إسلام ويب

من عظم الصلاة في الإسلام أنه جعل لها شرائط مخصوصة لا تؤدى إلا بها، ولا تصح إلا بفعلها، ومن هذه الشرائط اجتناب النجاسة حال الصلاة، ومنها استقبال القبلة، إلا أنه خفف على المسافر إذا صلى على راحلته، واختلفوا كذلك في الماشي والراجح عدم اللزوم.

أحوال النجاسات في الصلاة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وأصحابه أجمعين.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب اجتناب النجاسات، وهو الشرط الرابع، فمتى لاقى ببدنه أو ثوبه نجاسة غير معفو عنها، أو حملها لم تصح صلاته ].

قوله: (باب اجتناب النجاسات، وهو الشرط الرابع) أي: أن اجتناب النجاسة من شروط صحة الصلاة، وهذا الذي عليه جمهور الفقهاء، وهو الصحيح من مذهب الإمام أحمد أن اجتناب النجاسة شرط لصحة الصلاة، وله دلائل من السنة، وكذلك في مجمل القرآن، وهو في السنة أكثر بياناً وتفصيلاً، ومن مجمل القرآن قول الله تعالى: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر:4]، فهذا من المجمل الذي استدل به، لكنه مفصل في السنة، ومنه منع الحائض من دخول المسجد.

والذي عليه الجمهور في هذه المسألة هو الراجح من أن اجتناب النجاسة شرط لصحة الصلاة.

ملامسة النجاسة أو حملها

قوله: (فمتى لاقى ببدنه أو ثوبه نجاسةً غير معفو عنها أو حملها لم تصح صلاته) أي: مس بدنه نجاسة، أو كذلك ثوبه الذي هو ستر عورته، أو ما كان من الزينة الذي هو فوق ستر العورة، فإذا كان في ثوبه الذي يصلي فيه أو في بدنه نجاسة غير معفو عنها، وخرجت هنا النجاسة المعفو عنها في المذهب، كيسير الدم النجس من الحيوان الطاهر في الحياة، ومورد العفو من النجاسة فيه بعض الخلاف في بعض موارده، وهنا قال: (لم تصح صلاته) لعدم توفر الشرط.

الصلاة في الأرض النجسة بعد تطيينها أو جعل البساط عليها

قال المصنف رحمه الله: [ وإن طيّن الأرض النجسة أو بسط عليها شيئاً طاهراً، صحت صلاته مع الكراهة ].

وهذا في أحد القولين وهو الراجح من مذهب الإمام أحمد، إذا كانت الأرض نجسة فطينها، أي: وضع عليها طيناً، ومثله إذا بسط عليها بساطاً طاهراً، فصلاته صحيحة، وهذا هو الراجح في المذهب، والقول الثاني: أن الصلاة لا تصح. ومنهم من فرق بين أن يطينها بشيء رطب يتصل وينقل، وبشيء يابس، يعني: بين أن يكون رطباً وبين أن يكون يابساً، ومن فرق على هذا الوجه بين الرطب واليابس أراد ما كان من الرطب لا يعلم به الاتصال، وأما ما يعلم به من الرطب الاتصال والنقل فهذا لا يختلف في أنه لا يفيد، ولا يصحح، وإنما إذا كان رطباً لا يعلم به الاتصال، أما إذا كان رطباً صفيقاً يعلم به النقل والاتصال فهذا بالإجماع أنه لا يكون مؤثراً على أصل الحكم، وإنما المقصود هنا الرطب الذي لا يعلم به الاتصال.

فالخلاصة أنه في هذه المسألة قولان للفقهاء، وهما روايتان عن الإمام أحمد ، وهو أن تطين الأرض النجسة أو بسط البساط فوق الأرض النجسة يفيد، وتصح الصلاة عليها، والرواية الثانية عن أحمد وهو قول للفقهاء: أنه لا يفيد ولا تصح عليها الصلاة، والأظهر في هذه المسألة أنه بحسب مجانبته ومباينة النجاسة، فإذا كان بالطين وبالبساط يحصل انفكاك عن النجاسة كفى ذلك، وأما إذا كان لا ينفك عنها، أو يغلب على الظن ذلك، فالأصل أن المحل نجس.

الصلاة على بساط طرفه نجس

قال المصنف رحمه الله: [ وإن صلى على مكان طاهر من بساط طرفه نجس، صحت صلاته، إلا أن يكون متعلقاً به، بحيث ينجر معه إذا مشى فلا تصح ].

إذا كان طرف الغرفة فيها نجاسة، فصلاته في مقدمها لا يؤثر، ولو كان البساط واحداً، وهذا إذا كان البساط كبيراً، وأما إذا كان هو محل صلاته كالبسط الصغيرة التي تكفي لمحل الصلاة، فهذا إذا كان في طرفه نجاسة، ولو لم يطأها لم يصح، لكن مقصودهم هنا إذا كان الطرف واسعاً.

العلم بالنجاسة بعد الصلاة

قال المصنف رحمه الله: [ ومتى وجد عليه نجاسة لا يعلم هل كانت في الصلاة أو لا فصلاته صحيحة ].

وذلك لأن الأصل الطهارة، فإذا بان في ثوبه نجاسة بعد الصلاة، ولا يعلم هل هذه النجاسة كانت معه في الصلاة أم أنها طرأت عليه، فإذا لم يعلم فصلاته صحيحة؛ لأن الأصل براءة الثوب من النجاسة، واليقين لا يزول بالشك من هذا الوجه.

الصلاة في الثوب النجس جهلاً أو نسياناً

قال المصنف رحمه الله: [ وإن علم أنها كانت فيها لكنه نسيها أو جهلها فعلى روايتين ].

أي: على روايتين عن الإمام أحمد، وهما قولان للفقهاء: هل تصح صلاته أو لا تصح؟ والراجح في المذهب أن الصلاة لا تصح إذا جهل النجاسة أو نسيها، وقد تيقن أنها كانت في الصلاة، وهذا الفرق بين المسألتين، والرواية الثانية عن الإمام أحمد: أنه إذا جهل النجاسة أو نسيها، وفرغ من صلاته فتصح صلاته ولا يلزمه الإعادة. وهذه الرواية عليها كثير من متأخري الأصحاب، وهي اختيار الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله.

والخلاف في هذه المسألة بين أهل العلم مشهور، لكن الجمهور على أن الصلاة لا تصح، وأن النسيان والجهل يفيدان العفو كما في كتاب الله، وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن العفو هنا عن الإثم، وليس في تصحيح الفعل، كما في قول الله جل وعلا: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]، فليس المقصود بترك المؤاخذة: تصحيح الأفعال باطراد، فهذا لا يطرد بالإجماع، بدليل وجود بعض الأمثلة المتفق عليها إجماعاً، كمن نسي الطهارة المائية، فبالإجماع أنه يعيد الصلاة، وإن كانت الآية لا ترفع هذا الحكم، ولكن المقصود أنها لا تطرد بإثباته الذي هو تصحيح الأفعال، وبعضهم صحح ذلك.

ومما احتجوا به حديث أبي سعيد المخرج في السنن في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في نعليه، حين أخبره جبريل أن فيهما أذى فألقاهما، فدل على أنه وقت دخوله في الصلاة لم تكن نعليه على طهارة، ومع ذلك بنى النبي صلى الله عليه وسلم على ما مضى من صلاته، ولو كانت الصلاة لا تصح مع النسيان ما صح ابتداؤها، وهذا مبني على ثبوت مقدمات، منها: هل هذا الأذى الذي ذكر كان من النجاسة، أم أنه أذىً دون ذلك؟ كذلك لا يليق بإمام الأنبياء والرسل أن يصلي بنعلين فيهما أذى يجتنب مثله في الصلاة، ولو لم يكن نجاسةً، وإنما دون النجاسة من الأذى يجتنب في الصلاة، وإن كانت الصلاة فيه تكون مكروهة، فقالوا: هذا ينبني على هذه المقدمة: هل هذا الأذى المسمى هو كذلك أو دون ذلك؟ وأن الله قد نزه نبيه عن هذا، وهل يسوى بين من انفك عن النجاسة في أثناء الصلاة وبين من أتمها؟

هذا محل تفريق، وإن كان التفريق من هذين الوجهين أيضاً ليس بيناً، فقد يقال: إنه ما اجتنب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وأوحى الله إلى نبيه بواسطة جبريل ذلك إلا لكون هذا من النجاسة، فحديث أبي سعيد المقصود منه التنبيه، وذكر المقدمتين وما يرد عليهما من أن حديث أبي سعيد ليس صريحاً في تصحيح الفعل، وهو من الأحاديث المحتملة في الاستدلال.

والخلاف في هذه المسألة قوي، وليس هناك مثال من الشريعة انضبط بنص صريح أو إجماع يمكن الإلحاق عليه؛ لأن بعض أهل العلم من المتأخرين قالوا: هذا من باب الترك، بخلاف الطهارة المائية فهي من باب الأمر، ثم قالوا: ما كان من باب الترك يصح مع النسيان، بخلاف ما كان من باب الأمر، فهذا ليس له اطراد في حقيقة الحال، وهذه ليست قاعدة، بحيث أن الناظر ابتداءً يسبق إلى الاستدلال بالمسألة ويقول: تصح صلاته؛ لأن هذا من باب الترك، فهذه القاعدة أو المناط أو الضابط يحتاج إلى استدلال وتصحيح، بخلاف ما لو قلت: إنه إن وجد في ثوبه نجاسة بعد الصلاة ولا يعلم هل هي في الصلاة أو بعدها فصلاته صحيحة؛ لأن اليقين لا يزول بالشك، فأنت هنا تستدل بقاعدة مستقرة تصلح أن تكون دليلاً، بخلاف ما إذا قلت: إن هذا من باب الترك، فهذا تعليل يحتاج إلى استدلال، وهذه ليست قاعدة مسلمة ومطردة، وإن كان البعض قد حاول أن يجعلها كذلك، لكنها دون ذلك.

وقد سبق الإشارة إلى أن الاستدلال والترجيح في مثل هذه المسائل يسع فيه الاحتياط، وسبق الإشارة إلى أن فقه الاحتياط ليس يصح تعطيله على الإطلاق، وإذا نظرنا في فقه الصحابة وجدنا أنهم يعتبرون بفقه الاحتياط تارة، لكن متى يكون تغليب الاحتياط مشكلاً على فقه الفقيه؟ إذا غلب عليه حتى صار ينهي المسائل باسم الأحوط، فهذا ليس من الفقه، وهذا الذي قال فيه سفيان الثوري رحمه الله: إنما الفقه أن تسمع بالرخصة من الثقة، وأما التشديد فيحسنه كل أحد. فمن غلب على فقهه المنع ولزوم الإعادة، وعدم التصحيح باعتبار الاحتياط، فليس هذا هو الفقه الصحيح بلا شك، لكن من التفت إلى أحوال من الفقه، وأبواب من الفقه، ورتب المسائل على ما تقتضيه عناية الشريعة بها، ونظر إلى المسائل باعتبار أصولها، أي: ما هو الأصل في هذا الباب، وما هو الأصل في هذا الباب، فخفف في هذا المحل، واحتاط في هذا المحل، فمثل هذا الالتفات إذا وقع على فقه دقيق فهو التفات حسن، وهذا هو الذي يفسر ما نقل عن بعض المتقدمين من الاحتياط.

أما إذا غلب الاحتياط على عقل الناظر فهذا ليس فقهاً.

ومثله إذا غلب التخفيف بمعنى أخف القولين، فهذا ليس فقهاً أيضاً، وإن كان الدين يسراً، لكن ليس المقصود من كون الدين يسراً أن يتبع الناظر أو المقلد أخف القولين، فهذا ليس هو اليسر بمعناه الشرعي، إنما يسر بمعناه النفسي، بمعنى: أيسر للنفس في ذوقها المجرد، لكن الدين يسر بمعنى: أن الأحكام فيها تيسير، وإن كانت بعض النفوس قد تألف هذا الحكم أو لا تألفه، فهذا لعلة في تلك النفوس، ففرق بين الحالين، فما تهواه النفس ليس هو التيسير المحمود، ولهذا ما جعله الله وصفاً للمؤمنين، بل جعله وصفاً للمشركين: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ[النجم:23].

صلاة من جبر عظمه بعظم نجس

الملقي: [ وإذا جبر ساقه بعظم نجس فجبر، لم يلزمه قلعه إذا خاف الضرر، وإن لم يخف لزمه قلعه ].

قوله: (إذا جبر ساقه بعظم نجس) وهذا مبني عندهم على أن الميتة وهي: كل ما لا تحله الذكاة فهو ميتة، فإن عظمه نجس، وهذا محل خلاف بين الفقهاء، وفي مذهب الإمام أبي حنيفة أن عظم الميتة طاهر، فهم يقولون في مذهب الإمام أحمد : (إذا جبر ساقه)، أي: جبر الآدمي ساقه بعظم نجس فجبر، هل يلزمه قلعه؟ قال: إذا خاف الضرر لم يلزمه وتصح صلاته، ولا يتيمم، ولا يزيد عن حاله؛ لأن هذا أصبح من ضرورته.

قال: (وإن لم يخف لزمه قلعه)، وعليه ابتداءً هل يقصد إليه أو لا يقصد؟ الظاهر من كلامهم أنه إن كان له غنية عنه لم يفعله ابتداءً، لكن إن كانت الضرورة به فعله، ومثله لو خالف وعنده غنية عنه وفعله، فإن هذا نادر الوقوع الآن، يعني: كل هذا الكلام من نوادر الأحوال، أو ربما معدوم الأحوال، لكن إن خالف وفعله فمخالفته حكم تكليفي يأثم بها، لكنها لا تؤثر على الصحة إذا خشي الضرر أو خاف الضرر بقلعه.

وهنا تنبيه يحسن لطالب العلم أن يكون على علم به، وهو أن بعض الفروع الفقهية التي يسميها الفقهاء من الفقه التقديري قد تقع في زمنهم، أو تكون محتملة الوقوع، ونحن لا ندري عن أحوال الطب، هل الأطباء يقرون هذا الأمر أنه يقع أو لا يقع؟ لكن الشاهد أنه لو فرض أن مثل هذه الصورة لا تقع طباً، ولا يصح أن يكون هذا مما يستطال به على الفقهاء، وأنهم يذكرون أحكاماً لا وقوع لها؛ لأن مثل هذا التأصيل كما يقال: يثري عقلية الفقيه؛ لأن المسألة هنا ليست في صورة المسألة أن عظم ميتة ألحق بآدمي، والتصوير الفقهي أن نجساً ورد على محل طاهر وهناك ضرر في إزالته، وهذا يتعدى إلى صور أخرى، ولهذا يقتبس من كلام الفقهاء في النوازل المعاصرة، فإذا أراد الباحث أن يبحث نازلة معاصرة فإنه ينظر في النصوص ابتداءً، وفي قواعد الشريعة، ومن المعلوم أن كل نازلة ترد إلى الكتاب والسنة، لكن كيف يستبين فقهها من النص؟ فهو يبحث عن نظائر لها، فقد تكون هذه النظائر أحياناً في بعض هذا الذي قد يكون من الفقه الافتراضي.

ولذلك عندما يقول الفقهاء: إذا كاتب السيد عبده، أو بايع عبده، أو بايع مكاتبه هل الربا يجري بين السيد وعبده؟ هل الربا يجري بين السيد ومكاتبه الذي كاتبه على العتق؟ قد يقول قائل: الآن هذا موجود في كتب الفقهاء، مع أنه أصبح لا عبداً ولا سيداً له، ولكن نقول: هذا يستفاد منه، فإنه قد جاءت بعض الوقائع المعاصرة الآن شبيهة بذلك فأحياناً بعض المؤسسات المالية تنشئ شركات تابعة لها؛ لمقتضيات إجرائية لا بد لهم منها، فينشئون شركات تابعة، وهذه الشركات التابعة في حقيقتها مملوكة للمؤسسة السابقة، لكن يجعلون لها ما يسمى الذمة المالية المستقلة، وشخصية اعتبارية مستقلة، وتجد أنها مملوكة بخمسة وتسعين بالمائة أو أكثر للمؤسسة الأولى أو للجهة الأولى، وهؤلاء الآن بهذا الشكل من حيث الجانب الإجرائي يقولون: لها ذمة مالية مستقلة ولها شخصية اعتبارية، ولكنك عندما تنظر في النسبة (98%) مملوكة لهم، وهم المنشئون لها وهم الذين يملكونها، فهل يجري بينهما الربا؟ كذلك لو تعامل الإنسان مع نفسه، ألا يقال: هذا ربا مع عدم وجود طرفين؟ هذا ماله وهذا ماله، هل يجري بينهما الربا؟

هنا في البحوث المعاصرة كنازلة ما هناك انفصال كشركتين متباينتين، أو شخصيات متباينة، هناك شبه من الاتصال وشبه من الانفصال، وهي كنازلة غير منصوصة في أحكام المعاملات المالية على مثال مطابق لها أو فرع مطابق لها، وحينئذٍ يأتي الاستعانة بمثل هذه الصور، فبعضهم ينظر إليها من باب السيد ومكاتبه، وما قاله الفقهاء من جريان الربا بين السيد ومكاتبه.

فالمقصود: أن ما قرره الفقهاء رحمهم الله من المسائل لا شك أنها من البحث العلمي المحقق، ولا يقول: إن هذا من تطويل الفقه والدخول في فروع لا وجود لها إلا الجهال، ولذلك أحياناً يأتي بعض الجهال ليكتب مقالاً فيجد مثل هذه العبارات التي تسمع في بعض المجالس، فيبدأ يقول: إن هذه الكتب طويلة ونحن نحتاج إلى فقه جديد، ولو قلت له: عرف الفقه لما استطاع، ولو قلت له: ما هي أدلة الفقه؟ لم تجده يحفظ أدلة الفقه، ولو قلت له: عرف الاستحسان مثلاً؟ لا يعرف ما هو الاستحسان ولو تقول له: ما هي المصلحة المرسلة؟ كذلك لا يعرف ما هي المصلحة المرسلة، ويقول: نريد فقهاً جديداً مثلاً، أو في أوصاف الأقوال، كالتشدد مثلاً يقول: المذهب الحنبلي مذهب متشدد، ولو قلت له: ماذا تعرف من كتب المذهب الحنبلي، ماذا قرأت من كتب المذهب الحنبلي؟ لا تجده مطلعاً، بل ليس في واد العلم أصلاً، إنما هو في واد آخر، إما في تخصص آخر، أو في وادي ثقافة عامة كما يقال، وليس له اتصال بدقائق العلم، وعلى كل حال فهذه علوم مؤصلة كما هو معلوم، فالشاهد أن ما يذكره الفقهاء هو مما يستفاد منه في مسائل الإلحاق في النوازل، فيبحث عن الأشباه، فهذه تقرب طريقة الاستدلال من النص, وإلا فأنت في الأخير لا تحتاج إلى أن تلحق بالسيد وعبده، أنت تحتاج إلى النص أكثر، وهو المرجع هنا، لكن مسائل الإلحاق لهذه المثالات تقويها وتبينها.

إرجاع عظم السن بعد سقوطه

قال المصنف رحمه الله: [ وإن سقطت سنه فأعادها بحرارتها فثبتت فهي طاهرة، وعنه: أنها نجسة، حكمها حكم العظم النجس إذا جبر به ساقه ].

هذا على روايتين، والراجح الأول.

الأماكن التي لا تصح الصلاة فيها

قال المصنف رحمه الله: [ ولا تصح الصلاة في المقبرة والحمام، والحش، وأعطان الإبل وهي: التي تقيم فيها وتأوي إليها، والموضع المغصوب. وعنه تصح مع التحريم ].

في هذه المسألة المقصود الأماكن غير النجسة.

أقوال العلماء في الصلاة في هذه الأماكن

وهذه المسألة فيها أربعة أقوال للفقهاء:

القول الأول: أن الصلاة فيها لا تصح.

والقول الثاني: أن الصلاة فيها تصح مع التحريم.

والقول الثالث: أن الصلاة فيها مكروهة وليست محرمة.

والقول الرابع: أن الصلاة فيها صحيحة، والمشهور في مذهب الإمام أحمد القول الأول والثاني: التحريم، ولكن هل هذا التحريم يقتضي الحكم الوضعي؟ أو ما يضاف عند أكثر الأصوليين إلى الحكم الوضعي وهو البطلان؟ هذا هو المشهور عند أكثر الأصحاب، والرواية الثانية عن الإمام أحمد : أنها تصح مع التحريم، وثمة قول بالكراهة، وهذا أيضاً قول في مذهب الإمام أحمد . والأظهر في هذه المسألة أنها بين القولين الثاني والثالث، أما القول: بأنها لا تصح فهذا بعيد؛ لأنه لم يرد في السنة أو الكتاب ما يدل على بطلان الصلاة، والأصل ما جاء في العمومات: ( جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً )، والقول بعدم صحتها فيما يظهر قول فيه بعد، وإطلاق القول بالصحة في عبادة بمعنى أن هذا يجوز من غير كراهة هذا فيه بعد، وهو على خلاف العمل، عمل السلف الأول وفي زمن النبوة، أما حديث ( نهى عن الصلاة في سبعة مواضع ) فهذا لا يصح، لكن بعض هذه الأماكن ورد فيها أحاديث صحاح كأعطان الإبل: ( أنصلي في مبارك الإبل؟ قال: لا )، فالمسألة الأظهر فيها ليس القول الأول ولا القول الرابع، وإنما هو من باب المنع، لكن هل هذا المنع للتحريم أم للكراهة؟ هذا محتمل، والأشبه أنه للكراهة وليس للتحريم؛ لأنه لو وقع تحريماً لا تصل به شرطا للصلاة.

الصلاة في المجزرة والمزبلة وقارعة الطريق

قال المصنف رحمه الله: [ وقال بعض أصحابنا: حكم المجزرة والمزبلة، وقارعة الطريق، وأسطحتها كذلك ].

قوله: (وقال بعض أصحابنا) أي: من الحنابلة: (حكم المجزرة، والمزبلة، وقارعة الطريق، وأسطحتها كذلك) وهذا على أحد القولين في المذهب، والراجح في أصل المسألة ما سبق، وهو أن هذا من باب التحريم ومن باب الكراهة، وليس من باب البطلان.

الصلاة إلى الأماكن المنهي عن الصلاة فيها

قال المصنف رحمه الله: [ وتصح الصلاة إليها إلا المقبرة، والحش في قول ابن حامد ].

قوله: (وتصح الصلاة إليها) أي: تكون في القبلة إلا المقبرة فلا تستقبل، وكذلك الحش.

الصلاة في جوف الكعبة وعلى ظهرها

قال المصنف رحمه الله: [ ولا تصح الفريضة في الكعبة ولا على ظهرها ].

وهذا في أحد القولين، والرواية الثانية عن الإمام أحمد : الصحة، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة، لكن كان هذا نافلة.

أحكام استقبال القبلة في الصلاة

قال المصنف رحمه الله: [باب استقبال القبلة: وهو الشرط الخامس لصحة الصلاة].

لقول الله جل وعلا: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ[البقرة:144].

الأحوال التي لا يجب فيها استقبال القبلة للصلاة

ثم قال: [ إلا في حال العجز عنه، والنافلة على الراحلة في السفر الطويل والقصير ].

من عجز عن استقبال القبلة؛ لمرض أو نحو ذلك فما تمكن، أو تحريكه يؤدي إلى مضاعفة عليه، فهذا يصلي ولو إلى غير القبلة.

وكذلك النافلة على الراحلة في السفر الطويل والقصير، هذا على ما جاءت به السنة من أن الصلاة إذا كانت نافلة تصح في السفر على الراحلة، قبل أي وجه توجه به، لكن هل يجب أن يبتدئ الصلاة إلى الكعبة ثم يدع الراحلة؟ الذي جاء في حديث أنس ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على الراحلة قبل أي وجه توجه به، غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة )، والراجح أنه لا يلزمه أن يبتدئ الصلاة إلى القبلة، لكن لو تمكن من ذلك لكان أولى.

صلاة النافلة في السفر للماشي

قال المصنف رحمه الله: [ وهل يجوز التنفل للماشي؟ على روايتين. وإن أمكنه افتتاح الصلاة إلى القبلة فهل يلزمه ذلك؟ على روايتين ].

أي: كذلك على روايتين، وسبق أن الراجح أن هذا لا يلزم؛ لأن ما ثبت في الصحيح في حديث أنس ليس فيه ذكر ذلك.

وكذلك الماشي في سفره، هل هذا للراكب وليس للماشي، فهذا على روايتين: الرواية الأولى عن الإمام أحمد أن كل مسافر ولو كان ماشياً يصلي، والرواية الثانية: أن هذا خاص بالراكب، وكذلك الآن في السيارات، وهذه من السنن التي قل فعلها عند الناس، وينبغي أن يبين ذلك للناس، وهو أنه يشرع لهم الصلاة في حال سفرهم بالطائرات والسيارات ونحوها، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على الراحلة.

كيفية استقبال القبلة للقريب والبعيد عنها

قال المصنف رحمه الله: [ والفرض في القبلة إصابة العين لمن قرب منها، وإصابة الجهة لمن بعد عنها ].

قوله: (والفرض في القبلة إصابة العين) أي: من كان داخل المسجد الحرام لا بد أن يصيب عين الكعبة، وأما إذا كان خارجاً عن ذلك فإنه يصيب الجهة إذا كان بعيداً عن الكعبة، ولذلك أحياناً بعض الناس في الحرم لا يبالي، فتجد أنه يصلي كأشبه ما يكون بالمصلي إلى جهة، والكعبة أمامه، فهذا من التفريط الذي لا يصح.

الطرق التي تعرف بها جهة القبلة

قال: [ فإن أمكنه ذلك بخبر ثقة عن يقين، أو استدلال بمحاريب المسلمين لزمه العمل به ].

قوله: (بخبر ثقة عن يقين) أي: لو كان الشخص نزل بلداً فقال له مسلم من أهل تلك البلد: إن القبلة هذه جهتها، فهذا لا يجوز أن يخالفه، حتى لو كان هو عنده اجتهاد آخر؛ لأن هذا ثقة عالم ولا يحتمل كلامه الخطأ. ومثله إذا وجدت محاريب المسلمين في المساجد، فهذا أيضاً لا يجوز له أن يدعها باجتهاد، ولا يجوز له الاجتهاد مع اليقين.

قال: [ وإن وجد محاريب لا يعلم: هل هي للمسلمين أو لا، لم يلتفت إليها ].

قوله: (لم يلتفت إليها) لاحتمال ألا تكون قبلة المسلمين.

اشتباه القبلة في السفر

قال المصنف رحمه الله: [ وإن اشتبهت عليه في السفر اجتهد في طلبها بالدلائل، وأثبتها القطب، فإذا جعله وراء ظهره كان مستقبلاً القبلة ].

يجتهد بالدلائل، ومن الدلائل: النجوم، والشمس والقمر، ومنازل الشمس والقمر، لكن هذا ليس كل أحد يعرفه، والنجوم أيضاً أحوال؛ لأن القبلة لا تطرد إلى جهة واحدة كما هو بدهي، قد تكون القبلة على جهة المغرب، وقد تكون على خلاف ذلك.

قال: [ والشمس والقمر ومنازلهما، وما يقترن بها، ويقاربها كلها تطلع من المشرق، وتغرب في المغرب عن يمين المصلي ].

وهذا مما ينبغي للناس أن يتعلموه، بأن يهتدوا بالشمس والقمر على القبلة، ويهتدوا ببعض النجوم على القبلة.

الاستدلال بالرياح على القبلة

قال المصنف رحمه الله: [ والرياح الجنوب تهب مستقبلة لبطن كتف المصلي اليسرى مارة إلى يمينه، والشمال مقابلتها تهب إلى مهب الجنوب، والدبور تهب مستقبلة شطر وجه المصلي الأيمن، والصبا مقابلتها تهب إلى مهبها ].

الرياح فيها خلاف بين الفقهاء، هل هي من العلامات والأمارات التي يستدل بها؟ على قولين للفقهاء. فالمشهور عند أكثر الحنابلة أن هذا مما يستدل به لمن كان عارفاً بها، والراجح: أن هذا لا يستعمل؛ لأن الغلط فيه غالب، فهي أمارة لا يفقهها كثير من الناس، بخلاف الأمارات المشاهدة، فالشمس تطلع من جهة المشرق، وهذه أمارة مشاهدة لا يختلف الناس عليها؛ لأنها مرتبطة بحاسة البصر، وأما الرياح فكونه يميز هذا من الجنوب وهذا من الشمال، وهذه دبور، وهذه كذا، فهذا لا يطرد؛ ولذلك الآن أغلب الناس لا يميز حركة الرياح، فهذا يقع فيه وهم كثير، ولذلك الراجح أنه لا يستعمل، وخاصة في هذا العصر؛ لأنه تحول الناس إلى حياتهم المدنية وتعلقهم أكثر بأنظمتها، فأصبح هذا ليس من المعارف المبينة أصلاً، أو المتداولة بكثرة.

اختلاف الاجتهاد في تحديد القبلة

قال المصنف رحمه الله: [ وإذا اختلف اجتهاد رجلين لم يتبع أحدهما صاحبه، ويتبع الجاهل والأعمى أوثقهما في نفسه ].

هذا الراجح، أنه لا يسوغ فيه التقليد، إذا اختلف رجلان في القبلة كما لو سافر شخصان، ثم اختلفا في القبلة، وكلاهما ذو نظر، فلا يقلد أحدهما الآخر، بل يصلي كل واحد وحده، أما لو كان أحدهما لا علم له، أو يقول: لا أدري، فيجوز له أن يقلد من اجتهد، ومثله الأعمى.

صلاة الأعمى والبصير في الحضر إلى غير القبلة

قال المصنف رحمه الله: [ وإذا صلى البصير في حضر فأخطأ، أو صلى الأعمى بلا دليل أعاد ].

(إذا صلى البصير في حضر) يعني: وليس في سفر، فأخطأ، فإنه يعيد الصلاة، ومثله الأعمى بلا دليل.

قال: [ فإن لم يجد الأعمى من يقلده صلى، وفي الإعادة وجهان ].

أي: إذا لم يجد من يستدل به اجتهد وصلى، وهو لا اجتهاد له في الحقيقة لكنه يصلي، ولا إعادة في أصح الوجهين.

قال: [ وقال ابن حامد : إن أخطأ أعاد، وإن أصاب فعلى وجهين ].

جاء عن أبي عبد الله بن حامد الوجهين في الإصابة.

صلاة من أخطأ القبلة بعد اجتهاد

قال المصنف رحمه الله: [ ومن صلى بالاجتهاد ثم علم أنه أخطأ القبلة فلا إعادة عليه ].

وهذا الذي عليه الجماهير؛ لحديث عامر بن ربيعة ، ولكن هذا فيه فقه قد يفوت على بعض الناس، وهو أن مذهب الجمهور من الفقهاء وهو الراجح، يقولون فيمن صلى بالاجتهاد، والاجتهاد هنا لا يسمى اجتهاداً إلا إذا كان في محل يسوغ فيه الاجتهاد، وفعل صفة الاجتهاد، فإذا ورد الاجتهاد على محل يسوغ فيه، وحصل الاجتهاد من حيث هو فعل، تحصل هذا الحكم، وهو أنه إن أخطأ لا يعيد، أما إذا لم يقع الاجتهاد أصلاً، وإنما هو تخرص. هل القبلة هنا أو القبلة هنا؟ قال: لا، ربما أن القبلة الظاهر أنها هنا، فهذا لا يسمى اجتهاداً، لأن الاجتهاد فيه معنى النظر في الأمارات ونحوها، فلا بد لوقوع هذا الحكم الذي هو قولهم: (إن من صلى بالاجتهاد لا يعيد)، لا بد من وقوع الاجتهاد، وليس التخرص، وقد سبق الإشارة إلى ذكر بعض علامات الاستدلال على جهة القبلة، كالشمس والقمر والنجوم إلى آخره، ومثله لو استعمل الآن البوصلة أو نحوها، فلو استعملها لمعرفة القبلة فوقع خطأ في ترتيبها أو تقديرها، فهذا يعد من الاجتهاد أيضاً، فالحكم لا بد فيه من الاجتهاد، وأن يكون كذلك ورد على محل يصح فيه الاجتهاد، ومعنى ذلك: أن يكون في محل كالسفر يصح فيه الاجتهاد، أو في حضر لا يمكنه الخروج ومعرفة القبلة لخوف ونحوه، فهذا هو المقصود.

إذاً لابد أولاً من وقوع الاجتهاد، أما إذا جاء واجتهد بمعنى تخرص، وهو بين المسلمين، والمساجد موجودة، والمكان الذي هو ساكن فيه يستطيع أن يتصل، فيسأل غيره عن اتجاه القبلة، فما فعل شيئاً من ذلك، وإنما ظن القبلة على هذا الاتجاه وصلى، فهذا ليس من الاجتهاد الشرعي، ولا ورد الاجتهاد على محل يصح فيه الاجتهاد وعنده ثقات، والفقهاء يقولون: إن وجد ثقة وجب عليه العمل بقوله، والثقة هنا هو المسلم.

وهذا من المسلمات عند المسلمين، فلا يوجد مسلم يسأل عن القبلة مهما كان عاصياً أو فاسقاً أو فاجراً، فيجيب بجهة مغايرة للقبلة، هذا لا يقع، فالمقصود أن بعض الناس لا يفقه هذه المسألة، يقول: هكذا يقول الأئمة الأربعة، يقولون: إن من صلى باجتهادٍ فبان خطؤه لم تلزمه الإعادة، لكن لا بد من وقوع قدر من الاجتهاد، كاستعمال الآلات المهيأة لذلك كالبوصلة ونحوها، أي: أنه نوع من الاجتهاد المعتبر، ولا يلزم أنه يستنفد كل طرق الاجتهاد؛ لأنه قد لا يتمكن منها، فقد تكون الشمس والقمر والنجوم ليس دونها غيم، والمقصود أنه يستعمل وجهاً معتبراً من الاجتهاد.

وثانياً: أن يكون ورد على محل يصح فيه الاجتهاد، فهذا إن صلى إلى غير القبلة، مثل أن يكون في بلد أجنبي أهله غير مسلمين، فيسألهم وهم لا يعرفون الصلاة ولا يعرفون القبلة، ولم يستطع أن يعرف بشمس أو قمر أو نجوم؛ لوجود الغيم مثلاً، فالحال مغلقة عليه، فاجتهد هنا فصلى؛ فصلاته صحيحة. أما إذا ورد الفعل على غير محل الاجتهاد، أو لم يجتهد فصلاته غير صحيحة، وهذا هو الفرق بين المسألتين وهو أن بينهما مسألة فيها تردد من جهة النظر، واحتمال من جهة النظر، وهي: إذا جاء لبلد مثلاً ليس من بلاد المسلمين، وسكن في فندق ولم يستطع أن يعرف، وليس ثمة ما يستدل به لوجود غيم ونحوه، فما اجتهد، يعني: ما عنده آلة للاجتهاد أو مناط يعتمده في الاجتهاد، أي: لا معه آلة كبوصلة ونحوها، ولا عنده إمكان لنظر النجوم ونحوه لوجود الغيم، فصلى تقديراً فبان خطؤه، ومعنى (صلى تقديراً) يعني: أقرب ما يميل إليه أنه من هذه الجهة، لكن ما بني على مناط، إنما بني على شبه تقدير، فهل يعيد أو لا يعيد؟ هذا محل احتمال والله أعلم.

وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , كتاب الصلاة [6] للشيخ : يوسف الغفيص

https://audio.islamweb.net