إسلام ويب

لقد أمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقول للمشركين: ليس عندي ما تستعجلون به من العذاب، ثم ذكر الله بعد ذلك دلائل سعة علمه وعظيم قدرته، كما أمر نبيه بالإعراض عن الخائضين في آياته، ونهاه عن القعود بعد الذكرى مع القوم الظالمين.

تابع تفسير سورة الأنعام

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين.

تفسير قوله تعالى: (قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي ...)

تفسير قول الله عز وجل: قُلْ لَوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ [الأنعام:58]، يقول في التفسير الميسر: [ قل أيها الرسول: لو أنني أملك إنزال العذاب الذي تستعجلونه لأنزلته بكم، وقضي الأمر بيني وبينكم، ولكن ذلك إلى الله تعالى، وهو أعلم بالظالمين الذين تجاوزوا حدهم فأشركوا معه غيره.

وعند الله جل وعلا مفاتح الغيب أي: خزائن الغيب، لا يعلمها إلا هو، ومنها: علم الساعة، ونزول الغيث، وما في الأرحام، والكسب في المستقبل، ومكان موت الإنسان، ويعلم كل ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة من نبتة إلا يعلمها، فكل حبة في خفايا الأرض، وكل رطب ويابس، مثبت في كتاب واضح لا لبس فيه، وهو اللوح المحفوظ ].

علم الله وعظم قدرته

قوله في هذه الآية: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ [الأنعام:59]، هي مفاتح الغيب الخمسة التي أشار إليها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: ( مفاتيح الغيب خمس ) ثم ذكر آخر سورة لقمان.

قال: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الأنعام:59]، أصل كل الأرض إما بر وإما بحر، معناه: هو يعلم كل ما في البر وكل ما في البحر.

ثم ذكر سبحانه وتعالى من دقيق علمه مثالاً فقال: وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا [الأنعام:59]، فمثلاً في وقت الخريف تتساقط الأوراق، وأنت لو جلست خمس دقائق أمام هذه الأشجار، وحاولت أن تحصي ما يسقط منها لن تستطيع فبصرك محدود، كل ورقه تسقط وتتحرك بطريقة ما، فورقه تذهب يميناً، والورقة الأخرى تعاكسها يساراً ثم تلتقيان وقد تصطدمان، كل هذه بعلم الله، وأنت الآن تعيش في حيز ضيق جداً، وعقلك لو تابع هذا الأوراق فإنه سينهك وأنت تشاهد هذا الحدث الصغير، وتحاول أن تربطه بعلم الله، كيف الله سبحانه وتعالى يعلم، كيف قدّر الله سبحانه وتعالى لهذه الورقة أن تسقط بهذه الطريقة، ثم تميل يمنة ثم تميل يسرة، ثم تأتي الورقة الأخرى فتتقاطع معها ثم تعود، معناه أنك أمام أمر كبير جداً فيما لو كنت ستتابع أوراق هذه الحديقة وهي تسقط، فكيف بأوراق مدينتك، وكيف بالأوراق في جميع الأرض إذاً: أنت أمام عظمة لا يمكن أن تستوعبها ولا أن تدركها.

قال الله سبحانه وتعالى: وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ [الأنعام:59]، مهما صغرت فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59]، بمعنى: أن الله سبحانه وتعالى قد أحصى كل هذه الأشياء في هذا الكتاب المبين الذي هو اللوح المحفوظ، فما من شيءٍ في هذا الكون إلا وقد كتب في اللوح المحفوظ كما أخبر الله سبحانه وتعالى، فانظر إلى هذا الأمر وتعجب، فكل شيء تتخيله قد كتب وحفظ ودُوّن، والله سبحانه وتعالى يعلمه.

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ...)

تفسير آية: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ [الأنعام:60]، قال في التفسير الميسر: [وهو سبحانه الذي يقبض أرواحكم بالليل بما يشبه قبضها عند الموت، ويعلم ما اكتسبتم في النهار من الأعمال، ثم يعيد أرواحكم إلى أجسامكم باليقظة من النوم نهاراً بما يشبه الإحياء بعد الموت; لتقضى آجالكم المحددة في الدنيا، ثم إلى الله تعالى معادكم بعد بعثكم من قبوركم أحياء، ثم يخبركم بما كنتم تعملون في حياتكم الدنيا، ثم يجازيكم بذلك.

والله تعالى هو القاهر فوق عباده، فوقية مطلقة من كل وجه، تليق بجلاله سبحانه وتعالى، كل شيء خاضع لجلاله وعظمته، ويرسل على عباده ملائكة، يحفظون أعمالهم ويحصونها، حتى إذا نزل الموت بأحدهم قبض روحه ملك الموت وأعوانه، وهم لا يضيعون ما أمروا به.

ثم أعيد هؤلاء المتوفون إلى الله تعالى مولاهم الحق، ألا له القضاء والفصل يوم القيامة بين عباده وهو أسرع الحاسبين.

قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين: من ينقذكم من مخاوف ظلمات البر والبحر؟ أليس هو الله تعالى الذي تدعونه في الشدائد متذللين جهراً وسراً؟ تقولون: لئن أنجانا ربنا من هذه المخاوف؛ لنكونن من الشاكرين بعبادته عز وجل وحده لا شريك له.

قل لهم أيها الرسول: الله وحده هو الذي ينقذكم من هذه المخاوف ومن كل شدة، ثم أنتم بعد ذلك تشركون معه في العبادة غيره.

تفسير قوله تعالى: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم ...)

قل أيها الرسول: الله عز وجل هو القادر وحده على أن يرسل عليكم عذاباً من فوقكم كالرجم أو الطوفان، وما أشبه ذلك، أو من تحت أرجلكم كالزلازل والخسف، أو يخلط أمركم عليكم، فتكونوا فرقاً متناحرة يقتل بعضكم بعضاً. انظر أيها الرسول كيف ننوع حججنا الواضحات لهؤلاء المشركين لعلهم يفهمون فيعتبروا؟

وكذب بهذا القرآن الكفار من قومك أيها الرسول، وهو الكتاب الصادق في كل ما جاء به، قل لهم: لست عليكم بحفيظ ولا رقيب، وإنما أنا رسول الله أبلغكم ما أرسلت إليكم.

لكل خبر قرار يستقر عنده، ونهاية ينتهي إليها، فيتبين الحق من الباطل، وسوف تعلمون أيها الكفار عاقبة أمركم عند حلول عذاب الله بكم.

وإذا رأيت أيها الرسول المشركين الذين يتكلمون في آيات القرآن بالباطل والاستهزاء، فابتعد عنهم حتى يأخذوا في حديث آخر، وإن أنساك الشيطان هذا الأمر، فلا تقعد بعد تذكرك مع القوم المعتدين، الذين تكلموا في آيات الله بالباطل].

قال سبحانه: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ [الأنعام:60]، وهذه الآية تبع لذكر علم الله سبحانه وتعالى السابق، يعني: أن هذا مثال آخر لعلم الله، (يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ)، أي: حال النوم، (وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ)، استخدم لفظ الجرح للدلالة على الأثر، يعني وجود العمل، قال: ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الأنعام:60].

قال تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام:61]، سبقت هذا الآية.

بعض الملائكة الموكلة بالإنسان وأعماله

قال تعالى: وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً [الأنعام:61]، الإنسان وكل به مجموعة من الحفظة، هؤلاء الحفظة يحفظونه من أمر الله كما ورد في سورة الرعد على أحد وجوه التفسير، فإذا جاء قدر الله الأكبر في أنه يصيبه ما يصيبه من الموت خلوا بينه وبين الموت، ولذلك قال: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ [الأنعام:61]، يعني: لا يقصرون في أمره.

الحفظة هؤلاء يحفظونك من أشياء كثيرة، يحفظونك من الجن ومن الهوام ومن الدواب وغيرها وأنت لا تراهم، فالإنسان قد ينام في الصحراء من شدة التعب، ويمر قريباً منه الثعبان والعقرب، ولكن بما أن الله لم يأذن لهذه الدواب بأن تؤذيه، فهي تمشي وتذهب لا تؤذيه أبداً، وقد يمر عليه ما هو أعظم من ذلك ولا يؤذيه؛ لأن هناك حفظة يحفظونه من أمر الله، لكنه لا يراهم.

قال تعالى: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [الأنعام:62]، والكلام الآن عن الكفار، يقول: قل لهؤلاء الكفار: مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الأنعام:63]، وهنا فائدة وهي أن أهل مكة الذين وجه إليهم الخطاب لم يكونوا أهل بحر، ولكن لا يعني أنهم لا يعرفون البحر، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى عنهم: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [العنكبوت:65]، معنى ذلك أنهم يركبون البحر ويعرفونه، وإن لم يكونوا مباشرين على البحر.

التوكل مع الأخذ بالأسباب

قال تعالى: قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ [الأنعام:64]، وهذا تنبيه مهم جداً فإننا كثيراً ما نعمد إلى الأسباب، ونغفل عن من سبب هذه الأسباب وهو الله سبحانه وتعالى، وهذا يدل على ضعف في الإيمان.

مثال: لو أن واحداً منا أصيب بحمى أو أصيب بزكام أو غيره، فإنك تجده يذهب إلى الطبيب ويأخذ الدواء، ويبدأ في استخدامه وهو موقن أن هذا الدواء هو الذي سينفعه، ويستعجل في أخذ الدواء لأجل أن ينتفع به، وينسى أن الذي أنزل هذا المرض هو الذي يرفعه وهو الله سبحانه وتعالى.

ولهذا من المهم جداً أن ننتبه وأن نربي أنفسنا وأن نربي أولادنا على هذا العمل، ولا يعني ذلك ألا نذهب ونستحضر الأسباب، لكن بعد أن نَنْسُب الشفاء لله سبحانه وتعالى: قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ [الأنعام:64]، وهذا خطاب للكفار.

قال تعالى: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ [الأنعام:65]، (عذاباً من فوقكم): حاصب، كالمطر، والريح، فكلها تأتي من فوق، أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ [الأنعام:65]، مثل: الزلازل أو البراكين، أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ[الأنعام:65]، يعني: يخلطكم ويجعلكم شيعاً، فقبيلة فلان تقاتل قبيلة فلان، كما نعلم أنه يقع أحياناً، فمثل هذا يعتبر عذاباً من الله سبحانه وتعالى قال: انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ [الأنعام:65]، والخطاب هنا للكفار، وهو تهديد لهم، أما قوله: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا [الأنعام:65]، فيشمل أيضاً المسلمين، لما دعا الرسول صلى الله عليه وسلم بثلاث دعوات، استجيب له دعوتان وبقيت دعوة لم تستجب له، فما يُرى من التحريش بين المؤمنين اليوم فهو من بقايا هذه الدعوة التي لم تستجب للنبي صلى الله عليه وسلم، فلم يبقَ لإبليس إلا التحريش بين المؤمنين.

قال تعالى: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ [الأنعام:66].

لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الأنعام:67] هذا الآية الأخيرة عامة، يعني كل نبأ أخبر عنه الله سبحانه وتعالى فإن له مستقراً: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل:1]، هذا له مستقر سيقع، وأيّ خبر في القرآن فإن له مآلاً سيصل إليه، فأهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، وأخبار الجنة، وأخبار النار، وأخبار يوم القيامة كل هذا يدخل في قوله: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الأنعام:67].

وقوله تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الأنعام:68]، هذه الآية يتمسك بها من يرى عدم جواز رؤية التمثيليات التي تستهزئ بالمؤمنين.

قال تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام:68]، هنا وصفهم بأنهم ظالمون، ولم يقل: لا تقعد معهم، وإنما جاء الإظهار في مقام الإضمار للتنبيه على ظلمهم، ولهذا يحذر المسلم من الدخول تحت هذه الآية.

تفسير قوله تعالى: (وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ...)

تفسير آية وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ [الأنعام:69]، قال في التفسير الميسر: [وما على المؤمنين الذين يخافون الله تعالى، فيطيعون أوامره، ويجتنبون نواهيه من حساب الله للخائضين المستهزئين بآيات الله من شيء، ولكن عليهم أن يعظوهم؛ ليمسكوا عن ذلك الكلام الباطل، لعلهم يتقون الله تعالى.

واترك أيها الرسول هؤلاء المشركين الذين جعلوا دين الإسلام لعباً ولهواً; مستهزئين بآيات الله تعالى، وغرتهم الحياة الدنيا بزينتها، وذكّر بالقرآن هؤلاء المشركين وغيرهم; كيلا ترتهن نفس بذنوبها وكفرها بربها، ليس لها غير الله ناصر ينصرها، فينقذها من عذاب، ولا شافع يشفع لها عنده، وإن تفتدي بأي فداء لا يقبل منها.

أولئك الذين ارتهنوا بذنوبهم لهم في النار شراب شديد الحرارة وعذاب موجع; بسبب كفرهم بالله تعالى ورسوله محمدٍ صلى الله عليه وسلم وبدين الإسلام.

قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين: أنعبد من دون الله تعالى أوثاناً لا تنفع ولا تضر؟ ونرجع إلى الكفر بعد هداية الله تعالى لنا إلى الإسلام، فنشبه في رجوعنا إلى الكفر من فسد عقله باستهواء الشياطين له، فضل في الأرض، وله رفقة عقلاء مؤمنون يدعونه إلى الطريق الصحيح الذي هم عليه فيأبى.

قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين: إن هدى الله الذي بعثني به هو الهدى الحق، وأمرنا جميعاً لنسلم لله تعالى رب العالمين، بعبادته وحده لا شريك له، فهو رب كل شيء ومالكه.

وكذلك أمرنا بأن نقيم الصلاة كاملة، وأن نخشاه بفعل أوامره واجتناب نواهيه، وهو جل وعلا الذي إليه تحشر جميع الخلائق يوم القيامة.

والله سبحانه هو الذي خلق السموات والأرض بالحق، واذكر أيها الرسول يوم القيامة إذ يقول الله: (كن)، فيكون عن أمره كلمح البصر أو هو أقرب، قوله هو الحق الكامل، وله الملك سبحانه وتعالى، يوم ينفخ الملك في القرن النفخة الثانية التي تكون بها عودة الأرواح إلى الأجسام.

وهو سبحانه الذي يعلم ما غاب عن حواسكم أيها الناس وما تشاهدونه، وهو الحكيم الذي يضع الأمور في مواضعها، الخبير بأمور خلقه، والله تعالى هو الذي يختص بهذه الأمور وغيرها بدأً ونهاية، نشأةً ومصيراً، وهو وحده الذي يجب على العباد الانقياد لشرعه، والتسليم لحكمه، والتطلع لرضوانه ومغفرته].

فائدة التذكير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

قوله تعالى: وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:69]، لما أمر بالإعراض عن الذين يخوضون في الدين بالاستهزاء، قال: ما على أمثال هؤلاء الذين يتقون من حسابهم من شيء، ولكن ذكرى لعلهم يتقون، أي: لعل أولئك القوم الخائضين يتقون، فمن اتقى الله سبحانه وتعالى مع هؤلاء الخائضين ونصحهم فليس عليه شيء، وما يقوله فإنه ذكر لهؤلاء لعلهم يتقون.

قال تعالى: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ [الأنعام:70]، أي: بالقرآن أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ [الأنعام:70]، تحبس وترتهن، وهي مثل قوله: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38] لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ [الأنعام:70].

قال تعالى: وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [الأنعام:70]، فإذاً الخطاب هذا كله لأهل الكفر.

قال تعالى: قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأنعام:71]، يعني قل للكفار: أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا [الأنعام:71]، يعني: كأنه رجل استهوته الشياطين أي: أصابه المس، وهو ضال في الصحراء، وله أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا، ولكنه لا ينتصح ولا يأتي إليهم، قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:71]، أي: نستسلم الاستسلام التام لله سبحانه وتعالى.

السبب في الإتيان بالنفخ في الصور مبنياً للمفعول

ثم قال تعالى: وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ [الأنعام:72-73]، فائدة: ينفخ في الصور لم تأتِ في القرآن إلا مبنية للمفعول أو للمجهول، وفيها دلالة على أن العناية إنما هي بالنفخ في الصور، والصور هو البوق، وهو الذي يكون مثل القمع، دون العناية بمن ينفخ، وإن كان النافخ هو إسرافيل كما هو معلوم من الآثار النبوية.

قال تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [الأنعام:73].

أنموذج لاختلاف التفسير واختيار أحد المعاني

وأختم هنا بالوقوف مع آية من سورة الأنعام وقوفاً مفصلاً، وسنختار تأويل قوله تعالى: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [الأنعام:26].

يقول الإمام الطبري : اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ [الأنعام:26]، فقال بعضهم معناه: هؤلاء المشركون المكذبون بآيات الله ينهون الناس عن اتباع محمدٍ صلى الله عليه وسلم والقبول منه، (وينأون عنه) ويتباعدون عنه، ثم ذكر من قال ذلك، وأشار إلى الرواية من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قال: ينهون الناس عن محمدٍ أن يؤمنوا به، وينأون عنه يعني يتباعدون عنه.

ثم أورد رواية أخرى عن السدي قال: أن يتبع محمد ويتباعدون منه.

ورواية أخرى عن ابن عباس من طريق عقيل قال: لا يلقونه ولا يدعون أحداً يأتيه، يعني محمداً صلى الله عليه وسلم.

ورواية أخرى عن الضحاك قال: وهم ينهون قال: عن محمد صلى الله عليه وسلم.

وعن قتادة قال: جمعوا النهي والنأي والتباعد.

وقال بعضهم: ينهون عن القرآن أن يسمع له، وأن يعمل بما فيه.

القول الأول: ينهون عن النبي صلى الله عليه وسلم، والقول الثاني: ينهون عن القرآن، وأورد الرواية عن قتادة قال: ينهون عن القرآن، وعن النبي صلى الله عليه وسلم، وينأون عنه ويتباعدون عنه.

وفي رواية أخرى عن مجاهد قال: ينهون عنه قال: قريش عن الذكر، وينأون عنه أي يتباعدون، ورواية أخرى عن مجاهد بنفس المعنى، ورواية أخرى عن قتادة بنفس المعنى أيضاً، وعن ابن زيد قال: ينهون عن أذى محمد صلى الله عليه وسلم وينأون عنه ويتباعدون.

وعن وكيع قال: نزلت في أبي طالب كان ينهى عن محمدٍ أن يؤذى وينأى عن ما جاء به أن يؤمن به.

وعن حبيب بن أبي ثابت قال: حدثني من سمع عن ابن عباس أنه قال: نزلت في أبي طالب.

ورواية أخرى أيضاً عن حبيب عن ابن عباس أنها نزلت في أبي طالب.

ورواية أخرى عن القاسم بن مخيمرة أنها نزلت في أبي طالب.

ورواية أخرى أيضاً عن ابن عباس أنها نزلت في أبي طالب.

وعن القاسم مرة أخرى نزلت في أبي طالب.

وعن حبيب: ذاك أبو طالب .. إلى أن أورد الروايات.

لدينا ثلاثة أقوال في هذه الآية:

القول الأول: ينهون عن القرآن.

والقول الثاني: ينهون عن النبي صلى الله عليه وسلم.

القول الثالث: ينهون: المراد به أبو طالب.

الآن إذا أردنا أن نحرر المعنى من جهة السياق. قال تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً [الأنعام:25]، وقبلها، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ [الأنعام:23]، السياق هنا في الكفار، وأول الصفحة يقول تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً [الأنعام:19]، إلى أن قال: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19]، الحديث هنا عن النبي صلى الله عليه وسلم من جهة، وعن القرآن من جهة، والخطاب عن المشركين من جهة أيضاً. وفي التفسير الميسر اختاروا: وهم ينهون عن النبي صلى الله عليه وسلم وينأون عنه.

يقول الطبري رحمه الله تعالى في هذا: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: (وهم ينهون عنه) عن اتباع محمدٍ صلى الله عليه وسلم من سواهم من الناس، وينأون عن اتباعه، وذلك أن الآيات قبلها جرت بذكر جماعة المشركين العادلين به، والخبر عن تكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والإعراض عما جاءهم به، من تنزيل الله ووحيه، فالواجب أن يكون قوله: وهم ينهون عنه خبراً عنهم؛ إذ لم يأتنا ما يدل على انصراف الخبر عنهم إلى غيرهم، بل ما قبل هذا الآية وما بعدها يدل على صحة ما قلنا: من أن ذلك خبرٌ عن جماعة مشركي قريش قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، دون أن يكون خبراً عن خاص منهم، وإذا كان ذلك كذلك فتأويل الآية: وإن يرى هؤلاء المشركون يا محمد كل آية لا يؤمنوا بها، حتى إذا جاءوك يجادلونك يقولون: إن هذا الذي جئتنا به إلا حديث الأولين وأخبارهم، وهم ينهون عن استماع التنزيل وينأون عنك فيبعدون منك ومن أتباعك، وإن يهلكون إلا أنفسهم إلى آخر الآية. هذا ترجيح الطبري .

والطبري رد أحد الأقوال في أنها نزلت في أبي طالب ؛ لأنه قال: عن جماعة مشركي قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم دون أن يكون خبراً عن خاص منهم، الذي هو أبو طالب ، لو كان خبراً عن خاص منهم يكون من باب العام الذي أريد به الخصوص، مثل: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [آل عمران:173]، فإذاً هو اعترض على من قال: إنه أبو طالب.

ولكن لو قلنا: إن أبا طالب هو مثال لمن ينهى وينأى يصح، فيكون قولاً معتبراً من باب المثال، والذين ينهون وينأون هم المشركون.

لكن هم ينهون عن النبي صلى الله عليه وسلم أو ينهون عن القرآن، بناءً على ترجيح الطبري ينهون عن استماع القرآن وينأون عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الضمير واحد فهل هم ينهون عن النبي صلى الله عليه وسلم وينأون عنه، أو ينهون عن القرآن وينأون عنه، الطبري اختار المشاركة بينهما.

لكن عندما نقول: ينهون عن النبي صلى الله عليه وسلم وينأون عنه، من لازم ذلك أنهم ينهون عما جاء به.

وعندما نقول: وهم ينهون عن القرآن وينأون عنه، من لازم ذلك أن ينأوا عن النبي صلى الله عليه وسلم وينهون عنه، فهما قولان متلازمان، فاختيار أحدهما لا يبطل الآخر.

وبناءً عليه من ذكر أنه القرآن فصواب، ومن ذكر أنه الرسول صلى الله عليه وسلم فصواب، ومن قال: إنه أبو طالب على سبيل التمثيل فصواب؛ لأن كل هذه الأقوال في النهاية تكون من باب اختلاف التنوع، ولعلنا نقف عند هذا الحد.

سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , دورة الأترجة القرآنية [7] للشيخ : مساعد الطيار

https://audio.islamweb.net