إسلام ويب

إن المتأمل في الهجرة النبوية يستفيد منها دروساً جليلة، وعبراً عظيمة، ومن ذلك: عناية الله بأوليائه وحفظه لهم من أعدائهم، وإنزال الطمأنينة على قلوب المؤمنين في الشدائد، وتثبيت قلوبهم.

الإذن بالهجرة

الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، الحمد لله عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته.

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى المهاجرين والأنصار.

أما بعد:

فقد سبق أن ذكرنا أن نبينا عليه الصلاة والسلام ما خرج مهاجراً إلى المدينة، ولا أمر أصحابه بالهجرة إلا إنفاذاً لأمر الله عز وجل، وعملاً بقوله سبحانه: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ[العنكبوت:56].

وعملاً بقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا[النساء:97-99].

ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا أن المسلم لا يدع عبادة ربه، ولا يرضى بالذل، ولا يرضى بالضيم، بل يخرج من أرض إلى أرض، ويهاجر من بلد إلى بلد، ويلتمس مكاناً يعبد فيه ربه، ويقيم فيه شعائر دينه، ويجاهد في سبيله، وهذا هو الذي نتعلمه من حادثة الهجرة النبوية المباركة.

ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خرج من مكة بغضاً لها، ولا زهداً في الإقامة بها، بل هي منشؤه، ومرتع صباه، ومسقط رأسه، وبلد قومه، لكنه عليه الصلاة السلام لما ضاقت عليه مكة، وأبى أهلها أن ينقادوا لحكم الله، وأن يدخلوا في دين الله عز وجل، عند ذلك ضحى النبي عليه الصلاة والسلام بحبه لبلده، وبمقامه في أرضه، وخرج صلى الله عليه وسلم من مكة، ثم نظر إليها وقال: (والله إنك لأحب البلاد إلي، ولولاء أن قومك أخرجوني ما خرجت)، وأنزل الله عز وجل قوله: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ[القصص:85]، فالله عز وجل يبشره بأنه سيرجع إلى مكة فاتحاً منتصراً، وسيمكنه الله عز وجل من البلاد والعباد.

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خرج في تلك الرحلة المباركة إلا ليفتتح عهداً جديداً، وليقيم دولة، وليربي أمة، ولينشر ديناً.

وهذه الرحلة -رحلة الهجرة- هي نوع من أنواع سفر رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول الإمام أبو عبد الله بن القيم رحمه الله: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما أكرمه ربه بالرسالة، ما خرج مسافراً إلا لأمور أربعة: إما هجرة في سبيل الله، فقد خرج من مكة إلى المدينة مهاجراً، وإما مجاهداًً صلوات ربي وسلامه عليه، فقد خرج في سبع وعشرين غزوة كلها في سبيل الله، وإما حاجاً، وهذا لم يحصل إلا مرة واحدة، وهي حجة الوداع، وحجة البلاغ، وحجة الإسلام، وإما معتمراً، وهذه حصلت أربع مرار كلهن في ذي القعدة، فاعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر كلهن في ذي القعدة.

فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلة مهاجراً، ولو تأملنا فيها لرأينا فيها دروساً عظيمة ينبغي للمؤمنين أن يتأملوا فيها.

دروس من الهجرة النبوية

عناية الله تعالى بأوليائه الصالحين

الدرس الأول: أن الله عز وجل كاف عبده، فهو لا يسلم أوليائه للأعداء، ولا يخذل الصالحين من عباده، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاط المشركون ببيته إحاطة السوار بالمعصم، وفي يد كل رجل منهم سيف صلت، يريدون أن يضربوه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في القبائل، فيخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والقوم هكذا حالهم قد أحاطوا به ووقفوا على بابه، فيخرج ثابت القلب، رابط الجأش، مطمئن النفس، وهو يتلو صدر سورة ياسين، إلى قوله تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ[يس:9]، والقوم وقوف على بابه، وأبو جهل يتكلم مع إخوانه في الكفر، ويقول لهم: أيعدكم محمد أنكم إذا تابعتموه على دينه دخلتم الجنة، وكانت لكم جنان خير من جنان الأردن، وإن عصيتموه وأبيتم دينه دخلتم النار! والله ما هذا إلا الكذب، فيأخذ رسول الله عليه وسلم حفنة من تراب ويضعها على رأس أبي جهل ومن معه وهم لا يعقلون شيئاً، ويخرج من بينهم صلوات ربي وسلامه عليه تصحبه عناية الله.

وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالمخاوف كلهن أمان

ثم وهو في طريق الهجرة صلوات ربي وسلامه عليه لحق بهم سراقة بن مالك الفارس المغوار، والبطل الضرغام، فدعا عليه النبي عليه الصلاة والسلام، فساخت قوائم فرسه في الأرض، قال سراقة : فعلمت أنه ممنوع، أي: أنني لن أصل إليه بأذى، ولن أستطيع أن أمد إليه يداً بسوء، فطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيل عثرته، فدعا صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل فنهض فرسه، وبشر سراقة بأنه سيلبس سواري كسرى بن هرمز ، وحقق الله عز وجل تلك النبوءة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فتحت بلاد فارس واستولى المسلمون على أسورة كسرى بن هرمز ، جاء سراقة فذكر عمر بن الخطاب بما قاله له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألبسه عمر سواري كسرى ، وقال: الحمد لله الذي كسا سراقة بن مالك -أعرابياً بوالاً على عقبيه من بني جعشم- سواري كسرى بن هرمز ، وحمد عمر رضي الله عنه ربه على هذه الآية العظيمة.

فالمؤمن المقيم على طاعة الله العامل بأمر الله يطمئن إلى أن الله ناصره؛ لأنه لا يخلف الميعاد، وقد قال: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ[غافر:51]. فنصر الله للمؤمنين في الدنيا والآخرة.

الأخذ بالأسباب

الدرس الثاني: ما قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأخذ بالأسباب، ومن هذه الأسباب: أنه أمر أبا بكر رضي الله عنه أن يبتاع راحلتين قبل الهجرة.

وأنه صلى الله عليه وسلم أخذ بعوامل السِّرِّية، حتى أنه لما جاء ليخبر أبا بكر بأمر الهجرة جاءه في ساعة منكرة متنكراً بردائه فقال: (يا أبا بكر ! أخرج من عندك. فقال: يا رسول الله! إنما هو ابنتاي) فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الله قد أمره بأن يهاجر.

ومن الأخذ بالأسباب: أن رسول الله صلى الله عليه خرج من غير الطريق الذي اعتاده الناس من أجل أن يلبس على القوم، ويعمي عليهم الآثار.

ومن الأخذ بالأسباب: أنه استأجر عبد الله بن أريقط -رجلاً من بني الديل- هادياً خريتاً خبيراً بالصحراء؛ من أجل أن يدلهم على الطريق.

ومن الأخذ بالأسباب كذلك: ما صنعته أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما من إعداد الزاد لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه.

ومن الأخذ بالأسباب: ما كان من أمر دخولهما في غار ثور ومكثهما فيه أياماً ثلاثة إلى أن خف الطلب، وأيس القوم من اللحاق بهما، وعند ذلك خرجا.

والسؤال الذي يطرحه كثيرٌ من الناس في أيامنا هذه فيقولون: ما بالنا نحن مسلمون مؤمنون مصدقون برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فإن أهل الكفر قد تحكموا في رقابنا، وأديلوا علينا، وطاروا فوق رءوسنا، لِمَ ونحن مسلمون وهم كفار؟!

فنقول: لأننا لم نأخذ بأسباب القوة التي أمرنا أن نأخذ بها، وانتظرنا أن ينزل علينا نصر من السماء دون أن نعد العدة، ونأخذ الأهبة، ونعمل بأسباب القوة، ولذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم أنه موعود من الله بأن يحفظه، وأن يكلؤه ويرعاه إلا أنه أخذ بالأسباب.

إنزال الله الطمأنينة والسكينة على قلب المؤمن في الشدائد

الدرس الثالث من دروس الهجرة النبوية: طمأنينة القلب، وسكينة النفس التي يرزقها الله عز وجل عبده المؤمن عند الشدائد، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو بشركما قال الله عز وجل: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ[الكهف:110]- وهو في الغار، والقوم قد وقفوا على رأس الغار، وأبو بكر رضي الله عنه بحكم بشريته تدمع عيناه، ويرجف فؤاده حذراً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما شأنك يا أبا بكر ؟! قال: يا رسول الله! لو نظر أحدهم تحت قدميه لأبصرنا، فقال صلى الله عليه وسلم -تلك الكلمة الخالدة-: يا أبا بكر ! ما ظنك باثنين الله ثالثهما)، وخلد الله تلك المقولة في القرآن فقال: إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ))[التوبة:40].

وهنا قد يحلو لبعض أهل الشغب أن يقولوا: بكاء أبي بكر دليل على ضعف إيمانه. نقول: لا والله حاشاه ذلك، أولاً: أن أبا بكر لو كان خائفاً على نفسه فلا حرج، فالقرآن الكريم ذكر عن موسى أنه خاف، وموسى نبي مكلَّم، قال الله عز وجل عنه: فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ[القصص:21] أي: من فرعون، وموسى عليه السلام قال مثل ذلك لفرعون : فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ[الشعراء:21].

ثانياً: والله ما خاف أبو بكر على نفسه، وإنما كان خوفه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودليل ذلك: أن أبا بكر في طريق الهجرة -كما تواترت الأخبار- تارة كان يمشي أمام النبي عليه الصلاة والسلام، وتارة خلفه، وتارة عن يمينه، وتارة عن شماله، فقال له صلى الله عليه وسلم: (ما تصنع يا أبا بكر ؟! قال: يا رسول الله! أتذكر الرصد -أن هناك إنساناً يرصدك- فأمشي أمامك، وأتذكر الطلب -الذي كان يطلبك- فأمشي من ورائك، وأتذكر العدو عن يمينك وعن شمالك، فأمشي عن يمينك وعن شمالك، فقال له صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر ! أتحب أن ينزل بك المصاب دوني؟! قال: نفسي لنفسك الفداء يا رسول الله).

ثم لما وصلوا إلى غار ثور قال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم: على رسلك، فدخل رضي الله عنه وتحسس جبال الغار، فما وجد فتحة إلا قطع من ردائه وسدها، حتى أمَّن الغار، ثم طلب من النبي عليه الصلاة والسلام أن يدخل.

أهذا صنيع من يخاف؟! لا والله! ثم لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم الغار توسد قدم أبي بكر ، فلدغته عقرب عدة مرات وهو لا يتحرك من مكانه؛ كراهة أن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما استيقظ عليه الصلاة والسلام ورأى ما في أبي بكر من الأذى والألم تفل على موضع الألم فكأنه لم يكن.

لذلك ينبغي لنا أن ننزل أبا بكر منزلته وأن نثبت له ما أثبته القرآن من الفضل، فقد أثبت له الصحبة قال تعالى: إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ[التوبة:40].

فهناك نبي الله موسى عليه السلام قال: قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ[الشعراء:62]، وهنا الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله معنا) معي ومعك يا أبا بكر !

أسأل الله عز وجل أن يرزقنا الاقتداء بـأبي بكر ، وأن يرزقنا محبته، وأن يوفقنا لنصنع ما صنع.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , دروس عن الهجرة [2] للشيخ : عبد الحي يوسف

https://audio.islamweb.net