إسلام ويب

أمر الله تعالى عباده المؤمنين بآداب يتأدبون بها مع بعضهم، ومن ذلك: الظن الحسن بالمؤمنين والبعد عن الظن السيئ، ومنها: الابتعاد عن التجسس وتتبع العورات، ومنها: ترك ذكر المسلم في غيبته بما يكره إلا في مواضع معينة.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ...)

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه. أما بعد:

فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

ومع النداء الثالث والسبعين في الآية الثانية عشرة من سورة الحجرات؛ قول ربنا تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ [الحجرات:12].

وهذه السورة المباركة كان في أولها الحديث عن الأدب مع الله عز وجل، ثم الحديث عن الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الحديث عن الآداب الواجب اتباعها بين جماعة المؤمنين.

معاني مفردات الآية

قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا [الحجرات:12]. الاجتناب: افتعال من جنبه وأجنبه إذا أبعده وجعله في جانب آخر.

وقول ربنا سبحانه: اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ [الحجرات:12]. أي: تعاطوا وسائل اجتنابه؛ لأن الظن يحصل في خاطر الإنسان اضطراراً، وقد لا يملك له دفعاً فلا يعقل التكليف باجتنابه، لكن المقصود: التثبت فيه والتمحيص، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا ظننت فلا تحقق ).

والمطلوب من المسلم أن يحسن الظن بإخوانه المسلمين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالكعبة: ( ما أعظمك وأعظم حرمتك، ما أطيبك وأطيب ريحك، والذي نفسي بيده لحرمة المسلم أعظم عند الله من حرمتك، دمه وماله وعرضه، وألا يظن به إلا خيراً )، لكن ليس المقصود بحسن الظن أن يبالغ الإنسان حتى يقتدي بمن لا يستحق أن يقتدى به، أو أن يقع في المحذور الشرعي؛ كأن يصحب إنساناً يكون منه ضرر ولا يكون منه نفع، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا ألا نتجاوز الحدود، إذ لما مات عثمان بن مظعون الجمحي وهو أول من مات من المهاجرين، قالت إحدى النساء يقال لها: أم العلاء : ( رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي أن الله أكرمك. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: وما يدريك؟ فقالت: يا رسول الله! أتوب إلى الله لا أزكي أحداً بعده. فقال لها عليه الصلاة والسلام: والله! ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل الله بي، أما هو فقد جاءه اليقين من ربه، وإني أرجو له الخير ).

قال سبحانه: إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات:12]. وهذا دليل أنه ليس كل الظن إثماً، فمثلاً: لو أن إنساناً عهد منه التهتك والاعتداء على حرمات الشريعة والاستخفاف بالأوامر والنواهي، فظن الناس به سوءاً فلا حرج عليهم، لكن الممنوع أن يظن بالمسلم المستور الحال سوءاً؛ ولذلك ما قال ربنا: (اجتنبوا الظن) وإنما قال: اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ[الحجرات:12]. وما قال: (إن الظن إثم) وإنما قال: إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات:12].

قال سبحانه: وَلا تَجَسَّسُوا [الحجرات:12]، التجسس: البحث عن الشيء بوسيلة خفية، ومنه الجس، ومنه قيل للجاسوس: جاسوساً.

وقوله: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [الحجرات:12]، الغيبة: هي ذكر المسلم بما يكره سواء كان في نفسه أو في نسبه أو في أمه أو في أبيه أو في ولده، أو كان في داره أو دابته أو شكله أو علمه أو عمله، فكل هذا ممنوع.

الأساليب التي نفر الله بها من الغيبة

قال تعالى: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً [الحجرات:12]. الاستفهام هنا تقريري، والمعنى: لا يحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه، قال أهل التفسير: بشع الله الغيبة بثلاثة أساليب:

الأسلوب الأول: تصوير المغتاب بإنسان يأكل لحم أخيه؛ يأكل لحم إنسان.

الأسلوب الثاني: أن هذا الإنسان هو أخوه.

الأسلوب الثالث: أن هذا الإنسان الذي هو أخوه ميت لا يستطيع الدفاع عن نفسه.

وقوله تعالى: فَكَرِهْتُمُوهُ [الحجرات:12]. الكراهة هنا بمعنى: الاشمئزاز والتقذر، فليست الكراهة الشرعية.

النهي عن الإقدام على جريمة الاعتداء بمجرد شك أو ظن باطل

أيها الإخوة الكرام! في هذه الآية تأديب عظيم يبطل ما كان فاشياً في الجاهلية من الظنون السيئة والتهم الباطلة التي تنشأ عنها المكائد والاغتيالات والغيرة المفرطة، والطعن في الأنساب والمبادأة بالقتال حذاراً من اعتداء متوهم أو مظنون ظناً باطلاً، كما كان من أمثال العرب: (خذ اللص قبل أن يأخذك)، أو كما هي أمثال الناس اليوم: (تغدى به قبل أن يتعشى بك).

يقول العلامة ابن عاشور رحمه الله: وما نجمت العقائد الباطلة ولا الملل الزائغة إلا من الظنون الكاذبة.

قال الله عز وجل: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ [آل عمران:154]، وقال تعالى: لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ [الزخرف:20]، وقال تعالى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:148].. إلى غير ذلك من الآيات.

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث ).

النواهي التي اشتمل عليها قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن ...)

وهذه الآية تنهانا عن أمور عدة:

الأمر الأول: تنهانا عن الظن، وذلك في قوله: اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات:12].

الأمر الثاني: تنهانا عن التجسس، وعن تتبع عورات المسلمين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه! لا تتبعوا عورات المسلمين؛ فإن من تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في عقر داره ).

الأمر الثالث: تنهانا عن الغيبة، كما قال تعالى: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً[الحجرات:12] فالغيبة حرام، وقد جعلها المالكية من الكبائر، أما الشافعية فجعلوها من الصغائر؛ لأن الكبيرة في اصطلاحهم: فعل يؤذن بقلة اكتراث فاعله بالدين ورقة الديانة، كما قال إمام الحرمين الجويني رحمه الله.

الأحوال التي تجوز فيها الغيبة

لكن الغيبة جائزة في ستة مواضع، كما قيل:

الذم ليس بغيبة في ستةمتظلم ومعرف ومحذر

ولمظهر فسقاً ومستفت ومنطلب الإعانة في إزالة منكر

فهذه الحالات الست تكون الغيبة فيها جائزة. فمثلاً: لا غيبة لفاسق، فلو أن إنساناً مجاهراً بالمعاصي مفاخراً بها فهذا لا غيبة في حقه؛ ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لما استأذن عليه أحد الناس قال: ( ائذنوا له بئس أخو العشيرة هو، فلما دخل هش له النبي صلى الله عليه وسلم، فلما سألته أمنا عائشة رضي الله عنها، قال عليه الصلاة والسلام: إن شر الناس من اتقاه الناس مخافة شره )، فالإنسان إذا كان مجاهراً بالفسق فلا غيبة له.

وكذلك لو أن إنساناً أراد أن يستفتي كأن تكون امرأة فقالت: زوجي فعل كذا، أو زوجاً قال: زوجتي فعلت كذا، فهذه ليست من الغيبة المذمومة، كما قالت هند : ( يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح. أو قالت: رجل مسيك ).

فوائد من قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ...)

وهذه الآية فيها فوائد:

منها: الأمر باجتناب الظن، وعلى المسلم أن يكون معياره في تمييز أحد الظنين من الآخر: أن يعرضه على ما بينته الشريعة في أحكامها من الكتاب والسنة، وما أفاده الاجتهاد الصحيح وتتبع مقاصد الشريعة، فمنه: ظن يجب اتباعه؛ كالحذر من مكائد العدو في الحرب، قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:71]، وقال سبحانه: وَخُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:102]، وكالظن المستند إلى الدليل الحاصل من دلالة الأدلة الشرعية؛ لأن أغلب الأحكام الفرعية مبنية على الظن، ولذلك كان الإمام مالك رحمه الله لا يفتي فتوى إلا قال: إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين.

ومنها: وجوب اجتناب كل ظن لا قرينة ولا حالة قوية تدعو إليه.

ومنها: حرمة التجسس باتباع عورات المسلمين، واتباع عورات المسلمين قد يكون بالتسمع، كأن يسمع إنسان في بيت جاره مثلاً جلبة؛ ويكون الجار عنده مشكلة مع زوجته فيعمد إلى استراق السمع، ويقول لأطفاله: ماذا حصل؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من تسمع حديث قوم وهم له كارهون صب في أذنيه الآنك يوم القيامة )، والآنك هو الرصاص المذاب.

وقد يكون التجسس كذلك باستراق النظر، وقد يكون التجسس بالجس باليد، فمثلاً: إنسان تجد جيبه منتفخاً فتتعمد أن تضرب جيبه لترى ما في هذه النفخة.

ومنها: حرمة الغيبة، ولكن يجوز ذكر الشخص وهو غائب في بعض المواطن كالتظلم والاستعانة على تغيير المنكر، وتحذير المسلمين من شره.

فمثلاً: أن إنساناً جاء يقول لك: أنا أريد أن أشارك فلاناً في تجارة مثلاً، وأنت تعرف بأن فلاناً هذا ممن يأكل الربا، فتقول له: لا تشاركه، فإذا قال لك: لم؟ تقول له: هو يأكل الربا، وتقتصر على موضع الحاجة، ولو جاءك فلان وقال: إن فلاناً خطب ابنتي، فتقول له: لا تزوجه، فإذا قبل كلامك فالحمد لله، وإن لم يقبل كلامك وقال: لم؟ تقول: فيه كذا وكذا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو الجهم فضراب للنساء؛ ولكن انكحي أسامة بن زيد )، وهذا داخل في قوله صلى الله عليه وسلم: ( الدين النصيحة )، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ).

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , سورة الحجرات - الآية [12] للشيخ : عبد الحي يوسف

https://audio.islamweb.net