إسلام ويب

لقد أمر الله المؤمنين بأن يقوا أنفسهم وأهليهم من النار العظيمة، كما ذكر الله أن وقود هذه النار العظيمة الناس والحجارة، فلا يزيد الناس والحجارة نار جهنم إلا اشتعالاً وإحراقاً، ثم بين ربنا أن عليها ملائكة غلاظ شداد لا يرحمون أهل النار ولا يشفقون عليهم، وأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة ...)

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

إخوتي وأخواتي أسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

ومع النداء الثامن والثمانين في الآية السادسة من سورة التحريم. قول ربنا الرحمن الرحيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].

مناسبة هذه الآية لما قبلها

مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن موعظة نساء النبي صلى الله عليه وسلم الواردة في قول ربنا جل جلاله: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم:4]، كانت مناسبة لتنبيه المؤمنين بعدم الغفلة عن موعظة أنفسهم وموعظة أهليهم، وألا يصدهم استبقاء الود بينهم عن إسداء النصح لهم، وإن كان في ذلك بعض الأذى.

وهذا نداء ثان موجه إلى المؤمنين بعد استيفاء المقصود من النداء الأول نداء النبي صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التحريم:1]، وجه الخطاب فيه إلى المؤمنين ليتأسوا بالنبي صلى الله عليه وسلم في موعظة أهليهم.

عظم النار المأمور بتوقيها ووقودها

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً [التحريم:6]. النار مقصود بها: تلك النار العظيمة التي أعدها الله للكافرين به والعاصين لأمره، ونكرت هاهنا تعظيماً لشأنها وتفخيماً لأمرها.

وقول ربنا: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6] في محل نصب صفة لنار، وذلك من باب التذكير بحال المشركين الوارد في قوله تعالى: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء:98]، وفي هذا المعنى كذلك قول ربنا جل جلاله: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:24].

كما أن قوله تعالى: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6] من باب بيان العنصر الغالب عليها، وإلا ففي النار أشياء أخرى عياذاً بالله منها، ففي النار كما أخبر ربنا مقامع من حديد، قال تعالى: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ [الحج:19-21]، وفي النار كذلك حيات وعقارب وثعابين تلدغ إحداهن اللدغة فيجد حمتها سبعين خريفاً، وفي النار كذلك من عذاب الله عز وجل ما لا يقدر قدره إلا هو.

والحجارة : جمع حجر على غير قياس، فإن قياسه: أحجار، فجمعه على حجار بوزن فعال، ثم ألحقوا به هاء التأنيث كما قالوا نهارة: جمع نهر، والمراد هاهنا: حجارة الكبريت.

قال الزمخشري في الكشاف: وهي أشد الأشياء حراً إذا أوقد عليها عياذاً بالله تعالى.

أوصاف خزنة النار

عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ [التحريم:6] هذه صفة ثانية للنار، وهي مسوقة مساق التهويل، (عليها) أي: موكل بها، لكن جيء بحرف (على) المفيد للاستعلاء استعارة للتمكن كما في قوله تعالى: أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة:5]، وكما في قوله تعالى في مدح نبيه عليه الصلاة والسلام: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].

والملائكة جمع ملك، وهم: أولئك الصنف من خلق الله عز وجل الذين وصفهم ربنا في كتابه بأنهم: كِرَاماً كَاتِبِينَ [الانفطار:11]، وأنهم: كِرَامٍ بَرَرَةٍ [عبس:16]، وأنهم: لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، وأنهم: لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:19-20].

قال الله عز وجل في وصف هؤلاء الملائكة الذين هم خزنة جهنم: (غلاظ) جمع غليظ، وهو المتصف بالغلظة، وهي ههنا مستعارة لقساوة المعاملة كقوله تعالى: وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]، أي: لو كنت قاسياً لما عاشروك، وحاشا نبينا صلى الله عليه وسلم أن يكون كذلك، بل كما ورد في صفته: ( عبدي ورسولي محمد، سميتك المتوكل، ليس بفض، ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويصفح، ولن أميته حتى أقيم به الملة العوجاء، وأفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً ).

وشداد جمع: شديد، والشدة حقيقتها قوة العمل المؤذي، والموصوف بتلك الصفة شديد.

والمعنى: أنهم أقوياء في معاملة أهل النار الذين وكلوا بهم، يقال: اشتد فلان على فلان، أي: أساء معاملته، ويقال: اشتدت الحرب، واشتدت البأساء، والشدة من أسماء البؤس والجوع والقحط، نعوذ بالله من ذلك!

وهؤلاء الشداد الغلاظ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ [التحريم:6]، وهذا ثناء عليهم أعقب به وصفهم بأنهم غلاظ شداد؛ تعديلاً لما يقتضيانه من كراهية نفوس الناس إياهم، وهذا مؤذن بأنهم مأمورون بالغلظة والشدة في تعذيب أهل النار، فليسوا إلا منفذين لأمر الله ويفعلون ما يؤمرون.

وقوله تعالى: لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ [التحريم:6] مفهومه أنهم يفعلون ما يؤمرون، وفي قوله تعالى: وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ[النحل:50] تصريح بهذا المفهوم، دعا إليه مقام الإطناب في الثناء عليهم، مع ما في هذا التصريح من استحضار الصورة البديعة في امتثالهم لما يؤمرون به، وقد عطف هذا التأكيد عطفاً يقتضي المغايرة، تنويهاً بهذه الفضيلة؛ لأن فعل المأمور أوضح في الطاعة من عدم العصيان.

أهمية وقاية المؤمن نفسه وأهله من النار

وفي هذه الآية ينادينا ربنا: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله! علموا بعضكم بعضاً ما تقون به من تعلمونه النار، وتدفعونها عنه إذا عمل بطاعة الله، واعملوا في أنفسكم بطاعة الله، وعلموا أهليكم من العمل بطاعة الله ما يقون به أنفسهم من النار.

قال قتادة: يأمرهم بطاعة الله، وينهاهم عن معصية الله، ويقوم عليهم بأمر الله، ويأمرهم به، ويساعدهم عليه.

فإذا رأيت من أهلك معصية لله زجرتهم عنها اتقاءً للنار، هذه النار حطبها الذي يوقد عليها به بنو آدم وحجارة الكبريت، وعلى هذه النار ملائكة من ملائكة الله غلاظ على أهل النار شداد عليهم، لا يرحمونهم إذا استرحموهم ولا يغيثونهم إذا استغاثوا بهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى خلقهم من غضبه، وحبب إليهم تعذيب خلقه.

وقيل: بل المراد: غلاظ القلوب شداد الأبدان.

وقيل: غلاظ الأقوال شداد الأفعال.

وقيل: غلاظ ضخام الأجسام شداد أقوياء، لا يخالفون الله في أمره الذي يأمرهم به، وينتهون إلى ما يأمرهم به ربهم.

روى ابن أبي حاتم عن عكرمة رحمه الله تعالى قال: إذا وصل أول أهل النار إلى النار وجدوا على الباب أربعمائة ألف من خزنة جهنم سود وجوههم، كالحة أنيابهم، قد نزع الله من قلوبهم الرحمة، ليس في قلب واحد منهم مثقال ذرة من الرحمة، لو طير الطير من منكب أحدهم لطار شهرين قبل أن يبلغ منكبه الآخر، ثم يجدون على الباب التسعة عشر، عرض صدر أحدهم سبعون خريفاً، ثم يهوون من باب إلى باب خمسمائة سنة، ثم يجدون على كل باب منها مثلما وجدوا على الباب الأول حتى ينتهوا إلى آخرها عياذاً بالله من ذلك.

فوائد من قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة ...)

ومن فوائد هذه الآية:

وجوب العمل بتقوى الله عز وجل فراراً من النار.

ومن فوائدها: أنه يجب على الرجل تعلم ما يجب من الفرائض وتعليمه لأهله وأزواجه وأولاده، وعلى الرجل أن يسعى في تعليم من ولاه الله أمرهم من الأزواج والأولاد، وفي هذا المعنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر ).

وعلى الرجل أن يحمل أزواجه وأولاده على طاعة الله تعالى؛ لأنه راع لهم ومسئول عنهم، ( وكل راع مسئول عن رعيته ).

وهذه النار التي توعد الله بها أهل معصيته عنصرها الناس والحجارة، وقد وكل الله بتلك النار ملائكة موصوفين بالشدة والقسوة على أهل الكفر والفجور، وهؤلاء الملائكة مشغولون بطاعة الله وإنفاذ أمره، وهم معصومون من المعاصي فلا يعصون الله طرفة عين.

اللهم إنا نعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل، اللهم أجرنا من النار برحمتك، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى جميع المرسلين.

والحمد لله رب العالمين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , سورة التحريم - الآية [6] للشيخ : عبد الحي يوسف

https://audio.islamweb.net