إسلام ويب

بعد أن بين الله صنف المنافقين، وذكر صفاتهم يضرب لهم مثالين، يقرب بهما حالهم، فمثلهم كمثل الذي استوقد ناراً لكن عندما أضاءت ذهب الله بنورهم. ومثلهم كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق، كلما أضاء لهم مشوا فيه، وإذا أظلم عليهم وقفوا، فهذا حالهم من الحيرة والتخبط، فهم لا يستفيدون من نور المؤمنين الذين يخالطونهم ليلاً ونهاراً.

تفسير قوله تعالى: (مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً ...) إلى قوله: (صم بكم عمي فهم لا يرجعون)

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال الله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:17-20].

سبق أن ذكر الله المتقين, ثم ذكر الكفار ظاهراً وباطناً, ثم ذكر النوع الثالث, وهم الكفار في باطنهم لكنهم أظهروا الإسلام والإيمان في الظاهر, وهم المنافقون الذين قال الله فيهم: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145] .

ويقصد بالمنافقين هنا النفاق الأكبر الذي هو كفر بإجماع أهل العلم, فلما ذكر الله صفتهم: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] , بين انتفاء الإيمان عنهم مطلقاً. ‏

ثم ذكر مثلهم بما لم يذكر هذا المثل في الكفار من قبلهم؛ تنبيهاً على فساد وتنوع أحوالهم, فقال: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا )), أي: كرجل استوقد ناراً, فَلَمَّا )), أوقد هذه النار أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ )), ثم ذَهَبَ )) نور هذه النار وسناها وانطفأت فصار متخبطاً.

فما يصيبهم من أثر مصاحبتهم المؤمنين هو عارض من هذا النور, ولكنه لا يفيدهم؛ لأنهم ينفكون عن هذا العارض إلى خاصة نفوسهم وخاصة أحوالهم التي هي الأصل فيهم, فما يعرضون فيه مع المسلمين فإنه عارض, والغالب عليهم في أحوالهم كما هو الأصل في نفوسهم عدم ذلك, فهذا معنى هذا المثل الذي جعله الله مثلاً لهم بقوله: مَثَلُهُمْ [البقرة:17] أي: المنافقين, كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا [البقرة:17] .

والمثل هو: ترتيب عقلي في الخطاب, والأمثال المضروبة في القرآن هي أقيسة عقلية؛ ولهذا من قال: إن القرآن دليل خبري محض مبني على صدق المخبر وليس فيه خطاب عقلي فهذا خطأ, كما بين ذلك الإمام ابن تيمية رحمه الله بأوجه مفصلة في هذا. وأن القرآن بين من البراهين العقلية ما يكون محققاً وجامعاً لإيمان المؤمنين, ودافعاً لشبهات الملحدين.

قوله: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [البقرة:17] : بيان أن ضلالهم هو بقضاء الله, وأن الله جل وعلا بما استعملوه من النفاق في نفوسهم صرف قلوبهم عن الهدى, وهم يجالسون النبي صلى الله عليه وسلم, ويسمعون القرآن, ويقفون في الصف خلفه تارة, وإن كانوا لا يحافظون على الصلاة, فإنه لا يحافظ على الصلاة منافق. فلا يحافظ على الصلاة إلا مؤمن, ولا يحافظ على الصيام إلا مؤمن ( ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن ) كما في حديث ثوبان .

فهم يصلون تارة ولكن الصلاة ثقيلة عليهم, وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ [التوبة:54] كما في كتاب الله, إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ [التوبة:54] . فهذه أحوالهم. فصرف الله ذلك عنهم, وهذا معنى قوله: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [البقرة:17] , ولم يقل: ذهب نورهم؛ لبيان أن ما صار من ضلالهم فهو بقضاء الله.

وإن قيل: فلم ذكر ذلك قضاء لله سبحانه وتعالى مع أنه بفعلهم؟

قيل: هذا تنبيه على عقوبتهم, فقوله: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [البقرة:17] ولم يقل: ذهب نورهم, قال: (ذهب الله), وجعل الاستيقاد منهم, قال: كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا [البقرة:17] مثلهم, فذكر هذا المثل, قال: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [البقرة:17].

وذكر فعل الرب جل وعلا (ذهب الله) تنبيهاً على عقوبتهم, وهذا أصل مستقر في الشريعة أن كل من قامت عليه الحجة الرسالية فعاندها وأصر واستكبر فإن الله يعاقبه في الدنيا ويعاقبه في الآخرة من الكفار. وأما الذين هم تحت مشيئة الله من العصاة, فرحمة الله سبحانه وتعالى سبقت وغلبت غضبه في عباده المؤمنين وفي عصاة الموحدين, وأما الكفار فإنهم يئسوا من رحمة الله.

فمن قامت عليه الحجة الرسالية فعاندها واستكبر وأصر على هذا الاستكبار فإن الله يعاقبه في الدنيا والآخرة, أما في الآخرة فإنهم متوعدون بنار جهنم, كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ [الأحزاب:64] , ويدخل مع الكافرين المنافق النفاق الأكبر, إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [الأحزاب:64-65], إلى آخر الآيات.

وأما في الدنيا فإن قوم نوح لما أصروا وعاندوا واستكبروا استكباراً عاقبهم الله بالطوفان, وعاقب قوم فرعون بالغرق في اليم, وعاقب قوم صالح بالصيحة, وعاقب قوم عاد بالريح الصرصر في الأيام النحسات.

وأما المنافقون وبعض أجناس الكفار الذين قد يقول قائل: لم نر فيهم عقوبة, فيقال: إن العقوبة في اسم الشريعة لا تختص بحال من العذاب, فالعقوبة أوسع من العذاب، فأولئك عوقبوا لكن عقوبة أوسع.

ومن أوجه هذه العقوبة ما قضاه الله جل وعلا في المنافقين, فإنهم لما أصروا على نفاقهم عاقبهم الله جل وعلا بأن صرف قلوبهم عن الحق؛ كما قال جل وعلا: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف:146] , ومثله قوله تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة:18] . وقوله: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ [البقرة:7] فهذا عقوبة.

ولذلك لما ذكر الله المنافقين قال: فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ [التوبة:77] , فهذه هي عقوبتهم أن الله سبحانه وتعالى صرفهم عن الحق, وطبع على قلوبهم, وتركوا إلى أحوالهم وإلى تزيين الشيطان لهم, قال تعالى: فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ [التوبة:77] , فهذا مرتب في القرآن ترتيب العقوبة، فالعقوبة أعم من العذاب، وهذا معنى قوله: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [البقرة:17] , وإنما ذكر فعل الرب جل وعلا؛ لأنه محل العقوبة.

ولذلك قال الله تعالى: وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة:17-18] , أي: مثلهم كمثل الإنسان الأصم الأبكم الأعمى فإنه لا يستطيع فعلاً مناسباً في مثل هذه الحال من الظلمة.

تفسير قوله تعالى: (أو كصيب من السماء في ظلمات ورعد وبرق ...)

قال تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ [البقرة:19] , وهذا مثل آخر, فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ [البقرة:19] , فذكر الله كفرهم؛ ولم يقل في الآية هنا: والله محيط بالمنافقين؛ تنبيهاً على أن هذه هي حقيقتهم, وأن النفاق أحد أوجه الكفر؛ ولهذا ذكر في الآية نفاقهم وذكر كفرهم. فقال جل وعلا في الأولى: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] , وهنا قال: وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ [البقرة:19] .

تفسير قوله تعالى: (يكاد البرق يخطف أبصارهم ...)

قال تعالى: يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ [البقرة:20] , وهذا كناية أو تشبيه لحال تخبطهم؛ فإنهم كما قال الله في هذه الحال: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ [النساء:143] , فهذا الاضطراب الذي في نفوسهم وفي أحوالهم هو المقصود بهذا المثل.

ثم بين الله جل وعلا عاقبتهم في الدنيا وعاقبتهم في الآخرة من جهة كفرهم ووعيدهم.

نسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته أن يرزقنا الإيمان والإخلاص لوجهه الكريم, وأن ينصر دينه, وأن يعلي كلمته, وأن يجعلنا من أنصار دينه, وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة البقرة - الآيات [17-20] للشيخ : يوسف الغفيص

https://audio.islamweb.net