذمة, ويعطون أهل الإسلام الجزية على ذلك.

وأما بالنسبة للمستأمنين وهم القسم الثاني فهم الذين كانوا من المحاربين، ولكنهم دخلوا بلدان المسلمين على سبيل الاستثناء, ويكون ذلك من غير إقامة؛ وذلك كالرسل وكذلك الذين يأتون تجاراً أو الذين يأتون أجراء بزمن محدود, فهؤلاء مستأمنون، ولا يجوز التعدي عليهم باتفاق العلماء, ولا خلاف عند العلماء في هذا, وهذه المسألة هي فرع عما تقدم الكلام عليه في مسألة إعطاء غير أهل الكتاب الذمة, ويستثنى من هذا الأمان, فإن الأمان يدخل فيه غير أهل الكتاب, في مسألة الرسل فإن الرسل ولو كانوا من غير أهل الكتاب فإنهم لا يتعدى عليهم باتفاق العلماء.

أهل الأمان اختلف العلماء في مدة الأمان لهم على ثلاثة أقوال:

ذهب جماعة من العلماء إلى أنهم يبقون في بلدان المسلمين على أمانهم سنة واحدة لا يزيدون عليها، ذهب إلى هذا جماعة من الفقهاء, وهو قول أبي حنيفة، وذهب إليه أيضاً جماعة من الفقهاء من أهل الرأي من المتأخرين, وهو مذهب الحنفية.

القول الثاني: قالوا: إنهم لا يقرون أكثر من أربعة أشهر, وذهب إلى هذا الإمام الشافعي عليه رحمة الله كما في كتابه الأم, وهو ظاهر مذهب الشافعية, ويستنبطون ذلك من قول الله جل وعلا: فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [التوبة:2].

القول الثالث في ذلك: هو قول الحنابلة, وهو مذهب الإمام أحمد عليه رحمة الله وهو أنهم لا يقرون بمدة معينة منضبطة على سبيل التحديد، إلا أنها لا تزيد عن عشر سنوات؛ قالوا: وذلك أن الزيادة عن عشر سنوات تعني مشاركتهم مع أهل الذمة في الأحكام, وهذا يخالف الأمان الذي أعطوا إياه.

بالنسبة لأمان الأفراد فإن الأفراد يعطون الأمان ولو من أفراد المسلمين, فمن دخل في بلدان المسلمين وأعطى أحد من المسلمين الأمان للواحد منهم, وهذا ما يسمى في زمننا بالإقامات ونحو ذلك, أو التأشيرات ونحو هذا, فإن هذا هو الأمان, ويقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح من حديث علي بن أبي طالب عليه رضوان الله تعالى, قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ذمة المسلمين واحدة, يسعى بذمتهم أدناهم, ومن خفر ذمة مسلم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه عدلاً ولا صرفاً )، فهذا يدل على أن من خفر ذمة مسلم التي أعطاها لأحد من أهل الكتاب أو غيرهم من الأفراد أن ذلك من كبائر الذنوب, ولهذا يحق للمؤمن أن يعطي الواحد أماناً, وأن يدخله إلى بلدان المسلمين بشريطة ألا يكون في ذلك أذية لأهل الإسلام، وألا يكون في ذلك مكيدة لهم، وقد اختلف العلماء هل للفرد أن يعطي الجماعة؟ ذهب جمهور العلماء إلى أن الفرد يعطي القافلة أو المسيرة ونحو ذلك, لكنه لا يعطي البلد, باعتبار أن هذا من خصائص ولي أمر المسلمين, وهذا هو الأرجح, أن ذلك من خصائص ولي الأمر وليس للأفراد, أما بالنسبة للأفراد فإنهم يؤمنون الفرد أو العائلة أو يؤمنون القافلة أو المسيرة ونحو ذلك بالشروط التي لا تخرم لأهل الإسلام وكذلك حياضتهم حياضة وبيضة المسلمين أمراً, كما تقدم الإشارة إليه في الشروط السابقة, ويكفي في هذا ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من جملة من المعاهدات وكذلك الأمان لجملة من أهل الكتاب, ويكفي ما جاء في الصحيح من حديث عائشة عليها رضوان الله تعالى: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي ودرعه مرهونة عند يهودي )، وهذا في أمر الأفراد, وكان ذلك اليهودي في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الخصائص التي خُصّ بها أهل الكتاب في علاقتهم مع المسلمين

ومن المسائل المهمة المتعلقة ببابنا ما يتعلق بالخصائص التي خُص بها أهل الكتاب في علاقتهم مع أهل الإسلام.

اشتراك أهل الكتاب مع سائر الملل في وجوب المعاداة والمقاتلة وأخذ الجزية

أولاً: ينبغي أن يعلم أن أهل الكتاب يشتركون مع سائر الملل في وجوب المعاداة, وكذلك البغضاء بما هم فيه من محادة الله جل وعلا ورسوله, وكذلك التكليف بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم, وأعظم الظلم الذي وقعوا فيه أنهم سبوا الله جل وعلا وبعضهم يقصد التنزيه, وبعضهم يقصد ما قال.

وينبغي أن يعلم أن اليهود والنصارى وإن كانوا أكثر أهل الأرض إلا أنهم أكثر الأمم ظهوراً للحجة, وأشد الناس عقوبة عند الله جل وعلا؛ وذلك لأن العقوبة إنما تكون مع ظهور الحجة، فإذا ظهرت الحجة لدى الإنسان فإن عقوبة الآمر له أكثر من غيره، بخلاف الشخص الذي وقع لديه شيء من اللبس في القول فإن الإنسان لا يعاقبه؛ فإن السيد إذا أراد أن يعاقب عبده فإذا كان أمره ظاهراً عليه ويعلم أن الحجة قد قامت عليه كان عقابه له أشد, وإذا كان قد وقع لبس في فهم أمر السيد عند العبد فإنه لا يُنزل عليه العقاب كغيره, وإن كان قد طرأ عليه شيء من التقصير في ذلك باعتبار التباين, وأهل الكتاب ظهر لهم الحق، وعرفوا أوصاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يجدونه متلواً عندهم في التوراة والإنجيل، ومع ذلك كفروا به وعاندوا الحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وناداهم الله جل وعلا باتباع الحق وأن يأتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم, وأن يأتوا إلى كلمة سواء ألا يعبدوا إلا الله وألا يشركوا مع الله جل وعلا شيئاً, فكفروا بالله سبحانه وتعالى وعاندوا مع جملة من النداءات والخصائص التي ناداهم الله جل وعلا بها, وهذا يجعلهم في عداد غيرهم من أهل الكفر في وجوب المحاربة وكذلك أيضاً المقاتلة حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون, على الضوابط والشروط التي تقدم الكلام عليها، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل العموم كما جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة: ( أمرت أن قاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة, فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها )، وهذا القتال عام، ويستثنى منه أخذ الجزية باعتبار أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى يشهدوا ألا إله إلا الله), أن هذا من خصائص المشركين على قول جماعة من العلماء, وهو مذهب الشافعية وكذلك الحنابلة, أنهم لا يؤخذ منهم الجزية على الخلاف السابق الذي تقدم الكلام عليه.

وأن الجزية أيضاً تؤخذ من الوثنيين كما أخذها النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذها عمر بن الخطاب، وأخذها عثمان بن عفان، كما روى الترمذي وغيره من حديث سهل بن يزيد: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر )، وأخذ عمر من مجوس فارس, وكذلك أخذ عثمان من مجوس الفرس, وهذا قد رواه الترمذي، ويعضده أيضاً ما جاء في البخاري مما تقدم الكلام عليه في خبر عبد الرحمن بن عوف أنه أخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر )، وما تقدم أيضاً عند أبي داود من حديث أنس بن مالك: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من أكيدر دومة الجندل )، وكان وثنياً, ويدخلون في عموم قول الله جل وعلا: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة:22]، أي: أنهم لا يكونون من أهل المودة والقربى، والذين يحادون الله ورسوله هم أهل الكتاب, وكذلك الكفار من المشركين والزنادقة الملحدين وغيرهم فإنهم داخلون في البراء في هذا الأمر, ويكفي أن الله جل وعلا قد أمر بمقاتلة اليهود والنصارى حتى يعطوا الجزية عن يد وهم وصاغرون, وهذا عين المفارقة والمفاصلة بينهم وبين أهل الإيمان إلا بالقيود التي يأتي الكلام عليها بإذن الله جل وعلا.

ثمة طوائف ممن يتكلمون على مسألة أهل الكتاب يقولون: إنهم من أهل الإيمان, ويستمسكون ببعض الأدلة المشتبهة من كلام الله جل وعلا بجهل وهوى, فيقولون: إن أهل الكتاب على الحق, وإن ما هم فيه من نصوص تدلهم على الإيمان, ويستدلون ببعض الأدلة، منها في قول الله جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:62]، قالوا: فهؤلاء من أهل الجنة لا خوف عليهم ولا هم يحزنون, وهذا من الجهل, فإن سبب نزول هذه الآية هي في أهل الكتاب الذين ماتوا قبل بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم, وكانوا على ما هم عليه من حق أو من باطل يزعمونه حقاً ولم يصل إليهم بيان الحق, وهذا هو تمام العدل, ولهذا قال الله جل وعلا في كتابه العظيم: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، قدر روى ابن جرير الطبري وغيره من حديث ابن أبي نجيح عن مجاهد بن جبر عن سلمان الفارسي أنه قال: ( قلت لرسول صلى الله عليه وسلم وذكرت له أقواماً كانوا معنا وذكرت من عبادتهم وصلاتهم (يعني: كانوا على اليهودية) فأنزل الله جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:62] ), يعني: الذين ماتوا قبل ذلك, ولهذا سلمان الفارسي ظن أن من مات أيضاً لشدة النصوص الظاهرة البينة في المفارقة بين أهل الكفر وأهل الإيمان أنهم أيضاً داخلون في النار, فأنزل الله جل وعلا الآيات السابقة, ويعضد ذلك ويؤكده ما رواه ابن جرير الطبري من حديث علي بن أبي طلحة عن عبد الله بن عباس أنه قال: لما أنزل الله جل وعلا قوله سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ [البقرة:62]، الآية, أنزل الله جل وعلا قوله تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85]، يعني: أن الله جل وعلا بين أن ذلك القدر من الإيمان كان قبل الإسلام, وتقدمت النصوص في هذا الأمر في بيان حسم الله جل وعلا للحق, وأن هذا هو ما كان النبي صلى الله عليه وسلم عليه من الحنفية السمحاء, ولهذا قال الله جل وعلا: وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [البقرة:135]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا أدخله الله النار )، وكذلك ما جاء في حديث عمر بن الخطاب مما تقدم الكلام عليه في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لقد جئتكم بها بيضاء نقية, والذي نفسي بيده لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي, ولو كان موسى حياً ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم )، وهذا يدل على أن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم مهيمنة على سائر الشرائع والملل, فينبغي أن يؤخذ هذا بالأهمية بمكان, وأن تبين خطورة هذا القول, وأن كثيراً ممن يدعو بجهل أو علم إلى وحدة الأديان أو الديانات الإبراهيمية أو كذلك تقارب الأديان وغير ذلك أن هذا من الضلال المبين والبعد عن الحق الذي ينبغي أن يبين للناس, وكذلك أيضاً أن يبين أن ما عليه اليهود والنصارى من الضلال والزيغ أن هذا لا يعني أن أهل الإيمان يأخذون بأهل الكفر من اليهود والنصارى ضرباً وقتلاً وسلباً ونحو ذلك, هذا من المعاني الباطلة التي يروج لها أهل الباطل حتى ينحَوا بأفهام العوام بأمثال هذه المعاني عن إدخال اليهود والنصارى في عقائد الإسلام, والسطة في ذلك والتوسط أن يبين أن الله جل وعلا قد جاء بكتاب مبين, وجاء بهدى ونور, ووضع ضوابط لعلاقة أهل الإيمان مع أهل الكفر, وعلى سبيل التخصيص مع اليهود والنصارى.

ثمة جملة من المسائل تقدم الإشارة إلى بعضها, نذكرها على سبيل التبع ونذكر خلاف العلماء فيها مما اختص به أهل الكتاب.

أولاً: من الخصائص التي اختص بها أهل الكتاب ما تقدم الكلام عليه من أخذ الجزية على قول بعض العلماء, وهذا قول الحنابلة والشافعية, وهذا أنهم قد استدلوا بقول الله جل وعلا: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29]، قالوا: هذا من خصائصهم, ولكن قال غير واحد من العلماء: إن هذه الآية إنما نزلت في العام التاسع بعد تلاشي الوثنية, فلما تلاشت الوثنية كانت الآية نازلة على الحال, فلما كان الحال منطبقاً على اليهود والنصارى ناسب أن تؤخذ الجزية منهم, وقد نص على هذا غير واحد من العلماء كـابن القيم عليه رحمة الله تعالى وغيره, وتقدم الإشارة إلى هذه المسألة.

إباحة نكاح نساء أهل الكتاب وشروط ذلك

الأمر الثاني: ما يتعلق بنكاح نساء أهل الكتاب, ذهب عامة العلماء وهذا ظاهر قول الله جل وعلا، وهذا فيه إشارة إلى أن نساء أهل الكتاب من اليهود والنصارى حل لأهل الإيمان، فنساء أهل الكتاب من اليهود والنصارى مع الإقرار بتبديل ما هم عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن نكاحهن مباح, وهو مما رخصه الله جل وعلا، وثمة شروط في هذا الأمر:

الشرط الأول: ألا تكون المرأة زانية, أي: مومساً, أي: ليس له أن يتزوج مومساً, وكثير من الناس يأخذون أمثال هذه الأحكام ويتساهلون فيها, والله جل وعلا قد عظم أمر الأنساب, وعظم أمر الزنا, حتى في ملل الكفر, فقد تكفر المرأة ويكون أمرها من باب هين مع شدة الإشراك مع الله جل وعلا ولكن وقوعها في الزنا عظيم؛ لماذا؟ لأن أمر الزنا متعدٍ وأمر الكفر ليس بمتعدٍ, ولهذا نجد أنبياء الله جل وعلا الله سبحانه وتعالى ما عصم نسائهم جميعاً, بل من نسائهم من هي كافرة؛ كامرأة لوط, فإنها كانت مع القوم الظالمين وهي ممن لم تكن على دينه, وهذا مما استثناه الله جل وعلا, وهذا فيه إشارة إلى أن أزواج الأنبياء لا يعصمهن الله جل وعلا من الكفر سوى ما خصه الله جل وعلا كما بينه الله جل وعلا من خصائص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم, وكذلك ما بين الله جل وعلا من أنبيائه كأزواج إبراهيم وغيرها, فنقول: إن من قال بأن امرأة نبي زانية ولو كانت كافرة, ومن اتهم امرأة لوط بالزنا وهي كافرة فهو كافر مرتد خارج عن الإسلام؛ والعلة في ذلك أن من أقر امرأته على زنا وهي كافرة فإنه ديوث, والديوث: هو الذي يقر الخبث بأهله, وهذا فيه اتهام للزوج, وأما إذا تزوج الرجل كتابية وليست بزانية ولكنها عفيفة فهذا الأمر لا يتعدى إليه وهو من الأمور اللازمة, ولهذا عصم الله جل وعلا نساء الأنبياء من هذا الأمر, وهذا يدل على تعظيم أمر الأعراض والحياطة لها, وتقديم ذلك على كثير من الأحوال والصور؛ لمكانة هذا الأمر من حفظ الأنساب من اختلاطها, وكذلك لتعدي هذا الأمر.

وفيه إشارة إلى أن الأمور المتعدية في بعض الأبواب تكون أعظم من الأمور اللازمة في بعض الصور, ولهذا ينبغي أن يُعلم أن نكاح اليهودية والنصرانية الزانية محرم على أي صورة كان, وقد ثبت النهي عن ذلك عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى، كما روى ابن أبي شيبة في كتابه المصنف من حديث شقيق: ( أن حذيفة بن اليمان عليه رضوان الله تزوج يهودية, فكتب إليه عمر بن الخطاب: أن طلقها, فكتب حذيفة بن اليمان إلى عمر بن الخطاب، قال: إن كانت حراماً طلقتها, فكتب إليه عمر: إني لا أقول إنها حرام, ولكني أخشى أن يتزوجوا المومسات منهن ), يعني: يقتدون بك ويظنون أنك تتزوج أي امرأة وأنت مع صلاحك ودينك فيقتدون بك ويأخذون أي نساء أهل الكتاب من الأسواق وغير ذلك وهن من المومسات, وهذا فيه إشارة إلى الحياطة لأهل الإيمان وحفظ الأنساب والتخير للنطف, وهذا من الأمور المهمة.

الشرط الثاني في ذلك: ألا تكون الكتابية محاربة, أي: لا تكون من بلد محارب, وأما إذا كانت اليهودية والنصرانية من بلد محارب فهذا ليس بنكاح بل سِفاح, باعتبار أن وطء المحارب لهن لا يسمى بالزواج, وإنما يكن إماء في حال وقوعهن في أيدي المسلمين, والأمة لا يجوز للرجل أن يجامعها حتى يقسمها ولي أمر المسلمين, وهذا من المسائل والصور التي تستثنى مما تقدم الكلام عليه.

وثمة مسألة تتعلق بالمحاربين, إذا وهبت المرأة المحاربة نفسها لأحد من المسلمين، إذا وهبت المرأة المحاربة نفسها وقالت: إني ملكتك نفسي, ولا تريد بالتمليك تمليك الفرج, وإنما البيع كحال الإماء فإنها تكون أمة بذلك، اتفق على ذلك الأئمة الأربعة ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله, وأما إذا مَلَّكت, أي: باعت الكتابية المعاهدة والذمية نفسها بالبيع لا بتمليك الفرج فهل تسمى أمة أم لا؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين, والراجح في هذا ما ذهب إليه بعض الفقهاء كالإمام مالك عليه رحمة الله وهو أنها تكون من ملك اليمين, وأن لا يكون ذلك الملك مؤقتاً لأن الرق لا يكون مؤقتاً, كذلك أيضاً أن يكون التمليك تاماً, وهذا على القيود التي يذكرها الفقهاء في هذا الباب مما لا حاجة إلى ذكرها.

وقد تزوج غير واحد من السلف من نساء أهل الكتاب, فتزوج حذيفة بن اليمان، وعثمان بن عفان كما رواه البيهقي في كتابه الشعب من حديث محمد بن جبير بن مطعم أن عثمان بن عفان تزوج ابنة الفرافصة وهي نصرانية ثم أسلمت, أي: عقد عليها وهي على دينها, وكذلك تزوج جماعة من الصحابة وكذلك من التابعين كما روى عبد الرزاق في كتابه المصنف من حديث أبي الزبير وكذلك ابن أبي شيبة رواه أيضاً من حديث أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال: غزونا مع سعد بن أبي وقاص زمن القادسية ولم يكن ثمة نساء من المسلمين, فتزوجنا من أهل الكتاب, ومنا من طلق ومنا من لم يطلق, وهذا فيه إشارة إلى أن هذا هو العمل الذي كانوا عليه مما يدل على جواز ذلك، وذهب بعض السلف وهو قول عبد الله بن عمر كما رواه نافع عن عبد الله بن عمر أنه قال بعدم جواز نكاح المشركات على سبيل العموم, سواء كن من اليهود أو كن من النصارى, قال: ولا أعلم شركاً أعظم من أن تقول: إن عيسى ابن الله, وهذا إسناده صحيح عن عبد الله بن عمر، ولكن هذا القول قول مهجور, والذي عليه عامة العلماء واستقر عليه العمل هو ما ظهر في كلام الله جل وعلا، وكذلك ما أحله رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل على ذلك الصحابة, وهذا أيضاً ينبغي معه أن يؤخذ بالقيود التي تقدم ذكرها، أنها لم تكن محاربة فيدخل في هذا الأمر ألا تكون جاسوسة تثلم الدين, وكذلك ألا تكون دخيلة على دين الإسلام بشيء مما يضر في ذلك, وإذا ما رخص الله جل وعلا بنكاح نساء أهل الكتاب فإنه لم يبح الله جل وعلا أن يتزوج الكتابي مسلمة باعتبار القوامة, وأن الرجل هو القيم على المرأة وأن أمره ظاهر عليها, بخلاف المرأة بالنسبة للرجل، وقد اتفق العلماء على أن المرأة لا تتزوج من كافر على الإطلاق سواء من اليهود أو من النصارى, وقال غير واحد من العلماء ونص على هذا القرطبي عليه رحمة الله وهو أن المرأة إذا تزوجت كتابياً من اليهود والنصارى وهي مسلمة وأُقرت على ذلك فهي كافرة باعتبار أنها قد استباحت ما حرم الله جل وعلا؛ وذلك لعموم قول الله سبحانه وتعالى: وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ [البقرة:221]، وهذا فيه إشارة إلى أن نكاح أهل الكتاب محرم على المسلمات, وهذا لا خلاف عند العلماء فيه, وهذا قد رواه ابن جرير الطبري من حديث علي بن أبي طلحة عن عبد الله بن عباس في تفسير قول الله جل وعلا: (( وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ ))، قال: استثنى الله جل وعلا من ذلك نساء أهل الكتاب, وهذا مما تقدم الكلام عليه واستقر عليه العمل، ولا خلاف عند الأئمة في ذلك إلا الخلاف الذي جاء عن عبد الله بن عمر وقال به قلة بعده ثم استقر هذا الأمر, ومن نهى من العلماء عن نكاح أهل الكتاب فهو لعلل؛ كنهي عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى حذيفة بن اليمان في هذا الأمر.

المسألة الثانية في هذا: ما يتعلق بعلاقة الرجل مع امرأته الكتابية, فإن الله سبحانه وتعالى قد جعل بين الزوجين مودة ورحمة, وهذه المودة والرحمة هل هي منافية لما جاء في قول الله جل وعلا: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة:22]؟ هل يدخل في هذا الأمر؛ ومعلوم أن الرجل مع زوجته يكون ثمة مودة عاطفية وميل وقد أقره الله جل وعلا وبينه في ذلك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي )، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بالوصية بالنساء خيراً، فهل هذا داخل في نكاح نساء أهل الكتاب؟ وكيف الجمع بين هذا وبين البراء الذي أمر الله جل وعلا به لسائر من حاد الله جل وعلا ورسوله؟

فنقول: إن المحبة والمودة على نوعين: محبة ومودة وكراهية فطرية جبلية, وهذه يضبطها الشرع, والشرع يأتي متمماً ومبيناً وموضحاً لها ومقيداً لا ملغياً. الثانية: هي المحبة والمودة والكره الشرعي والذي يحده الشارع ويضبطه، والشرع لا يلغي ما كان فطرة وغريزة في نفس الإنسان وإنما يضبطها، فإذا كان ثمة مودة فطرية فهذه المودة الشارع لا يلغيها، فالله جل وعلا قد بين في كتابه العظيم أن العبد المؤمن خير من المشرك ولو أعجبكم, فثمة إعجاب فطري، معلوم قد يعجب الإنسان بأمانة رجل, وقد يعجب أيضاً بلسانه وقوله وعلمه ونحو ذلك وهذا من الأمور الفطرية, وهذا أمر لا يلغى، ولكن بين الشارع أن المؤمن أفضل منه ولو كان جاهلاً, وأن ذلك العجب ينبغي أن يقدر، وأن يكون مرتبته دون مرتبة أهل الإيمان, وهذا ظاهر بين.

أما بالنسبة لأمر الميل الفطري فإن الميل الفطري قد يأتي في بعض الأحيان مخالفاً للدليل؛ ككراهة الإنسان مثلاً أن يقتل في سبيل الله ونحو ذلك, أو أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويأتيه السب والشتم ونحو ذلك, أو الإصلاح بين الناس وغير ذلك, أو كذلك أيضاً المرأة تكره مثلاً أن يعدد عليها زوجها مع كون ذلك شريعة أنزلها الله جل وعلا, لكنها لو طعنت بهذه الشريعة وقالت: إنها ليست بشريعة عادلة، وهذا من الظلم نقول: هذا كفر, ولكن أن تكره المرأة في نفسها فهذا أمر فطري لا يكفرها ولا يضللها, ولكن نقول: هذا ليس له أثر على مسألة التحريم ومسألة الإباحة، وعلى المرأة أن تعتقد صحة هذه الشريعة وأن الحكمة في ذلك بالغة من الشارع الحكيم, وأن ما ينازعها في نفسها في ذلك أنه ليس له أثر على الحكم الشرعي، ولهذا كتب الله جل وعلا القتال على هذه الأمة وهو كره لها، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [البقرة:216]، فبين الله سبحانه وتعالى أن ثمة أمور وأحكام شرعية ينبغي أن تغلب العاطفة والكره القلبي.

كذلك أيضاً ما يكون من الإنسان من كره بعض أعمال البر ونحو ذلك كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في صحيح الإمام مسلم في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وإسباغ الوضوء على المكاره )، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (على المكاره), أي: وأنت كاره، كيف الإنسان يتوضأ وهو كاره؟ نعم يتوضأ وهو كاره في اليوم الشديد البرد يتوضأ لكل صلاة مع كونه على وضوء سابق, فهذا الكره هو كره فطري, أن يطرأ على قلب الإنسان كراهية العمل ونحو ذلك، كذلك المشقة في الذهاب إلى الحج ونحو ذلك, فيه كلفة, ولهذا أثبتها الله جل وعلا في قوله سبحانه وتعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، وهذا من الأمور التي ينبغي أن تُعلم.

وأما بالنسبة لضابط المودة بين الرجل وزوجته من أهل الكتاب فيقال: إن علاقة الرجل مع زوجته أمر فطري وقد فطر الإنسان على مودة الزوجة ومحبة الإحسان إليها, وهذا منفصل ومنفك عن أمر دينها, وكذلك من أمور الإحسان دفع الأذى, فإذا كان الإنسان المسلم مع الذمي والمعاهد الذي ليس بينه وبينه ميثاق كعهد الزواج؛ يحرم عليه أن يتعدى عليه, ويجب عليه أن يعصم ماله؛ فإن الزوجة في ذلك من باب أولى باعتبار العهد والميثاق الذي جعله الله جل وعلا بينهم، إذاً ما معنى الكراهة هنا بين الزوجين التي بينها الله سبحانه وتعالى بقوله: يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة:22]؟ كيف تتحقق بين الرجل وزوجته من أهل الكتاب؟ يقال: إن علاقة الرجل بزوجته علاقة فطرية، وهي ما تقدم الكلام عليه من محبة الخير لها وعدم الأذية, كما يشترك في هذا أهل العهد والذمة وسائر الناس أنهم لا يلحقهم أذى, ولو لحقهم أذى في ذلك لوجب على أهل الإيمان أن يذبوا عنهم للعهد والميثاق الذي بينهم وبين أهل الإيمان, فإن الزوجة في هذا من باب أولى، أما الأمر الديني فإنهم لورود القوامة من الرجل كان هذا التشريع بخلاف العكس، ولو كان أمر المودة مطلقاً لأبيح لنساء أهل الإيمان أن يتزوجن من أهل الكتاب، فدل على أن المراد بذلك أن ثمة مرتبة دون تلك المرتبة وهي علو الرجل وقوامته على امرأته في نظام الإسلام، وبهذا نعلم أن من تزوج امرأة من أهل الكتاب على غير نظام الإسلام وقوامة الرجل على تلك المرأة أن ذلك من النكاح الباطل؛ كالذي يتزوج مثلاً على الأنظمة الغربية ونحو ذلك، فتكون المرأة منفصلة ومنفكة عن الرجل ولا قوامة للرجل عليها, هذا الذي يظهر لي -والله أعلم- أن هذا من النكاح الباطل, باعتبار الندِّية, ولا يوجد علو للمسلم على زوجه في مثل هذا الموضع.

كذلك أيضاً الكراهة تكون في كراهة الدين, وللزوج أن يمنعها مثلاً من تناول الخمر ولو كانت تراه مباحاً, كذلك من نصب الصليب في داره فله أن يمنعها من ذلك, وهذا يظهر في أمر قوامة الرجل ولا يظهر في أمر المرأة، فهذا كره للدين أن تظهر الدين في معالم دارها, ولو تعبدت خفية أو بينها وبينه من غير أن يظهر ذلك على ذريته أو يظهر ذلك لمن ذهب وأتى في الدار فإن هذا مما لا بأس به؛ باعتبار لزوم ذلك وعدم تعديه, وأما مع تعديه فهذا من الأمور التي تدخل في مودة ما هي عليه, وهذا يدخل أيضاً في علاقة الرجل مع غير زوجه, فإن الشارع قد أمر بالإحسان إلى الأب, أن يحسن الرجل إلى أبيه ولو كان كافراً, وألا يقول له أيضاً: أُف, وأن يعامله في الدنيا معروفاً, وأن يخفض له جناح الذل من الرحمة حتى ولو كان كافراً, وهذا لحق الأبوة, وهذا لا يعني إقراره على ما هو عليه, بل ينصحه بالحسنى, وكذلك أيضاً لا يطيعه في معصية الله جل وعلا.

السلام على أهل الكتاب وأحكامه

والمسألة الثالثة في هذا: ما يتعلق بمسألة السلام على أهل الكتاب, جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال عليه الصلاة والسلام: ( لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام, فإذا وجدتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه )، معنى هذا الحديث في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام), هذا ظاهره مقيد بالبداءة, وأما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإذا وجدتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه)، المراد بذلك في حال التزاحم, يعني: أن الطريق هذا لا يحتمل إلا واحداً فإن المؤمن في ذلك هو أولى من غيره, وهذا المراد به في بلدان المسلمين, باعتبار أن من كان في بلدان المسلمين من غير المسلمين أنهم لا يخرجون عن النوعين السابقين, إما أهل ذمة وإما أهل أمان, على ما تقدم الكلام عليه, وهؤلاء قد أعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وثمة معانٍ يفهمها البعض على غير المراد وينزلها ويقطعها من فهم منظومة الإسلام وعلاقته مع غيره، قد يأخذ هذا النص بعضهم ويقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا وجدتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه )، ويخرم هذا الأمر ويقول: إنني أضطره في طريق ولو كان في بلده، فنقول: إن الشارع من جهة الأصل نهى أن يقيم المؤمن في بلدان المشركين إلا عارضاً وأن يظهر دينه, وقد جاء في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء في المسند وكذلك في السنن من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن قيس عن جرير قال عليه الصلاة والسلام: ( أنا بريء من مسلم يقيم بين ظهراني المشركين )، والمراد بهذه الإقامة هي الإقامة الدائمة بخلاف الإقامة العارضة كأن يذهب الإنسان مثلاً لعلاج أو يذهب لمصلحة عارضة من تجارة أو زيارة ونحو ذلك ثم يغادر, أو يكتسب علماً عارضاً يلزم من ذلك استدامة الإقامة ونحو ذلك, فإن الضرورات والحاجات تقدر بقدرها ولا تؤخذ بإطلاقها, وهنا لابد أن نعلم أن مثل هذه الإطلاقات مقيدة بالحالين؛ أن يكون أهل الكتاب في بلدان المسلمين وأن يكونوا من أهل العهد وأهل الذمة, وهذا من الأمور التي ينبغي أن تؤخذ بالاعتبار، وكثير من بلدان المسلمين لهوان كثير من الشرائع والشعائر الإسلامية عند مشرعي الأنظمة والقوانين في تعاملهم مع أهل الكتاب من اليهود والنصارى أو من المشركين ونحو ذلك, لم يكن ثمة صَغار لهم, وعلى هذا لم يكن لأحد أن يفهم هذا الدليل على وجهه, فإن الدليل الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فاضطروهم إلى أضيقه)، يعني: أنه ينبغي أن يقدم في مصالح المسلمين في بلدانهم من أمور الأموال وكذلك الحظوظ وطريقه ونحو ذلك في حال الازدحام أن يقدم المؤمن على غيره, باعتبار بلده وباعتبار دينه وباعتبار أن هذا قد دخل بلدان المسلمين وهو في كفالتهم وقد حمي وعصم دمه وماله، وشرط ذلك أن يكون صاغراً كما في قول الله جل وعلا: يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29]، وهذا يفهمه من نظر إلى حال اليهود والنصارى مع حمايتهم في زمن عمر وحفظ حقوقهم وما كانوا عليه من ذلة وصغار, وأما من أراد أن ينزل نصاً على مجتمع لم يطبق نصوصاً كثيرة جداً فلا يمكن أن يستقر وأن يفهم هذا النص على سياقه.

أما بالنسبة للبدء بالسلام فهذا النص جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, والمسألة هذه مما اختلف فيها العلماء على ثلاثة أقوال:

ذهب جمهور العلماء -وهو قول الإمام مالك والإمام أحمد وذهب إليه الإمام الشافعي- إلى أن أهل الكتاب والكفار على سبيل العموم لا يبدءون بالسلام, وأن السلام من خصائص أهل الإسلام, وهذا ظاهر في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام )، وقالوا: مع ظهور النص لا حجة بقول أحد.

وذهب بعض السلف وهذا مروي عن عبد الله بن مسعود ومروي أيضاً عن عبد الله بن عباس ومروي أيضاً عن الأوزاعي أنهم قالوا بجواز بذل السلام إليهم، جاء هذا عن عبد الله بن عباس وفي إسناده ضعف, قد رواه ابن جرير الطبري من حديث سماك عن عكرمة عن عبد الله بن عباس، وجاء عن عبد الله بن مسعود بإسناد صحيح كما رواه البيهقي في شعب الإيمان من حديث إبراهيم عن علقمة عن عبد الله بن مسعود: ( أنه كان راكباً ومعه دهاقون وهم من النصارى- والدهاق الخادم- ففقدهم ثم لقيهم في طريق فقال عبد الله بن مسعود: عليك السلام, فقال علقمة: ألم يُنه عن ذلك؟ فقال: هذا لأجل وحق الصحبة ), وإسناده عن عبد الله بن مسعود صحيح, علق البيهقي عليه رحمة الله في شعب الإيمان على هذا, قال: لعله لم يبلغه الدليل والنهي في ذلك صريح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومع ظهور النص فذهب عامة الصحابة وأكثرهم إلى النهي عن البداءة بالسلام.

والقول الثالث في هذا: أنهم يبدؤون بالتحية بغير السلام وهذا هو الأرجح، أن يحيا بأي تحية غير السلام, فيحيا بأن يقال مثلاً: صباح الخير أو مساء الخير أو كيف أنت أو أهلاً وسهلاً ونحو ذلك من العبارات, فإن هذا من الألفاظ الجائزة, وأما السلام فقد دل الدليل على النهي.

وأما إذا سلم الكتابي على المؤمن فقال: السلام عليكم؛ فهذا لا يخلو من حالين: إذا أفصح فيها فقال: السلام عليكم، وجاء بالنص فإنه يرد عليه بذلك اللفظ, وهذا حمله بعضهم على قول الله سبحانه وتعالى: سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [القصص:55]، وكذلك أيضاً ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح من حديث عائشة حينما قال: ( وعليكم )، وذلك حينما لم يفصحوا، وقالوا: ودلالة الخطاب ومفهومه في هذا أنه لو قالوا: السلام عليكم, فإن النبي صلى الله عليه وسلم سيقول: وعليكم السلام, وهذا محتمل وهو ظاهر, أن الإنسان إذا سمع اللفظ بصراحة فلا حرج عليه أن يقول: وعليكم السلام, ولا يقول ورحمة الله وبركاته إلا إذا حملها على معنى الدعاء, ويكتفي بقوله: وعليكم السلام، ومن العلماء من قال: لا يُبدأ بالسلام ولكن يقال: بالرد، وحمل عليه بعضهم قول الله جل وعلا: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء:86]، قد روى ابن جرير الطبري في كتابه التفسير من حديث سعيد بن أبي عروبة عن قتادة أنه قال: فحيوا بأحسن منها لأهل الإسلام أو ردوها على أهل الكتاب, يعني: ردوها مثلها, وأما بالنسبة لأهل الإيمان فردوا بأحسن منها, ويؤخذ من هذا القيد أنه إذا سلم على الإنسان أحد فقال: السلام, فلا يقول: السلام عليكم وإنما يقول: السلام, ويعيدها بعباراتها, وإذا قال: السلام عليكم؛ فإنه يعيدها ويقول: وعليكم السلام ولا يزيد على ذلك، وأما التحايا الأخرى فإنه لا حرج عليه أن يحييه بها.

وأما مسألة المصافحة فهل يصافح أم لا؟ يقال: إنه يصافح ولا حرج عليه في ذلك، ولا أعلم دليلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة صحيحاً صريحاً يدل على النهي عن مصافحة الكافر باعتبار نجاسة بدنه، ووجد في بعض كلام العلماء من الفقهاء من التابعين وغيرهم حمله على كراهة التنزيه ونحو ذلك، ولكن يقال: إن مسألة الجواز شيء ومسألة كراهة التنزيه شيء آخر, وكذلك أيضاً مسألة قوة الإسلام بحسب المصلحة، فإن هذا يرجع إليه ولا يوجد نص في هذا الأمر، وقد جاء الترخيص في ذلك عن غير واحد من السلف, وقد روي هذا عن أبي أمامة عليه رضوان الله تعالى, فيقال: إن النص ينظر فيه ويقدر بقدره بحسب الحالة الواردة في هذا الأمر، إذا تكلمنا في هذه المسألة قد يطرأ على مفاهيم البعض إذا كان الرجل يتزوج كتابية هل يعني أنه لا يسلم عليها أو أنه لا يصافحها؟ هل يمكن أن يُفهم هذا؟ لا يمكن أن يكون هذا, بل يقال: إن له أن يصافحها وما هو أبعد من ذلك, وبه نعلم أن أمر المصافحة يجوز من باب أولى, وأن النجاسة العينية التي يذكرها الفقهاء لبدن الكافر من المعاني غير الصحيحة وغير المسَلمة باعتبار أن الدليل ينقضها من ظواهر الأدلة من كلام الله جل وعلا وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وثمة مسألة وهي تابعة للمسألة التي تقدم الكلام عليها من الإشارة إلى عقيدة أهل الكتاب؛ أن ثمة من يقول ويتكلم بمسألة حرية الدين أن الإنسان إذا خرج من دين الإسلام إلى اليهودية أو النصرانية أنه يختلف عمن دخل إلى الوثنية أو دخل إلى الإلحاد ونحو ذلك, وأن هذه الديانات كلها تؤدي إلى طريق واحد فنقول: هذا من الضلال والزيغ, وينبغي أن يُعلم أن الإسلام أقر أهل الكتاب على ما هم عليه بشرط دفع الجزية، وأنهم لا يكرهون على الإسلام, وهذا من المعاني التي ينبغي أن تفهم, وهذا يدل على سطة الإسلام وتوسطه بين البغي وكذلك التفريط في فهم معناه، الإسلام أقر أهل الكتاب, على دينهم إن دفعوا الجزية وهادنوا أهل الإسلام, فيبقون على ما هم عليه, وهذا أيضاً من الأمور التي ينبغي أن تفهم وتضبط على وجهها, ولهذا كان من الناس في زمن الخلفاء الراشدين من الأفراد في بلدانهم من الخدم، وكذلك أيضاً ممن حولهم من مواليهم من اليهود والنصارى، ولم يكونوا يأمرونهم بالدخول في الإسلام أمراً وقسراً؛ لأن الله جل وعلا يقول: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256]، وهذا على خلاف عند العلماء في مسالة الوثنيين, هذا ما دفعوا الجزية, وذهب عامة العلماء إلى أن المرأة ليس عليها جزية, وهي خارجة من ذلك, وقد جاء عن غير واحد من السلف القول على هذا النحو, وقد ثبت عن عمر بن الخطاب فيما رواه زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال: كان عند عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى عجوز نصرانية فقال لها: أسلمي تسلمي, فقالت: إني امرأة عجوز والموت أقرب إلي, فقال عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى: اللهم بلغت، اللهم فاشهد، (( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ))، يعني: أن الإنسان إذا كان لديه خادم أو له صاحب ودعاه إلى الإسلام ولم يجب في ذلك فإنه لا إكراه في الدين, فإنه لا يدخل في الدين قسراً.

وأما ما يتعلق بمسألة المفاصلة بين أهل الإيمان وأهل الكفر ونحو ذلك فإنهم يقاتلون لكن لا على دخولهم في الإيمان وهذا أمر ينبغي أن يُفهم؛ أن قتال أهل الإيمان لليهود والنصارى لا لأن يدخلوا في الإيمان, إن دخلوا في الإيمان فهذا هو الحسن وهذا هو الغاية العظمى, وإن لم يدخلوا فينضووا تحت لواء أهل الإسلام وتحت أمانهم وعهدهم ورعايتهم, لا تستباح لهم حرمة دم ولا مال ولا عرض, وهذا من الأمور التي كفلها لهم الإسلام, وإذا كانوا تحت حماية أهل الإسلام ولوائهم وذمتهم فإن تعدى عليهم أحد ولو كان من المسلمين وجب على ولي الأمر أن ينصفهم وأن يعطيهم حقهم.

أسأل الله جل وعلا أن يوفقني وإياكم لمرضاته, وأن يسلك بي وبكم منهجاً قويماً وصراطاً مستقيماً.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

الأسئلة

حكم عمل النساء في الكاشيرات واختلاطهن بالرجال

السؤال: أصدرت اللجنة الدائمة فتوى تحرم فيها عمل المرأة في وظيفة الكاشير في الأماكن المختلطة, وذلك بعدما قرر مكتب العمل هذه الوظائف ووضع لها شروطاً وضوابط شرعية، ولا يخفى عليكم الأمر الملكي بقصر الفتوى على كبار العلماء، فهل يحق لوزارة العمل الاستمرار في هذا المشروع بعد هذه الفتوى؟

الجواب: ينبغي أن يعلم أن الله جل وعلا قد حسم أمر الاختلاط, وهذا مما لا خلاف عند العلماء فيه، وقد حكي الإجماع على هذا, وقد نص على الإجماع على هذا غير واحد من العلماء؛ كـأبي بكر العامري وغيره, والنصوص في ذلك ظاهرة من كلام الله جل وعلا وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم, ويكفي ما جاء في السنن من حديث أبي أسيد: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صلى النساء خلف الرجال وخرجن في الطريق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم بيده: لا تحققن الطريق )، يعني: لا توسطن الطريق, خشية أن يختلط النساء بالرجال ولو في الطريق, وكذلك ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما من حديث عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إياكم والدخول على النساء، قالوا: الحمو، قال: الحمو الموت )، وكذلك ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح في قوله عليه الصلاة والسلام: ( لا تنعت المرأة المرأة لزوجها كأنه ينظر إليها )، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى المرأة أن تصف المرأة لزوجها كأنه ينظر إليها، فكيف يقال بأن الرجل يخالط المرأة ثم تُنهى المرأة في البيت أن تصف المرأة التي خالطها الرجل في عمله ونحو ذلك وهي أمامه؟ هذا أمر يفرغ من معناه, كذلك مسألة النظر ونحو ذلك, إلا أن الشارع قد قيد هذا الأمر بقيود, مسألة الأمر العارض ونحو ذلك؛ أن تأخذ المرأة وتعطي ثم تغادر, لا أن تنصب نفسها للرجال للغادي والرائح, فهذا من الأمور المحرمة التي لا ينبغي الخلاف حولها.

وفي هذا إشارة إلى قول الله سبحانه وتعالى في قول الله جل وعلا في أمر الشاهدَين في أمر البيع في قول الله جل وعلا: فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [البقرة:282]، بين الله سبحانه وتعالى أن هذه الشهادة التي رخص الله جل وعلا فيها في أمر العقود، أنه إذا لم تكن الشهادة هنا من رجلين فإنها من رجل وامرأتين؛ لماذا كانت المرأة الثانية بدخولها؟ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى [البقرة:282], يعني: أن المرأة الواحدة لا تتناقش مع الرجل، وإنما تأتي امرأة ثانية تداخلها حتى تذكرها في حال طُروء النسيان عليها، وهذا شدة الاحتياط حتى في أمر عقود البيع مما ينبغي أن يؤخذ على أمر الاحتياط, وكذلك أيضاً ما جاء في قول الله سبحانه وتعالى حينما نذرت امرأة عمران ما في بطنها محرراً, وقال الله جل وعلا: فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ [آل عمران:36]، قال عكرمة كما روى ابن أبي حاتم في كتابه التفسير من حديث القاسم ابن أبي بزة عن عكرمة أنه قال في قول الله جل وعلا: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى [آل عمران:36]، قال: إنها نذرت أن تجعل ما في بطنها محرراً إن كان ذكراً أن يتعبد لله عز وجل في الكنيسة, فلما كانت أنثى أسقطت يمينها, (( وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى )), يعني: أنه لا ينبغي للمرأة أن تخالط الرجال ولو في مواضع العبادة, بخلاف الأماكن البعيدة ونحو ذلك, كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكفي في هذا ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح أيضاً من حديث أبي هريرة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها, وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها )، والعلة في ذلك للقرب والدنو من الرجال وهذا أمر معلوم محسوم ينبغي أن يحسم وأن لا يخاض في ذلك الخلاف.

ومن الأمور المهمة ما أشار إليه السائل لمسألة فتوى اللجنة الدائمة بتحريم عمل الكاشيرات مع الإحالة إلى قصر الفتوى عليهم, فهذا من الأمور الملزمة التي ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار, ويجب أيضاً على وزير العمل أن يتقي الله جل وعلا فيما ولاه الله جل وعلا أمره, ويجب عليه أيضاً أن يسمع ويطيع لهؤلاء العلماء الذين وكلت إليهم الفتوى وهو أولى من يجيب, وأن يلزم هذا الأمر, وعمل المرأة الكاشيرة الذي يحاول كثير من الناس أن يتكلم عليه بأسلوب العاطفة ونحو ذلك, بأن المرأة جائعة وكذلك محتاجة ونحو ذلك, أمثال هذه العبارات ينبغي ألا ينخدع بها كثير من الناس, وهذه لا تنطلي على أهل المعرفة والدراية, وكذلك كثير من الأقيسة ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار أن كثيراً من الناس حينما يريد أن يسوغ لعمل يأخذ بمسألة القياس، فيقول: إن هذه المرأة أمر عارض ونحو ذلك، ما الفرق أن تعمل المرأة كاشيرة في محل فتبيع للرجال ونحو ذلك وبين أن تعمل نادلة في مطعم؟ فهذه تتناول الدراهم وهذه تناول الأطعمة, تأخذ وتعطي من غير ثبات، وما الفرق بينها وبين أن تعمل مضيفة في طائرة تأخذ الطعام ثم تذهب؟ وما الفرق بينها وبين أن تكون عاملة تأخذ الورق في المعاملات ومراسلة في الدوائر؟ أو تكون رجل مرور في الشارع؟ ينتصب ويراقب الناس ونحو ذلك, هذا لا شك أنه يتسلسل ويؤدي إلى ما هو أعظم منه.

وينبغي أن يعلم أن هذا العمل حين ابتدأ في مصر قبل عدة عقود قد صدر فيه أمر وزاري رآسي نص فيه على أن المرأة وابتداء العمل دخول المرأة في مجال التجارة أنهم يقولون: إنه ينبغي أن يوضع على المكان الذي تعمل فيه المرأة لوحة أن المرأة هنا, ثم بعد ذلك أين وصل إليه حال المرأة؟ كثير من الناس يحاول خاصة من الصحفيين هداهم الله يحاولون أن يوصلوا كثيراً من الرسائل أو المشاريع عن طريق العاطفة ونحو ذلك، يتكلمون على مسألة عمل المرأة ونحو ذلك, ويثيرون مسألة الجوع والعمل ونحو ذلك، وثمة حلول كثيرة جداً، ومنها ما طرحتها على المسئولين في وزارة العمل أن كثيراً من الأسواق على طابقين وثلاثة طوابق يمكن أن يفصل الطابق الثاني والثالث عملاً للمرأة كاملاً, تعمل فيه تبيع وتشتري وتكون بائعة وعاملة نظافة وحارسة, وهذا يكون فيه من العمل أكثر من أن يكون ثمة عشرة أو عشرون في سوق كامل, ولكن لا يراد من هذا الأمر العمل, وإنما يريدون من ذلك تمرير مشارع معينة، وأنه ينبغي أن أمثال هذه الأمور باستدرار مسألة العاطفة وعمل المرأة ونحو ذلك ألا تنطلي على كثير من الناس, وهذا يستعملونه كثيراً, ولا نعلم أحداً من أهل العلم والعقل يعارض عمل المرأة بعفة بعيداً عن الرجال وبعيداً عن مواضع الاختلاط, ولكن حشر أمثال هذه الأمور والمصادمة فيها هو من طرائق أعداء الملة والدين, ولهذا إبليس لما سلطه الله جل وعلا على آدم وحواء في الجنة ونهى الله جل وعلا آدم أن يأكل وزوجه من هذه الشجرة قال إبليس: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ [الأعراف:20]، أراد أن يبين أن الأمر الشرعي هو من المصادم لما ترغبون من المادية وسلامة البدن والحضارة واستدامة الملك ونحو ذلك, فهذا أمر قديم, وهذا ما سول به إبليس لآدم وحواء وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف:21]، وهذا القسم لا شك أنه من المعاني الباطلة التي ينبغي للإنسان أن يحذر منها، ولا نعلم أحداً من أهل العقل والمعرفة من أهل العلم عمل معارضة على منشأة لحاسب أو لناطحة سحاب أو لمصنع طائرة ونحو ذلك, أو لمصنع سيارة أو تقنية ونحو ذلك, ولكن حينما يأتي في أمثال هذه المصانع وهذه الأعمال يدسون فيها المحرم, وينكر العلماء أمثال هذه المحرم, قالوا: هؤلاء أعداء التقنية وأعداء الحضارة وأعداء القيم وأعداء التقدم ونحو ذلك، فهذا ينبغي ألا ينطلي على أهل الحق, وهذا كما أنه يمر الآن على نفس هذا النحو وهذه الطريقة في هذا البلد هو يمر أيضاً بهذا النحو وهذه الطريقة على بلدان أخرى، مر قبلنا على مصر وغيرها بهذه الطريقة, وأما الاستثناءات من قولنا: هذا موضع للمرأة ونحو ذلك ينبغي احترامه ونحو ذلك, هذه وسيلة وعتبة قد مرت على مصر بهذا النظام, وقد اطلعت على هذه الوثيقة بنفسي، وهي صورة منشورة في كتاب وثائق الحكومة المصرية قد نشر في عام ألف وأربع مائة وثلاثين, وهو يباع في مكتبة الآداب ويوزع ويباع بصورة أن عمل المرأة ينبغي أن يحترم, وأن توضع بعيداً عن الرجال وأن يوضع عليها لافتة في ذلك على هذا النحو, والآن من يتكلم بهذا الأمر وهذا القرار الوزاري الحكومي الذي صدر باحترام المرأة يعد متخلفاً, وينبغي أن تكون المرأة مع الرجل في كل مكان وكل محفل, ينبغي أن ندرك وألا نخدع بالعبارات وأن عمل المرأة يدعى إليه بالحشمة وينبغي أن تكون ثمة أدوار كاملة لا أن يكون ثمة كاشيرات تبيع للرجال والنساء, بل أن يكون ثمة أدوار كاملة للنساء لا يدخلها إلا النساء, وأن تكون الأدوار السفلية مشتركة لمصالح الرجال والنساء, تبيع المرأة في دورها وتشتري وتلبس ما تشاء بحشمة وتأخذ حريتها وأمرها وتكون عاملة وبائعة وكذلك مشترية وتكون صائنة في هذا.

ومن العقبات التي لا يدركها كثير من الناس من المفاسد في عمل الكاشيرات وبيعهن في الأسواق أن هذا البلد كرمه الله جل وعلا بالإغلاق للصلوات لدقائق معدودة وربما أكثر من ذلك، أين يذهب هؤلاء النساء؟ ومن الذي يجرد عليهن العمل؟ ومن الذي يحاسبها في حال مخالفتها؟ ومن الذي يعلمها في ذلك؟ لا شك أنها في وسط رجالي تام, وهذا لا شك أنه من الأمور المحرمة التي ينبغي للإنسان أن يفهمها وأن يدركها، وأن يدرك الغاية التي بعدها، وما يريده هؤلاء الذين لا يرفعون لشعيرة الإسلام رأياً، وقد اطلعت على شيء من كلام بعض الصحفيين من هذا الأمر, الذين يعارضون على هذه الفتوى مع ظهورها قبلاً في كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم, مع وضوح وظهور هذا الأمر, ولو تكلم أحد من أهل العلم والعقل والدراية في مثل هذا الأمر لما نُشر له قول وما بين قوله, ولجعل في زوايا النسيان, وهذا من الظلم والبغي والعدوان, وكذلك اختطاف أقوال شاذة وتصديرها على أنها أقوال حق.

أسأل الله جل وعلا أن يوفقني وإياكم لمرضاته.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

التودد للكتابي وإحسان معاملته

السؤال: ضوابط التودد للكتابي؟

الجواب: التودد للكتابي لا بأس به, أن يتودد إليه بالإحسان واللطف والرحمة والشفقة عليه والإحسان إليه إذا كان جاراً, وقد جاء عن عبد الله بن عمرو كما روى البيهقي وغيره من حديث مجاهد عن عبد الله بن عمرو: ( أنه كان عنده جار يهودي, لديه جار يهودي, فإذا ذبح شاة أطعمه, فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه )، وهذا إحسان للجار فإذا كان من اليهود فإنه سيكون في غيره من باب أولى من الإحسان والإكرام، و ( الجيران ثلاثة ), كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في مسند البزار من حديث جابر بن عبد الله: ( جار له حق, وجار له حقان, وجار له ثلاثة, وذكر النبي صلى الله عليه وسلم الجار الذي له حق واحد حق الجوار، وهو الجار الكافر، والجار الذي له حقان وهو الجار المسلم، والجار الذي له ثلاثة حقوق وهو الجار ذو القربى، له حق الإسلام وحق الجوار وحق القربى ), فينبغي أن يعلم أن له حقاً في ذلك بالتودد, أما دخوله المسجد فلا حرج أن يدخل لاستماع فائدة, وكذلك التودد له بالحديث ونحو ذلك, هذا مما لا حرج فيه، يستثنى من ذلك المسجد الحرام, وهذا مما لا خلاف عند العلماء فيه, إلا في صور واستثناءات يسيرة وضيقة جداً.

اجتماع المسلمين المهاجرين في بلاد الكفار لإقامة شعائر الإسلام

السؤال: يقول: نحن مجموعة من اليمنيين عددنا فوق عشرين ألفاً, أقمنا في بعض دول النصارى وأقمنا شعائر الإسلام, فهل يجوز ذلك؟

الجواب: أولاً ينبغي أن ينظر إلى وضع المسلمين في الزمن الحالي أنه يختلف عن الزمن الأول، الزمن الحالي يختلف عن الزمن الأول باعتبار إمكان الهجرة في الزمن السابق, أن يهاجر الإنسان، الآن هناك ما يسمى بالتأشيرات والفيز والإقامات وغير ذلك, فهذا مما يجعله متعذراً أن يهاجر المسلمون من بلدان الكفر إلى بلدان المسلمين, ولو رغبوا لما تحقق لجمهورهم ومجموعهم وإنما يتحقق لأفراد, ولهذا ينبغي للمسلمين أن يجتمعوا وأن يكونوا يداً واحدة, وأن يجتمعوا في بلد واحد ويثبتون على ما هم عليه, وأن يقيموا شعيرة الإسلام, وأن يدعوا غيرهم بالحسنى والمعروف واللين وأن يكونوا حملة رسالة, وألا يكونوا معول هدم للدين.

سبب مخاطبة اليهود والنصارى معاً بلفظ أهل الكتاب

السؤال: لماذا أفرد الكتاب في قولنا: أهل الكتاب, هل يعني هذا أن اليهود والنصارى أمة واحدة؟

الجواب: لا، هم ليسوا أمة واحدة إلا في أبواب الكفر, وأما كون أهل الكتاب باعتبار أن كل واحد منهم أوتي كتاباً, ولهذا قال الله جل وعلا: أَهْلِ الْكِتَابِ [البقرة:105]، وأهل هم الجماعة الذين يتفقون في هذا الأمر، كقول الرجل للنساء: يا أهل الرجال أو أهل الأبناء, فابن هذا يختلف عن هذا.

العمل بشرع من قبلنا

السؤال: إذا كان العلماء اتفقوا على أن الإسلام ناسخ لما قبله؛ فلماذا اختلف العلماء في شرع من قبلنا؟

الجواب: أولاً بالنسبة لشرع من قبلنا وهي القاعدة التي يتكلم عليها العلماء, هل شرع من قبلنا شرع لنا؟ هذه المسألة التي يتكلم عليها الفقهاء من الأصوليين وغيرهم خارجة عن المعنى الذي نتكلم عليه، الشريعة إذا جاءت بإقرار أو حكاية شريعة سابقة فهذا فيه سكوت, والسكوت يتضمن الإقرار على من قال بعدم المخالفة, ثم إن العلماء اتفقوا على أن ما جاء من أحكام الأمم السابقة مما خالف شريعة الإسلام أنه لا يؤخذ به بالاتفاق, ثم أيضاً أن ما كان من شرائع الأمم السابقة هو ما ثبت عندنا لا ما ثبت عندهم, وهذا الذي يقصده العلماء أن شرع من قبلنا هو ما دل الدليل عليه عندنا, لا ما كان عندهم في التوراة والإنجيل وغيرها, ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، لا تصدقوهم ولا تكذبوهم )، والمراد من هذا أن وجوده كعدمه, وأما ما كان عندنا فمرده في ذلك الوحي من كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا سكت عنه وأُقر عليه فهذا هو الذي وقع فيه الخلاف, أما إذا كان معارضاً لما عندنا فإن هذا لا يقر بالاتفاق, وأما إذا كان قد دل الدليل على موافقته فنحن أخذناه من الشريعة الإسلامية وما أخذناه من شريعتهم.

كراهية فاعل المعصية

السؤال: ما حكم القول أننا نكره اليهود والنصارى لدينهم وليس لذواتهم، وهل هو مخالف لقوله تعالى: إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الممتحنة:4]؟

الجواب: أولاً الشرك والظلم وإن كان معنى فهو يحل في الذات, فإذا حل في ذات فإن هذه الذات تكره ويكره ما تحمله من معنى، هل يقول الشخص: أنا أكره القتل ولا أكره القاتل؟ أكره الزنا ولا أكره الزاني؟ لا يمكن هذا؛ لأنه لا يمكن أن ينفك, فنقول: نكره القاتل ونكره القتل, ونكره الزنا ونكره الزاني، ونكره الكفر ونكره أيضاً الكافر, لا ينفكان عن بعضهما.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , الإسلام وأهل الكتاب للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي

https://audio.islamweb.net