إسلام ويب

إن الناظر إلى واقع المسلمين اليوم يجد أن الوهن واليأس قد دب إلى قلوب كثير من المسلمين؛ وذلك بسبب الأحداث والمنعطفات التي تمر بها الأمة، فالواجب على دعاة الأمة أن يوجهوا خطابهم الدعوي ليبثوا من خلاله روح العزيمة في قلوب الناس، وتبشيرهم بوعد الله بالنصر لهذه الأمة، وبيان أن الصراع بين الحق والباطل مستمر إلى يوم القيامة، وأن الغلبة للحق بإذن الله.

الاستدلال بالماضي على الحاضر من خلال القصص القرآني

الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته.

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى المهاجرين والأنصار، سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.

اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى.

أما بعد:

أيها الفضلاء! أحمد الله الذي هيأ لنا هذا اللقاء، وجمعنا هذا المساء في هذا المسجد المبارك، وأسأل الله سبحانه كما جمعنا فيه أن يجمعنا في جنات النعيم، وأن يرزقنا لذة النظر إلى وجهه الكريم، وأن يجعلنا إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ[الحجر:47].

وفي بداية هذه الكلمة أقول: إن في القرآن الكريم قصصاً وعبراً، وعندما قص الله جل جلاله علينا شيئاً من أخبار الأولين قال سبحانه: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى[يوسف:111]، وهذه العبر لا تقتصر على ما مضى، بل لو نظر المسلم المتدبر للقرآن الكريم في تلك القصص وقاسها بواقعه الذي يعيشه فإنه يستطيع أن يستدل بماضيه على حاضره، ولو أن مسلماً شك في أن فئة قليلة مستضعفة يمكن أن تنتصر على فئة كثيرة مستعلية، فليقرأ قول ربنا جل جلاله: قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ[آل عمران:13]، ولو أن مسلماً نظر إلى بعض المتألهين المتجبرين، وإلى بعض الطغاة المستكبرين، فليقرأ في القرآن الكريم قول الله جل جلاله عن فرعون اللئيم: فَكَذَّبَ وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى * فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى[النازعات:21-26]، ولو أن مسلماً نظر إلى دولة كافرة متكبرة عاتية تريد أن تفرض على الدنيا ثقافتها ورؤاها وحضارتها، فليقرأ في القرآن الكريم: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ[الحج:45-46]، وليقرأ قول الله عز وجل: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ[هود:102-103].

تذكير الناس بمعاني العزة والكرامة

ولذا: فما أحرانا إلى أن نذكر الناس بمثل هذه المعاني، وإلى أن ندلهم على أن يرجعوا إلى القرآن؛ لكي يلتمسوا منه العبر والدروس وخاصة في زماننا هذا الذي اشتدت فيه الأزمات، وتوالت القوارع والنكبات على المسلمين، فاحتُلّت كثير من ديارهم، وعُطلت شريعتهم، وطُمست معالم دينهم، وأراد أعداؤهم أن يفرضوا عليهم ما يريدون من ثقافة وحضارة ورؤى واستشراف للمستقبل، وأرادوا أن يزرعوا في قلوبهم اليأس، وأنه لا أمل لهم في أن يرجعوا إلى دينهم، أو أن يستعيدوا أمجادهم، وصار حال الناس كما قال القائل:

أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد تجده كالطير مقصوصاً جناحاه

إن هذا الواقع الذي يعيشه الناس أدى إلى أن يدب اليأس والقنوط إلى قلوب كثير منهم، بل لقد دبَّ إلى ألسنتهم، فتجد عبارات تنضح باليأس، وربما يتفوه بها بعض الخاصة لا العامة! بل وخاصتهم من علمائهم ومفكريهم ومثقفيهم وأهل الحل والعقد فيهم! وتجد كثيراً من هؤلاء يتكلمون وكأنه لا أمل ولا نجاة لنا بل لا بد أن نستسلم!! فمثل هؤلاء الناس لم ينظروا في عبر التاريخ، ولم ينظروا في تاريخ هذه الأمة الذي كان ولا زال في مد وجزر، وتقدم وتقهقر، ونصر وهزيمة، وأمل وألم، هؤلاء يحتاجون إلى أن يذكروا بقول الله عز وجل: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ[غافر:51-52]، ويحتاجون إلى من يذكرهم بقول الله جل جلاله: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ[الصافات:171-173]، ويحتاجون إلى من يذكرهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أشد حالاته حين كان محاصراً في مكة وكان أصحابه مضطهدين معذبين جاءه خباب بن الأرت رضي الله عنه -والنبي صلى الله عليه وسلم متوسد بردة له في ظل الكعبة- فقال له خباب -وقد عانى من المشركين ما عانى هو وإخوانه المؤمنون-: (يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟)، فيقول هذا الكلام وهو رضي الله عنه يشعر بالضيق والكرب حين كان المشركون يأتون بالمسلم فيجيعونه ويعطشونه ويلقونه في حر الشمس، ويضعون على صدره الصخرة العظيمة، ويقولون له: واللات والعزى لا ندعك حتى تكفر بمحمد وإله محمد. وهذا مثل الوضع الذي فيه المسلمون الآن، فبعضهم أسرى، وبعضهم مسجون، وبعضهم معذب، وبعضهم مطارَد، وبعضهم مضطهَد، وهكذا كان الصحابة، (فاعتدل النبي صلى الله عليه وسلم في جلسته وقال له: لقد كان يؤتى بالرجل ممن كان قبلكم فيوضع المنشار على رأسه حتى يفرق بين رجليه، ويمشطونه بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يرده ذلك عن دينه، ثم يقول عليه الصلاة والسلام: والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون)، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول هذا الكلام والصحابة لا يرون بادرة أمل في الأفق، لكنه عليه الصلاة والسلام يزرع في قلوبهم الأمل، ويستدل على ذلك بأخبار الأولين، ولذلك لو قال قائل من الدعاة اليوم وهو يخاطب جماهير المسلمين: إن مع الصبر نصراً، وإن مع الكرب فرجاً، وإن مع العسر يسراً، وإن مع الشدة والسقم عافية ورحمة، ثم استدل على ذلك بأخبار الأولين وبعبر التاريخ وقصص الماضين، فلا ينبغي أن يقول قائل: إن هذا إنسان يعيش مع التاريخ، أو يعيش مع القصص والحكايات، فالله جل جلاله حين يريد أن يزرع في قلوب الناس الأمل فإنه يذكرهم بالماضي، فها هو يقول لأصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[الأنفال:26]، فالله عز وجل هنا يستدل بالماضي من أجل أن يبشرهم بالمستقبل، ومن أجل أن يدلهم على الحاضر، فينبغي أن نقول للمسلمين: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[آل عمران:139]، ونقول لهم: لا ينبغي أن يصيبكم وهن ولا حزن، ولا ضيق مهما توالت النكبات، ومهما اشتدت الأزمات، ومهما تتابعت القوارع، ومهما قتل من المسلمين العدد الكثير، نعم إننا نحزن لذلك كما كان يحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعندما استشهد في مؤتة جعفر ، و زيد ، و عبد الله بن رواحة رضوان الله عليهم صعد النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر ودموعه على خديه، فنعى للصحابة جعفراً و زيداً و عبد الله بن رواحة ، ولما وقف على جثمان عمه حمزة رضي الله عنه وقد بُقرت بطنه، وجُدعت أنفه، وقطعت أذناه، دمعت عيناه صلوات ربي وسلامه عليه وقال: (والله ما وقفت موقفاً أغيظ من هذا)، وكان عليه الصلاة والسلام يحزن عندما يصيبه الكرب، لكنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يقطع أمله في الله قط، بل كان يبشر المسلمين في أشد اللحظات ضيقاً وحرجاً، ففي وقعة الأحزاب كان المسلمون محاصَرون، وقد اجتمع عليهم ثلاثة أنواع من الكروب: برد شديد، وجوع شديد، وخوف شديد، قال تعالى عنهم: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا[الأحزاب:10]، فالمسلمون وهم في تلك الحال ترامت الأنباء بأن اليهود قد نقضوا العهد، وأنهم مالئوا المشركين على المسلمين، فأرسل النبي عليه الصلاة والسلام السعدين: سعد بن معاذ و سعد بن عبادة رضوان الله عليهما، وقال لهما عليه الصلاة والسلام -وهو القائد الخبير المحنك-: (إن وجدتم اليهود على العهد باقين فأعلنوا ذلك للناس، وإن وجدتموهم قد نقضوا العهد فالحنوا لي لحناً أعرفه)، أي: لئلا تفتوا في عضد الناس.

فذهب السعدان رضي الله عنهما فوجدا اليهود على شر حال: يسبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذكرونه بالسوء، فقال السعدان لليهود: هل أنتم على العهد؟ قالوا: وأي عهد؟ قالا لهم: عهدكم مع رسول الله، قالوا: ومن رسول الله! وسبوه سباً قبيحاً، فرجع السعدان رضوان الله عليهما وقالا: يا رسول الله! عضل والقارة -فهذا هو اللحن- ففهم النبي عليه الصلاة والسلام أن اليهود قد غدروا بالمسلمين غدراً كغدر قبيلتَي عضل والقارة بـخبيب وأصحابه، فقال عليه الصلاة والسلام: (الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين!)، فسبحان الله! فأي بشرى هذه؟! وهؤلاء المشركون من قريش وغطفان والأحابيش قد حاصروا المدينة من كل ناحية، وهؤلاء اليهود قد نقضوا العهد، وهؤلاء المنافقون يتسللون لواذاً يفتون في عضد الناس، يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا[الأحزاب:13]، ومع ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أبشروا يا معشر المسلمين!) ولم يقل ذلك عليه الصلاة والسلام إلا لأنه يعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً، والآن تمالئ على المسلمين أمم الأرض من كل حدب وصوب، فما إن يسمع أعداء الله عز وجل بجماعة من المسلمين في بلد من البلاد قد نشروا الأمن، وحكموا شريعة الله، ووجد المسلمون معهم حلاوة الحياة إلا سعوا في وأدهم، وتدميرهم، وتقتيلهم، ومطاردتهم، وأن يلصقوا بهم أبشع التهم، وأشنع الأوصاف، وشردوا بهم من خلفهم، ونجد أن المنافقين يتسللون بكتاباتهم وأحاديثهم وإشاعاتهم ليفتوا في عضد الناس، وليدخلوا اليأس في القلوب، فنذكر هؤلاء بقول ربنا: وَلا تَهِنُوا ))، فالوهن ممنوع، ونذكرهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، واحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، ولا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل).

فيا أيها المسلم! اقرأ قول الله عز وجل: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ ))، ويا من تقارع أعداء الله وتجاهد في سبيل الله! ويا من تتوق إلى نصر الإسلام! اقرأ هذه الآية: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ[النساء:104]، وتأمل في هذه الآية، واعلم بأن الله عز وجل بشرك أولاً: بأن الألم الذي يصيبك فإنه يصيب الكفار مثله: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ))، وإن كان في المسلمين قتيل وجريح ومعوق ومتألم فكذلك في الكفار، وما دام في المسلمين من يرفع هذه الراية: لا إله إلا الله، ويعتقد أن معقد العز وذروة سنام الإسلام هو الجهاد فليعلم أنه من أهل هذه الآية: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ )). ثانياً: قال الله عز وجل: وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ ))، فالكافر أمله في هذه الدنيا، وأما أنت أيها المسلم! فتعتقد أن بعد هذه الحياة حياة، وأن بعد هذه الدنيا جنة عرضها السموات والأرض، فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ[القمر:55]، فتعتقد أن هناك جنة تنتظرك، وهذه الجنة بناؤها لبنة من فضة ولبنة من ذهب، وملاطها المسك، وحصباؤها اللؤلؤ، وترابها الزعفران، من دخلها ينعم فلا يبأس، ويسعد فلا يشقى، ويشب فلا يهرم، ويخلد فلا يموت: وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ ))، وهذا المعنى هو الذي فهمه الصحابة رضوان الله عليهم، وتعلموه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

لقد بعث النبي عليه الصلاة والسلام بعثاً وأمر عليهم حرام بن ملحان خال أنس بن مالك رضوان الله على الجميع، هذا الرجل التقي النقي كان من القراء والعلماء، فذهب إلى عامر بن الطفيل -وكان طاغية من طواغيت العرب، وشيطان من شياطين الكفر- ليدعوه إلى الله، وحمل إليه رسالة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأومأ هذا الطاغية إلى أحد رجاله فطعن حرام بن ملحان بالرمح حتى أنفذه، فقال حرام رضي الله عنه وقد صرع ولم يبق بينه وبين الموت إلا يسيراً قال رضي الله عنه فزت ورب الكعبة! فقد فهم هذه الآية: وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ ))، وهذا الرجل الذي طعنه كان اسمه جبار بن سلمى فنقشت هذه الكلمة في عقله: (فزت ورب الكعبة) فيا ترى أي فوز هذا الذي حصل عليه هذا القتيل؟! وبدأت هذه الكلمة تدور في ذهنه، فجعل يبحث عن معناها حتى قاده ذلك إلى أن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فهذا القتيل منتصر في حال قتله.

وكذلك عبد الله بن حذافة السهمي البدري رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رجلاً فيه دعابة ومزاح، وقد ذهب رضي الله عنه في بعض الغزوات في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأسره الروم ومجموعة معه من المسلمين، ثم ذهب الجنود إلى ملك الروم وقالوا له: إنا قد أسرنا رجلاً من كبار أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام وهو رجل من كبار الصحابة ومن أهل بدر، فأراد الملك أن يفت في عضد الناس، وأن يسلط عليهم حرباً نفسيه، فجاء بـعبد الله بن حذافة وقال له: أعطيك نصف ملكي وتتنصر، فقال له عبد الله بن حذافة رضي الله عنه: والله لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما تملك العرب والعجم ما تركت دين محمد طرفة عين، وعندما لم ينفع الترغيب لجأ إلى الترهيب، فأمر بالصليب فنصب ثم ربط عليه عبد الله بن حذافة ، ثم أمر زبانيته بأن يتناوشوه بالسهام دون أن يصيبوه، فجعلت السهام تقع من فوقه ومن تحته وعن يمينه وعن شماله، وهو رضي الله عنه ثابت كالجبل لا يتزحزح، فقال: أنزلوه، فأنزلوه فأمر بقدر من نحاس فأحميت وجعل فيها زيت يغلي، ثم جاء بواحد من أسرى المسلمين فألقاه في تلك القدر و عبد الله بن حذافة ينظر فيتزايل اللحم عن العظم حتى يذوب العظم، فبكى عبد الله بن حذافة رضي الله عنه، فقال له الملك الكافر: أتبكي جزعاً من الموت؟ قال: لا والله! ولكني أبكي لأن لي نفساً واحدة، وكنت أرجو أن تكون لي أنفس بعدد شعرات جسمي كلها تقتل في سبيل الله، فأمر به أن يحبس فحبس أياماً ثلاثة، ووضعوا عنده لحم خنزير مشوياً خمر، فبقي رضي الله عنه أياماً ثلاثة لا يمد يده إلى الخمر ولا إلى الخنزير حتى مالت عنقه، فقال: أخرجوه، فأخرجوه فقال: لِمَ لم تأكل؟ قال: والله يا عدو الله قد أحل الله لي أن آكل من هذا الخنزير، وأن أشرب من ذلك الخمر؛ لأني مضطر، والله عز وجل يقول: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ[البقرة:173]، ولكنني كرهت أن أشمتك بدين الإسلام، فقال له الملك الكافر: أتقبل رأسي وأطلق صراحك؟ ففكر عبد الله بن حذافة رضي الله عنه وقال له: لا، بل تطلق صراح جميع الأسرى، فوافق الملك على ذلك، فقبل عبد الله بن حذافة رأسه، فالمسلم سياسي يقارن بين المصالح والمفاسد، فأطلق صراحه وصراح المسلمين، ولما وصلوا إلى المدينة استقبله عمر رضي الله عنه وقال له: حق على كل مسلم أن يقبل رأسك وأنا أول من يفعل، فقبل عمر بن الخطاب رأسه، وتتابع المسلمون في تقبيل رأس عبد الله بن حذافة رضي الله عنه فقد كانوا يعتقدون مضمون هذه الآية: وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ )).

دروس وحقائق من الأحداث

إن الأحداث التي تعصف بالأمة في أيامنا هذه لهي من نعم الله على العباد؛ حتى يدركوا جملة من الحقائق، أولها:

عداوة الكفار عداوة عقدية أصيلة

إن عداوة الكفار للمسلمين عداوة أصلية راسخة، وليست عداوة طارئة ولا عداوة تابعة للمصالح، فلابد أن يذكّر الناس بقول ربنا جل جلاله: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً[النساء:89]، وقوله: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ[البقرة:120].

وقوله: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ[البقرة:109]، فليست الحرب حرباً على شخص حاكم، ولا حرباً على نظام بعينه بدعوى أنه نظام دكتاتوري، أو أنه لا يعطي للناس حرياتهم، بل إن العداوة هي للدين نفسه، والعداوة لكل مسلم مهما تسمى ومهما انتمى إلى أي طائفة أو جماعة، فهذه حقيقة لابد أن يدركها الناس الآن.

الكفر ملة واحدة

ثاني هذه الحقائق التي لابد أن يدركها الناس: أن الكفر ملة واحدة، وأن المنظمات الدولية وغيرها سراب يستعملها الكفار متى ما أرادوا، ثم بعد ذلك يدوسون عليها بالنعال ويهمشونها، ويغضون الطرف عنها متى ما كان الإجرام مسلطاً على المسلمين، أو على بلدة مسلمة، أو على جماعة من المسلمين، وحينئذ فهذه المنظمات لا قيمة لها، ولذلك لا ينبغي لعقلاء المسلمين أن يعولوا عليها، وليكن تعويلهم على رب العالمين جل جلاله، وليكن تعويلهم على استمساكهم بدينهم، وليكن تعويلهم على وحدتهم التي هي سر قوتهم.

الجهاد هو المخرج لهذه الأمة من الذلة

ثالث هذه الحقائق التي ينبغي أن يذكر الناس بها: أن الجهاد ذروة سنام الإسلام، فإذا تركه الناس ضرب عليهم الذل، وضربت عليهم المسكنة، وأحاط بهم الأعداء من كل جانب، وغزوهم في عقر دارهم.

ضرورة ووجوب الوحدة بين المسلمين

رابع هذه الحقائق: أنه لا طاقة للمسلمين بمواجهة عدوهم إلا إذا اعتصموا بالله ربهم، وأما إذا رفعوا شعارات القومية، أو شعارات الوطنية، أو غيرها من الشعارات مما كنا نسمعه إلى عهد قريب من اشتراكية وبعثية فهذه كلها لن تغني عنهم من الله شيئاً، ولا يستطيع أن يواجه أهل الكفر إلا قوم رضوا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، وبالقرآن إماماً، وحالهم كحال خبيب رضي الله عنه، أو كحال زيد بن الدثنة ، أو كحال عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح وأمثالهم رضوان الله عليهم، فعندما كان الواحد منهم يقاد إلى القتل فيسأل فيقال له: يا فلان! أتحب أنك بين أهلك وولدك ومحمد مكانك صلى الله عليه وسلم؟ فكان يعلنها مدوية: والله ما أحب أني بين أهلي ومالي ورسول الله صلى الله عليه وسلم يشاك بشوكة، فهكذا كان حبهم لنبيهم عليه الصلاة والسلام، حتى أنطق الله بعض الكفار فقال: لقد أتيت كسرى وقيصر فما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً.

الأيام دول

ثم خامس هذه الحقائق والعبر التي ينبغي أن يذكر الناس بها في هذه الأحداث: أن الأيام دول، وأن الدهر يتغير، وأن صراع الحق مع الباطل جولات وليست جولة واحدة، فيأتي أهل الباطل فيقذفون أهل الحق بطائراتهم، ويسلطون عليهم حممهم ونيرانهم، ثم لا ينتهي الأمر عند ذلك، والقرآن الكريم يذكرنا بذلك القانون الإلهي، يقول الله عز وجل: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ[آل عمران:140] أي: بين نصر وهزيمة، تقدم وتقهقر، وقال تعالى: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ[الروم:9]، وهذا السلاح -أعني: سلاح التذكير بعاقبة الأمم المتغطرسة المتجبرة- هو السلاح الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيف به أعداء الله، فعندما جاءه عتبة بن ربيعة وقال له: (يا محمد! ما رأيت رجلاً أشأم على قومه منك؛ لقد سفهت أحلامنا، وفرقت جماعتنا، وعبت آلهتنا، فانظر ما تريد؟ إن كنت تريد مالاً جمعنا لك حتى تصير أغنانا، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا، وإن كان الذي يأتيك رأي من الجن التمسنا لك الطب، وإن كنت تريد نساء فانظر أجمل نساء قريش نزوجك عشراً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أو قد فرغت يا عم؟! قال: نعم، فاردد عليَّ قولي إن استطعت، قال له فاسمع:

بسم الله الرحمن الرحيم

حم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ[فصلت:1-4] إلى أن بلغ قوله تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ[فصلت:13]، فألقى الله الرعب في قلب الكافر، فجاء فوضع كفه على فم النبي عليه الصلاة والسلام وقال: يا محمد! ناشدتك الله والرحم أن تكف عنا).

فمطلوب منا أن نذكر المسلمين اليائسين بأنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، ولا يقنط من رحمة الله إلا القوم الضالون، ونذكرهم بأن أمماً قد ملكت وسادت ثم بادت، وعلت واستكبرت في الأرض ثم بدل الله عز وجل الحال غير الحال، وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ[القصص:5-6].

بث روح الحماس والعزة في نفوس الناس

ولا بد أن نطرح أسئلة على هؤلاء المسلمين اليائسين فنقول لهم: هل شباب الإسلام الآن أكثر التزاماً، أم أنهم كانوا أكثر التزاماً في السنوات الماضية؟ إن كبار السن الذين قد بلغوا من العمر الخمسين أو الستين سنة ليشهدون بأن الشباب اليوم هم خير وأفضل وأكثر استقامة وسداداً من الشباب الذين كانوا قبل ثلاثين أو أربعين سنة، وهذا إن دل فإنما يدل على أن الأمة إلى خير بإذن الله تعالى.

ونطرح أيضاً هذا السؤال؟ كلمة الجهاد التي ترهب أعداء الله وتخيفهم! هل كانوا يسمعونها قبل خمسين أو ستين سنة؟ فقد طمست معالمها حتى في معاهد العلم الشرعي، فقد كانوا يطوونها طياً، بل إن بعض الكتب التي ألفت في تفسير القرآن نجد أن آيات الجهاد كانت تطوى طياً، ثم إذا مروا على غيرها من الآيات فيقولون: ولنا هنا وقفات، ويبدءون في التفصيل والتفريع والتقسيم، وأما آيات الجهاد بل وسور الجهاد فإنها تطوى طياً، والآن نجد الناس يسألون عن الجهاد، ولهم رغبة في معرفة فقه الجهاد وآداب الجهاد، ونفوسهم تتوق إلى هذه الكلمة التي عدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ذروة سنام الإسلام.

ونطرح سؤالاً آخر فنقول: أليس جمهور المسلمين يتوقون إلى أن تحكيم شريعة الله؟ وإلى أن يحل الحلال ويحرم الحرام؟ أليس جمهور المسلمين الآن نافرين من تلك الأنظمة المستوردة مما فرض على بلاد المسلمين شرقاً وغرباً؟ فالناس الآن زاهدون في هذا كله، ويتوقون إلى العودة إلى شريعة ربهم التي جاءت صفواً، ويتوقون إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة، وهذا يلمس في كل مكان.

لذلك: نقول للناس: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ[البقرة:214]، فهذا وعد ربنا في القرآن والله لا يخلف الميعاد: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ[البقرة:214].

وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ[آل عمران:146] أو قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ[آل عمران:146-148] أي: جنتاً ونعيماً.

ونقول لهم: (جاء بعض الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا له: يا رسول الله! نصبح ونمسي في السلاح، أي: أنهم يشتكون رضوان الله عليهم، فهم في المدينة دائماً في حالة طوارئ وخوف من اليهود ومن المنافقين ومن قبائل الأعراب التي تحيط بالمدينة ولم تدن بعد لله، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله عز وجل هذه الآية: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا[النور:55]).

وقد صدق موعود ربنا فيها في هذه الآية، فقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والإسلام محصور في جزيرة العرب ونجد والحجاز وتهامة واليمن ، ولم يمض سوى عقدين من الزمان (عشرين سنة) حتى كان الإسلام قد بلغ الشام والعراق وفارس ومصر والشمال الإفريقي، بل وبلغ الإسلام إلى حدود الصين شرقاً، ودق أبواب فرنسا غرباً، والآن يقول العارفون بحقائق الأمور: إن الإسلام هو أكثر الأديان انتشاراً، وليس ذلك في أدغال إفريقيا، ولا في أحواش آسيا، ولا في أطراف الدنيا، بل في أوروبا وأمريكا، وليس يدخل فيه أقوام يبحثون عن كسوة أو غذاء أو جرعة دواء، بل يدخل فيه عِلية القوم من علمائهم ومفكريهم ومثقفيهم ممن يستطيعون أن يميزوا الخبيث من الطيب، فهؤلاء هم الذين يدخلون في دين محمد صلى الله عليه وسلم.

ولذلك؛ (لما جاء عدي بن حاتم وبدأ النبي صلى الله عليه وسلم يجادله ليدخله في الإسلام قال له: ما حملك على الفرار أغاظك أن يقال: الله أكبر، فهل أحد أكبر من الله؟ أغاظك أن يقال: لا إله إلا الله؟ فهل إله غير الله؟ يقول عدي رضي الله عنه: رأيت أصحابه يحفون به إن تكلم سكتوا، وإن أمر ابتدروا، فقلت: إن هذا ملك، فهذه أخلاق الملوك، يقول عدي : فلما قام إلى بيته تبعته عليه الصلاة والسلام من المسجد إلى بيته، فاستوقفته امرأة عجوز فوقف يناجيها طويلاً، فقلت: والله ما هذه أخلاق ملك! قال: فلما دخلت معه بيته ألقى إلي وسادة وقال: اجلس عليها، قلت: بل اجلس أنت، قال: لا، بل اجلس أنت، فأجلسني على الوسادة وجلس على الأرض، ثم قال له: يا عدي ! لعله يمنعك من الإسلام ما ترى من ضعف أصحابي؟ قال: بلى، قال: ولعله يمنعك من الإسلام ما ترى من فقرهم؟ قال: بلى، قال له: أسلم فإنه يوشك إن طالت بك حياة أن ترى الظعينة تخرج من الحيرة، أتعرف الحيرة؟ قلت: لا، لكنني سمعت بها، قال: يوشك إن طالت بك حياة أن ترى الظعينة -المرأة المسافرة- تخرج من الحيرة حتى تطوف بالبيت ليست في جوار أحد إلا الله، ويوشك إن طالت بك حياة أن تفتح كنوز كسرى بن هرمز ، ويوشك إن طالت بك حياة أن ترى المال يعطى صحاحاً فلا يقبله أحد، قال عدي رضي الله عنه: فوالله لقد عشت حتى رأيت الظعينة تخرج من الحيرة حتى تطوف بالبيت ليست في جوار أحد إلا الله، وكنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز ، والله لتقعن الثالثة كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم).

إن المسلمين الآن بحاجة إلى يقين كيقين عدي ، فلا بد أن يعتقدوا أن الله لا يخلف الميعاد، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، وأن كل ما أخبر الله به في القرآن، وكل ما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام فيما صح من سنته لابد كائن ولابد واقع، فهذا الأمر نحتاج إليه ونحتاج أن نذكر الناس به.

أسأل الله عز وجل أن ينصر دينه وكتابه وسنة نبيه وعباده الصالحين.

اللهم انصر من نصر دينك، واخذل من خذل دينك، اللهم انصر من نصر دينك، واخذل من خذل دينك، اللهم انصر من نصر دينك، واخذل من خذل دينك.

اللهم من أرادنا وبلادنا والإسلام والمسلمين بخير فأجري الخير على يديه، ومن أرادنا وبلادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، وأشغله بنفسه، واجعل تدميره في تدبيره، وأهلكه كما أهلكت عاداً وثمود.

اللهم إنا نسألك يا أكرم الأكرمين! ويا أرحم الراحمين! لإخواننا المجاهدين في كل مكان نصراً عزيزاً، وفتح قريباً، اللهم انصر عبادك المجاهدين في كل مكان، اللهم ثبت أقدامهم، وقوي شوكتهم، واجمع كلمتهم، وسدد رميتهم، وانصرهم على من عاداك وعاداهم يا أرحم الراحمين! ويا أكرم الأكرمين!

وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى جميع المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

والسلام عليكم ورحمة الله.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , عبر من الأحداث للشيخ : عبد الحي يوسف

https://audio.islamweb.net