إسلام ويب

إن من سنن الله تعالى سنة التدافع والصراع بين الحق والباطل إلى قيام الساعة، ولكن يبقى المؤمن على ثقة وأمل كبير بوعد الله بنصره وتمكينه، وليعلم أن المصائب والآلام والنكبات لها حكم كثيرة، فهي تقويه ولا تضعفه، وتعلي من درجته عند الله إن صبر عليها.

سنة التدافع والصراع بين حزب الله وحزب الشيطان

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى هو الحي القيوم، ومدبر الكون، منه يصدر أمر هذا الكون، وإليه يعود، يرفع إليه أمر الليل قبل النهار، وأمر النهار قبل الليل، وهو الحي القيوم لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، مقاليد كل الأمور بيده، ورزق كل شيء عليه، ولا يمكن أن يقع في الكون إلا ما أراد، له الحكمة البالغة، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23]، وإن من حكمته سبحانه وتعالى أن جعل هذه الدار الدنيا مسرحاً للصراع بين الحق والباطل، وقد جعل فيها حزبين هما: حزب الله الساعي إلى رضوان الله، وتحقيق هداية الناس إلى منهجه الذي من أجله خلقوا، وهدايتهم إلى جنته التي بناها وأعدها للإحسان إلى أولئك الذين أطاعوه واتبعوا منهجه.

والحزب الثاني: هو حزب الشيطان الذي يسعى لإغواء الناس وتحقيق يمين إبليس، وهو يسعى دائماً لإضلال الناس عن طريق الحق، وقد قال الله تعالى: إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6]، والصراع بين هذين الحزبين أبدي مستمر لا يمكن أن يتوقف حتى يرث الله الأرض ومن عليها؛ ولذلك لا يقصد حسمه، ولا يقصد أن يتغلب حزب الله على حزب الشيطان بالكلية، فلا يبقى لحزب الشيطان وجود في هذه الحياة الدنيا، ولو أراد الله ذلك لحققه، ولا يقصد -أيضاً- أن يتغلب حزب الشيطان على حزب الله بالكلية، حتى لا يبقى لحزب الله صوت ولا صولة، ولو شاء الله ذلك لحققه، ولكن الله سبحانه وتعالى جعل هذا الصراع والدفاع سنةً من سنن الكون عليها يسير الله أمر السموات والأرض، ولا يمكن أن تتوقف ولو توقفت لحظةً لفسدت السموات والأرض؛ كما قال الله تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ [البقرة:251]، وفساد الأرض واضح وهو أن هذه الدنيا إنما هي دار عمل ولا جزاء، والآخرة بعدها دار جزاء ولا عمل، وإذا كانت هذه الدنيا دار عمل ولا جزاء فلو توقف الباطل عليها لنجح أهلها جميعاً فاستحقوا الجزاء، وحينئذ لم يبق للدنيا معنىً؛ لأن أهلها قد نجحوا في الامتحان فيستحقون أن ينقلوا إلى دار النعيم، ولو تغلب أيضاً الباطل عليها، وانهزم أهل الحق ولم يبق لهم وجود لاستحق أهل الأرض سخط الله ومقته، ( إن ربي اليوم غضب غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وذلك حين لا يبقى على الأرض من يقول: الله ).

فلهذا كان هذا التدافع سنة الله سبحانه وتعالى في الكون، وهو مصلحة الأرض، ولا يمكن أن يتوقف بحال من الأحوال، لكن لا بد أن يكون فيه نوبات وأيام كما قال الله تعالى: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140]، والله قادر على هداية الناس أجمعين كما قال الله تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ [يونس:99-100].

ابتلاء الله لنبيه الكريم وللصحابة ولمن جاء بعدهم

وهو قادر على الانتقام من أعدائه جميعاً كما قال تعالى: ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4]، فهو اختبار وامتحان؛ ولذلك أخرج مسلم في الصحيح من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم غير بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك )، هذا خطاب الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك)، (لأبتليك) وقد نجح في هذا الابتلاء، فأنتم جميعاً تشهدون أنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد الله حتى أتاه اليقين، وقد شهد الله بذلك وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً [الفتح:28]، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً [النساء:122]، فقد قال الله تعالى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ [الذاريات:54]، وقال: وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النور:54]، وهذه شهادة الرب سبحانه وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه أدى ما عليه وبلغ الرسالة أحسن تبليغ، فلم يبق إلا الابتلاء به، وهو امتحان كل عصر ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الحق، فأنتم تعلمون أن الصدر الأول من هذه الأمة وفيهم الصحابة والتابعون وأتباع التابعين قد تمسكوا بما جاءهم الرسول صلى الله عليه وسلم به، فكان منهم قادة هذه الأمة في الخير، منهم العلماء العاملون، ومنهم الأولياء الصالحون، ومنها القادة المجاهدون، وقد بذلوا أرواحهم وأنفسهم لله تعالى، فاشتراها الله غاليةً بالجنة، وقامت بنصر الله أنصار دينه، وبيعت من الله النفوس والنفائس، لكن بقي من وراءهم وهم ممتحنون بنفس الامتحان الذي امتحن به السابقون، فأنتم اليوم ما امتحانكم إلا نظير الامتحان الذي امتحن به أبو بكر و عمر و عثمان و علي و بلال و صهيب و عمار ومن على شاكلتهم من السابقين، لكن أولئك هم الإسوة الحسنة والقدوة الصالحة نجحوا في الامتحان، فصدقوا الله ما عاهدوه عليه؛ ولذلك نظر الله إليهم بعين رحمته ورضاه لما صدقوه يوم بدر فقال: ( اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم )، ويوم بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة أحل الله عليهم رضوانه الأكبر الذي لا سخط بعده فسبقت المغفرة ذنوبهم، فلا يقع منهم ذنب إلا مغفوراً؛ ولذلك قال الله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً [الفتح:18].

وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( والذي نفس محمد بيده لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة ).

وفي حديث جابر في صحيح مسلم : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم حين انتهوا من البيعة نظر إليهم فقال: أنتم خير أهل الأرض ).

حرص المخلصين من هذه الأمة على تجديد أمر دينها

ثم بعد ذلك جاءت عصور وعصور من هذه الأمة يأتي فيها الرجال المخلصون الذين يجددون عهد السابقين ويذكرون بهم، فتحدث الهمم في قلوب المؤمنين، فيريدون أن يسدوا لهذه الأمة مسد أولئك الرجال السابقين، إن مجد هذه الأمة ما بني إلا على الأشلاء والجماجم، وما بناه إلا الرجال المضحون الباذلون؛ فلذلك يأتي أقوام في كل عصر وفي كل مصر وحتى في البوادي والأرياف تحدث في نفوسهم الهمة أن يجددوا لهذه الأمة أمر دينها، وأن يتحملوا بعض مسئولياتها، وأن يقوموا بما قام به السلف الصالح، كل إنسان منهم يريد أن يسد مسداً لشخص واحد من الصحابة أو من التابعين أو من أتباعهم أو من أئمة الدين المعتبرين، فتراهم يتوارثون هذا الدين قبساً يضيء لهم، ويضيئون به للناس دربهم وطريقهم، وهم بذلك حجة الله القائمة على عباد الله سبحانه وتعالى، وهم رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم المبلغون عنه بكل أمانة وصدق، وقد اختارهم الله لأن يكونوا أوعيةً لدينه ووحيه، ولم يكن الله ليجعل وحيه بدار هوان، بل لا بد أن يختار له الصفوة وصفوة الصفوة، فهم الذين يستطيعون القيام بأعبائه، وهم الذين يتحملون تبعاته، وهم الذين يصدقون الله تعالى في بيعته، وأنتم تعلمون أن البيعة خطاب للجميع، وقد وقع الجميع عليها بمجرد النطق بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولا يستطيع أحد أن يتراجع عنها، فهي مؤكدة في التوراة والإنجيل والقرآن، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111].

انقسام الناس حيال العمل بمقتضى بيعتهم مع الله تعالى

وفي آيات سورة الأحزاب بين الله انقسام الناس إلى قسمين حيال هذه البيعة إلى صادقين ومنافقين، فالصادقون: هم الذين وفوا لله بما عاهدوه عليه، فأخذوا هذه البيعة بالجد ووضعوها موضع التنفيذ، فأعمارهم لا يقصدون بها الهوى، ولا الشهوة، ولا جمع المال وحطامه، ولا المكانة في الدنيا، لا يريدون شيئاً من هذه الدنيا إلا تحقيق البيعة التي بايعوا الله عليها، فأوقاتهم وأعمارهم وجاههم ومالهم وعلمهم كل ذلك يصرف من أجل تحقيق البيعة التي بايعوا الله عليها، وهؤلاء فعلاً هم الصادقون الذين صدقوا الله ما عاهدوه عليه.

والطائفة الثانية: هم الذين انشغلوا بالأمور الأخرى وتركوا هذه البيعة ظهرياً، فإذا خطرت على قلب أحد منهم مر بها مرور الكرام، لا يجعل جزءاً من وقته، ولا جزءاً من ماله، ولا جزءاً من تفكيره، ولا جزءاً من عقله وتدبيره لتحقيق هذه البيعة، بل له انشغالات كثيرة، يهتم بمرضاه، يهتم بنفقته، يهتم بنفقة عياله، يهتم بمزرعته، يهتم بتجارته، يهتم بوظيفته وتقدماته، يهتم حتى بملابسه وسيارته، وترتيب أموره، لكن هذه البيعة عنده هي الهم العاشر أو بعد ذلك، وإذا خطرت على باله ظن أنها تعني طائفةً من الناس ولا تعني كثيراً منهم، وهو -والحمد لله- مستثنىً منها ولا تعنيه، فلا يظن أنه مخاطب بهذه البيعة التي هي على كل المؤمنين وفي رقابهم، وسيأتون جميعاً حفاةً عراةً غرلاً، فيوقفون بين يدي الحكم العدل، ويسألون عن هذه البيعة ماذا قدموا حيالها؟

قلة عدد من يوفي الله ببيعته

إن هذه البيعة ليست برجم الظنون، ولا هي حديث يفترى، ولكنها وحي منزل من عند الله نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وأنتم جميعاً تؤمنون بها، وتعلمون أنها الحق، ولكن يبقى فقط من يقوم بحقها، ومن يهتم بها، ومن يعطي هذه البيعة جزءاً من وقته وتفكيره وتدبيره، ومن يقدمها على مصالحه الدنيوية.

حال المسلمين مع الآمال بنصر الله لهم

هؤلاء هم القلة القليلة من هذه الأمة، ولكن مع ذلك هم الطائفة المنصورة، والفرقة الناجية، وهم الذين ينصرهم الله تعالى حتى لو خذلهم أهل الأرض جميعاً؛ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ).

وهؤلاء بين أمرين: بين أمل يؤملونه في الله تعالى، وألم يشكونه من أهل الدنيا، فالله سبحانه وتعالى وعدهم وعد الحق، وهم يعلمون أنه لا يخلف الميعاد، وهم يؤملون منه كل خير لمعرفتهم به، فالذي يعرف الله يعرف أنه أهل الفضل والإحسان والجود والمعروف، يداه سحاءان لا تغيضان الليل والنهار، يعطي قبل المسألة، ويعطي إذا سئل ويوفق للمسألة، ويضاعف لمن يشاء، ويعد لعباده ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وهو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، فهو أهل للتقوى وأهل للمغفرة، وأهل لأن تعلق به الآمال، وأن يرجى ما عنده، ولا يمكن أن يحجب أحد عنه أحداً، ولا أن ينقص أحد نصيب أحد من خيره ورزقه، وهو الذي يقول فيما روى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الصحيح: ( يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل واحد منهم مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر ).

فلذلك يؤملون في الله سبحانه وتعالى أملاً عظيماً لا يمكن أن يخطر على بال أعداء الله، ولا يمكن أن يخطر على بال الجاهلين بالله المحجوبين عنه، بل هؤلاء المؤمنون المشتغلون بالله سبحانه وتعالى عمن سواه كل أوقاتهم أمل، فهم يرجون لقاء الله، ويرجون جوابه، ويرجون من الله ما لا يرجوه أعداؤهم كما قال الله تعالى: وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ [النساء:104]، يتطلعون إلى قرب الله والأنس به في الحياة الدنيا، ويتطلعون إلى مغفرته ورضوانه في البرزخ، ويتطلعون لتثبيته، ويتطلعون كذلك للنظر إلى وجهه الكريم يوم القيامة؛ فلذلك هم يرجون من الله آمالاً عظاماً، والله سبحانه وتعالى لا يخلفهم، ولا يظلم الناس شيئاً، وقد أعد هذه الأمور وما أعدها إلا للصادقين معه؛ ولذلك قال عطاء بن أبي رباح رحمه الله لما قرأ القارئ يقول: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا [آل عمران:103] بكى عطاء فقال: والله ما أنقذنا منها ليعيدنا إليها، هذا الأمل في الله سبحانه وتعالى، والتصديق لكلماته؛ فلذلك هم يؤملون في الله سبحانه وتعالى أملاً يسليهم عن كل ما دون ذلك؛ فلهذا لا تجدهم يرغبون في حطام الدنيا الفانية، ولا في التطلع إلى مناصبها وجاهها وما فيها من الزخارف المنتفية؛ لأنهم يعلمون أنها للكافرين، وأن ما عند الله خير وأبقى؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تأكلوا في آنية الذهب والفضة، ولا تشربوا في صحافهما؛ فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة )، (فإنها لهم) أي: للكفار في الدنيا، (ولكم في الآخرة)؛ ولذلك فآمالهم لا يمكن أن يحول دونها ما يعرض في هذه الدنيا من العوارض والمشكلات، فكلما حصل الضيق بأهل الدنيا وانسدت الآفاق والأبواب إذ فتح لهم من أبواب الملك الديان سبحانه وتعالى ما لا يمكن أن يخطر على بال؛ ولذلك تجدون أن أهل المعرفة الذين يعرفون الله سبحانه وتعالى كلما ضاقت منافذ الدنيا على أهلها ازدادوا انبساطاً، وعرفوا أن الفرج قريب، وأنهم حينئذ في إقبال على الله، وتحقيق للعبودية الخالصة.

نماذج من قصص وأشعار لتعلق المسلمين بأملهم بالله تعالى

ولذلك فإن من علمائنا في هذه البلاد العلامة بابا ابن الشيخ سدية رحمة الله عليهما، فإنه رحمه الله يقول:

يا رب! إني إلى رحماك محتاجوأنت من ترتجى من عنده الحاج

أبواب فضلك ما زالت مفتحةًما إن لها دون من يرجوك يرتاج

وبحر جودك غمر كلما نفذتأمواج خير تداعت منه أمواج

منهاج قصدك للحاجات إن حضـرت لا ريب فيه أنه للقصد منهاج

ومن يؤم لا يغتني سوقة عنه ولا ملك ما زال يورث في آبائه التاج

ومن يؤمك في الحاجات أجمعهامنهم سيحمد عند الصبح إدلاج

ولما أراد الفرنسيون إلحاق الأذى به وتغريبه وجعلوه في زورق عسكري لهم كان يسمى بلي، ونقلوه في النهر وليس معه إلا مرافق واحد، عرف ذلك فسر به سروراً عظيماً، وانتزع عمامته عن رأسه، ووضع عليها مرفقه في الزورق، وأنشأ يقول:

أقول لما أتى داراً دكوك بنابنيٌ وغرب عنها وهو منجفل

يقصر الطرف عنه وهو مجتهدعدوىً ويقصر عنه الأربد الرعل

تلقي دواخنه من خلفه ظللاًمن فوقها ظلل من تحتها ظلل

الله صاحبنا سفراً وحافظنارب العباد إليه الوجه والعمل

ولم يخب أمل بالله معتلقولم يضع من على الرحمن يتكل

فوقعت ماكنة الزورق في البحر، وتعطل مشروع النصارى وجاءوا إليه خاسئين خائبين، وأنجاه الله تعالى من مكرهم، وعاد إلى مأمنه، وهذا لا يستغرب من أمثاله فهو كثير، فقبله يقول المكودي رحمه الله:

إذا عرضت لي في زماني حاجةًوقد أشكلت فيها علي المقاصد

وقفت بباب الله وقفة ضارعوقلت: إلهي إنني لك قاصد

ولست تراني واقفاً عند بابمن يقول فتاه: سيدي اليوم راقد

وكذلك يقول السهيلي رحمه الله:

بجمال وجهك سيدي أتشفعولباب جودك بالدعاء أتضرع

يا من يرى ما في الضمير ويسمع!أنت المعد لكل ما يتوقع

يا من يرجى للشدائد كلها!يا من إليه المشتكى والمفزع!

يا من خزائن رزقه في قول كن أمنن فإن الخير عندك أجمع

ما لي سوى فقري إليك وسيلةفبالافتقار إليك فقري أدفع

ما لي سوى قرعي لبابك حيلةفلئن منعت فأي باب أقرع

ومن الذي أدعو وأهتف باسمهإن كان فضلك عن فقيرك يمنع

حاشا لمجدك أن تقنط داعياًالفضل أجزل والمواهب أوسع

فبقدر معرفتهم بالله سبحانه وتعالى يزداد أملهم وتعلقهم بالله سبحانه وتعالى ورجاؤهم لثوابه، واتصالهم به، فهم في سرور وغبطة كلما ازدادت هذه الدنيا ظلمةً وكلما أغلقت أبوابها في وجوههم؛ فلذلك هم يرجون ثواب الله سبحانه وتعالى، ويتعلقون به في كل الأوقات، كلما جاءت أزمة من الأزمات أو مشكلة من المشكلات لم يتذكر إلا باب الملك الديان، فلم يفزعوا إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي، ولم يفزعوا إلى الأمم المتحدة المفترقة، ولم يفزعوا إلى الولايات المتحدة، ولم يفزعوا إلى شيء من صناديق الربا في العالم، إنما يلجئون إلى الملك الديان سبحانه وتعالى؛ لعلمهم أنه الذي بيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله.

نصوص القرآن والسنة في الأمل في الله تعالى ووعده بالنصر والتمكين

كذلك فأملهم أيضاً تغذيه النصوص الوحيية القطعية التي أخبر بها رسول لله صلى الله عليه وسلم، فقد أخبر بما يثلج صدور المؤمنين من وعد الله الصادق، فما جاء في القرآن من وعد الله تعالى بالنصرة والتمكين لعباد الله المؤمنين هو مما يقوي أملهم في الله تعالى، فهم يتطلعون إلى إنجاز هذا الوعد، ويجعلهم دائماً يتطلعون إلى المزيد من فضل الله تعالى، فقد قال الله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [النور:55].

وقال تعالى: إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128].

وقال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ [الأنبياء:105-106].

وقال تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21].

وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].

وقال تعالى: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:40].

وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الخير في هذه الأمة واطراده واستمراره فقال: ( مثل أمتي كمثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره ).

وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( إن الله يبعث لأمتي على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها ).

وكذلك قال صلى الله عليه وسلم فيما أخرج عنه أحمد في المسند من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما: ( تكون فيكم النبوة ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافةً على منهج النبوة ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافةً على منهج النبوة ) وسكت.

وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( ينزل فيكم المسيح ابن مريم حكماً عدلاً عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، فوصف نزول المسيح وبين أنه ينزل ويمينه على ملك وشماله على ملك كأنما خرج من ديماس، إذا رفع رأسه تحدر منه مثل الجمان، وإذا طأطأه تقاطر، لا يشك فيه من رآه أنه المسيح ابن مريم ، لا يحل لكافر أن يجد ريح نفسه إلا ذاب كما يذوب الملح في الماء، وإن نفسه ليبلغ ما يبلغ بصره ).

فهذا سلاح الدمار الشامل الذي لدى المؤمنين ولا يمكن كتمانه هو نفس المسيح ابن مريم عليه السلام يبلغ حيث يبلغ بصره، ولا يحل لكافر أن يجد ريحه إلا ذاب كما يذوب الملح في الماء.

كذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لتقاتلن اليهود حتى تقاتل بقيتكم المسيح الدجال )، فلا يزال قتال هذه الأمة لليهود مستمراً حتى تقاتل بقية هذه الأمة المسيح الدجال .

وكذلك قال صلى الله عليه وسلم في ذكر حوادث آخر الزمان: ( تفتح رومية )، ورومية هي روما، ( فينقل كنزها )، وبين النبي صلى الله عليه وسلم ( أنها تفتح قبلها مدينة هرقل وهي القسطنطينية، فلنعم الجيش جيشها، ولنعم الأمير أميرها )، أو ( فلنعم الأمير أميرها، ونعم الجيش جيشه ).

كذلك فإنه صلى الله عليه وسلم ذكر من الخير في آخر هذه الأمة إخوانه وهم: الذين آمنوا به ولم يروه، للواحد منهم أجر خمسين، قالوا: ( يا رسول الله! منا أو منهم؟ قال: بل منكم، إنكم تجدون على الحق أعواناً، ولا يجدون على الحق أعواناً ).

دوام تعلق المسلمين بالله وأملهم بما وعدهم إياه

فكل ذلك من المبشرات التي تزيد أهل الإيمان ثقةً واطمئناناً، وهي من المثبتات التي يثبتهم الله سبحانه وتعالى بها، فهي آمالهم، ولا يمكن أن يؤملها الكفار، وأن يؤملوا نظيرها، بل الكفار يعلمون أن كل ما يرجونه إنما هو في هذه الحياة الدنيا فقط، ولا يرجون شيئاً في الآخرة؛ ولذلك قال الله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى:20].

وقال تعالى: وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الإسراء:19].

وقال تعالى: فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [البقرة:200-202].

أمل المسلمين في استجابة الله لدعائهم

فلذلك يجد أهل الإيمان من هذه النصوص زادهم المقوي لآمالهم، فهم كل يوم ينتظرون فتحاً جديداً من عند الله سبحانه وتعالى، وكل يوم ينتظرون نصراً من عند الله، وكل يوم ينتظرون تنكيلاً، وكل يوم ينتظرون إجابةً للدعاء، فهم يرفعون إلى الله أيدي الضراعة، وهم يعلمون أن بيده مقاليد الأمور، وأنه قادر على إجابة الدعاء، وقد وعد بالإجابة، فقد قال تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]، وقال تعالى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، وقال تعالى: وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:32].

والنبي صلى الله عليه وسلم بين: ( أن الله تعالى حيي كريم، يستحيي إذا مد العبد إليه يديه أن يردهما صفراً، فإما أن يجاب إجابةً عاجلة، وإما أن يدخر له الثواب في الآخرة، وإما أن يجاب إجابةً مرجأةً )، أي: مؤخرةً في علم الله تعالى إلى وقت محدد، ومن هنا فلا يخيب الداعي أبداً، إما أن يعجل له الجواب حالاً، وإما أن يرجى له، وإما أن يثاب عليه، فهو العبادة، فالدعاء هو العبادة؛ ولذلك فإن الدعاء هو سلاح المؤمن الذي لا يمكن أن يحال بينه وبينه، فلو جعل في القيود والسجون، أو وضع في الجب في قعر بئر، أو حتى ابتلعه الحوت فإن سلاحه معه على كل ذلك، فهو الذي يقول: لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]، وبذلك يكون من المسبحين فيستجيب الله له دعاءه، ويحقق له أمله ولو كان ذلك بعد حين، فأنتم تعلمون أن يوسف عليه السلام بعد أن رمي في الجب ومكث فيها أتي به إلى مصر فبيع عبداً بثمن بخس، ثم بعد ذلك أدخل السجن مدةً الله أعلم بها، ثم بعد هذا خرج ليكون ملكاً عزيزاً على مصر كلها، ولو جاءها بجيش جرار لما تملك عليها، لكن الله سبحانه وتعالى حقق له اللطف الخفي، فأتى به على صورة عبد يباع بثمن بخس؛ ليصل إلى الملك بدون كيد وبدون عناء.

وكذلك فإن ما حققه الله سبحانه وتعالى لذي النون يونس بن متى عليه السلام، كان أيضاً نظير هذا، فبعد أن كان في بطن الحوت في ظلمات ثلاث: في بطن الحوت وظلمته، وفي قعر البحر وظلمته، وفي الليلة الظلماء في الثلث الأخير من الليل، قال: لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]، فنبذه الله بالعراء، وأنبت عليه شجرة اليقطين، وحقق رسالته، فأرسله إلى قومه فآمن منهم أكثر من مائة ألف، ومتعهم الله ورفع عنهم العذاب بعد أن رأوه بأعينهم، ولم يرفع الله العذاب قط عن أمة من الأمم بعد أن رأته إلا قوم يونس لما آمنوا.

قصص القرآن في إهلاك الأمم السابقة وأثرها في تقوية الأمل بالله تعالى

إن معرفة المؤمن في ذلك تقوي أمله بالله سبحانه وتعالى وتعلقه، وهو ينتظر كل يوم إذا ازداد بطش أعداء الله، وازداد كلبهم ونهبهم وسلبهم للمؤمنين أن يأتي التعزيز من عند الله تعالى، وقد قال الله تعالى: قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ [التوبة:52]، أي: النصر أو الشهادة، وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمْ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ [التوبة:52]؛ ولذلك تعرفون أن الله تعالى في سورة القمر لما قص علينا الطريقة التي أهلك بها الذين كذبوا نوحاً حين أمر السماء فانفتحت أبوابها بالماء المنهمر، وأمر الأرض فتفطرت عيوناً فالتقى الماء على أمر قد قدر، ولم ينج إلا من كان مع نوح في السفينة.

وقص علينا الطريقة التي أهلك بها الذين كذبوا هوداً حين سخر الله عليهم الريح العقيم ثمانية أيام حسوماً، فتركتهم كأعجاز النخل المقلوع.

وقص علينا الطريقة التي أهلك بها الذين كذبوا صالحاً حين أرسل عليهم الصيحة، فشقت أشغفة قلوبهم.

وقص علينا الطريقة التي أهلك بها الذين كذبوا لوطاً حين أرسل عليهم الحاصب، فرفع قريتهم حتى سمع أهل السماء أصوات كلابهم، ثم ردها على الأرض.

وقص علينا الطريقة التي أهلك بها الذين كذبوا موسى حين أمر البحر فالتقمهم فلم تبق منهم باقية.

وقص علينا هلاك الأمم السابقة، قال بعد هذا في سورة القمر: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ [القمر:43]، هل الكفار الذين تخالطونهم وتخافونهم وترهبونهم خير من أولئكم السابقين؟ هل هم خير من قوم نوح ، ومن قوم هود ، ومن قوم صالح ، ومن قوم لوط ، ومن قوم موسى ؟ هل هم أقوى من عاد الذين كانوا يقولون: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت:15]، إنهم لا يساوون شيئاً مما مكنا الله فيه لأولئك السابقين، ليسوا مثلهم في الأعمار، ولا في الأجسام، ولا في قوة البدن، فأولئك السابقون منهم الذين كانت أجسامهم كأجسام عاد التي يضرب بها المثل في الطول والضخامة والجسامة، وكانت أعمارهم طويلةً جداً يقدر عمر أحدهم بآلاف السنين، ومع ذلك أهلكهم الله بين الكاف والنون، عندما حقت عليهم كلمة الله جاءهم الأخذ الوبيل السريع فلم تبق لهم باقية، أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ [القمر:43]، هل طغيان الطاغين من الكافرين اليوم يساوي طغيان فرعون الذي قال: (أنا ربكم الأعلى)؟ لا يمكن أن يصل أحد منهم إلى ما وصل إليه السابقون؛ فلذلك قال: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ [القمر:43]، هذا التفات وهو نقل الخطاب بدل أن كان الخطاب إلينا أصبح إلى الكفار تهديداً وتبكيتاً لهم مباشرةً، فقال: (أم لكم) أيها الكفار! (براءة في الزبر)، هل لدى أمريكا عهد من الله ألا يأخذها بمثل ما أخذ به عاداً وثمود وقوم لوط وقوم فرعون؟ أليس سهلاً على الله أن يأمر البحر فيبتلع ما فيه، والبر فيبتلع ما فيه، والجو فيبتلع ما فيه، والفضاء الخارجي فيبتلع ما فيه؟ فكل ذلك بين الكاف والنون من أمره سبحانه وتعالى، فلا يعجزه شيء من خلقه؛ فلذلك قال: أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ [القمر:43]، أي: الكتب المنزلة، وليست لهم براءة فيها، أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ [القمر:44]، إذا كان الأمر مجرد دعاية فهم يدعون أنهم الغالبون المنتصرون، أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ [القمر:44] فما جواب ذلك؟ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر:45]، فهذه سنة الله الماضية في كل من ادعى ذلك أن يهزمه الله تعالى، وأن يرده على أعقابه، وأن يكفي المؤمنين ضرره وشره، سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر:45]، وأيضاً فليس ذلك جزاءً لهم، ولا هو عقوبتهم الحقيقية، بل جزاؤهم هو ما ينتظرهم يوم القيامة، بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ [القمر:46].

عدة المؤمنين في تقوية أملهم بالله في تعجيل النصر والتمكين لهم

فلذلك يعلق المؤمنون الأمل بالله تعالى أن يمكن لهم في الأرض فيعجل لهم النصر الذي وعدهم، أو أن يأخذ أعداءهم ويسحتهم بسوط عذاب من عنده، وهم يعلمون أنه قادر على ذلك، وقد عودنا عليه في الأمم السابقة، وعدة المؤمنين في ذلك أمران: اعتقادهم ودعاؤهم، عدتان يستصحبهما أهل الإيمان دائماً؛ ولذلك فإن الله لما قص علينا قصة الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى قال: قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ [البقرة:249-251]، لم يحدثنا الله تعالى في هذه الآيات عن سلاح أولئك، ولا عن عددهم، ولا عن عدتهم، إنما حدثنا عن أمرين فقط:

الأمر الأول: عقيدتهم، قال: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو [البقرة:46]، كانوا يوقنون بلقاء الله، ويرجون ثوابه، ويتعلقون به، فهذه عقيدتهم أولاً.

أما عدتهم الثانية: فهي قوله: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:250]، فهذا الدعاء إذاً هو عدتهم الثانية، ولم يحدثنا عن عدة أخرى غير هاتين العدتين؛ وبذلك يعلم أن عقيدة المؤمن ودعاءه هما سر غلبته وانتصاره على عدوه، فلا ينصر المؤمنون بالعدد ولا بالعدة، ولا بالجنود، ولا بالآليات، ولا بالطائرات، ولا بالدبابات، إنما ينصرون بما وقر في النفوس من الإيمان، وبالدعوات المستجابات؛ ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له: ( ادع على ثقيف، قال: اللهم اهد ثقيفاً وأتني بهم مسلمين )، فغزاهم بدعوة واحدة لم تترك منهم كبيراً ولا صغيراً ذكراً ولا أنثى إلا هداه الله بها، فجاءوا جميعاً مسلمين.

ومن هنا فآمال المؤمن لا حصر لها ولا حدود لها، وهو كل يوم يتطلع لفتح جديد من عند الله، وهو يتعرف على ما يدفعه الله من الأذى والوباء، وما يرفعه عن هذه الأمة من الضرر؛ فلذلك يشهد تدبير الله وتصرفه في هذا الكون، فيحمد النعم، ويتوب من التقصير في ذكرها وشكرها لله سبحانه وتعالى، وينتظر من فضل الله المزيد، وقد تعهد الله بذلك للشاكرين، فقال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].

أكتفي بهذا القدر، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , المسلمون بين الآمال والآلام [1] للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

https://audio.islamweb.net