إسلام ويب

تابع تفسير قوله تعالى: (والذين يرمون أزواجهم ...) إلى قوله تعالى: (وأن الله تواب حكيم)

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه. أما بعد:

ومن المسائل: من رمى زوجته وأمها، يعني واحد سفيه -والعياذ بالله- ما اكتفى أن يرمي زوجته، بل رمى زوجته وأمها، فيلزمه اللعان لزوجته، ويلزمه البينة لأمها أو الحد، فيجد حد القذف؛ لأن الرجل لا يملك إلا أن يلاعن امرأته، أما لو تعدى بلسانه إلى غير الزوجة فالبينة وإلا حد في ظهره.

المسألة التي بعدها قال القرطبي رحمه الله: اللعان يفتقر إلى أربعة أشياء: اللفظ، وجمع الناس، والزمان، والمكان.

اشتراط التقيد باللفظ الوارد والجمع من الناس في اللعان

أما اللفظ فلا بد أن يكون كما قال الله، لا بد أن يكون أربع مرات، ولا يكتفى فيه بالإجمال، بل لا بد من أن يذكر الزنا صراحةً، وأن ينفي الحمل صراحةً ويشير إليها، وكذلك هي لا بد أن تنفي الزنا صراحةً، فلا يكتفى منها أن تقول: والله أنا تقية ملتزمة، وما اطلع علي إلا زوجي، بل لا بد أن تحلف بالله أربع مرات أنها ما زنت، وإذا كان نفى الحمل فلا بد أن تذكر أن هذا الحمل الذي في بطني إنما هو من هذا الرجل وتشير إليه، ولا بد من التقيد باللفظ كذلك في أن يقول الرجل: لعنة الله، وأن تقول المرأة: غضب الله علي، وتقدم معنا الكلام في أن المغايرة بين اللفظين من أجل الترهيب والتخويف؛ لأن المرأة قد اعتادت اللعن، يكثرن اللعن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.

ومن أجل ذلك حكمة الله أن المرأة تقول: غضب الله علي، والرجل يقول: لعنة الله علي، فلا بد من التقيد باللفظ، ثم لا بد من حضور الجمع من الناس؛ لأنه مثل ما اشترط في إقامة الحدود عموماً حضور طائفة، وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2]، هل الطائفة أربعة بعدد الشهود، أو أنهم عشرة، أو أنهم من الواحد إلى الألف كما قال بعضهم، هذه أقوال، لكن لا بد من حضور جمع من الناس، وأما المكان فلا بد أن يكون مكاناً معظماً عند الزوجين، فإذا كانا مسلمين فيكون اللعان في المسجد، وإذا كان في مكة فبين الركن والمقام، وإذا كان في المدينة فعند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان الزوجان أحدهما مسلماً، والآخر كتابياً، والآخر نعني به الزوجة، فالزوجة تحلف في المكان الذي تعظمه، إن كانت نصرانيةً ففي الكنيسة، وإن كانت يهوديةً ففي البيعة أو في المعبد أو في الكنيس الذي يعظمه يهود، أما إن كان الزوجان مجوسيين وتحاكما إلى القاضي المسلم فإنهما يحلفان في بيت النار، المهم الشيء الذي يعظمانه، من أجل أن تقع الرهبة في قلوبهما.

وأما الزمان فبعد العصر؛ لأن الله عز وجل قال: تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ [المائدة:106]، قال المفسرون: أي صلاة العصر؛ لأنه وقت معظم عند جميع أهل الديانات، بعد صلاة العصر وقت معظم عند جميع أهل الديانات، مثلاً عندنا معشر المسلمين قال الله عز وجل: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا [طه:130]، فهو وقت ذكر عندنا، وكذلك ساعة الإجابة يوم الجمعة عند جمع من أهل العلم هي آخر ساعة قبل غروب الشمس.

أما اللفظ وجمع الناس فشرطان، وأما الزمان والمكان فمستحبان، لو أن القاضي قال: أنا أريد أن يكون هذا اللعان في قاعة المحكمة فلا حرج، فحكاية المسجد ونحوه من باب الاستحباب ليس إلا.

اللعان ينفي الحمل

المسألة التي بعدها: لا يجوز اللعان بنفي الحمل إلا لموجب يقتضي ذلك، كأن يتبين حمل المرأة قبل أن يدخل بها زوجها، أو أن تلد ولداً لأقل من ستة أشهر، من بعد وطئه إياها، أو أن يكون غائباً عنها فتحمل ثم تضع، هذا موجب يقتضي من الزوج أن يلاعن ويقول: هذا الولد ليس مني، مثلاً إنسان -أجارني الله وإياكم من كل سوء- تزوج بامرأة ثم بعد ذلك وجدها حاملاً، في هذه الحالة لا يجوز له أن يسكت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يسقي الرجل بمائه زرع غيره، ونهى صلى الله عليه وسلم أن ينسب الرجل إلى نفسه من ليس منه، وكذلك لو أنه كان غائباً، فالمرأة حملت ثم وضعت، أو لو أن الرجل تزوج المرأة ثم بعد أربعة أشهر أو خمسة أشهر وضعت غلاماً تاماً، وقد علمنا أن العلماء مجمعون على أن أقل الحمل ستة أشهر؛ لأن الله عز وجل قال: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [البقرة:233].

أي: أربعة وعشرون شهراً، وهناك قال: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً [الأحقاف:15]، فعلم أن أقل الحمل ستة أشهر، ففي هذه الحالة يلاعن، لكن لا يجوز له أن يلاعن لمجرد الاحتمال، كأن يكون الرجل أبيض، وامرأته بيضاء فتلد غلاماً أسود، أو العكس أن يكون الرجل أسود وامرأته سوداء فتلد غلاماً أبيض، أو لمجرد أنه لا يشبهه، يقول: والله الولد هذا لا يشبهني، أمشي ألاعن هذه المرأة، لا يجوز ذلك، ولذلك لما جاء الرجل فقال: ( يا رسول الله إن امرأتي وضعت غلاماً أسود، النبي عليه الصلاة والسلام قال له: ألك إبل؟ قال: بلى، قال: ما ألوانها؟ قال: صفر؟ قال: هل ترى فيها من أورق؟ -أي أسود- قال: بلى، قال: من أين؟ قال: لعله نزعه عرق، قال: ولعل ولدك نزعه عرق )، وقد حكى لي بعض الإخوة بأن رجلاً في بعض بلاد الله كان صاحب دين، وكان من غير أهل البلاد، جاء طارئاً وسكن بينهم، ثم تزوج امرأةً من عائلة طيبة، وإخوانها أدخلوه معهم في تجارتهم، فصار تاجراً، ثم بعد ذلك سافر في بعض تجارتهم، فزوجته التي هي أختهم جاءتها آلام الولادة فذهبوا بها فاستولدوها فإذا الغلام أسود، فدخلوا في حيص بيص، دخلوا في هم وغم وأن هذه فضيحة، وسألوا أختهم فقالت: والله ما مسني غير زوجي، ففكروا وقدروا وأخيراً عياذاً بالله قتلوا الولد من أجل أن يطفئ الأمر وما تنزعج أنفسهم، فلما جاء الرجل من السفر وسأل قالوا له: والله الولد خرج ومرض ومات، فصدقهم، ثم بعد ذلك حملت مرةً أخرى، فدخلوا في هم عظيم، وأرادوا أن يسفروه حذراً من أن يحصل ما حصل في المرة الأولى لكنه أبى، قال لهم: والله المرة هذه لا بد أن أجلس حتى تلد، فولدت المرأة وجاءت بغلام أسود للمرة الثانية، قالوا: وبمجرد أن رأى ذلك الغلام بدأ يكبر ويهلل ودخله فرح عظيم، ويقول: الحمد لله الذي برأ أمي، فاستغرب الناس، قالوا له: ما الخبر؟ قال: لما كنت في بلاد كذا بلاده التي جاء منها، يقال: بأنه كان رجل شركسي من الشركس قال: بأن أمي وضعت أخاً لي أسود واتهموها في عرضها وتكلموا فيها حتى ماتت كمداً، من كثرة كلام الناس فيها، وبعض العقلاء قال لهم: ما تدرون، هذا الغلام أسود لكن لعل بعض أجدادكم الأقدمين كان كذلك، قال: الآن ثبت أن أمي بريئة، هذا الولد طلع لجده الذي هو غير معروف، والذي ما رأوه.

فالمقصود أن الإنسان عليه أن يتق الله، ولا يسارع إلى إساءة الظن، ولا يسارع إلى اتهام زوجته إلا لموجب، كأن يكون غائباً مثلاً مغترب له سنتين، فحملت زوجته ووضعت هذه ما فيها احتمال. فله أن يلاعن في تلك الحال، أو أنه تزوج بامرأة ثم بعد ذلك ذهب بها إلى الطبيبة فقالت له: هذه حامل والغلام أو الجارية مستتمة كبيرة، في هذه الحالة أيضاً ليس هناك احتمال، أما لمجرد أنه ما في شبه، أو لمجرد أن اللون مختلف، أو لمجرد كذا أو كذا فلا يجوز، ونسأل الله أن يتوب علينا أجمعين.

ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

اللهم إنا نسألك علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، وشفاءً من كل داء، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، نسألك خير المسألة وخير الدعاء، وخير الثواب، وخير النجاح، وخير العلم، وخير العمل، وخير الحياة، وخير الممات، وثبتنا وثقل موازيننا وحقق إيماننا وارفع درجاتنا، وتقبل صلاتنا، واغفر خطيئاتنا، ونسألك الدرجات العلى من الجنة، اللهم اجعل هذا المجلس المبارك شاهداً لنا لا علينا، واجعله في صحائف حسناتنا يوم نلقاك، اللهم كما جمعتنا فيه نسألك أن تجمعنا في جنات النعيم، وأن ترزقنا لذة النظر إلى وجهك الكريم، وأن تجعلنا إخواناً على سرر متقابلين، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى جميع المرسلين، والحمد لله رب العالمين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة النور - الآيات [6-10] الخامس للشيخ : عبد الحي يوسف

https://audio.islamweb.net