إسلام ويب

من الأحاديث العظيمة التي تمثل بياناً واضحاً لأصول الدين وأركانه، حديث جبريل مع النبي صلى الله عليه وسلم، وسؤاله عن الإسلام والإيمان والإحسان، فلا يتم إيمان العبد إلا بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره

الإيمان بالله

وصلنا إلى قول جبريل عليه السلام: ( فأخبرني عن الإيمان؟ قال صلى الله عليه وسلم: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره).

أدلة الإيمان بالله

قوله: ( أن تؤمن بالله). الإيمان بالله سبحانه وتعالى هو أول أركان الإيمان, وتدل عليه الفطرة التي فطر الله عز وجل الناس عليها, فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30] , وجاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة: ( ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ) .

وكذلك فإن الله سبحانه وتعالى أشهد العباد على أنفسهم؛ وذلك أنه أخرج من ظهر آدم ذريتهم الذين يخرجون منه، فأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى, وهذا كافٍ في ثبوت الحجة بالإيمان بالخالق, ولهذا لا يعذر أحد بنفي وجحد وجود خالق, كما يدعيه الملاحدة؛ لوجود دليل الفطرة القائم في ذات الإنسان.

ولهذا نقول: هذا لا يحتاج إلى دليل السماع لوجود دليل الفطرة، وهو قوي وثابت في فطرة الإنسان، فمن جحد وجود الله سبحانه وتعالى فهو كافر ولو لم يبلغه دليل من الوحي, ويعاقبه الله سبحانه وتعالى على ذلك ولو لم تصله رسالة, لماذا؟ لأنه ناقض دليلاً قوياً أو أقوى دليل, وهو دليل الإشهاد ودليل الفطرة القائمة في ذات الإنسان, والخلق الأصل فيهم أنهم لا يكفرون بربوبية الله سبحانه وتعالى, وأن الله عز وجل أوجد الخلق، وهو ربهم المتكفل بهم الذي يقدر لهم أقدارهم وأحوالهم وآجالهم، وأنه جل وعلا يحييهم ويميتهم سبحانه وتعالى.

وأما صفات الله عز وجل وأسماؤه فإن الإنسان لا يصل إليها إلا بدليل السمع, ولهذا هل يعذب الله سبحانه وتعالى من لم يؤمن بالله ممن لم يبلغه الإسلام أصلاً وجحد وجود الخالق؟ نقول: يعذبه الله جل وعلا؛ لأن دليل الفطرة في بعض صوره أقوى من دليل الشرع ودليل السمع.

ونحن نجد أن أصحاب الملل إنما ينحرفون في وصف الخالق واسمه وحقيقته لا في أصل وجوده, ولهذا يتخبطون, فبعضهم يجعله كوكباً, وبعضهم يجعله حجراً, وبعضهم يجعله شجراً, وبعضهم يجعله ريحاً, وبعضهم يجعله غائباً لا يرى كالغول والجن, وبعضهم يجعله غائباً ويتخيله على صورة معينة, هم يؤمنون بالأصل, ولكن الوصف والحقيقة يضلون فيها؛ لماذا؟ لأنه لا يصل إليها الإنسان إلا بدليل السمع؛ لأن الإنسان لا يثبت حق من ذلك إلا بالنص, والله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير, فهو يقيس على ما يرى فيضل ويزيغ.

المراد بالإيمان بالله

وفي قول النبي عليه الصلاة والسلام لـجبريل: (الإيمان أن تؤمن بالله)، الإيمان بالله المقصود به أن يؤمن أن الله ظاهر في ربوبيته وإلوهيته وأسمائه وصفاته, وأن الله عز وجل لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤاً أحد, والله سبحانه وتعالى هو خالق الخليقة ورازقهم، وهو محييهم وهو مميتهم، وهو المدبر لهم الأرزاق والآجال.

القدر الواجب في الإيمان بالله

وفي الإيمان بالله سبحانه وتعالى ثمة قدر واجب عيني على الإنسان لا يصح إيمان إلا به, وثمة قدر زائد في ذلك لا يجب عليه أن يعلمه، وإذا علمه وجب عليه أن يؤمن به.

أما القدر الواجب فهو أن يعلم أن الله عز وجل واحد في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته, لا شريك له, ولا ند ولا نظير سبحانه وتعالى.

وأما تفاصيل ذلك من جهة صفات الله سبحانه وتعالى وأنواع العبادة التي تصرف لله جل وعلا فإذا عرف وجوب صرفها لله وحده، ولكنه جهل أنواع العبادة المصروفة, فهذا لا يضره من جهة ثبوت إيمانه.

وكذلك ما يتعلق بمعرفة أسماء الله, يجب عليه أن يعلم أن الله هو الرب المتفرد في تدبير خلقه والمستحق للعبادة وحده, وهو فرد أيضاً وواحد في أسمائه وصفاته, لكن تفصيل ذلك هل يجب على كل أحد أن يعلم أسماء الله كلها, أو الصفات كلها؟ لا, أنواع العبادة التي يصرفها لله, لا, ولكن يجب عليه أن يعلم ما يثبت به إيمانه, والإيمان بالله على ما تقدم في هذه الثلاثة لا كما يزعم الفلاسفة أو المتكلمون في هذا الباب.

الإيمان بالملائكة

قال: (أن تؤمن بالله وملائكته).

العلة في عطف الإيمان بالملائكة بعد الإيمان بالله

الإيمان بالملائكة إنما ذكرهم وعطفهم على الإيمان بالله سبحانه وتعالى؛ لأن الملائكة مقربون من الله جل وعلا, وكذلك فإن الشرك فيهم يكثر في الجاهليين, وقد ضلوا في ذلك إذ جعلوهم بناتاً لله سبحانه وتعالى, تعالى الله عز وجل عن ذلك.

وحينما ضلوا في هذا بين النبي صلى الله عليه وسلم حقيقتهم, وأنهم ملائكة لله مخلوقون خلقهم الله عز وجل لحكمة.

والله سبحانه وتعالى جعل الملائكة عباداً له لا يخرجون عن طوعه وأمره, لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6] , وكذلك أنه لا يتوجه إليهم بعبادة, ولا تعظيم لا يكون إلا للخالق سبحانه وتعالى, فهم مخلوقون, وكذلك لهم مشيئة.

أنواع الملائكة وأعمالهم

وهم على أنواع, منهم من سمى الله عز وجل في كتابه، إما سماهم باسمه كجبرائيل وميكائيل، ومنهم من ذكر الله عز وجل وصفه أو عمله, سواء في الكتاب أو في السنة كملك الجنة وملك النار وخازنها، وملك السحاب والرياح والجبال وغير ذلك.

وأما أن يعلم تفاصيل أولئك فلا يجب عليه إلا ما سماه الله سبحانه وتعالى في كتابه، وأوجب ما يجب الإيمان به من الملائكة، أما جبريل فيؤمن بأنه رسول الله عز وجل إلى أنبيائه، جعله الله عز وجل مختصاً بإبلاغ الرسالة إلى الأنبياء, وأما ما عدا ذلك من الملائكة فلا يجب عليه أن يتتبع أسماءهم في الوحي, لكن إذا بلغه الدليل وجب عليه أن يؤمن.

وكذلك فإن الله سبحانه وتعالى خلق الملائكة وجعل لهم أفعالاً, فجعل منهم من هو مختص بإحكام الكون, وإظهار إبداع الصنع, وإبداع الصنع لا بد فيه من إظهار الأسباب, فجعل الله عز وجل لها قانوناً تسير عليه.

ومنها ما يتعلق بكمال عدل الله سبحانه وتعالى كالملائكة الذين يحصون على العباد كتابة الرزق, وما يحصون عليهم أرزاقهم، وكذلك السيئات والحسنات الله عز وجل يكتب على عباده بملائكته أفعالهم لا ليعلم, والله عز وجل يعلم بلا ملائكة, والله قادر أن يقضي آجال العباد، فإذا قضى روح واحد منهم أخذه فوراً إلى الجنة أو إلى النار, ولو لم يمر على الحساب بعلمه سبحانه وتعالى بما عمل, ولكن الله عز وجل يوكل من ملائكته من يكتبون الحسنات والسيئات ليقيم الحجة على العباد, وهذا من كمال عدله؛ لأن الإنسان يخاصم ويريد بينة وشهود؛ ولهذا تفتح لهم صحف، هذا عملك, وشهد عليك الملائكة, فيأبى الإنسان إلا شاهداً من نفسه، فيضرب الله على فمه فتنطق جوارحه, ولهذا الله سبحانه وتعالى في إحصائه على عباده في الكتاب يريد أن يقيم الحجة على عباده، ولا يريد الله سبحانه وتعالى أن يعلم بذلك, فالله عز وجل له الكمال في علمه سبحانه وتعالى في عباده.

وكذلك الله جل وعلا ليس بحاجة إلى الميزان ليزن حسنات العباد وسيئاتهم ليعلم, فهو يعلم بلا ميزان, ولكن الله عز وجل يريد أن يقيم الحجة ليرى العباد أمام أعينهم الحسنات والسيئات, ويرى السبب الذي لأجله دخل الجنة أو لأجله دخل النار, وحينئذٍ تنقطع الأعذار, فجعل الله عز وجل من ملائكته كتبة على العباد يحصون عليهم أفعالهم، ويحصون عليهم أقوالهم, ويحصون عليهم سرائرهم, وكل ذلك يحاسب عليه الإنسان.

اشتقاق اسم الملائكة

والملائكة مشتق هذا الاسم من الرسالة, من ألك ألوكة، أي: رسالة, فالكتاب عند العرب إذا كتبوا رسالة وكتبوا صحيفة أو غير ذلك يطلق على حاملها الملك, يعني: حامل هذه الرسالة, كأن الملائكة هم حملة الرسالة الذين أمر الله عز وجل بها سواء بلاغية أو عملية، فيحملون أوامر الله, فأمر الله عز وجل في الجبال وأمر الله في الرياح، وأمر الله عز وجل في الحياة والموت والرزق وغير ذلك, وأمر الله عز وجل أيضاً بتبليغ وحيه سبحانه وتعالى, هذا أيضاً ألوكة، أي: رسالة يبلغ الله سبحانه وتعالى بها إلى من شاء من خلقه بواسطة ملائكته.

الإيمان بالكتب

قال صلى الله عليه وسلم: (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه).

ثلث بالكتب بعدما ذكر الملائكة؛ لأن الكتب إنما تصل إلى الأنبياء بواسطة الملائكة، وهو جبريل عليه السلام, وقد جعله الله عز وجل حاملاً للرسالة لنبينا عليه الصلاة والسلام ولغيره من الأنبياء.

المراد بالإيمان بالكتب

يؤمن الإنسان بما ذكر الله عز وجل في كتابه من كتبه للأنبياء سواء التوراة أو الإنجيل أو الزبور أو صحف إبراهيم وموسى، وخاتمتها وناسخها والمهيمن عليها هو القرآن الكريم الذي أنزله الله عز وجل على محمد صلى الله عليه وسلم, فيؤمن أنه ناسخ لسائر الشرائع, وأنه كتاب محمد عليه الصلاة والسلام, وأنه المحفوظ من التبديل والتغيير إلى قيام الساعة, وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, وأن معانيه في الخطاب تتوجه إلى الناس كافة, لا يخص به فرد دون فرد، ليس لقريش ولا للعرب بل للعرب والعجم, ولقريش وغيرهم, بل للأنس والجن يتوجه الخطاب الوارد في كلام الله سبحانه وتعالى, فما زاد عن ذلك من معرفة التفاصيل لا يجب على الإنسان العلم به, لكن لو بلغه نص في ذلك وجب عليه أن يعلم بذلك.

حقيقة الكتب وأنها كلام الله

والإيمان بالكتب لازمه أن يعلم حقيقة هذه الكتب، وأن ما فيها هو كلام الله سبحانه وتعالى؛ تكلم الله عز وجل به على الحقيقة, ولا يقولون كما يقول المبتدعة بأنه حديث النفس, أو خلقه الله عز وجل في جبريل، فقذفه جبريل في محمد صلى الله عليه وسلم، أو خلقه الله في الهواء وهكذا مما يعللون به, بل يقال: هو كلام الله تكلم به الله عز وجل حقيقة, يقول الله سبحانه وتعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164] , ويقول الله جل وعلا: حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6], فنسب الكلام إليه مع أن المتكلم المبلغ عن الله جل وعلا هو رسول الله, لكنه تكلم بكلام الله, فيكون كلام الله، ولو سمعناه من غيره هو كلام الله, فيكون كلام الله ولو كان مكتوباً في الألواح, فهو كلام الله ولو كان بالمداد أو الورق، فالمداد والورق شيء، وكلام الله شيء, ولو كان محفوظاً في الصدور, بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49]، فهو كلام الله ولو كان محفوظاً في الصدور.

أما الأصوات فأصوات القراء, هذا صوته ثخين، وهذا رقيق، وهذا يتغنى، وهذا لا يتغنى, وهذا يحدر، وهذا يترسل, هذه أصوات, أما الكلام فهو كلام الله, فالكلام كلام الله سبحانه وتعالى.

وهذه المسألة لم تكن منظورة من جهة الطرح في كلام الصدر الأول؛ لعدم وجود المبتدعة القائلين بأن كلام الله مخلوق, ويقولون: هو كلام الله، ونسبته إلى الله نسبة تشريف كسماوات الله وأرض الله، فضلوا في هذا، فهو قول الله وصفة من صفاته سبحانه وتعالى.

وإذا قلنا بأن الصفة مخلوقة فيلزم من ذلك التعدي على الموصوف سبحانه وتعالى, تعالى الله عز وجل عن ذلك علواً كبيراً؛ ولهذا نقول: إن كلام الله سبحانه وتعالى تكلم الله عز وجل به على الحقيقة، وأن عدم ورود النصوص المرفوعة بنفيها لفظاً كلام الله ليس بمخلوق, لأنه لم يوجد مبتدع قال بأنه مخلوق حتى يوجد نص يقول: إنه ليس بمخلوق, فلما ظهر هذا القول جاء ذلك.

ومن أعلى ما جاء في هذا عن عبد الله بن مسعود , وأيضاً عن عبد الله بن عباس، رواه ابن جرير الطبري من حديث علي بن أبي طلحة عن عبد الله بن عباس أنه قال في قول الله عز وجل: غَيْرَ ذِي عِوَجٍ [الزمر:28]، قال: غير مخلوق, ومن العلماء من ينكر هذا النص باعتبار أن هذه المسألة لم تكن منظورة, وإذا لم تكن هذه المسألة منظورة فآكد منها مسألة اللفظ؛ لفظ أن القرآن مخلوق, ولهذا يقول ابن جرير الطبري رحمه الله في كتابه السنة: القول بأن لفظ القرآن مخلوق أو غير مخلوق لم يكن في كلام صحابي مضى ولا تابعي قضى, وإنما هو في كلام من كلامه شفاء وغنى أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل .

فلما ظهرت هذه البدعة وتفشت قام الإمام أحمد رحمه الله، وتصدى لها، وبين أن الخلل الذي وجد في أذهان بعض الناس من التسلسل واللوازم أنه إذا قلنا: إن القرآن كلام الله ليس بمخلوق؛ إذاً حينما يتكلم الناس كيف نفرق بين كلام الله وكلامهم, وكيف نفرق بين المكتوب في الألواح بأحبار وأوراق وكلام الله, والمحفوظ في الصدور كيف نميز هذا من هذا, نقول: إن الصوت صوت القارئ، والكلام كلام الباري، وهذا كلام الله إذا أحالنا إلى الحبر نقول: مخلوق, وإذا أحالنا إلى الورق نقول: مخلوق, ولكن حينما نشير إليه نقول: كلام الله سبحانه وتعالى.

ولهذا يسكت الإنسان عما زاد عن النص، ولا يوغل في التفاصيل، فيثبت ما جاء فيه, أما المبتدعة فقد أوغلوا في جزئيات, فيقولون: هو كلام الله, فإذا كان في الورق مكتوباً أين المخلوق وغير المخلوق؟ قال: هو ورق وحبر, فإذا كان ورقاً وحبراً فهذا مخلوق، وهذا مخلوق, فأين كلام الله منهما, فيدخلون في أمثال هذه الأشياء، والإيغال في هذا؛ يريدون بذلك أن ينقضوا الأصل.

عقيدة أهل السنة في القرآن

وعقيدة أهل السنة والجماعة أنهم يقولون: إن القرآن كلام الله وهو غير مخلوق, لا يدخلون في التفاصيل, فإذا وجدت تفاصيل يلزم منها القول في كلام الله يقولون: هو كلام الله وهو ليس بمخلوق, سواء تكلم به الإنسان أو حفظ في الصدور أو كتب في الألواح, وهذا ظاهر من ظواهر الأدلة من كلام الله سبحانه وتعالى وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والإنسان حينما يتكلم قد يأتي بحديث عن فلان فتقول له: هذا كلام من؟ يقول: كلام فلان، مع أنه هو الذي تكلم فيه, الصوت صوته، ولكن هو ينقل حديثاً لفلان، فيسألونه: هذا الكلام كلام من؟ فيقول: هذا كلام فلان أو كلام فلان, إذاً أنت الصوت صوتك، ولكن الكلام تنقله عنه, ولهذا نقول: هو كلام الله ولو تكلمت به أنت, هو كلام الله ولو كتبته أنت, هو كلام الله ولو حفظته أنت في صدرك، هو كلام الله سبحانه وتعالى يبقى على هذا، ويجرى عليه من غير ولوج في تفاصيل لم يرد فيها الدليل.

الإيمان بالرسل

قال صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله), هنا الإيمان برسل الله سبحانه وتعالى وأن لله عز وجل رسلاً.

ولله عز وجل رسل بعثهم الله سبحانه وتعالى إلى الناس, وهؤلاء الأنبياء منهم من ذكرهم الله سبحانه وتعالى في كتابه، ومنهم من لم يذكره الله عز وجل في كتابه, فيؤمن بما جاء بكتاب الله سبحانه وتعالى على سبيل التخصيص, وما ذكره الله جل وعلا في كتابه العظيم، ولا يثبت الإيمان في هذا إلا بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم, وأنه عليه الصلاة والسلام خاتم الأنبياء والمرسلين وأرسله الله عز وجل إلى الناس كافة, وخصه الله عز وجل بالقرآن الكريم.

أما ما عدا ذلك من تفاصيل الأنبياء هل هذا سابق لهذا، أو هذا يأتي بعد هذا، أو غير ذلك من المعاني المجملة التي لا يصل إليها الإنسان إلا بالتتبع, فنقول: يؤمن بالإجمال، ولا يجب عليه أن يتتبع التفاصيل في هذا.

إذاً إيمان الإنسان يصح إذا آمن بالأنبياء، لكن أن يكون مثلاً يحيى هو سابق ليعقوب أو ليوسف أو غير ذلك، الدخول في أمثال هذه التفاصيل لا علاقة لها بصحة إيمان الإنسان, لكن نقول: لو ثبت لديه نص في هذا وجب عليه أن يؤمن عند وقوفه عليه.

فإذا كذب النص الوارد في كلام الله فإنه مكذب لكلام الله عز وجل، وبهذا التكذيب يستحق في ذلك انتفاء الإيمان منه, وأما ما ذكره الله سبحانه وتعالى في كتابه فيؤمن به.

والدخول في التفاصيل لا يجب على الإنسان عيناً أن يتعلمها، ولكن يبقى العلم بها وحفظها هي من الواجبات الكفائية التي إذا علمها الإنسان وصانها وحفظها للناس عند حاجة الناس إليها هذا من فروض الكفايات، ويسقط الله عز وجل بذلك التبعات على الناس.

الإيمان باليوم الآخر

قال صلى الله عليه وسلم: ( الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ).

وجه التسمية باليوم الآخر

قوله هنا: (واليوم الآخر) سماه الله سبحانه وتعالى يوماً وآخراً؛ لأنه يسبق أيام الدنيا فهو آخر الأيام, وسماه الله سبحانه وتعالى يوماً؛ لأن الشمس في ذلك اليوم لا تغرب فيه ولا تشرق, وإنما هو يوم يجعله الله سبحانه وتعالى بحساب يختلف عن حساب الدنيا, فاليوم عند الله عز وجل كألف سنة مما تعدون، يكون في حساب الناس حساب الخليقة, وبين هذا اليوم والأيام السابقة هي حياة البرزخ التي يكون الإنسان في قبره ويفتن ويسأل.

البعث والحساب للخلائق

والله جل وعلا جعل اليوم الآخر فيه المبعث والرجوع إلى الله, فيعيد الله سبحانه وتعالى تلك المخلوقات إليه، ثم يحاسبه الله سبحانه وتعالى, ومن يحاسبه الله سبحانه وتعالى منهم من يثيبه جل وعلا، ومنهم من لا يثيبه, ومنهم من يأمره الله عز وجل بأن يكون تراباً بعد الفصل فيه.

أما من يفصل الله عز وجل فيه ويثيبه أو يعاقبه وهم كحال الثقلين من الأنس والجن، هؤلاء الله عز وجل بعد مبعثه لهم يحاسبهم على ما تقدم من أفعالهم من أقوال وأعمال، حسنات وسيئات، ويقدر الله عز وجل لمن شاء جنة، ويقدر لمن شاء ناراً.

وأما الذين يحاسبهم الله، ولا يثيبهم ويعاقبهم في ذلك بجنة أو نار وهم كحال البهائم, فالبهائم يحاسبها الله عز وجل فيما بينها، كما جاء في حديث أبي هريرة في الصحيح: ( لتؤدن الحقوق إلى أهلها, وليقتصن الله من الشاة القرناء للشاة الجماء يوم القيامة ) , فيقتص الله الحقوق التي بينها، ثم بعد ذلك يقول الله عز وجل: كوني تراباً، وهذا لكمال عدل الله سبحانه وتعالى في هذا أن أنصفها فيما بينها في حقوقها، ولم يعاقبها الله عز وجل بذلك أو جعل نعيمها في الجنة لحكمة يقتضيها الله سبحانه وتعالى عنده لا يعلمها إلا هو.

درجات الإيمان باليوم الآخر

والإيمان باليوم الآخر ثمة ما هو واجب على الأعيان، وثمة من جزئيات الإيمان به ما لا يجب على الإنسان عيناً من تفاصيل يوم القيامة, فيجب على الإنسان عيناً أن يعلم أن الله عز وجل يقبض الناس, ويقدر لهم آجالهم, وأنهم يبعثون في هذا اليوم, ويسبقه حياة البرزخ، ثم المبعث يبعث الله عز وجل عباده إليه، ويحاسبهم على ما بدر منهم, فالمؤمنون إلى الجنة، والكفار والمشركون إلى النار, وأن الله سبحانه وتعالى قد يعاقب بعض عباده من أهل الإيمان بالنار.

وتفاصيل ذلك اليوم الآخر لا يجب على الإنسان عيناً أن يعلم مثلاً تفاصيل الميزان، وأن يعلم تفاصيل العرض .. تفاصيل السؤال .. تفاصيل الصراط أو غير ذلك, أو تفاصيل جهنم ما دام آمن بأصلها، تفاصيل جهنم ومراتبها ودرجاتها وأنواع العقوبة فيها، وكذلك ما يتعلق بالجنة ومراتبها ودرجاتها, وأيضاً مراتب الداخلين فيها، فهذا أيضاً نقول: لا يجب على الإنسان، ولا يقدح في أصل إيمانه جهله بذلك, ولكن إذا وقف على دليل في هذا يبين له وجب عليه أن يؤمن بذلك، وألا يكذب الدليل الوارد في هذا.

الإيمان بحياة البرزخ وعذاب القبر

هنا أشير إلى حياة البرزخ, فالإنسان يحيا في الدنيا ويحيا في حياة البرزخ ما بين الدنيا والآخرة، ثم يبعثه الله سبحانه وتعالى بعد ذلك.

وحياة البرزخ يحيا فيها الإنسان كحياة اليوم, وقد جاء في حديث عبد الله بن عمر قال: ( ذكر النبي عليه الصلاة والسلام الفتان وقال: إنكم تحيون كحياتكم اليوم، ثم تفتنون ), أي: يكون في ذلك افتتان الإنسان، يعني: اختباره وامتحانه بحسب إيمانه وثبوت ذلك عنده، وهو هول وفزع, ويكفي الإنسان في ذلك أن تعاد إليه روحه وهو في قبره، وكفى في هذا فزعاً وكفى في ذلك كرباً وشدة على الإنسان, فيعيد الله عز وجل للإنسان روحه، ثم يمتحن ويختبر ويرى في ذلك منزله من الجنة والنار.

والله سبحانه وتعالى ينزل على عبده في القبر في قبره الفتنة أو العذاب والنعيم, فما من أحد إلا ويفتن, وأما بالنسبة للعذاب والنعيم فإن هذا يختلف بحسب حال الإنسان, والعذاب والنعيم يكون على الجسد، ويكون كذلك على الروح, فيكون على الجسد والروح، ويكون كذلك على الروح وحدها, ولا يكون على الجسد بلا روح.

والله سبحانه وتعالى يري عباده منازلهم من النار لو عصوه، ويريهم منازلهم من الجنة إن أطاعوه, وكذلك العكس يري العصاة منازلهم والكفار منازلهم من الجنة لو أطاعوه، ومنازلهم من النار إن عصوه, وذلك لتمام النعيم لأهل الإيمان وتمام العذاب لأهل النار.

ولكن لا يعذب الله عز وجل الناس من المشركين بالنار في القبور, وإنما يجعلها الله عز وجل في الآخرة, وهذا ظاهر في قول الله سبحانه وتعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا [غافر:46] , يعني: يأتي عرضاً عليها، أما بالنسبة للعذاب ودخولها فإن الله عز وجل لا يدخلهم إياها إلا بعد الحساب وبعد الميزان، فإن الله عز وجل يري الناس منازلهم في القبور، ثم يؤتيهم إياها بعد ذلك.

وفي قولنا على ما تقدم أن الله عز وجل إنما وكل ملائكة تحصي على عباده الحسنات والسيئات ليعلموا هم، لا يعلم هو سبحانه وتعالى، فالله يعلم بلا حساب ولا ميزان ولا كتبة, ولكن يحسب عليهم ليعلموا هم, ولهذا الله سبحانه وتعالى في القبر يري عبده المشرك منزلته من النار قبل أن يمر بالكتبة والإقرار والميزان، فيريه النتيجة التي سيصل إليها, وكذلك المؤمن في حال طاعته يريه منزلته من الجنة قبل أن يوزن وقبل أن يحاسب، وقبل أن يصل إلى الجنة؛ لأن الله عز وجل عالم وحده سبحانه وتعالى بلا كتابة ولا حساب ولا رقيب ولا عتيد، وإنما هو علم ذاتي لله سبحانه وتعالى.

فالناس يفتنون في قبورهم، ولهذا استعاذ النبي عليه الصلاة والسلام من فتنة القبر ومن عذاب القبر, وما من أحد إلا ويفتن, وبعد الفتنة إما ينعم وإما يعذب, والعذاب في ذلك والنعيم متحقق للإنسان, وكذلك الفتنة هي متحققة للجميع للمنعم وكذلك للمعذب.

الإيمان بالقدر خيره وشره

قال صلى الله عليه وسلم: (وأن تؤمن وبالقدر خيره وشره ).

منزلة الإيمان بالقدر

أركان الإيمان في هذا الحديث ستة, والإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره ركن من أركان الإيمان، وهو سبب إيراد الحديث أنه على ما تقدم أنهم لما جاءوا إلى عبد الله بن عمر يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن جاءوا إليه، فذكروا له معبداً الجهني (وأنه ظهر أقوام قبلهم يقرءون القرآن، ويتقفرون العلم، ويقولون: لا قدر, وأن الأمر أنف), فكان هذا هو السبب لإيراد هذا الحديث كله, وهذه المسألة وهذه الجزئية؛ وذلك لبيان منزلة هذا الحكم ومكانته في الدين, فذكر أركان الإيمان، وذكر منها الإيمان بالقدر خيره وشره.

المراد بالإيمان بالقدر

والإيمان بالقدر هو التصديق أن الله سبحانه وتعالى قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم سبحانه وتعالى, وأما معرفة الزمن والمدة بخمسين ألف عام والكتابة وغير ذلك هذه أيضاً من فروض الكفاية، ولا يجب على الإنسان بشكل عيني؛ ولهذا لا يقال بعدم إيمان الإنسان إذا آمن بالقضاء والقدر، لكنه لا يعلم المدة التي تمت فيها الكتابة قبل خلق السماوات والأرض, ولهذا نقول: إنه يجب علينا أن نؤمن أن الله قدر على عباده خيراً وشراً.

تقدير الشر من الله لعباده

وإنما ذكر هنا الإيمان بالقدر خيره وشره فذكر الخير والشر, والله سبحانه وتعالى لا يقدر على عباده شراً محضاً, وإن قدر عليهم شراً فإنه يئول إلى خير، إلا إذا أساء الإنسان ظنه بربه فجعل الله عاقبة أمره إلى سوء, حتى لو كان أيضاً ما يقدره الله عز وجل للإنسان في ذلك خيراً.

وسوء الظن هو الذي يقلب العواقب, فمن أصيب بسوء فأساء ظنه بالله أو رزق خيراً فأساء ظنه بالله, فإن الله عز وجل يجعل عاقبة ذلك إلى خسار, ولهذا ذكر الإيمان بالقدر قال: الإيمان بالقدر خيره وشره.

وهنا ذكر الخير والشر، وجعلهما نوعين للقدر، وما نسب القدر هنا إلى الخالق سبحانه وتعالى للعلم به, وهذا ظاهر فقال: وبالقدر خيره وشره.

نسبة الشر لله جل وعلا

ومن الأدب مع الخالق سبحانه وتعالى ألا ينسب الشر لله جل وعلا بل ينسب إليه الخير, لماذا؟ لأن الله ما أوجد العباد ليصيبهم بالشر, ولكن ليبتليهم الله عز وجل لينظر ماذا يفعلون, ولهذا نقول: وجب الإيمان بالقدر خيره وشره.

ويجوز ذكر الشر ونسبته لله سبحانه وتعالى بحالين:

الحالة الأولى: أن ينسب الشر بالبناء للمجهول, كما تأدب الجن مع الله سبحانه وتعالى فقالوا: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ [الجن:10] , قالوا: أريد, أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن:10] , فذكروا إرادة الخير والرشد ذكروها للرب سبحانه وتعالى, وأما إرادة الشر فذكروها بالبناء للمجهول فقالوا: (أريد)؛ وذلك لأن الله سبحانه وتعالى لا يريد بعباده شراً محضاً، ولكن يجعل ذلك لحكمة يبتلي بها العباد.

وكيف تنقل الموازين موازين الخير والشر من جهة العاقبة فيكون الشر في ذاته عاقبته خيراً في الإنسان, والخير في ذاته ينقلب إلى شر؟ ينقلب في ذلك لأسباب, والأصل أن المؤمن لا يقدر الله عز وجل له إلا خيراً ولو أصابه شر, والنبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح من حديث صهيب يقول: ( عجباً لأمر المؤمن؛ أن أمره كله له خير, إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له, وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له ), فكان هذا من الله سبحانه وتعالى هو بسبب الشكر، فيدوم الخير في ابتدائه وعاقبته, وأما الشر في ابتدائه وفي نهايته فيكون شراً على الإنسان إذا لم يصبر، وأما إذا صبر فإن الله عز وجل يجعل عاقبته إلى خير.

وأما إذا كان الإنسان أصابه الله عز وجل خيراً فأساء ظنه بالله أو جعل ذلك إلى نفسه فقال: (أوتيته على علم عندي) فأرجعه إلى نفسه، وما أرجعه لله، فيقلب الله عز وجل المال الذي أعطاه أو الولد الذي آتاه يقلبه عليه شراً، فيجعله حسرة عليه فيعقه الابن ويفسد عليه نفسه وماله وكذلك روحه وما رزقه الله عز وجل من مال.

نفي القدر

والإيمان بالقدر على ما تقدم هو ركن من أركان الإيمان لا يصح الإيمان إلا بذلك, وتقدم أيضاً ما جاء في حديث عبد الله بن عمر عليه رضوان الله في قوله: (والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما تقبل الله منه حتى يؤمن بالقدر), وذلك لمنزلته ومكانته؛ لأن من نفى القدر يلزم منه أن ينفي العلم, وكان القائلون بذلك في ابتداء القول بنفي القدر لما ألزموا بالعلم: إذا كنت تنفي أن الله يقدر الأشياء في المستقبل هل تنفي العلم في المستقبل أن الله لا يعلم؟ دعنا من التقدير هل تنفي العلم؟

إذا قال: لا أنفي العلم إذاً كيف يعلم من لم يقدر, ويقول الشافعي رحمه الله في القدرية: نخاصمهم بالعلم, فإذا نفوا العلم كفروا, فإذا آمن بالعلم فإنه يخسر، ولا بد أن يثبت القدر, فإذا نفى العلم كفر بالله سبحانه وتعالى؛ لأن الله عز وجل عنده لا يعلم ما يأتي.

ولهذا ظهر في أول أمرهم من ينفي علم الله على سبيل الاطراد؛ ليخرج من قضية نفي القدر, واستدرك من جاء بعدهم هذه المسألة، فأثبت العلم ونفى القدر، وهذا من تناقضات القدرية هروباً من الكفر بنفي العلم، ويرون بنفي القدر في ذلك تنزيهاً، تعالى الله عز وجل عن ذلك علواً كبيراً.

بل يقال: إن الله قدر مقادير الخلائق وهو الله سبحانه وتعالى كذلك يعلم أفعالهم وأحوالهم قبل أن تحدث, وهو الذي كتبها عليهم قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف عام، فيعلم أفعالهم وأحوالهم وآجالهم وأرزاقهم وكذلك ما يحدث منهم من ذرياتهم وأوطانهم ودورهم ومساكنهم وغير ذلك مما يقدره الله سبحانه وتعالى عليهم.

تصديق جبريل لإخبار النبي بماهية الإيمان

ثم قال: (صدقت).

هنا ذكر بعد الإجابة على أركان الإيمان قال: صدقت, والعبارة التي قالها في الإسلام لما أجاب الإسلام قال: صدقت, (قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه), وهذا ظاهر, والعلة في ذلك واحدة, وإنما تكررت في ذلك للفت الانتباه، ولما يأتي أيضاً من سؤال بعد ذلك عن الإحسان.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح حديث جبريل في الإسلام والإيمان [3] للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي

https://audio.islamweb.net