إسلام ويب

يخاطب الله تعالى عباده المؤمنين في سورة الحجرات خطاباً تأديبياً بألا يرفعوا أصواتهم فوق صوت النبي، وألا يخاطبوه خطاباً عادياً ولا ينادونه باسمه مجرداً، بل لا بد من وصف الرسالة إجلالاً له واقتداءً بآيات القرآن، وقد امتثل الصحابة الكرام، وتأدبوا مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، حتى كانوا إذا خاطبوه لا يكادون يسمعون في الكلام.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ...)

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:

فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

ومع النداء السبعين في الآية الثانية من سورة الحجرات، وهو قول ربنا تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2].

سبب نزول الآية

سبب نزول هذه الآية هو الجدال الذي دار بين أبي بكر، و عمر رضي الله عنهما، وقد ارتفعت أصواتهما بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

معاني مفرادات الآية

قال الله عز وجل: (لا تَرْفَعُوا) الرفع هنا: مستعار لجهر الصوت جهراً متجاوزاً لمعتاد الكلام، وشبه جهر الصوت بارتفاع الجسم في أنه أشد بلوغاً إلى الأسماع.

(أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) أي: متجاوزين صوت النبي صلى الله عليه وسلم.

(وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ) أي: لا تنادوه باسمه، كقول القائل: يا محمد! كما ينادي بعضكم بعضاً.

(أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ) أي: لا تفعلوا ذلك لئلا تحبط أعمالكم، أو كراهة أن تحبط أعمالكم.

(وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) أي: لا تعلمون بذلك.

المعنى الإجمالي للآية

هذه الآية الكريمة علم الله فيها المؤمنين أدباً يتعلق بتعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحترامه، وتوقيره، فنهاهم جل جلاله عن أن يرفعوا أصواتهم أو أن يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض، أي: لا تنادوه باسمه يا محمد! يا أحمد! وإنما خاطبوه خطاباً يليق بمقامه ليس كخطاب بعضكم لبعض، وقولوا: يا رسول الله! يا نبي الله! ونحو ذلك.

آيات أخرى في الأمر بالتأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم

هذا الأدب الذي تضمنته هذه الآية الكريمة قد نص عليه ربنا جل جلاله في آيات أخرى، كقوله سبحانه: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الفتح:9]، وكقوله سبحانه: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً [النور:63]، وقوله تعالى: فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف:157].

قد دلت آيات من كتاب الله على أنه سبحانه لا يخاطب نبيه باسمه، فلا نجد في القرآن قط أنه قال: يا محمد! وإنما يقول: يا أيها النبي! يا أيها الرسول! يا أيها المزمل! يا أيها المدثر! حتى لو خاطب نساءه لا يقول: يا نساء محمد! وإنما يا نساء النبي! بينما خاطب غيره من الأنبياء بأسمائهم، فقال: وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [البقرة:35]، وقال: وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا [الصافات:104-105]، وقال: يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا [هود:48]، وقال: يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي [الأعراف:144]، وقال: يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ [ص:26]، وقال: يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ [آل عمران:55]، وقال: يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ [مريم:7]، وقال: يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [مريم:12]، وهكذا ينادي الأنبياء بأسمائهم مجردة، أما نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم فإنه ينادى بوصف النبوة وبوصف الرسالة.

وقد بين تعالى أن توقيره واحترامه صلى الله عليه وسلم بغض الصوت عنده لا يكون إلا من المؤمنين الذين قدروا الله حق قدره، فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ [الحجرات:3].

تعظيم الصحابة لرسول الله وعدم رفع أصواتهم عنده

وهذه الآية طبقها الصحابة تطبيقاً تاماً، ففي صحيح البخاري قال ابن الزبير رضي الله عنهما: (فما كان عمر يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه) يعني: أن عمر رضي الله عنه كان يتكلم بصوت خفيض حتى يستعيده النبي عليه الصلاة والسلام.

وأخرج الحاكم، و عبد بن حميد عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن أبا بكر رضي الله عنه قال بعد نزول هذه الآية: والذي أنزل عليك الكتاب يا رسول الله! لا أكلمك إلا كأخي السرار حتى ألقى الله).

وفي صحيح البخاري قال ابن أبي مليكة : (كاد الخيران أن يهلكا: أبو بكر، و عمر رفعا أصواتهما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم).

وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ( لما نزلت هذه الآية، وكان ثابت بن قيس بن شماس رفيع الصوت) يعني: كان رجلاً جهوري الصوت (فقال: أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله، إذاً: أنا من أهل النار، حبط عملي، وجلس في أهله حزيناً، ففقده رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: سأل عنه لأنه لا يراه في المسجد، (فانطلق بعض القوم إليه، فقالوا له: تفقدك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما لك؟ فقال: أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي، فأخبروه) أي: أخبروا النبي عليه الصلاة والسلام (فقال صلى الله عليه وسلم: لا. بل هو من أهل الجنة، قال أنس : فكنا نراه يمشي بين أظهرنا، ونحن نعلم بأنه من أهل الجنة).

وفي بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( بل تعيش حميداً، وتموت شهيداً، وتدخل الجنة إن شاء الله ).

فوائد من قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ...)

وفي الآية فوائد:

أولاً: قال القرطبي رحمه الله: وفي هذا دليل على أنهم لم ينهوا عن الجهر مطلقاً حتى لا يسوغ لهم إلا أن يكلموه بالهمس والمخافتة، وإنما نهوا عن جهر مخصوص مقيد بصفة. أعني: الجهر المنعوت بمماثلة ما قد اعتادوه منه فيما بينهم، وهو: الخلو عن مراعاة أبهة النبوة وجلالة مقدارها، وانحطاط سائر الرتب وإن جلت عن رتبتها.

ثانياً: هذا النهي مخصوص بغير المواضع التي يؤمر فيها بالجهر كالأذان، والتكبير يوم العيد، وبغير ما أذن فيه النبي صلى الله عليه وسلم إذناً خاصاً، كقوله للعباس يوم حنين: ( نادي قل: يا أصحاب السمرة! يا أصحاب سورة البقرة! ).

ثالثاً: ظاهر هذه الآية -نسأل الله العافية- أن الإنسان قد يحبط عمله وهو لا يشعر.

رابعاً: دلت الآية على أن عدم الاحتراز من سوء الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم قد يفضي بفاعله إلى إثم عظيم يأتي على عظيم من صالحاته، أو يفضي به إلى الكفر والعياذ بالله!

خامساً: قال العلامة الشنقيطي رحمه الله: حرمة النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته كحرمته في أيام حياته، وبه تعلم: أن ما جرت به العادة اليوم من اجتماع الناس قرب قبره صلى الله عليه وسلم -وهم في صخب ولغط وأصواتهم مرتفعة ارتفاعاً مزعجاً- كله لا يجوز ولا يليق، وإقرارهم عليه من المنكر.

سادساً: اعلم أن عدم احترام النبي صلى الله عليه وسلم المشعر بتنقيصه والاستخفاف به أو الاستهزاء به ردة عن الإسلام وكفر بالله، وقد قال تعالى في الذين استهزءوا بالنبي عليه الصلاة والسلام وسخروا منه في غزوة تبوك لما ضلت راحلته: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65-66].

أسأل الله أن يجعلنا من المقبولين!

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , سورة الحجرات - الآية [2] للشيخ : عبد الحي يوسف

https://audio.islamweb.net