إسلام ويب

علم الحديث من العلوم المهمة، وقواعد هذا العلم تعتبر قواعد أغلبية، لذا لا بد من معرفة هذه القواعد وضبط مستثنياتها، وذلك بفهم كليات هذا الفن ثم تتبع جزئياته، وينصح في ذلك بكثرة المحفوظ، والاهتمام بكتب العلل، وممارسة علم التخريج. وأول ما يعرفه طالب هذا الفن أقسام الحديث، وهو ينقسم باعتبار ناقل الخبر إلى متواتر وآحاد أو إلى ما يفيد العلم الضروري أو النظري، وباعتبار قائله إلى مرفوع وموقوف ومقطوع، وباعتبار حكمه إلى صحيح وضعيف وحسن.

التعريف بالبيقونية وناظمها

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

قال البيقوني رحمه الله تعالى: [ بسم الله الرحمن الرحيم.

أبدأ بالحمد مصلياً علىمحمد خير نبي أرسلا ].

ففي عدة مجالس بإذن الله عز وجل نتكلم على شيء من قواعد الحديث وضوابطه، وشيء من مسائله وأحكامه، وتعريفاته وذلك على ضوء كلام المصنف رحمه الله في هذه المنظومة الميسرة، وهي المشتهرة بمنظومة البيقوني، أو المنظومة البيقونية، وهذه الرسالة تنم عن علم صاحبها، وإن كانت كتب التاريخ والتراجم تشح عن التعريف به؛ وذلك لأنه قليل التصنيف، أو لم يكن معروفاً في زمنه فينقل عنه أهل العلم في تلك الفترة، والمصنف رحمه الله -وهو عمر بن محمد البيقوني- هو شامي على الأظهر، وشافعي المذهب، وهو في القرن الحادي عشر الهجري، وقد صنف هذه الرسالة اختصاراً لمسائل علوم الحديث وقواعده، وجمع فيها بأسلوب النظم وطريقته ما ظهر من مسائل علوم الحديث وقواعده واشتهر، وما يكون بوابة لطالب العلم أن يلج إلى علم الحديث، ومعرفة مسائله وقواعده الظاهرة.

أنواع مصنفات علوم الحديث

علم الحديث، وعلم الآلة الموصل إليه بحر لا حد له، ولن يستوعبه كله أحد، وذلك لسعة أبوابه، وكثرة مسائله، وأجناسه، وأصنافه، وأنواعه، وتقاسيمه، فالتصانيف التي يكتبها العلماء في هذا الباب كثيرة جداً لا يستطيع الإنسان أن يتناولها جمعاً فضلاً أن يتناولها قراءة وحفظاً، سواء كانت ما يتعلق بأبواب العلل، أو ما يتعلق أمور بمصطلح الحديث وسواء كانت المصنفات في ذلك متقدمة أو متأخرة.

فقد صنف العلماء في هذا الباب ونوعوا، فمنهم من صنف في المنثور، ومنهم من صنف في المنظوم، ومنهم من صنف مختصرات، ومنهم من صنف مطولات، ومنهم من تكلم على القواعد والمصطلحات، ومنهم من تكلم على أبواب العلل الدقيقة، ومنهم من تكلم على تقاسيم الحديث وأنواعه وأجناسه وصنوفه، ومنهم من تكلم على رجاله ومتونه، ومنهم من جمع المتون، ومنهم من جمع الرجال، ومنهم من جمع ألفاظ الجرح والتعديل، وغير ذلك.

طريقة التمكن من آلة علوم الحديث

وهذه المصنفات كثيرة جداً على ما تقدم الكلام عليه، وأعظم طريقة يصل فيها طالب العلم إلى حاجته ونهمه، ويتمكن من الآلة تمكناً لا بأس به في أبواب علوم الحديث، فيحكم عن علم وبينة وبصيرة بدقة وعناية هو أن يكثر من الممارسة لعلم الحديث، وهي على أنواع: ممارسة بالقراءة والنظر، وممارسة بالبحث وممارسة بالحفظ، بأن يديم الإنسان المحفوظات بمعرفة الرجال ومعرفة متون الحديث وأنواعه، وغير ذلك، فإن هذا مما يعين طالب العلم، ويعطيه ملكة قوية في هذا الباب.

هذه الرسالة التي بين أيدينا تعتني بما يسمى بمصطلح الحديث، ويعبر عنه بقواعد الحديث أو مسائله أو أحكامه، وهذه عبارات في الغالب أنها مترادفة من جهة المعنى، وإن كان بين بعضها عموم وخصوص، إلا أنها من جهة الإجمال متقاربة، فمنهم من يسمي الكتب المصنفة في علوم الحديث بقواعد الحديث، ومنهم من يسميها بمصطلح الحديث، ومنهم من يسميها بمصطلح الحديث أو مسائل الحديث أو ضوابط الحديث، وغير ذلك من المصطلحات التي تجري على ألسنة وأقلام العلماء عليهم رحمة الله.

أقسام علم الحديث إجمالاً

فمسائل الحديث وأنواعه كثيرة جداً، ووفرتها وكثرتها ربما تحير طالب العلم في البداءة بذلك، ولكن ينبغي أن نقول: إن علم الحديث ينقسم بمجمله إلى قسمين:

القسم الأول: علم الرواية.

والقسم الثاني: علم الدراية.

وعلم الرواية: هي النقولات التي تروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي ما كان من علم الأسانيد من علم الرجال، ويتفرع عن ذلك ألفاظ الجرح والتعديل، والعلل الإسنادية، وبلدان الرواة، وكذلك تخصصاتهم، وصلة بعضهم ببعض من الشيوخ والتلاميذ، وطبقاتهم، ومواليدهم، ووفياتهم، وأعمارهم، وكثرة سماعهم، وغير ذلك، وما يتعلق أيضاً بالمرويات وأجناسها، وذلك كالمرفوع والموقوف والمقطوع، وكذلك أنواع المرفوعات سواء ما كان مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ما كان حديثاً قدسياً منسوباً ومروياً إلى الله سبحانه وتعالى، وهي أيضاً على أجناس وأنواع متباينة وأما ما يتعلق بعلم الدراية، فهو باب واسع، يعتني بمعرفة ما يتعلق بعلم الرواية من أحكام، ويدخل في هذا المسائل الفقهية، ويدخل في الأحكام التعاريف التي يطلقها العلماء عليهم رحمة الله تعالى في هذا، ويدخل أيضاً على تفصيل بعض العلماء أبواب العلل ودقائقه وغير ذلك، باعتبار أنها شيء من المعاني التي يغلب عليها النظر المعنوي، بعيداً عن التقعيد، أو الضرب في ذلك، والمصنفات في كل باب من الأبواب كثيرة جداً لا عد لها ولا حصر.

بيان أغلبية قواعد علوم الحديث وأهمية ضبط مستثنياتها

والقواعد في علوم الحديث، وكذلك مصطلحه، وضوابطه، هي قواعد أغلبية لا قواعد مطردة كسائر العلوم، فلدينا علوم كثيرة منها علوم التفسير، وعلوم الفقه، وعلوم الحديث، وعلوم اللغة، وغير ذلك، ولكل باب من هذه الأبواب قواعد، وهذه القواعد إنما هي قواعد أغلبية لا قواعد مطردة، ومعنى مطردة: أنها لا تنخرم بشيء يستثنى، ولكن هذه القواعد أغلبية وهي تتباين من جهة الاستثناء، فمنها ما استثناؤها ضعيف وضئيل، ومنها ما استثناؤها أكثر من ذلك، كأن يوصف بالكثرة، ولكنه ليس هو الأكثر، وهذا يعرفه طالب العلم بمعرفة الجزئيات؛ لأن طالب العلم إذا عرف الجزئيات تمكن من سبرها، ثم بعد ذلك يستطيع أن يحكم على الكليات، يعني: يحكم على القواعد، فإذا عرف علل الأفراد استطاع أن يوجد العلل العامة التي يشتركون فيها، والصحة العامة التي يسلمون معها.

كذلك أيضاً من مسائل الحديث: أنه إذا سبر الأفراد استطاع أن يعطي في ذلك حكماً عاماً، فالعلماء عليهم رحمة الله أرادوا أن ييسروا علوم الحديث بما يسمى بقواعده بعد سبرهم للأفراد والجزئيات، فصنفوا هذه المصنفات المعروفة بين أيدينا بمصطلح الحديث، ومنها على ما تقدم منظوم ومنها منثور، ومنها مطول ومنها مختصر، ومنها متقدم، ومنها متأخر، فهي متباينة في هذا الباب من جهة قيمتها ومنزلتها، ومنها ما يصنفها عالم محقق محرر، ومنها ما يصنفها عالم مقلد، يعني: يحكي هذه المسائل عن غيره، ربما لا يحرر كثيراً منها.

والنوع الذي يتبناه المحررون المحققون أهل الدقة والدراية والتحقيق في ذلك هي مصنفات لا بأس بها من جهة الوفرة، وهي في متناول الجميع، وكلما كان التصنيف أقدم فإنه أكثر تحقيقاً، وذلك لقربه من الزمن الأول، وهو زمن الدراية، والحفظ، وسعة العلم، وقوة الملكة، وسلامة اللغة، بخلاف المصنفات المتأخرة في هذا الباب.

هذه المسائل لا تعطي طالب العلم ملكة على أن يحكم على الجزئيات، ولكن يحكم على الأغلب والكليات، فالجزئيات بمعنى: أن الإنسان إذا درس هذه القواعد لا يستطيع أن يحكم على أجزاء الأحاديث كلها بحكم صحيح، ولكن يستطيع أن يحكم على أغلبها، ولا يحكم على أفرادها، ويكون في ذلك حكمه صحيحاً.

واجب طالب الحديث لضبط كليات قواعد علم الحديث وجزئيات مسائله معاً

إذاً: ما الواجب على طالب العلم في هذا؟

الواجب على طالب العلم أن يعلم قيمة المصنفات في علوم الحديث وأنها مفاتيح تفتح لطالب العلم أبواباً يلج إلى مسائل الحديث الدقيقة في علوم الرواية وعلوم الدراية، ولهذا الذي يعتني بعلوم المصطلح لا يكون طالباً متمكناً، وإنما يكون طالباً أخذ مفاتيح العلم، وما عرف دواخله، لأن لكل بناءٍ أبواب، ولكل أبوابٍ مفاتيح، فهو أخذ هذه المفاتيح حتى يستطيع أن يلج إليها ويميز هذه من هذه، فيعرف الدور، ويعرف ساحاتها، وغير ذلك، فإذا ولج إليها استطاع أن يأخذ منها، لكنه ما استطاع أن يحكم عما في داخلها، وكيف يستطيع طالب العلم أن يصل إلى هذا؟ يستطيع طالب العلم ذلك إذا ولج إلى هذا العلم وتتبع المسائل الفردية واستوعبها، فأخذ تلك القواعد حتى يتيسر لديه الحكم على الجزئيات، فحينئذٍ يكون بعد ذلك من أهل التمكن والدراية في هذا الباب، فكلما استوعب, واستكثر من الأخذ بأمثال هذه الجزئيات، وهذه القواعد التي بين أيدينا أو غيرها مما يصنف فيها العلماء من مختصرات علوم الحديث وقواعده على ما تقدم كلما تفقه وتبصر طالب العلم بأغلب الأحكام لا بجميعها، والأغلب المراد به: الكليات.

فلدينا كليات وجزئيات، ولدينا أصول وفروع، فالأصول العامة والقواعد هذه تعطي طالب العلم الحكم على الأغلب، لكنه لا يحسن الحكم على الاستثناءات، فإذا حكم على الاستثناءات، وحكم على القواعد، فإنه حينئذٍ يكون من أهل الملكة والتحقيق، وهؤلاء هم المحققون، وكما أنه في علم الحديث، كذلك أيضاً في علم الفقه وعلم التفسير وغير ذلك.

إذاً: الواجب على طالب العلم أن يأخذ هذه القواعد، وأن يلج بها إلى أبواب العلم، وأن يعلم أن هذه القواعد ليست هذه العلم بذاتها، وإنما هي مفاتيح توصل إلى تلك العلوم، وتلك العلوم لها مباحثها، وإذا أخذ طالب العلم هذه القواعد كيف يلج إلى ما بعدها؟ نقول: يلج إلى ما بعدها من كتب العلماء، وأقوى ما يلج إليه طالب العلم مما يحرره هذا الباب ما يسمى بكتب العلل، وكتب العلل في ذلك كثيرة جداً، وذلك كعلل الأئمة الأوائل عليهم رحمة الله، كعلل يحيى بن معين، وعلل علي بن المديني، وعلل أبي حاتم، وكذلك التاريخ الكبير للبخاري، والجرح والتعديل لـابن أبي حاتم، كذلك أيضاً التمييز للإمام مسلم، والعلل للإمام أحمد عليه رحمة الله، والعلل للدارقطني، ومسائل الإمام أحمد المنثورة، أيضاً ما يأتي في الكتب التي تصنف على الرجال وتتضمن جملة من المسائل في علل الحديث، وذلك كالكامل لـابن عدي، والضعفاء للعقيلي، والضعفاء للبخاري، والضعفاء للنسائي عليهم رحمة الله، وغير ذلك من هذا الباب، وكذلك السؤالات التي تتعلق بالرجال كسؤالات الدارقطني، وسؤالات الإمام أحمد عليهم رحمة الله، وكذلك أيضاً سؤالات الآجري لـأبي داود وغيرها من هذه السؤالات التي تتضمن شيئاً من مسائل العلل.

الأمر الثاني مما يصل به طالب العلم: هو أن يكون بصيراً بالمتون، فعلم المتون من الأمور المهمة التي تعطي طالب العلم ملكة وقدرة على معرفة الجزئيات، والحكم عليها، فكلما كان طالب العلم أكثر استيعاباً للمتون، والإكثار من الأخذ منها، فإنه حينئذٍ يؤتى ملكة جبلية فطرية يستطيع بها أن يميز كثيراً من الأحاديث إذا وقف عليها مع ما لديه من قواعد ولج بها إلى هذا العلم.

ومتون الحديث التي ينبغي لطالب العلم أن يعتني بها في علم الحديث أن يبدأ بالكليات؛ لأن الشريعة جاءت بالكليات قبل الجزئيات والفرعيات، فالكليات: هي المعاني العامة التي تدل على معنى عام يدخل تحته جملة من التطبيقات أو الفروع، ولهذا جاءت الشريعة بالتوحيد بالمعنى العام، وإفراد الله عز وجل بالعبادة، وما جاءت بأنواع العبادة التي يوحد الإنسان بها ربه على وجه التفصيل، ولهذا الصيام لا يجوز أن تصوم لغير الله، وإنما الصيام لله، ولكن جاء الصيام بعد ذلك من جهة أجناس العبادة التي تصرف لله، جاءت بالتوحيد وهو إفراد الله بالعبادة، وجاءت بالنهي عن الشرك، وهذه هي الكليات والأصول العامة في الشريعة، ولكن كيف توحد الله؟ توحده بالعبادة، ما هي هذه العبادة؟ جاءت على سبيل التدرج، جاءت بالذكر، والصلاة، والصدقة، والحج، والعمرة، وجاءت أيضاً بأنواع العبادة من جهة أنواع الصدقة، وصلة الأرحام، وغير ذلك مما دل عليه الدليل من هذه الأنواع.

أهمية معرفة كليات العلوم قبل جزئياتها

الكليات في القواعد في علوم الحديث تعطي طالب العلم الولوج إلى هذه الجزئيات والدخول إلى تفاصيلها، فينبغي لطالب العلم إذا أراد أن يلج إلى الشريعة أن يلج إليها من كلياتها لا من جزئياتها؛ لأنه إذا دخل إلى الكليات وصل إلى الجزئيات وعرف قيمتها، بخلاف لو دخل إلى الجزئيات؛ لأنه إذا دخل إلى الجزئيات ظن أنه قد حوى من الشريعة، وتكبر، فيصل إلى علم يسير جداً من بعض الأبواب، ويظن أنه قد استوعب العلم، بخلاف البدء من الكليات، فإذا بدأ من الكليات، فإنه يجد تشعبات الشريعة لديه، فمثلاً إذا بدأ من الأصول بدأ من أركان الإسلام، وجد طريق الصلاة، ووجد طريق الصيام، ووجد طريق الزكاة، ووجد طريق الحج، فإذا دخل إلى الصيام وجد فروعاً كثيرة جداً من جهة الصيام الفرض والنافلة والكفارة وغير ذلك، وإذا دخل إلى الزكاة وجد الزكاة بأنواعها، زكاة النقدين الزروع والثمار وغير ذلك، بخلاف لو جاء من الفرعيات، فإنه يبدأ من الفرع، كأن يعتني مثلاً: بمسائل الصيام النافلة، ويبدأ بصيام يوم عاشوراء ثم يرجع إلى صيام الفرض، ثم يرجع إلى الكليات وما مر بغيرها من الفروع الأخرى، وظن أنه قد أخذ شيئاً من الشريعة، وهذا يورث طالب العلم ضعفاً، وربما كبراً.

والزمن المتأخر زمن الإيغال في التخصصات، تجد طالب العلم مثلاً يعتني بباب من الأبواب، وربما بحث معين، يجلس عليه سنة أو سنتين أو ثلاث سنوات، يبحث عن أحكام الشعر، أو أحكام الأظافر، أو أحكام النعال، أو غير ذلك، وهذا بدأ من جزئيات هذا الباب، وجهل الجزئيات الأخرى، فضلاً عن الكليات، وهذا خطأ، فهو ليس بفقيه لا في الفقه، ولا أيضاً في غيره وإنما هو فقيه في الشعر، وفقيه في الظفر، أو فقيه في النعال وغير ذلك، وهذا سببه ما يسمى بالدراسات النظامية، أو كذلك أيضاً الإيغال في الجزئيات في البحوث وغير ذلك، فيظن طالب العلم أنه إذا أوغل في جزئية أنه فهم الشريعة.

إذاً: هل أخذ الشريعة بعكسها أم جاء من أصلها؟ أخذها بعكسها، فالواجب على طالب العلم أن يبدأ بالكليات حتى من جهة الحفظ والدراسة، فقد تقدم أنه ينبغي لطالب العلم أن يعتني بعلم المتون، وعليه أن يبدأ بالكليات، فما هي الكليات؟ هي الأحاديث الكلية التي جاءت عن النبي عليه الصلاة والسلام، فيبدأ مثلاً: بالقرآن وهو الأصل الذي أنزله الله عز وجل على محمد صلى الله عليه وسلم، ويقسمه إلى ثلاثة أقسام: عقيدة وأحكام حلال وحرام، ثم قصص، والقرآن في ذلك أصله أغلبي، فهو عام غائي، يعني: أنه يهتم بالغايات لا يهتم بالتفاصيل والجزئيات، ولهذا لا تجد في القرآن عدد الركعات، والصلوات الخمس وإنما تجد وجوب الصلاة، وما يتعلق بمواقيتها، كذلك بالنسبة للزكاة، جاء بالأمر بالزكاة وكذلك أيضاً مسائل الحول، ولكنه ما جاء بمقادير الزكاة والأموال التي يجب فيها من أمور النصاب وغير ذلك، وكذلك أيضاً فيما يتعلق بمسائل الصوم، ومسائل الحج، وجزئيات هذه المسائل.

فإذا بدأ بالأخذ بالكليات حتى يصل إلى فرعيات كل مسألة، فإنها تعظم لديه الشريعة ويتهيبها، هذا من جهة القرآن، أما من جهة السنة فيبدأ بالأحاديث الكلية، وثمة رسالة لـابن عساكر رحمه الله، وهي في الأحاديث الكلية، جمع فيها الأحاديث الكلية في نحو ستة وعشرين حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزاد عليه الإمام النووي رحمه الله فأكملها، فسماها الأربعين النووية، فيعتني بها؛ لأنها اعتنت بمجموع ومجمل الأحكام، ولهذا هذه الأحاديث لا تجد فيها التفاصيل، فلا تجد فيها مثلاً ما يتعلق بأحاديث صفة الصلاة، أو بصفة الصيام، أو صفة الزكاة وغير ذلك، لا تجد فيها شيئاً من هذا، وإنما تعتني بالعام.

ثم بعد ذلك ينتقل إلى شيء من الأحاديث التي تعتني بتفصيل بعض الكليات، يبدأ بتفصيل المرتبة الأولى، وذلك على نوعين، في أمور العقائد ثمة مصنفات، وفي أمور الأحكام ثمة مصنفات، ويرجع في أمور الأحكام إلى أحاديث الأحكام، فيعتني بها، وثمة مصنفات كثيرة جداً، حولها، وهي عند العلماء على منهجين: منهج المتقدمين ومنهج المتأخرين، فالمتقدمون يسمون أحاديث الأحكام، ويدخلون فيها العقائد، ويدخلون فيها الفقه، ويدخلون فيها الآداب والسلوك والفتن، وغير ذلك، فيجعلون كل شيء جاء عن الدين فهو من الأحكام، ولهذا تجد من يصنف في هذا الباب، كـالبخاري، و مسلم، و الترمذي، و النسائي، و ابن ماجه، و أبي داود وغيرهم ممن صنف في هذا الباب يدخلونها ويسمونها أحكاماً، ومنهم من جرى على تسميتها بالنص، كالأحكام الصغرى والكبرى والوسطى للإشبيلي، وغيرها من المصنفات في هذا الباب، فالذين يعتنون في باب التوسع في مسائل الدين، يدخلون مسائل الإيمان، ثم مسائل الأحكام، ثم يأتون بعد ذلك بما عداها، والطريقة الثانية: تقسيم مسائل الأحكام، وهي طريقة المتأخرين، جعلوا كتب العقائد منفكة عن كتب الأحكام، فجعلوا الأحكام خاصة بأحكام الفقه الذي يبتدئ بأبواب الطهارة، وينتهي بأبواب الإقرار غالباً، على اختلاف في ترتيب الفقه عند المذاهب الأربعة في هذا الباب، فهم يخصصون الأحكام على هذا المعنى، يأخذ طالب العلم في مسيره في كل باب كتاباً، فإذا كان على طريقة المتقدمين، فإنه قد جمع هذه الأبواب، وإذا كان على طريقة المتأخرين، فلا بد أن ينتبه إذا سار في المسار الفقهي أن ثمة مسار آخر قد تركه، وهو مسار العقائد، فلا بد أن يأخذ كتاباً من هنا وكتاباً من هنا حتى يتلازم معه، فيأخذ كتاباً في العقائد، وكتاباً في الأحكام.

وثمة كتب مصنفة في العقائد عند المتقدمين، وعند المتأخرين يسمونها بكتب الإيمان، ككتاب الإيمان لـابن أبي شيبة، وكتاب الإيمان لابن مندة، وكتاب الإيمان لـأبي عبيد القاسم بن سلام وكذلك أيضاً كتب التوحيد، ككتاب التوحيد لـابن خزيمة، وكتاب التوحيد للمقريزي، وغيرها من المصنفات في هذا الباب، وثمة كتب مصنفة في أبواب الأحكام أو ما يسمى بالفقه، وهي مصنفات أيضاً عديدة، ومن أوائلها كتاب عمدة الأحكام للمقدسي رحمه الله، وكتاب المنتقى للمجد ابن تيمية، وكتاب بلوغ المرام للحافظ ابن حجر، وكتاب المحرر لـابن عبد الهادي، وكتاب فتح الغفار للهندي، جمعوا فيها الأحاديث المتعلقة بأبواب الأحكام.

إذا بدأ بالشريعة من نقطته الأولى من الكليات، فإن الإنسان يعرف ما يفوته من العلم، ويستوعبها كما استوعبها الأوائل وأتقنوها، وأدركوا ما فاتهم من العلوم، ولكن لما كثرت هذه الجزئيات والفرعيات من علوم الشريعة عند المتأخرين، فأصبحت كالخيوط والهدف المترامي، إذا أمسك بهدف من فروعها ظن أنه قد أمسك بالشريعة، ولو بدأ من أعلاها ونظر كثرة ما تفرع منها أيقن أنه ما أخذ إلا شيئاً يسيراً، وأنه قد فاته شيء كثير ينبغي عليه أن يستدركه، ولهذا من بدأ بالجزئيات يزداد إيغالاً فيها حتى ينقضي عمره، ويكتشف أنه قد جهل شيئاً كثيراً، وفاته شيء كثير في هذا الباب.

نصائح وتوجيهات لطالب علم الحديث

فالعلماء عليهم رحمة الله في علوم الحديث، ومنها هذه الرسالة يعتنون بقواعد الحديث وضبطه من باب لم ذلك الشتات المتفرع في ماذا؟ في علم الحديث فقط؛ لأنهم أرادوا أن يعيدوه إلى شيء من أصله، وذلك لكثرة المصنفات في هذا الباب، فأنصح طلاب العلم الذين يبدءون بعلوم الحديث بجملة من النصائح.

أول هذه النصائح: ألا يعتنوا بالمطولات الكثيرة في علوم قواعد الحديث ومصطلحه، وأن يبدءوا بالمختصرات اليسيرة، كالبيقونية، والموقظة، ونخبة الفكر، ونزهة النظر، وشروحها وغيرها من هذه المصنفات اليسيرة في هذا الباب، وهي مصنفات متعددة، وأكثر المصنفات في هذا الباب هي مصنفات الأئمة الشافعية؛ لأنهم قد اعتنوا في هذا الباب أكثر من غيرهم من بقية المذاهب، فيعتني طالب العلم بهذا الباب، وبالمختصرات، ثم بعد ذلك ينتقل إلى الكتب المتوسطة في هذا، التي ليست هي بالمطولات، وليست بالمختصرات، كتدريب الراوي وغيرها، وأما الكتب المطولة، كالمنظومات من الألفيات وشروحها، كفتح المغيث في شرح ألفية الحديث، فهذه أنصح طالب العلم أن تكون مرجعاً له، لا أن يعتني ويوغل بجزئياتها، لماذا؟ لأنها لا تفيد طالب العلم كثيراً في التطبيق لماذا؟ لأسباب:

السبب الأول: أنهم يوغلون في جزئيات لا أثر لها في التطبيق.

ثانياً: أنهم يوغلون في تفاصيل خلافها لفظي، أو ربما أيضاً من جهة الثمرة وعائدتها على الإنسان يسيرة جداً.

الأمر الثالث: أن المطولات فيها تأثر بطرائق المتكلمين، ومناهجهم، فقد دخل المتكلمون في علم الحديث، فدخلوا في قواعد الجرح والتعديل، ودخلوا أيضاً في قواعد الحديث، وفي أبواب العلل، ودخلوها لا عن طريق ممارسة للجزئيات، وإنما بنوع من التقعيد، وإذا قعد الإنسان وليس بممارس دخل في دائرة التقليد لمن قعد، ولهذا تمكن الأصوليون من التقليد في علوم الحديث تمكناً ظاهراً، ولم يكن لديهم شيء من التحرير إلا النزر اليسير، وهذا ما أثر على الكتب المطولة في هذا الباب، فيقولون مثلاً: الجرح مقدم على التعديل، أو الجرح لا يقبل إلا مفسراً، وهذه التقعيدات وهذه القواعد يأخذونها عن بعضهم، ولهذا تجد الأمثلة عند المتأخرين هي أمثلة المتقدمين، ولا يجدون مثالاً، فإذا كانوا لا يجدون مثالاً يمثل به على مدى أربعمائة سنة أو خمسمائة سنة، فكيف يحررون في جزئيات في التطبيق؟ مما يدل على أن هذه إنما هي حكايات لمسائل يقفون عليها في مصنفات غيرهم، ولهذا التحرير فيها ضئيل، فأنصح طالب العلم في ذلك أن يجعل المطولات هي للمرجع، فلا يعتني بها حفظاً، ولا يعتني بها إيغالاً بالتتبع والقراءة.

ما الذي يعتني به طالب العلم، وهي الوصية الثانية؟ أن يعتني طالب العلم بكتب العلل، وهي التي تعتني بجزئيات الجزئيات بدقائق المسائل، وعلم العلل علم دقيق جداً، وملكته في ذلك شاقة، وصعبة جداً لا يستطيع الإنسان أن يصل إلى الملكة في هذا الباب إلا بشق الأنفس، وربما تعذر عليه، مضى عليه عمر طويل جداً، أو ربما مضى عليه عمره كله، ولم يستطع حينئذٍ أن يصل إلى التمكن في هذا الباب، لهذا أوصيه بالقراءة في كتب العلل، فهي كثيرة كما تقدم معنا في هذا الباب.

والوصية الثالثة: أن يكثر طالب العلم من المحفوظات، فكلما كان طالب العلم للمحفوظات أكثر، فإنه يكون حينئذٍ أبصر بمعرفة متون الحديث ورواتهم؛ لأن الإنسان إذا حفظ الحديث، فإنه يتطعمه حساً، كحال الإنسان الذي يكثر نظراً للأشياء يستطيع أن يميزها، وأن يميز الشاذ منها؛ لأنه أدام النظر، ولهذا الإنسان حينما يكون في بلاد مثلاً في جنوب شرق آسيا ونحو ذلك، يمر ببعض البلدان فيرى أنهم واحد من جهة صورتهم الظاهرة، لكن لو سأل رجلاً خبيراً منهم، فقال: هذا ملامحه من بلدة كذا، وهذا ملامحه من بلدة كذا، وهذا من بلدة كذا، أو ليس كذلك؟ بلى.

كذلك أيضاً في هذا البلد الذي يعيش فيه يعرف من أحوال الناس أن هذا من بلدة كذا، وهذا من بلدة كذا، وإذا تكلموا يعرفهم بلحن قولهم، ولكن إذا كان الإنسان بعيداً عنهم، وسمعهم يظن أن لغتهم واحدة أليس كذلك؟ هذا كحال الإنسان الأجنبي عن هذا العلم الذي لم يوغل فيه، فكلما استكثر الإنسان من الحفظ أصبح لديه ملكة قوية جداً بالتمييز بين المتون، ويعرف المتن الذي يجري على النسق الذي لديه، والمتن الغريب الذي لا يجري على ما لديه، وكلما كان الإنسان أكثر استيعاباً للحديث أصبح أكثر دقة بمعرفة المخالف ولو لم يقف عليه بعينه، ولهذا تجد بعض الناس مثلاً يقول: هذا من بلدة كذا، فإذا ينفي يقول: بل أنت من بلدة كذا، فتجزم أنت ولو نفى، ولو جاء بشهود، أو ليس كذلك؟ تقطع بهذا، هكذا كان عند الأئمة عليهم رحمة الله ملكة في نقد الحديث، لماذا؟ أنت حكمت على سحنة رجل، وعلى منطقه بماذا؟ لأنك عايشت هذا المنطق عشرين أو ثلاثين سنة، هم كذلك أيضاً عايشوا الحديث وحفظوه في ليلهم ونهارهم، فإذا جاء لديهم حديث قالوا: هذا منكر، يدركها الإنسان بالحس، لا يستطيع أن يبرهن عليها.

فتجد بعض الناس إذا تكلم تقول: هذا من الجنوب، أو تقول: هذا من الشمال، هذا من العراق، هذا من كذا، لكن إذا أتيت بشخص إنجليزي، أو شخص بعيد تقول له: هذا من كذا، يعجب ويحتار كيف تميز هؤلاء؟ أنت عندك الأمر بسيط أو ليس كذلك؟ كذلك تجد عند الحفاظ الكبار ملكة قوية جداً تقف لديها، فلذلك أنت حينما ترد كلام أبي حاتم و أبي زرعة لأن أحداً منهم لم يبرهن على قوله، فهو كرد الأعجمي حينما تميز له الجنوبي والشرقي والعراقي من غيره، وتقول: الجرح لا يقبل إلا مفسراً، وتحتاج إلى بينة، وهذا هو الفرق بين طريقة الأوائل، وبين طريقة المتأخرين.

أنت تريد أن يأتي لك ببرهان أن هذه اللهجة عراقية، وهو لا يستطيع أن يبرهن لك، لماذا؟ لأنه يحتاج إلى قاموس كامل، وإلى برنامج صوتيات كامل حتى يفرز لك فهذا قد ملكه على مدى عشرين أو ثلاثين سنة.

كذلك أيضاً بالنسبة للنظر، تجد الإنسان إذا نظر يستطيع أن يميز أن هذا من بلدة كذا، وهذا من بلدة كذا.

وهذا من بلدة كذا، ولهذا نقول: إنه ينبغي لطالب العلم أن يكثر حفظاً للسنة، فإذا أكثر حفظاً للسنة وأخذاً لها، واستوعبها، فإنه يستطيع أن يميز، فالأئمة الأوائل كانوا يحفظون مئات الآلاف من الأحاديث، فإذا جاءهم حديث يند عما لديهم استطاعوا أن ينكروه، وإذا جاءهم حديث يوافق ما لديهم، لكنه ليس عندهم توقفوا، فأصبح عندهم نوع من التوقف، يقول: هذا ليس عندي، من أي بلدة؟ من بلدة كذا، يقول: أنا دخلت هذه البلدة، وسمعت ما فيها من أحاديث، إذاً لم ينكره من جهة التركيب اللفظي، ولم ينكره من جهة الحكم، ولكن توقف؛ لأنه لم يوافق ما لديه.

ولهذا تجد في كلام بعض الأئمة حينما يسئل عن بعض الأحاديث يقول: لا أدري، لماذا؟ لأنها جرت على النسق الذي لديه، ولكن لم يبلغ إليه هذا الحديث، وإذا لم يجري على النسق الذي عنده بادر بإنكاره؛ لأن الإنسان إذا تحدث بشيء لا يخرج عن نسقه، فكيف بإحكام الشريعة؟ فالشريعة محكمة لا تأتي بأشياء متضاربة، ومتعارضة من جهة اللفظ والسياق؛ لأنها لغة محكمة، وكذلك المعاني في ذلك محكمة؛ لهذا ينبغي لطالب العلم أن يعتني بالمحفوظات، ويكثر من هذا.

الوصية الرابعة: أن يكثر طالب العلم من التطبيق العملي وهو علم التخريج وهذا مهم جداً، فإذا مارس طالب العلم معرفة التخاريج بالتطبيق العملي، فإن ذلك يعطيه ملكة قوية جدا ًفي هذا، وطالب العلم يخرج الحديث بنفسه مستقلاً، ثم يعرضه على من يعرفه من أهل الاختصاص في هذا، وعليه ألا يستقل بنفسه، حتى لا يكون لديه أخطاء، ثم بعد ذلك يجد أن الأخطاء تتكرر لديه، ولا يشعر بهذا، وإذا وجد الخطأ لا يحزن ولا يجزع، بل ينبغي أن يفرح؛ لأن الخطأ عتبة الصواب، فإذا عرف الخطأ فليعلم أنه اكتسب شيئاً صحيحاً، فليفرح بالخطأ لا أن يحزن على الصواب، والنفوس تنفر من الخطأ، ولكن الذي يريد أن يصل إلى الصواب يفرح بالصواب ويغض طرفه عن الخطأ؛ لأنه فرح بشيء، فأبعد حلو هذه بمر تلك، لهذا ينبغي على طالب العلم أن يعتني بالتخريج، والتخريج في ذلك له طرق ومناهج.

وثمة مصنفات عديدة في طرق التخريج لدى المعاصرين، فالتخريج عند الأئمة معروف، فهم يسلكونه ويمارسونه ولهم مناهج في ذلك، لكنهم لم يصنفوا في مسائل التخريج وطرقها، وإنما هي من تصنيفات المعاصرين.

فيعتني طالب العلم بهذا، ثم يعرضه على أهل الاختصاص، ثم بعد ذلك يستمر، فإذا لم يجد طالب العلم من يعرض عليه ذلك العلم يعرضه على من؟ يعرضه على الكتب التي اعتنت في هذا الباب، فثمة مصنفات عديدة على المذاهب الأربعة في كتب التخريج، وثمة مصنفات على مذهب الإمام الشافعي وهي كثيرة جداً أوسعها كتاب البدر المنير لـابن ملقن عليه رحمة الله، والكتب التي تفرعت عنه أو لم تتفرع عنه في مذهب الإمام الشافعي أكثر عناية في هذا الباب، وهي كتب كثيرة، ككتب الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله، وككتاب التلخيص الحبير.

وثمة مصنفات أيضاً في مذهب أبي حنيفة عليه رحمة الله، ككتاب نصب الراية للإمام الزيلعي عليه رحمة الله، وثمة أيضاً مصنفات في هذا الباب في مذهب الإمام أحمد رحمه الله، واعتنى بهذا الألباني عليه رحمة الله في كتابه إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، وثمة مصنفات في مذهب الإمام مالك عليه رحمة الله لبعض المالكية من المغاربة من المتأخرين فقد اعتنوا بتخريج الأحاديث الواردة في مذهب الإمام مالك، لكن أكثر المذاهب الأربعة عناية بالتخريج هو: مذهب الإمام الشافعي رحمه الله، وذلك لأن أكثر المحدثين الذين يعتنون بعلوم الحديث وقواعده هم من الشافعية، فاهتموا في هذا الباب، وذلك كالأئمة الكبار، كـابن كثير، و الذهبي، و السخاوي، و السيوطي، وغيرهم ممن صنف في علوم الحديث كهذا المصنف البيقوني عليه رحمة الله.

الأئمة الشافعية هم أكثر المحدثين الذين اعتنوا في هذا الباب سواء في شروح الحديث، أو في علوم الحديث من جهة قواعده، وكذلك ضوابطه، فيقرن ما لديه من ذلك بكتب التخريج، وكتب العلل؛ لأنه ربما بعض المخرجين يجري على طرائق من قواعد المصطلح تخالف ما عليه مثلاً بعض المتقدمين من الأئمة الكبار، فيقرن كتب العلل بكتب التخريج حتى يكون لدى طالب العلم شيء من الملكة في ذلك، ثم يجد طالب العلم أنه يصحح الأخطاء مرة بعد مرة حتى تتلاشى الأخطاء ويكثر الصواب، فيندر لديه الخطأ بكثرة الممارسة حتى يخرج باستقلال نفسه ألف أو ألفين حديث على سبيل الانفراد، ثم بعد ذلك يجد طالب العلم أنه قد استقل في هذا الباب.

هذه الكتب على ما تقدم الإشارة إليه ومنها هذا الكتاب المنظومة البيقونية هي تعطي مفاتيح للوصول إلى علم من العلوم، وهذا العلم هو علم قواعد الحديث.

حكم البداءة بالبسملة

والمصنف رحمه الله ابتدأ بذكر الله سبحانه وتعالى في قوله: ( بسم الله الرحمن الرحيم، أبدأ بالحمد مصلياً على محمد خير نبي أرسلا ).

البدء بذكر الله عز وجل في المصنفات والمكاتبات هي سنة النبي عليه الصلاة والسلام، فقد كان يكتب إلى الناس ويسمي الله عز وجل، فيقول: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله إلى فلان، فهذا هو هدي النبي عليه الصلاة والسلام كما جاء في الصحيحين وغيره من حديث عبيد الله بن عبد الله عن عبد الله بن عباس في كتابة النبي عليه الصلاة والسلام وغيرها، وأما الذكر الذي يذكره الإنسان في غير البسملة كالحمدلة أو الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام فهل يجزئ عن البسملة أم لا؟

نقول: إن ذكر الله سبحانه وتعالى في افتتاح الأمور الهامة سنة متأكدة، بل قال بعض العلماء بوجوبها لحديث أبي هريرة : ( كل أمر ذي بال لا يبتدئ فيه ببسم الله فهو أجدم )، وقالوا: هذا دليل على الوجوب، ولكن هذا الحديث معلول؛ وذلك أنه يرويه الخطيب البغدادي من حديث الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وهو معلول بالإرسال، قد جاء الحديث بألفاظ عدة، فجاء ( لا يبتدئ به ببسم الله )، وجاء ( بالحمد لله )، وجاء ( بذكر الله )، وأصح هذه الأحاديث ( بحمد الله )، ثم يليه ( بسم الله )، ثم يليه بعد ذلك ( بذكر الله )، لكن أصل الحديث ضعيف لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما السنة بالبداءة فهي سنة عملية ثابتة عن النبي عليه الصلاة والسلام.

أحوال البداءة ببسم الله

كيف يبدأ في أمره، وكيف يفرق بين البداءة بالبسملة وغيره؟ نقول: إن ذلك على أحوال:

الحالة الأولى: ما يكون في المكاتبات بين الناس من الرسائل أو غير ذلك، فهذا يبتدئ فيه ببسم الله كما كان النبي عليه الصلاة والسلام يبتدئ، ويدخل في أبواب المراسلات ما في حكمها من الأمور الحديثة التي تكون بين اثنين أو غير ذلك، فيبتدئ بالبسملة ثم يشرع في أمره، وهل يشرع أن يبتدئ بالبسملة ثم الحمدلة في المراسلات، الذي يظهر لي والله أعلم أنه خلاف السنة، وإنما يبتدئ بالبسملة لا بالحمدلة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام فعل ذلك، لماذا؟ لأن المراسلة بين اثنين مقتضاها الاختصار، وليس الإطالة بخلاف المصنفات، فإنها شبيهة بالخطب، فحينئذٍ إذا أراد الإنسان أن يكتب رسالة إلى أحد يكتب بسم الله الرحمن الرحيم، ثم يشرع بالرسالة، ويدخل في حكم المراسلات المقالات القصيرة التي يكتبها الإنسان، التي لا تكون في حكم الخطب وغير ذلك، فيكتب مثلاً: مقالة من صفحة أو صفحتين، فيكتب بسم الله الرحمن الرحيم، ثم يشرع فيما عداها.

الثانية: وهي الخطب وما في حكمها، كخطب الجمع، أو المحاضرات، أو الدروس التي يلقيها الإنسان، فهذه يبتدئ فيها بالحمدلة وما يليها، إن شاء بخطبة الحاجة، أو إن شاء أن يحمدل ويصلي على النبي عليه الصلاة والسلام، ويثني على الله عز وجل، ثم يشرع بعد ذلك، ولو بدأ بالبسملة قبل الحمدلة أيضاً لا حرج في ذلك، ولكن نقول: البسملة في المكاتبات والحمدلة في الخطب وما في حكمها، وفي حكم الخطب على ما تقدم الدروس، والكلمات العامة التي يلقيها الإنسان للناس، والمصنفات التي يؤلف فيها الإنسان رسالة يكتبها في موضوع من المواضيع، والبحوث المطولة، فإنه يبدأ فيها بالحمد لله رب العالمين، وغير ذلك، فهذا من ظاهر سنة النبي عليه الصلاة والسلام.

حكم البداءة بالبسملة في الشعر

وبداية المصنف رحمه الله بالبسملة في هذه المنظومة إشارة إلى البداءة بالبسملة في الشعر، وهذه المسألة قد حكى فيها الخلاف الخطيب البغدادي في كتابه الجامع لآداب الراوي على قولين: منهم من قال بجواز أو استحباب البسملة بالمنظومات والشعر، ومنهم من قال بعدم استحباب ذلك وكراهته، وحكى ذلك عن الزهري و سعيد بن جبير، وقد انعقد الإجماع على أن الشعر كالنثر من جهة المعنى، وأنه يأخذ حكمه كذلك من جهة الاستحباب والوجوب وغير ذلك من التكاليف.

أقسام الحديث

قال رحمه الله: [ مصلياً على محمدٍخير نبي أرسلا

وذي من أقسام حديث عدة وكل واحد أتى وحده ].

يقول: ( وذي من أقسام الحديث عدة ) يعني: وهذه من أقسام الحديث عدة، أقسام الحديث كثيرة وحصرها شاق؛ وذلك لكثرة أنواعها واعتبارات العلماء في تقسيمها، واختلف العلماء عليهم رحمة الله تعالى في الاعتبارات التي يقسم لأجلها الحديث على اختلاف مناهجهم ومسالكهم في ذلك، ومجمل ذلك أنهم يختلفون في تقسيم الأحاديث بحسب الاعتبار، ونقول: إن أقسام الحديث على اعتبارات:

تقسيم الحديث باعتبار ناقله

الاعتبار الأول: باعتبار ناقل الخبر، وهو على نوعين: حديث آحاد وحديث متواتر.

والحديث المتواتر هو ما تتابع النقلة على روايته، حتى يستحيل تواطؤهم على الكذب، والتواتر في اللغة: هو التتابع الذي لا يتخلله انقطاع، فتكاثر الرواة على شيء يدل على صدقه، فكلما كانوا أكثر كان الصدق في ذلك أظهر، ولهذا كان المتواتر ثابتاً بطريق الضرورة عند المتكلمين، قالوا: ولا يحتاج في ذلك إلى بحث، واختلفوا في حد التواتر على أقوال، والأقوال في ذلك لا حجة عليها من جهة الحصر، ولكن نقول من جهة النظر أنها مدركة بالحس، أنها ما استفاض وتتابع من النقلة مما يستحيل حساً ونظراً وعقلاً تواطؤ هؤلاء النقلة على الكذب، فتعددت مخارجهم وأخذهم أمارة على صدقهم، ومنهم من يجعل الحديث المتواتر: هو عبارة عن الحديث الثابت بطريق الضرورة يعني: لا بطريق النظر، وأما العلم الذي يحتاج إلى نظر من جهة الإثبات، فهو خبر الآحاد وهو النوع الثاني.

وخبر الآحاد على أنواع:

أولها: المشهور.

ثانيها: المستفيض.

ثالثها: العزيز.

رابعها: الغريب.

والغريب والفرد بمعنى واحد، ومنهم من يجعل بين المستفيض وبين المشهور عموماً وخصوصاً، ومنهم من يجعلها مترادفة، والعزيز: هو ما يرويه اثنان عن اثنين، والغريب: هو ما يرويه واحد عن واحد من أول السند إلى منتهاه، أو يكون غريباً في طبقة من طبقات السند وهو على نوعين: غرابة نسبية، وغرابة مطلقة، فالغرابة النسبية يعني: بالنسبة إلى طبقة معينة، والغرابة المطلقة: هي الغرابة في جميع الطبقات، فيرويه واحد عن واحد من أول السند إلى منتهاه.

الأصل في الشريعة أنها لا تحتمل الغرابة، باعتبار أن الشريعة جاءت للناس كافة، فلا بد من نقلها، ولكن الغرابة كلما كانت في مسألة أعلى فإنها أقرب إلى الرد؛ لأن إحكام الشريعة يقتضي أن البلاغ لمجموع الناس لا لأفراد، فإذا نقل أصلاً كلياً فرد من الرواة عن فرد أو تفرد به في طبقة، فهذا أمارة إلى نكارته؛ لأنه إما أن يكون وقف عليه وتركه فما تركه إلا لعلة فيه، أو لعدم دخوله في دائرة الشريعة، وإما لم يقف عليه، فهذا أمارة على عدم قصد الشارع له، وإما أن يكون منسوخاً أو متروكاً، فلا اعتداد ولا اعتبار به.

ومنهم من يقسم بهذا الاعتبار من جهة النقلة إلى قسمين: حديث يفيد العلم الضروري، وحديث يفيد العلم النظري، وهذا من تقسيمات المتكلمين، والذي يظهر والله أعلم أن هذه التقاسيم وإن أخذت من المتكلمين إلا أنها تفيد التنوع ومعرفة أجناس الحديث، ولكنها لا تفيد طالب العلم من جهة الأثر والتطبيق، وذلك أن تقسيم الحديث إلى متواتر وآحاد إذا قلنا: إن الحديث المتواتر هو الذي يفيد العلم الضروري، والعلم الضروري هو الذي لا يحتاج في معرفته إلى بحث، فهم يختلفون في معرفة عدد الرواة الذين إذا اجتمعوا في حديث سمي متواتراً، فمنهم من يقول: عشرة، ومنهم من يقول: اثنا عشر، ومنهم من يقول: أربعون، ومنهم من يقول: ثلاثمائة، ومنهم من يقول أكثر من ذلك، ومنهم من يقول أقل، إذاً: أنت بحاجة إلى عدد قبل أن تثبت، وهذا العدد هو علم نظري.

إذاً: فأنت بحثت، فلم يكن لديك العلم، وهذا من جهة الأصل أيضاً فإنه نسبي، حتى من جهة العقليات، فإن العلم الضروري الذي لا يحتاج إلى بحث لا يمكن أن يكون ضرورياً عند جميع الخلق، وإنما بحسب إدراكهم، فالكبير يكون لديه علم ضروري يختلف عن غيره، فمثلاً عالم الفيزياء لديه علم ضروري يختلف عن الشخص الذي لا يعرف الفيزياء، كذلك عالم الكيمياء، وعالم الفلك، والحساب، وغير ذلك لديهم علم ضروري يختلف عن غيرهم، كذلك العلم في أصله يختلف فيه الصغير عن الكبير، فالصغير لديه علم يختلف عن الكبير، والكبير لديه علم ضروري هو عند الصغير نظري، ولهذا قال المتكلمون في العلم الضروري: هو الذي لا يحتاج في إثباته إلى نظر، مثاله: أن واحد زايد واحد يساوي اثنين، أو الجزء أقل من الكل، والكل أكبر وأكثر من الجزء، والأب هو أكبر من الابن، لكن مثل هذه الأشياء إدراكها والقطع بها إنما يكون عند كامل العقل، لكن الصغير يحتاج إلى بيان؛ لأن الصغير ربما يظن أنه قد ولد مع أبيه، وأن هذا يسمى الأب، وهو لا يعرف معنى الولادة، ثم أيضاً عملية الحساب، واحد زايد واحد يساوي اثنين، يحتاج إلى معرفتها، فربما سألت الصغير، فيقول: واحد زايد واحد يساوي واحد؛ لأنه يظن أن واحداً ضرب واحد يساوي واحد، فهو يحتاج إلى شيء من الإفهام.

إذاً: لا بد من مستوى من النظر يتجاوز به الإنسان حتى يكون ضرورياً، فهذا المستوى يدق في علم ويدق في سن، فلا بد من إثباته، كذلك أيضاً علم البداهة، يتباين فيه الناس، فالعلم الضروري الذين يقولون: إثباته لا يحتاج إلى نظر، وأما بالنسبة للنظري فلا بد من بحث ونظر حتى تثبت النتيجة لدى الإنسان، وذلك أنهم يقولون مثلاً: إن عشر نصف العشرة نصف، وهو يعني: عشر الخمسة يكون هو النصف أليس كذلك؟ يحتاج إلى تأمل، ولكن إذا قلت: واحد زايد واحد يساوي اثنين، أو الجزء هو أصغر من الكل، أو الأب أكبر من الابن، فهذا مستقر بداهة لا تحتاج فيه إلى تمييز، بل بمجرد أن ترى الأب مثلاً تقطع بهذا مباشرة، ولكن هذا أيضاً يحتاج إلى مستوى من الإدراك، وإدراك الناس في ذلك يتباين، فيحتاج إلى إفهام هذه المصطلحات.

كذلك أيضاً في علم التواتر، أو العلم الضروري عندهم يقولون: الإيمان به ضروري، كيف تؤمن به وأنت مختلف بالعدد أصلاً، ما هو العدد؟ أحتاج إلى عد، إذاً ليس هو ضرورياً وأنا بحثت قبل ذلك حتى وصلت إلى النتيجة، كذلك من الناس المتخصصين في الحساب يدرك من العمليات الحسابية -وهي علم ضروري لديه- ما لا يدركه من دونه ممن يبتدئ في هذا العلم، ولهذا نقول: إن هذه التقاسيم التي يقولها العلماء في هذا الباب في تقسيم الأحاديث إلى متواتر وآحاد، وضروري ونظري من جهة علم الحديث أثره ضعيف، وذلك يمثلون على المتواتر بحديث: ( من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار )، وذلك أنه قد رواه العشرة المبشرون بالجنة، وقد جاء في الصحيحين عن عدة من الصحابة عليهم رضوان الله تعالى.

وذلك أنَّا لم نصل إلى معرفة أنه متواتر إلا بعد عد الطرق وعد الصحابة، ثم بعد ذلك وجدنا أنه متواتر، ثم أيضاً متواتر على قول وليس على قول آخر، فالذي يقول: إن المتواتر ثلاثمائة لا بد أن يروي ثلاثمائة بكل طبقة وإلا فإنه ليس بمتواتر عندهم، إذاً: فالمسألة ترجع إلى خلاف، ولا يفيد علماً ضرورياً، وعلى هذا نقول: إن التقسيم بهذا الاعتبار إنما هو تقسيم فائدته في ذلك يسيرة، وجدواه أيضاً في ذلك ضعيفة.

تقسيم الحديث باعتبار قائله

الاعتبار الثاني في تقسيم الحديث: باعتبار قائله، وهو على أنواع: حديث مرفوع، وحديث موقوف، فالمرفوع: ما كان عن النبي عليه الصلاة والسلام، والموقوف: ما كان على الصحابي من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، والمقطوع: ما قاله التابعي ومن دونه من أتباع التابعين، وعلى هذا المعنى جاءت جملة من المصطلحات من لفظ الحديث، فالحديث هو ما كان عن النبي عليه الصلاة والسلام، والأثر ما كان عمن دونه، إما من الصحابة أو كان من دونهم.

والفرق بين الحديث والخبر، أن منهم من يجعل الحديث والخبر بمعنى واحد، ومنهم من يجعل الخبر أعم من الحديث، فالخبر ربما يكون للنبي عليه الصلاة والسلام وربما يكون لغيره، والحديث ما كان للنبي عليه الصلاة والسلام، وبعضهم يتجوز ويجعل الحديث أيضاً باباً أوسع كذلك، فيجعل الحديث للنبي عليه الصلاة والسلام ولمن جاء بعد النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن اصطلح العلماء على أن الحديث ما كان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأثر ما كان عمن دونه، وفي الخبر يدخل الحديث المرفوع والموقوف.

وعلى هذا التقسيم أيضاً ثمة معاني في إطلاقهم للمسند، فالمسند يريدون به: المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثمة مصنفات على هذا المعنى عند العلماء عليهم رحمة الله، تعتني بالمرفوعات، كالكتب الستة، ومسند الإمام أحمد، وسنن الدارمي، وصحيح ابن خزيمة، وصحيح ابن حبان، وغيرها من هذه المصنفات، وثمة مصنفات تعتني بالموقوفات قصداً، كمصنف عبد الرزاق، ومصنف ابن أبي شيبة، وموطأ الإمام مالك، وكذلك أيضاً بعض كتب التفسير، كتفسير ابن جرير الطبري، وتفسير عبد بن حميد، وتفسير ابن المنذر، وغيرها من كتب التفسير التي في جلها آثار وموقوفات، وثمة أيضاً مصنفات في هذا، ككتب ابن عبد البر رحمه الله، فإن هذه من مظانها، ومعرفة السنن والآثار للإمام البيهقي، وسنن البيهقي وهي خليط بين المرفوع والموقوف، ويكثر فيها الموقوف، ويكثر فيها المرفوع أيضاً.

وكذلك أيضاً بالنسبة لأقوال التابعين ثمة مصنفات متأخرة تعتني بالنقل عن أقوالهم، وهذا يكثر في كتب التاريخ، كتاريخ دمشق لـابن عساكر، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي، وغيرها من كتب التاريخ التي تعتني بالتاريخ بعد توسع رقعة العالم الإسلامي بين فتوحات العراق، والشام، ومصر، واليمن، وغير ذلك، فهذه أكثر الأحداث فيها إنما تأتي عن التابعين، فالمصنفات في ذلك تنقل عنهم كثيراً فهي من مظان الرواية عنهم في ذلك.

تقسيم الحديث باعتبار حكمه

والاعتبار الثالث: باعتبار حكمه، وذلك لكل حديث صحيح وضعيف وحسن، ومنهم من يجعله على قسمين: صحيح وحسن، ويجعل ما علا من الحسن في حكم الصحيح، وما دنا من الضعيف في حكم الضعيف، وكل واحد على مراتب ودرجات، فالصحيح على مراتب، منها ما علا شرطه، كصحيح البخاري و مسلم، فإن شرطهما في ذلك قوي جداً يختلف عن شروط غيرهم، ومنها ما دون ذلك، ومنها الصحيح لذاته، ومنها الصحيح لغيره، ولهذا اعتنى العلماء عليهم رحمة الله بأصح الأسانيد أو ما يسمى بسلاسل الذهب، فيقولون: أصح الأسانيد عند المدنيين مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر، أو الزهري عن سالم عن عبد الله بن عمر، وأحاديث الكوفيين أصحها إبراهيم عن علقمة عن عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى، ويذكرون في الأحاديث الحسان وكذلك الأحاديث الضعيفة أنواعاً كثيرة جداً، نكمل البحث فيها في الغد بإذن الله تعالى، ونكتفي بهذا القدر، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح المنظومة البيقونية [1] للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي

https://audio.islamweb.net