إسلام ويب

إن للقرآن أسلوباً تميز به عن جميع الكلام، كيف لا وهو كلام الحكيم العلام. فترتيب سوره مبني على حكمة، وفيه الطوال والمئين، والمثاني والمفصل، فاستهلال سوره في البلاغة لا يجارى، وختمها بجوامع الكلم، ومنابع الحكم، والتأكيد البليغ لا يبارى. ومن المباحث ما يكون مرده إلى الذوق والأذواق تختلف.

ترتيب سور القرآن وموضوعاته

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا ونبينا محمد خاتم النبيين وإمام المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال الإمام ولي الله الدهلوي في كتابه الفوز الكبير: [ الباب الثالث في بديع أسلوب القرآن:

الفصل الأول في أسلوب تصدير وختم السور، لم يجعل القرآن مبوباً مفصلاً ليطلب كل مطلب منه في باب أو فصل، بل كان كمجموع المكتوبات فرضاً كما يكتب الملوك إلى رعاياهم بحسب اقتضاء الحال مثالاً، وبعد زمان يكتبون مثالاً آخر، وعلى هذا القياس حتى تجتمع أمثلة كثيرة، فيدونها شخص حتى يصير مجموعاً مرتباً، كذلك نزل الملك على الإطلاق جل شأنه على نبيه صلى الله عليه وسلم؛ لهداية عباده سورةً بعد سورة بحسب اقتضاء الحال، وكان في زمانه صلى الله عليه وسلم كل سورة محفوظة ومضبوطة على حدة من غير تدوين السور، ثم رتبت السور في مجلد بترتيب خاص في زمان أبي بكر و عمر رضي الله عنهما، وسمي هذا المجموع بالمصحف ].

هذا الباب عقده المؤلف لما يتعلق بترتيب القرآن الكريم، وأسلوب السور فيه، فذكر في بداية هذا المبحث أن القرآن لم يكن على منهج المتون المبوبة والمفصلة، بحيث يكون كل موضوع في سورة معينة، ومثله بمجموعة الرسائل والفرامين أي: المرسومات الملكية التي يوجهها الملوك والسلاطين إلى رعاياهم.

وعندي في هذا التشبيه إشكال، وهي أن القرآن له ترتيبه الفريد الذي لا يمكن أن يشبهه شيء من عمل البشر ولا يقاربه، وكذلك ترتيب السورة ترتيب محكم، أي: مرتبط بالحكمة، بخلاف عمل البشر فإن جاز أن يوضع نوع من مشابهة فالمشابهة في قضية أن السلطان حينما يكتب هذه الرسائل أو الفرامين يكتبها على حسب مقتضى الحال فقط، أما قضية الترتيب وكيف تكون فهذه قضية لا يمكن أن يقاس القرآن بغيره فيها، فهذه قاعدة كلية يجب أن ننتبه لها، بأنه لا يمكن أن نقيس القرآن بغيره إطلاقاً، وأيضاً لا يمكن أن نتحكم بقضية موضوعات القرآن وكيف ترتب، فحينما يأتي واحد ويقول: إن الأصل أن توضع الموضوعات المتشابهة في مكان واحد، نقول: هذا الأصل من أين أخذته؟ وكيف جعلت هذا هو الأصل؟ فإن هذا أصل إنما تركب بعد ضبط العلوم ومساراتها، وصار العلماء يضبطون المعلومات المتشابهة بعضها مع بعض، وعلى سبيل المثال لما نأخذ صحائف الحديث المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن مرتبةً على باب معين، وإنما كان العالم يكتب ما رواه عن شيوخه، وأحسنهم حالاً من كان يرتب ما رواه عن فلان، ثم ما رواه عن فلان، ثم ما رواه عن فلان.

فالمقصد من ذلك أن المقايسة بين ترتيب القرآن في موضوعاته وبين عمل البشر ليست مقايسة دقيقة، فإذاً يحسن ألا نقرب من هذه الجهة؛ لأن عمل البشر مهما كان مع نقصه فهو عمل متنوع ومتطور وليس عملاً واحد.

نأتي إلى هذا الباب ونعيد النظر مرة أخرى في قضية ترتيب موضوعات القرآن، وكما قلت: بما أن هذا من لدن حكيم خبير، فالأصل في ترتيب هذه الموضوعات أنه جاء وفق الحكمة، فإذاً يكون بحثنا نحن في تبين وجوه الحكمة من ترابط هذه الموضوعات التي في القرآن، ومن أمعن النظر في موضوعات القرآن سيظهر له جلياً هذا الارتباط الوثيق بين موضوعات القرآن، حتى ولو كانت لأول وهلة موضوعات قد يظن أنها متباعدة، ولكن عند التدقيق والنظر سيرى أنها متقاربة، وسيرى كيف يرتبط الموضوع بالموضوع، وتربط القضية بالقضية بطرائق متعددة، وهو ما يسمى عند البلاغيين بحسن التخلص، وهو الانتقال من فكرة إلى فكرة، والرابط بينها.

فيجب أن نبحث عن هذا الأسلوب الفريد الذي تميز به القرآن في ترتيب موضوعاته.

القضية الأخرى التي نبه عليها المؤلف وهي نزول القرآن حسب مقتضيات الأحوال والظروف، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم حسبما يأتيه من الوحي كان يضع الآيات في أماكنها التي يأمره الله سبحانه وتعالى بها.

وهنا فائدة أحب أن أنبه عليها، وهي قضية مرتبطة بالوحي للأنبياء، وأن كتب الأنبياء التي ذكرها الله سبحانه وتعالى لنا أنه أنزلها لا نعلم بها كلها، ولا نعلم كيفية إنزال كتب الله سبحانه وتعالى على جميع أنبيائه، وما يقوله بعض العلماء من كون القرآن نزل مفرقاً خلافاً لنزول الكتب السابقة فإنها نزلت جملةً، فدليل ذلك ليس دليلاً يقينياً بحيث يرفع الخلاف. ولكن المقصد من ذلك أن الذي يترجح ويتوجه إليه المقام: أن الكتب السابقة أنزلت جملة، وأن القرآن نزل مفرقاً، فتقع شبهة عند بعضهم، وهي أن الكتب السابقة إذا كانت نزلت جملة فالحوادث التي تقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كيف يكون الوحي إلى النبي بها؟ فنقول هنا: إن الوحي إلى الأنبياء صوره متعددة، فقد يكون وحياً مرتبطاً بالكتاب الذي ينزله الله سبحانه وتعالى، وقد يكون وحياً مرتبطاً بالحكمة التي يؤتاها كل نبي وهي السنة، والسنة الوحي بها متعدد كما هو معلوم، فقد يكون من طريق المنام، وقد يكون من طريق الإلقاء في الروع، وقد يكون من طريق الملك، وقد يكون من طريق التكليم المباشر من الله سبحانه وتعالى لعبده، وهذا لم يحصل إلا لـآدم عليه السلام، ولـموسى عليه السلام، ولنبينا محمد عليهم جميعاً أفضل الصلاة وأتم التسليم، وإن كانت تختلف مقامات التكليم الإلهي لهم، وإنما تميز موسى بكونه كليم الله لأن الوحي جاءه مباشرةً بكلام الله، بخلاف غيره من الأنبياء، والمقصد من هذا أن ننتبه إلى هذا الملحظ فيما يتعلق بقضية الوحي الذي ينزل على الأنبياء وأنواعه، وكون القرآن نزل مفرقاً، والكتب السابقة نزلت جملة ليس فيه إشكال ولا مطعن من هذه الجهة؛ لأن بعض الفضلاء قد لحظ هذا، ولكنه لم ينتبه إلى قضية أنواع الوحي الأخرى، وهذه السور التي نزلت كانت مجموعة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومضبوطة ومكتوبة، وهذه فائدة يجب أن ننتبه لها، وليس هناك دليل تفصيلي، وإنما هناك أدلة مفرقة يظهر منها عناية النبي صلى الله عليه وسلم العناية التامة بكتابة ما ينزل عليه من الوحي، وأخص الصحابة الذين كانوا يعلمون ما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم ويكتبون له هو زيد بن ثابت كما ثبت في صحيح البخاري في كلامه عن قصة جمع المصحف في عهد أبي بكر ، فقد كان الكاتب المختص بالوحي، ولا يعني أن غيره لم يكتب، بل غيره كان يكتب، لكن كان هو الكاتب الخاص بالنبي إذا نزلت سورة أو آية دعاه فكتب.

والنبي صلى الله عليه وسلم جمع المصحف في ما كان من مادة القوم: الأكتاف، والرقاع، وسعف النخل وغيرها، ثم لما جاء عهد أبي بكر جمع أبو بكر هذا المفرق الذي في صدور الرجال، وفي السطور المكتوبة عندهم، أو فيما جمع بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فإذاً عمل أبي بكر هو جمع متفرق، فجمع في عهده رضي الله عنه، وسمي بالمصحف.

وعندي أن هذه التسمية أخذوها من القرآن؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً [البينة:2]، وأشار إليه أيضاً في سورة عبس فقال: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ [عبس:13]، فعندي أنهم أخذوها من الإشارات التي ذكرها الله سبحانه وتعالى، وليس كما ورد في بعض الأخبار أنهم اجتمعوا لكي يسموه فاختلفوا فيه، والله أعلم بالصواب.

الحكمة في ترتيب السور

وأما البحث عن الحكمة من تناسب السور فهو يترتب على الخلاف الوارد: هل الترتيب توقيفي أو غير توقيفي؟

والرسول صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه أنه قرأ بخلاف الترتيب الموجود.

فنقول: الحكمة باقية سواءً كان الترتيب باجتهاد أو كان بتوقيف، لكن الحكمة إذا كانت بتوقيف فطلبها مشروع؛ لأن ما يصدر عن الحكيم فلابد أن يكون عن حكمة، فطلبها يكون مشروعاً، فإذا ثبت أن السور إنما كانت باجتهاد فالبحث عن حكمة في عمل الصحابة أيضاً ممكن، لكنه ليس بدرجة الأول، ومعنى ذلك أنه على كل الأحوال البحث في الحكمة ليس فيه إشكال، فإن كان من الأول فمرتبته لا شك أرقى؛ لأنه صادر عن حكيم فيبحث عن حكمته، وهو الترتيب التوقيفي، وإن كان من فعل الصحابة فهو إجماع منهم على هذا الترتيب، فأيضاً يجوز فيه البحث عن الحكمة، فإذاً بحث التناسب على كل الأحوال جائز وممكن، لكنه يختلف بحسب اختلاف الترتيب هل هو توقيفي أو اجتهادي.

مخالفة ترتيب المصحف في قراءة السور

القضية الثانية: أن قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم البقرة ثم النساء ثم آل عمران لم يرد له ناسخ، ولم يرد عنه صلى الله عليه وسلم نهي عن أن يقرأ القرآن بغير هذا الترتيب، ولم يرد كذلك عن الصحابة نهي في ذلك، فدل على أن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم يستفاد منه الجواز، يعني جواز مخالفة الترتيب، وإن كان الترتيب هو الأولى، أما أثر ابن مسعود لما سئل عن رجل ينكس القرآن قال: ذلك رجل منكوس القلب، فمراده في الآيات وليست السور، هذا هو الظاهر؛ لأن تنكيس السور مما أجمع المسلمون على جوازه في الكتاتيب، فهم يعلمون الصبيان، ويبدءون بهم بـ (قل أعوذ برب الناس)، ثم (قل أعوذ برب الفلق)، ثم (قل هو الله أحد)، فلو كان هذا لا يجوز لما جاز في التعليم، فهذا من الأدلة التي يمكن أن يعتمد عليها في أن المراد بحديث ابن مسعود تنكيس الآيات وليس تنكيس السور؛ لأن تنكيس الآيات هو الذي يحصل به اختلال نظم القرآن.

تقسيم السور

تقسيم السور عند الصحابة

الملقي: قال رحمه الله: [ وقد كانت السور مقسومةً عند الصحابة إلى أربعة أقسام:

القسم الأول: السبع الطوال التي هي أطول السور.

والقسم الثاني: سور في كل منها مائة آية، أو تزيد شيئاً قليلاً.

والقسم الثالث: ما فيه أقل من المائة، وهي المثاني.

والقسم الرابع: المفصل، وقد أدخل في ترتيب المصحف سورتان أو ثلاثة من عداد المثاني في المئين؛ لمناسبة سياقها سياق المئين، وعلى هذا القياس ربما وقع في بعض الأقسام أيضاً تصرف ].

تقسيم السور ورد فيه أحاديث، وآثار عن الصحابة رضي الله عنهم، وهذا التقسيم الذي هو السبع الطوال، والمئين، والمثاني، والمفصل قد يرد في بعض الطوال ما ليس من الطوال، وقد يرد في المئين ما هو أقل منها، وقد يرد في المثاني ما هو أكثر، لكن المقصود هو الجملة الغالبة على هذا القسم، فلو بدأنا بالطوال فالفاتحة ليست منها؛ بل تبدأ الطوال بالبقرة، ثم آل عمران، ثم النساء، ثم المائدة، ثم الأنعام، ثم الأعراف، ثم الأنفال، إذا قلنا: إنها سبع بهذا، وبعض العلماء يرى أن الأنفال والتوبة سورة واحدة وهي التي تكمل السبع المثاني، ودليل هذا الرأي أثر ابن عباس المشهور لم عمدتم إلى سورة الأنفال وجمعتموها مع سورة براءة، ولم تجعلوا بينهما سطر باسم الله؟ وهو أثر مشهور. والمقصد أن هناك خلافاً بين العلماء في تحديد السابعة، وبعضهم يقول: السابعة هي سورة يونس، وهذا الاختلاف في تحديد السابعة لا يؤثر على كونها سبع طوال، وأيضاً لا يؤثر لو عددنا الأنفال؛ لأن المراد بها الأغلبية، فهذه السبع أغلبها طوال، فسقوط واحدة من الطول لا يؤثر على أن تكون كلها طوال.

القضية الثانية: في المفصل وحده أيضاً وقع خلاف بين العلماء في تحديد أوله، والخلاف هذا مبني على هل تدخل سورة الفاتحة في العد أو ليست في العد؟ بناءً على حديث وفد بني تميم، لما قال: كيف تحزبون القرآن؟ قالوا: ثلاثاً وخمساً، وسبعاً، وتسعاً، وأحدى عشر، وثلاث عشر، ثم حزب المفصل.

فإذا عدت الفاتحة فسيكون البدء بقاف، وإذا لم تعد فسيكون البدء بالحجرات، والمقصد من هذا أن المفصل لا يخرج عن أن يكون بين هاتين السورتين، وتقسيمات سور القرآن من المعلومات التي يقل البحث فيها.

التفنن في تقسيم السور

يمكن أن تنظر في تقسيمات السور بأنظار متعددة، فعلى سبيل المثال -وهذا قد عمله بعض العلماء- السور التي بدأت بالخبر، والسور التي بدأت بالإنشاء، التي بدأت بالجملة الخبرية، والجملة الإنشائية، فيمكن أن يقسم القرآن إلى هذا، وكذلك السور التي ابتدأت بجملة اسمية، والتي ابتدأت بحروف، والسور التي ابتدأت بالحمد، والسور التي ابتدأت بالأحرف المقطعة، ثم في الأحرف المقطعة التي بدئت بخماسي، ثم برباعي، ثم بثلاثي، ثم بثنائي، ثم بفردي.

بمعنى أنه يمكن النظر إلى التقسيم بأنظار متعددة، وبعض هذه التقسيمات يكون مفيداً للسامع، وبعضها قد يكون من باب التقسيم الفني الذي يكون من لطائف العلم، ويطرب له السامع، وإن لم يكن من متين العلم، فعلى سبيل المثال جمع السور التي ابتدأت بالحمد، ثم البحث في موضوع الحمد في هذه السور، لم خصت هذه بالبدء بالحمد، وهل تشترك في موضوع مرتبط بالحمد أو لا؟ فعندما ننظر إلى قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، وقوله مثلاً: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [فاطر:1]، موضوع هذه السورة وموضوع السور الأخرى وكذا بقية الخمس التي ابتدأت الحمد، وهل الابتداء بالحمد له حكمة معينة يمكن أن نصل إليها من خلال النظر في موضوع الآيات أو لا؟ والقصد من ذلك أن يكون عندنا نوع من إثارة معلومات القرآن بالنسبة للأذهان، بحيث أن المسلم وهو يقرأ القرآن يكون عنده أكثر من نظر ويتبصر ويتأمل.

قد يقول قائل: سندخل بهذا في التكلف، فأقول: لا يخلو بحث مرتبط بهذه الأمور من وجود التكلف، لكن المقصود والثمرة ما دامت موجودة فهذه مطلب، وهو تدبر القرآن بأنظار متعددة، وكونه يقع التكلف في بعض الأحيان فهذا التكلف يمكن التخلص منه شيئاً فشيئاً، وكلما كانت المعلومة مشاعةً بين المسلمين، ويثقون بها، ويتفقون عليها كانت أقوى من معلومة قد يقع فيها خلاف وجدال كثير، فلا نخشى قضية التكلف فنجعلها دائماً عقبة في عدم البحث والنظر في آيات القرآن.

تنوع استهلال السور

قال رحمه الله: [ ولما كان بين أسلوب السور وأسلوب أمثلة الملوك مناسبة تامة روعي في الابتداء والانتهاء طريق المكاتيب كما يبتدءون في بعض المكاتيب بحمد الله عز وجل، والبعض الآخر ببيان غرض الإملاء، والبعض الآخر باسم المرسل والمرسل إليه، ومنها ما يكون رقعةً صغيرة بغير عنوان، وبعضها يكون مطولاً، وبعضها مختصراً، وكذلك سبحانه وتعالى صدر بعض السور بالحمد والتسبيح، وبعضها ببيان غرض الإملاء، كما قال عز وجل: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2].

وقال تعالى: سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا [النور:1]، وهذا القسم يشبه ما يكتب: هذا ما صالح عليه فلان وفلان، وهذا ما أوصى به فلان، وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم في واقعة الحديبية: ( هذا ما قاضى عليه محمد صلى الله عليه وسلم )، وبعضها يذكر المرسل والمرسل إليه كما قال تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الزمر:1].

وقال: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود:1]، وهذا القسم يشبه ما يكتبون، صدر الحكم من حضرة الخلافة، أو يكتبون هذا إعلام لسكنة البلدة الفلانية من حضرة الخلافة.

وقد كتب صلى الله عليه وسلم: ( من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم ).

وبعضها على أسلوب الرقاع والشقق بغير عنوان كما قال عز وجل: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ [المنافقون:1].

وقوله: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا [المجادلة:1].

وقوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ [التحريم:1] ].

سبق التنبيه على قوله: إن أسلوبها مثلما الأسلوب في الفرامين، وقلنا: إن هذا فيه نظر؛ لأن الأمر مختلف جداً، فهي مقايسة بين أمرين مختلفين.

قال رحمه الله: [ ولما كانت القصائد في فصاحة الكلام أبرز شهرة عند العرب، وكان من عاداتهم في مبدأ القصائد التشبيب بذكر مواضع عجيبة ].

ما يصلح هذا؛ لأن التشبيب شيء، وذكر المواضع شيء، في نسخة (وكان بدء القصائد بالتشبيب وبذكر المواضع العجيبة).

قال رحمه الله: [ وكان من عاداتهم في مبدأ القصائد التشبيب وذكر مواضع عجيبة، ووقائع هائلة، اختار الله عز وجل هذا الأسلوب في بعض السور كما قال تعالى: وَالصَّافَّاتِ صَفّاً * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً [الصافات:1-2]. وقال: وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً * فَالْحَامِلاتِ وِقْراً [الذاريات:1-2].

وقال: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ [التكوير:1-2] ].

هذا أيضاً نفس القضية السابقة؛ لأن هذا غير لازم، فالقصيدة ومبناها غير السورة ومبناها، فليس هناك نوع من تقارب؛ وأنا استغرب من المؤلف رحمه الله تعالى كيف يجعل كلام الله سبحانه وتعالى أو طريقة القرآن مثل طريقة عمل هؤلاء، أهذا الذي يأتي من غير نظام يكون مقايساً بمن كلامه سبحانه وتعالى كله حكمة ومبني على الحكمة؟ هذا مشكل من هذه الجهة، فأنا أرى المؤلف رحمه الله تعالى قد قصر في هذا، ولو لم يربط الموضوع بفرامين السلاطين، وبقصائد العرب في هذا لكان أولى.

أسلوب ختم السور

قال رحمه الله: [ وكما كانوا يختمون المكاتيب بجوامع الكلم ونوادر الوصايا، وتأكيد الأحكام السابقة، وتهديد من يخالفها، كذلك الله سبحانه ختم أواخر السور بجوامع الكلم، ومنابع الحكم والتأكيد البليغ، والتهديد العظيم، وقد يصدر في أثناء السور الكلام البليغ العظيم الفائدة، البديع الأسلوب بنوع من الحمد والتسبيح، أو بنوع من بيان النعم والمنن، كما صدر بيان التباين بين مرتبة الخالق والمخلوق بـ قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى أَاللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ [النمل:59]، ثم بين هذا المدعى في خمس آيات بأبلغ وجه وأبدع أسلوب، كما صدر مخاصمة بني إسرائيل في أثناء سورة البقرة بـ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا [البقرة:40]، ثم ختمها بهذه الكلمة أيضاً، وابتداء المخاصمة بهذا الكلام، وإنهاؤها به محل عظيم في البلاغة، وكذلك صدر مخاصمة أهل الكتابين في آل عمران بآية: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19] ليتصور محل النزاع، وتوارد القيل والقال على ذلك المدعى، والله أعلم بحقيقة الحال ].

هنا نفس القضية ما نحتاج نحن إلى مثل هذا.

إذاً عندما نريد أن ندرس أسلوب ترتيب الموضوعات في القرآن فالأصل أن ندرسه دراسة مستقلة، أما بعض القضايا التي قد يشترك فيها القرآن مع كلام البشر في قضية الأساليب فهذه ممكنة، وسبق أن نبهنا عليها، وأن الأصل أن كل أسلوب في القرآن فهو عربي، وليس كل أسلوب عربي في القرآن.

والمثال الذي ذكره من أساليب العرب في قضية رد العجز على الصدر، كقوله تعالى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [البقرة:40]، في بداية القصة، ثم رد عليها في عجزها في قوله: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي [البقرة:40]، فهذا مما يسمى عند البلاغيين: برد العجز على الصدر، وهذا قد يرد في القصص، وقد يرد أيضاً في السور.

الفصل الثاني: الأوزان في السور

الفرق بين الآيات والأبيات

قال رحمه الله: [ الفصل الثاني: الأوزان في السور.

قد جرت سنة الله عز وجل في أكثر السور بتقسيمها إلى الآيات كما كانوا يقسمون القصائد إلى الأبيات، وغاية الأمر أن بين الآيات والأبيات فرقاً كل منهما ينشد تلذذ نفس المتكلم والسامع، إلا أن الأبيات مقيدة بالعروض والقافية التي دونها الخليل بن أحمد ، وحفظها الشعراء، وبناء الآيات على وزن وقافية إجماليين يشبهان أمراً طبيعياً، لا على أفاعيل العروضيين، وتفاعيلهم وقوافيهم المعينة التي هي أمر صناعي واصطلاحي، وتنقيح ما وقع من الأمر المشترك بين الأبيات والآيات، (وتطلق النشائد بإزاء ذلك الأمر العام)، ثم ضبط أمور وقع في الآيات التزامها، وذلك بمنزلة الفصل يحتاج إلى تفصيل، والله ولي التوفيق ].

هو يتكلم عن قضية أوزان الآيات، ويربطها بقضية أوزان الشعر، ونبه هنا المترجم الذي هو سلمان الندوي إلى عبارة أنه قال: (استعملنا للإلماح إليه كلمة النشيد)، أن يستخدم النشيد والإنشاد للتعبير عن الأوزان والقافية، سواءً كانت في القرآن أو كانت في الشعر.

وسنلاحظ أن القرآن لو تأملناه لم يأت على أسلوب العرب في الأوزان، لا في أوزان خطبهم، ولا في أوزان سجع كهانهم، ولا في أوزان شعرهم، بل أتى بنضم بديع يعرفون أنه عربي لكن لا يمكن أن يعملوا على غراره، فهذا الأسلوب أسلوب بديع، ولهذا لم يقل أحد منهم: إن هذا الأسلوب الذي جاء في القرآن ليس بعربي، والملاحظ أن في الآيات التنبيه الكثير لهم على أنه قرآن عربي، وأنه نزل بلغتهم، ومع ذلك لم يرد عنهم أنهم اعترضوا على كونه أسلوباً عربياً، وبنظم عربي.

قال: [ تفصيل هذه الإجمال: أن الفطرة السليمة تدرك في القصائد الموزونة المقفاة، والأراجيز الرائقة، وأمثالها نطقاً وحلاوةً بالذوق ].

السر في توافق أجزاء الكلام

قال رحمه الله: [ وإذا تأملت سبب إدراك اللطف المذكور، فلكون ورود كلام بعض أجزائه يوافق بعضها، مفيداً اللذة في نفس المخاطب مع انتظار مثله، حتى إذا وقع في نفسه بيت آخر بتوافق الأجزاء المعلوم، وتحقق الأمر المنتظر تضاعفت اللذة عنده فحسب، كأن البيتين بينهما اشتراك في القافية، فتضاعفت اللذة ثالثة، فالالتذاذ بالأبيات بهذا السر فطرة قديمة للناس والأمزجة السليمة من أهل الأقاليم المعتدلة، متفقة على ذلك، ثم وقعت في توافق الأجزاء من كل بيت، وفي شرط القافية المشتركة بين الأبيات مذاهب مختلفة، ورسوم متباينة، فهذه الرسوم والمذاهب المختلفة أمر جامع، وإذا تأملنا سراً منتشراً وجدنا الموافقة أمراً تخمينياً لا غير.

مثلاً يذكر العرب مقام مستفعلن، مفاعلن، ومفتعلن، ويعدون مقام فعلاتن وفاعلاتن على القاعدة، ويجعلون موافقة ضرب بيت بضرب بيت آخر، وموافقة عروض بيت لعروض بيت آخر من المهمات، ويجوزون في الحشو كثيراً من الزحافات، بخلاف شعراء الفرس، فإن الزحافات عندهم مستهجنة، وكذلك تستحسن العرب إن كانت القافية في بيت (قبوراً) أن يكون في بيت آخر (منيراً) بخلاف شعراء العجم ].

وفي نسخة أخرى (في بيت (قبوراً)، وفي البيت الآخر: (كبيراً) بالعكس من الشعراء العجم).

قال رحمه الله: [ وكذلك شعراء العرب يعدون (حاصل) و (داخل) و (نازل )) من قسم واحد بخلاف شعراء العجم.

وكذلك وقوع كلمة في المصراعين بحيث يكون نصفها في مصراع، ونصفها الآخر في مصراع آخر، يصح عند العرب لا عند العجم، وبالجملة فإن موافقة الأمر المشترك موافقةً تخمينية، لا موافقةً حقيقية.

ومبنى أوزان الشعر عند الهند على عدد الحروف بغير ملاحظة الحركات والسكنات، وهو أيضاً مما يتلذذ به، وقد سمعنا بعض أهل البدو ممن يتلذذ بتغريداته يختارون كلاماً متوافقاً توافقاً تخمينياً برديف يكون تارةً كلمةً واحدة، وأخرى يزيد عليها، وينشدون في تغريداتهم مثل القصائد فيتلذذون بها، ولكل قوم أسلوب خاص في نظمهم، وعلى هذا القياس وقع اتفاق الأمم على التلذذ بألحان ونغمات، واختلافهم في رسوم التغريد والقواعد محقق، وقد استنبط اليونانيون أوزاناً سموها بالمقامات، واستخرجوا منها شعباً ودونوا لها فناً شديد التفصيل.

وأهل الهند تفطنوا لست نغمات، وفرعوا منها نغيمات، وقد رأينا أهل البدو تباعدوا عن هذين الاصطلاحين، وتفطنوا بحسب سليقتهم للتأليف والإيقاع، فهذبوا لهم أوزاناً معدودة، بغير ضبط الكليات وحصر الجزئيات، فإذا نظرنا بعد هذه الملاحظات إلى حكم الحذف لم نجد ها هنا مشتركاً سوى الموافقة التخمينية، ولا يتعلق تخمين العقل إلا بذلك المنتزع الإجمالي لا بتفصيل القوافي المردفة الموصلة، ولا يحب الذوق السليم إلا تلك الحلاوة المحضة لا الطويل والمديد من البحور.

لما أراد حضرة الخلاق جل شأنه أن يكلم الإنسان الذي هو قبضة من التراب نظر إلى ذلك الحسن الإجمالي لا إلى قوالب مستحسنة عند قوم دون قوم، ولما أراد مالك الملك أن يتكلم على منهج الآدميين ضبط ذلك الأصل البسيط لا هذه القوانين المتغيرة بتغير الأدوار والأطوار، ومنشأ التمسك بالقوانين المصطلح عليها هو العجز والجهل، وتحصيل الحسن الإجمالي بلا توسط تلك القواعد بحيث لا يفوت في الأغوار والأنجاد من البيان شيء، ولا يضيع في كل سهل وجبل من الكلام معجز مفحم، وأنا أنتزع هنا من جريان الحق سبحانه وتعالى على ذلك السنن أصلاً وأنتقل إلى قاعدة، وتلك القاعدة أنه اعتبر في أكثر السور امتداد الصوت لا الطويل والمديد من البحور مثلاً، واعتبر في الفواصل انقطاع النفس بالمدة، وما تعتمد عليه المدة، لا قواعد فن القوافي.

وهذه الكلمة أيضاً تقتضي بسطاً، فاستمع لما أقول: تردد النفس في قصبة العنق من جبلة الإنسان، وإن كان تطويل النفس وتقصيره من مقدور البشر، لكن إذا خلي وطبعه فلا بد من امتداد محدود فيحصل في أول خروج النفس نشاط، ثم يضمحل ذلك النشاط تدريجاً حتى ينقطع في آخر الأمر، فيحتاج إلى إعادة نفس جديد، وهذا الامتداد أمر محدود بحد مبهم، ومقدر بمقدار منتشر لا يتجاوز الثلث والربع من ذلك الحد، ويسع ذلك اختلاف عدد الأوتاد والأسباب، وتقدم بعض الأركان على بعض، فجعل للامتداد النفسي وزناً معلوماً، وقسم ذلك على ثلاثة أقسام: طويل، ومتوسط، وقصير، أما الطويل فنحو سورة النساء، وأما المتوسط فنحو سورة الأعراف والأنعام، وأما القصير فنحو سورة الشعراء، وسورة الدخان، وتمام النفس يعتمد على مدة معتمدة على حرف قافية متسعة يوافقها ذوق الطبع ويتلذذ من إعادتها مرةً بعد أخرى، وإن كانت المدة في موضع ألفاً، وفي موضع آخر واواً أو ياءً، وسواء كان ذلك الحرف الأخير باءً في موضع وجيماً، أو قافاً في موضع آخر ].

وفي نسخة (فاءً أو ميماً أو قافاً).

قال رحمه الله: [ فيعلمون ومؤمنين ومستقيم متوافقة، و(خروج) و(مريج) و(تحيد) و(نار) و (فواق) و (عجاب) كلها على قاعدة.

وكذلك لحوق الألف في آخر الكلام قافية متسعة في إعادتها لذة، وإن كان حرف الروي مختلفاً فيقولون في موضع: (كريماً) وفي موضع آخر: (حديثاً) وفي موضع ثالث: (بصيراً)، فإن التزم في هذه السورة موافقة الروي كان من قبيل التزام ما لا يلزم، كما وقع في أوائل سورة مريم، وسورة الفرقان، وكذلك توافق الآيات بحرف مثل الميم في سورة القتال، والنون في سورة الرحمان يفيد لذةً كما لا يخفى ].

كل هذا الكلام مرتبط بالصوتيات وبالذوق، فإذا اجتمع مع هذه الصوتيات حسن في الأداء، وحسن في الاستماع فإنه يحصل الإنسجام مع القراءة.

علاقة هذا المبحث بعلم الصوتيات ورجوعه إلى الذوق

الكلام الذي ذكره المؤلف هنا فيه بحوث كثيرة: في مسألة الصوتيات المرتبطة بالقرآن، وكيفية مباني السور، فعلى سبيل المثال لو جئنا إلى سورة النساء وسورة الفرقان فإن المؤلف تكلم على الألف، مثل: (نذيراً)، (عليماً)، (خبيراً)، (حكيماً) وسورة النساء مدنية، وسورة الفرقان مكية، ففيه تشابه حيث أن اعتماد هذا الصوت عند علماء الصوتيات -الذي يكون فيه نوع من الامتداد- يقولون: إن فيه نوعاً من إراحة للسامع وكذلك للقارئ، ويحاولون أن يبحثوا بأعمق مما ذكره المؤلف فيبحثوا العلاقة بين هذه الصوتيات، وبين النفس وهي تسمع هذا الكلام.

والملاحظ أننا عند سماع مثل: (تعلمون)، (تبصرون)، نجد أن فيها انقطاعاً، لأن الوقوف على كلمة ينقطع فيها النفس وينتهي، بخلاف (عليماً) (حكيماً)، فإذا صار في مثل هذه واواً أو ياءاً أو ألفاً فإنك تجد فيها نوعاً من أخذ النفس وبسطه بحيث يريح السامع ويريح القارئ.

فهذه كلها وغيرها تجد أن علماء الصوتيات حاولوا بحثها وربطها بالقضايا النفسية المرتبطة بالإنسان، فلو قرأت: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:1-4]، وقارنتها بسورة البلد: لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ [البلد:1-2]، فستجد نوعاً من التقارب سواءً في المقاطع، أو في الختم. فهذه بحوث تدخل في باب الملح والذوقيات، ولا يمكن إثباتها يقيناً، كما أنه لا يمكن نفيها نفياً مطلقاً، وقد يكون منها شيء كثير صحيحاً، وقد يكون منها شيء كثير ليس بصحيح، على حسب ما يبحثه علماء الصوتيات.

لكن إذا دخلنا في باب الذوق فالأذواق مختلفة، ولهذا تجد أن كثيراً من الناس لا يطربون للشعر، ولا للمقفيات، وقد يطربون لشيء أقل من ذلك؛ لأن هذا مرتبط بثقافة الإنسان وذوقه وحساسيته.

والخلاصة في ذلك أن ما ذكره المؤلف رحمه الله تعالى في كل هذا الفصل راجع إلى قضايا ذوقية لا يمكن ضبطها أو وزنها بمعيار دقيق، ولكي نعرف الفرق بينهما فقوله: أَمْرٍ مَرِيجٍ [ق:5]، (مريج) مخلتط، فمادة (مرج) بمعنى خلط، فهذه نستطيع أن نقيسها، نرجع إلى كتب اللغة ونقيسها.

لكن حين أذكر لك مثل هذه القضايا الصوتية التي ذكر المؤلف بعضها فهذه لا يمكن قياسها وضبطها؛ لأن مرجعها الذوق، والذوق يختلف من شخص إلى آخر.

مراعاة الفواصل في أواخر السور

قال رحمه الله: [ وكذلك إعادة جملة بعد طائفة تفيد لذةً، كما وقع في سورة الشعراء، وسورة القمر، وسورة الرحمن، وسورة المرسلات، وقد تخالف فواصل آخر السورة أولها؛ لتقريب ذهن السامع، وللإشعار بلطافة ذلك الملاذ مثل (إداً) و(هداً) في آخر سورة مريم ].

مراده أنها تختلف فواصل آخر السورة؛ تنشيطاً للسامع.

قال رحمه الله: [ ومثل (سلاماً) و(كراماً) في آخر سورة الفرقان.

و(طين) و(ساجدين) و(ينظرون) في آخر سورة ص.

مع أن أوائل هذه السورة مبنية على فاصلة أخرى كما لا يخفى، فجعل الوزن والقافية المذكوران في أكثر السور من المهمات إن كان اللفظ الأخير من الآية صالحاً للقافية فيها، وإلا وصل بجملة فيها بيان آلاء الله، أو تنبيه للمخاطب كقوله: (وهو الحكيم الخبير)، (وكان الله عليماً حكيماً)، (وكان الله بما تعلمون خبيراً)، (لعلكم تتقون)، (إن في ذلك لذكرى لأولي الأباب)، (إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) ].

هذه فائدة جميلة وهي أنه حينما تأتي الآية على موضوع معين ثم تختم بمثل هذه الخواتم التي يكون فيها نوع من موافقة للفواصل من جهة، وموافقة للمعاني من جهة أخرى، فهذا يمكن أن يبحث ويقاس؛ لأنه مرتبط بجملة المعاني، والمعاني يمكن قياسها، فكأنه يقال: جيء بهذه الفاصلة لفائدتين: لأن تتوافق مع الفواصل، ولأن تؤدي المعنى المرتبط بالآية.

قال رحمه الله: [ وقد أطنب في مثل هذه المواضع أحياناً مثل (فاسأل به خبيراً)، ويستعمل التقديم والتأخير مرةً، والقلب والزيادة أخرى، مثل (إلياسين) في إلياس، (وطور سينين) في سيناء ].

مراد المؤلف أن التقديم والتأخير أو القلب والزيادة لمراعاة الفواصل.

وهنا أيضاً فائدة وهي أن مراعاة الفواصل من مهمات البيلغ، لكن القاعدة في القرآن أن الفاصلة إذا أتت فلا تكون على حساب المعنى، بل تكون تبعاً للمعنى، فيكون هناك تكامل بين الأداء من جهة الفاصلة وبين المعنى من جهة معنى الآية، بخلاف سجع الكهان أو غيرهم فإنك تجده يأتي بالفاصلة أي: بالسجع لأجل السجع وليس لأجل المعنى، فقد يأتي بكلام لا معنى له؛ لأجل السجع لا غير، وهذا فارق شاسع بين القرآن وبين غيره من كلام البشر؛ لأنه كلام الخبير سبحانه وتعالى.

قال رحمه الله: [ وليعلم هاهنا أن انسجام الكلام وسهولته على اللسان لكونه مثلاً سائراً، أو لتكرار ذكره في الآية ربما يجعل الكلام الطويل موزوناً مع الكلام القصير، وقد تكون الفقر الأولى أقصر من الفقر التالية، وهو يفيد عذوبةً في الكلام، مثل قوله تعالى: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ [الحاقة:30-32]، كأن المتكلم يقدر في مثل هذا الكلام أن الفقرة الأولى والثانية من حيث المجموع في كفة، والثانية وحدها في كفة، وربما تكون الآية ذات قوائم ثلاث نحو: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ [آل عمران:106] الآية، وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ[آل عمران:107]، الآية، والعامة يصلون الأول بالثاني، فيحسبون الآية طويلة، وقد تجيء في آية الفاصلتان كما يكون في البيت أيضاً مثل ذلك، كقول الشاعر:

الزهر في ترف والبدر في شرفوالبحر في كرم والدهر في همم

وقد تكون الآية أطول من سائر الآيات، والسر هاهنا أنه إذا جعل حسن الكلام الناشئ من تقارب الوزن ووجدان الأمر المنتظر وهو القافية في كفة، وجعل حسن الكلام الناشئ من سهولة الأداء، وموافقة طبع الكلام، وعدم لحوق التغيير فيه في كفة أخرى، ترجح الفطرة السليمة جانب المعنى، فيترك أحد الانتظارين مهملاً، ويوفى الحق في الانتظار الثاني، وإنما قلنا في صدر المبحث: قد جرت سنة الله عز وجل على هذا في آخر السور؛ لأنه ما ظهرت في بعض السور رعاية هذا القسم من الوزن والقافية، فوقعت طائفة من الكلام على نهج خطب الخطباء، وأمثال أهل النكت، ألم تسمع مسامرة النساء المروية عن سيدتنا عائشة رضي الله عنها، فانظر في قوافيها، وفي بعض السور وقع الكلام على منهج كتب العرب بلا رعاية شيء ].

وفي نسخة: (بعض رسائل العرب) وهي أصح من كتب.

قال رحمه الله: [ كمحاورة بعض الناس لبعض، إلا أنه يختم كل كلامه بشيء يكون مبنياً على الاختتام، والسر ها هنا أن الأصل في لغة العرب الوقف في موضع ينتهي عليه النفس، ويفنى نشاط الكلام، والمستحسن في محل الوقف في انتهاء النفس على المدة، هذا هو الوجه في ظهور صورة الآيات، هذا ما فتح الله على الفقير، والله أعلم ].

عموماً هذا الباب كله داخل في باب الذوقيات، ولهذا أذكر أن الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى في إحدى الآيات أشار إلى خلاف بين بعض البلغاء في آية، فنبه على أن مثل هذه القضايا مرجعها الذوق، ولذا قد يعترض البلاغي على البلاغي في مثل هذه الأمور، وكما أشرت سابقاً إلى أنه ليس فيها ما يمكن أن يرجع إليه، ويكون قانوناً عاماً، لكن القانون الأعم هو أن القرآن في كل هذا في الدرجة العليا من الفصاحة في نظمه، وفي لغته، وفي سلاستها، لكن الإنسان إذا أراد أن يقول مثلاً: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ [الحاقة:30-31]، فقد يخرج بمجموع حروف هذه الآيات بأشياء كثيرة جداً، قد ينضبط شيء كثير منها، وفي كثير لا ينضبط. ولهذا المؤلف استدرك على نفسه في النهاية في أن ما قاله وقعده في هذه الأمور لا ينضبط في بعض السور بل هو أغلبي، فنقول: إن هذا الباب يجب أن يكون فيه نوع من المسامحة.

ومعرفة هذا الباب يدخل في الملح، وليس في متين العلم؛ لعدم انضباطه.

الأسئلة

الموقف من الأسئلة الافتراضية

السؤال: هذا سائل يقول: لو وجدنا آية منسوخة واستفدنا منها فوائد كثيرة، فهل نستعملها أو نتركها بدون استعمال؟

الجواب: هذا سؤال افتراضي، وأنا أريد أن أفيدكم علمياً وهو أن السؤال الافتراضي الذي لا مثال عليه في العلم لا تجيب عليه؛ لأنك قد تجيب وتكون الأمثلة خلافه، وقد تجيب ولا يكون له مثال أصلاً، فلذا الأخ يقول لنا: هذه الآية منسوخة، وأنا استفدت منها كذا وكذا، هل هذه الفائدة صحيحة أو لا؟ نقول: هذه الطريق الأمثل فيها ما ذكرت سابقاً، وهي عدم الإجابة؛ لأنا لسنا في مقام مجادلة ومناقضة في قضايا علمية، فالقضايا العلمية إذا لم يكن لها أمثلة فلا تفترض، ترتاح وتريح أيضاً.

من ملح ابن القيم التي أوردها في كتاب الطرق الحكمية

هذا من كتاب الطرق الحكمية لـابن القيم ، قال: الفصل الثاني في قضايا بالفراسة أو الأمارات، قال رحمه الله: (وقضى -أي علي رضي الله عنه- في مولود ولد له رأسان وصدران في حقو واحد، فقالوا له: أيورث ميراث اثنين أم ميراث واحد؟ فقال: يترك حتى ينام ثم يصاح به فإذا انتبها جميعاً كان له ميراث واحد، وإذا انتبه واحد وبقي الآخر كان له ميراث اثنين.

فإن قيل: فكيف يتزوج من ولد كذلك؟ قلت: هذه المسألة لم أر لها ذكراً في كتب الفقهاء، وقد قال أبو جميلة : رأيت بفارس امرأة لها رأسان وصدران في حقو واحد متزوجة، تغار هذه على هذه، وهذه على هذه).

سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.

نسخ المصحف وطرقه وبواعثه

قال رحمه الله: [ واستنسخ عثمان رضي الله عنه من ذلك المصحف مصاحف أرسل بها إلى الآفاق، ليستفيدوا منها ولا يميلوا إلى ترتيب آخر ].

إذاً الرسول صلى الله عليه وسلم كان المصحف في عهده مفرقاً، فـأبو بكر جمع المتفرق، و عثمان فرق المجتمع الذي كان في مصحف أبي بكر لأنه في عهد أبي بكر تعددت نسخ المصحف، فعمل الصحابة في عهد عثمان اللجنة التي كونها عثمان، وكان عملها الاستنساخ من مصحف أبي بكر ، ولو لم يكن هذا هو المراد من مصحف أبي بكر لما طلبه عثمان للاستنساخ منه، ولجمعه مرةً أخرى مما في أيدي الصحابة على الطريقة الأولى التي جمعها أبو بكر.

فهذه فائدة مهمة ينبغي التنبه لها وهي أنه قد وقع الإجماع على ما جمعه أبو بكر ، ولو كان هناك اعتراض أو مخالفة لفعل أبي بكر لوردتنا هذه المخالفة، فلم يخالف أحد في جمع أبي بكر ، و عثمان اعتمد على هذا المجموع الذي أجمع عليه، وفرق المصاحف، ولن ندخل في التفاصيل؛ لأنها تطول وقد سبق أن شرحتها في دروس أخرى، لكن أريد أن تنتبهوا لها؛ لأنه قد يقع خلط كثير فيها، و عثمان لما فرق هذا المجموع في المصاحف الصحابة كان لهم طرائق ولم تكن طريقة واحدة، بمعنى أنه إذا وردت أكثر من قراءة في لفظة ما وزعوها على المصاحف، وإذا كانت اللفظة تحتمل أكثر من قراءة كتبوها كما هي؛ لأنه لا يحتمل غيرها، وأحياناً قد يكون لها أكثر من قراءة ولكنهم يعمدون إلى ضبطها برسم واحد، فلم يكن لهم طريقة واحدة.

ومن طرقهم أن يذكروا وجه الاختلاف في موطن، والمواطن الأخرى تكون على رسم آخر، ونذكر أمثلة لتوزيع القراءات مثل: (أوصى)، (ووصى)، (وسابقوا)، (سابقوا)، (وسارعوا)، (سارعوا)، (تجري تحتها)، (تجري من تحتها)، وهذه الأمثلة المشهورة، إذاً في مصحف كذا، وفي مصحف كذا.

النوع الثاني: الذي يكتب ويقرأ بأكثر من رواية، فيكتب برسم واحد، ويقرأ بأكثر من وجه مثل (الصراط)، كتب بالصاد، ويقرأ بالصاد وبالسين وكتب بالصاد زائدة، ومثله أيضاً (بضنين) كتب بالضاد، ويقرأ بالظاء، لكنه وجه واحد في جميع المصاحف اتفقت على رسم واحد، الذي يكتب في موطن ويمكن أن يقرأ في مواطن أخرى بنفس الموطن، وفي المواطن الأخرى يكتب برسم آخر مثل إبراهيم كتب في سورة البقرة إبراهام، وفي بقية القرآن كتب إبراهيم.

فالرسم مقامه بعد القراءة، بمعنى أن القراءة قاضية على الرسم، فالأصل القراءة والرسم تبع، فالمسلمون لم يكونوا ينطلقون من المكتوب للمقروء، وإنما كان الأصل عندهم المقروء وحاولوا ضبطه بالمكتوب.

ولا يوجد كلمة في المصاحف المتفق عليها تقرأ وليست مرسومة. ولا يوجد كلمة مرسومة ولا تقرأ، فالمصحف حفظ وضبط بالرسم، فالرسم هو مجرد حفظ للمقروء، وليس أصلاً، والدليل على ذلك دليل عقلي تاريخي، وأحب أن أنبه إلى أن من أخطائنا العقلية في التفكير أننا حينما نناقش بعض القضايا العلمية نناقشها على ما استقر عندنا، وليس على ما هي هي في تاريخها، في عهد أبي بكر الصديق و عمر و عثمان كم تتصورون عدد المصاحف التي كانت في أيدي جمهور الصحابة؟ مائة مائتان، فهي قليلة، إذاً المعتمد هو المحفوظ عن طريق القراءة، ولما كتب عثمان المصاحف كتبه في عام خمس وعشرين، والإسلام قد انتشر في الأقطار، ولنفترض افتراضاً جدلاً أن عدد المسلمين مائة ألف وقد يكون أكثر، فعدد المصاحف بالنسبة لهؤلاء المائة ألف، لا نتصور أن كل واحد من المائة ألف معه مصحف بل لو نظرت قبل مائة سنة فستجد أن كثيراً من المسلمين ما كان عنده مصحف.

الخلاصة أن الأصل في ضبط القرآن عند المسلمين هو من خلال المقروء المحفوظ وليس من خلال المرسوم. فكانوا يسمعونه ويحفظونه، واستطردت في هذه المسألة؛ لأن بعض من لا خلاق له رأيته في أحد البرامج يأتي بنصراني حاقد جداً، ويأتي ببعض الصور من رسوم المصاحف القديمة، ويقول بلهجته المصرية: (إزاي حيقرأ المسلم الكلام هذا؟)، وهذا يدل على غبائه، لكن مع الأسف أن مثل هذا الكلام ينتقل إلى من لا يدرك مثل هذه الحقائق فيظنها شبهاً، أو تكون في ضمن حقائقه وهي في الحقيقة شبهة، فيقال له: من قال لك: إن كل المسلمين يعتمدون على هذا الأسلوب، فليس هذا هو الأصل إنما المحفوظ فقط هو الأصل لضبط المقروء، ومن باب الرد على هذا المغرض نقول له: نفس القضية ستقال لك في خطوط الإنجيل، وفي خطوط التوراة، وفي أسفار بني إسرائيل كلها، ونحن نستغرب من الصينيين حين يقرءون كتابتهم؛ لأننا لا نعرفها، ولو كنا نعرف لقرأنا، فكل قوم أعرف بقراءة خطوطهم.

المثبت والملغي من الأحرف السبعة في مصحف عثمان

وفي نظري أن عثمان رضي الله عنه أثبت الخلاف المتواتر، وهي الوجوه الصحيحة التي بقيت وثبتت من الأحرف السبعة التي قرأ بها الرسول صلى الله عليه وسلم في العرضة الأخيرة و أبو بكر و عمر لم يقع منهم إلزام بالقراءة بما ثبت بالمصحف عندهم، ولكن في عهد عثمان لما كثر الخلاف وقع الإلزام، وألغيت جميع القراءات والأحرف التي نسخت في العرضة الأخيرة، ولم يتدخل لا عثمان ولا غير عثمان في إلغاء كلمة واحدة مما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في العرضة الأخيرة، ولا يجوز لمسلم كائناً من كان أن يحذف حرفاً واحداً، فكيف بأن يحذف وجهاً قرائياً من وجوه القرآن؟ وهذا يجب أن ننتبه له، فإنه لم يقع من عثمان حذف ولا نسخ ولا ترك، وإنما ترك ما ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد تركه بأمر من ربه في العرضة الأخيرة، ولهذا فالموجود عندنا نقول فيه: إن هذه الوجوه هي ما بقي من الأحرف السبعة التي قرأ بها الرسول صلى الله عليه وسلم.

القراءة التي جمع أبو بكر القرآن عليها

وما دام قلنا: إنه كتب في عهد أبي بكر ، هل كتب بقراءة (تجري تحتها الأنهار)، أو (تجري من تحتها الأنهار)، هنا لا أستطيع لا أنا ولا أنت أن نثبت هل كتبها كذا أو كذا، لكننا نجزم يقيناً أنه رسمها على وجه يبقى فيه المقروء محفوظاً ثابتاً كتبها بـ (تجري تحتها)، وكتب في حاشية (من تحتها) أو بجوارها الله أعلم كيف كان، و عثمان ألزم بالقراءة، بما ثبت وتواتر عندهم، أما أبو بكر فلم يلزم بالقراءة.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , التعليق على كتاب الفوز الكبير في أصول التفسير [5] للشيخ : مساعد الطيار

https://audio.islamweb.net