إسلام ويب

يفتتح الله عز وجل سورة البقرة بذكر أحوال الناس مع الدعوة إلى الله، وهنا يذكر صنف الكفار الذين علم الله أنهم لا يؤمنون، فقد ختم الله على قلوبهم كما جعل على أبصارهم غشاوة بسبب ضلالهم، فاستحقوا لذلك العذاب المهين.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون)

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6].

سبق أن هذه السورة ذكر الله في أوائلها أصناف الناس من بني آدم في دينهم, فذكر المتقين, ثم ذكر بعدهم الذين كفروا, أي: الذين كفروا ظاهراً وباطناً, فقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6] .

وليس معنى هذا أن ما يأتي به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الدعوة لا يكون محركاً للقلوب والعقول إلى الإيمان, ولكن هذا إخبار عما هم عليه من طبع الله على قلوبهم, فإن من بلغه الحق فكابره وعانده صار هذا من موجبات طبع الله على قلبه؛ كما قال الله جل وعلا: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف:146] , ولا تجد قدراً من إصابة الخير إلا وسببه البعد عن الكبر, ولا تجد قدراً من الشر إلا وسببه الكبر؛ ولذلك لما ذكر جل وعلا أهل الكتاب قال: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى [المائدة:82]، فلما ذكر حال هؤلاء من جهة المقاربة وهو قدر من الممايزة لما عليه اليهود والمشركين ذكر في ختام الآية: ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ [المائدة:82] . فتجد في كتاب الله أن الكبر هو سبب الضلال, وسبب نقص العلم, وسبب الانحراف عن الحق.

فالكفار لما عارضوا ما جاءهم به النبي صلى الله عليه وسلم بالمكابرة تارة، وبالإعراض تارة, أخبر الله جل وعلا أنه ختم على قلوبهم, ومثل هذا في المعنى قول الله جل وعلا: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ [إبراهيم:27] .

فاسم الظالمين يدل على أن هذا الإضلال الذي أصابهم كان بموجب فعلهم, وهو الظلم.

ولم يأت هنا الوصف أو الاسم على معنى يشترك فيه معهم غيرهم, بل صار مميزاً لهم وهو الظلم, فقال تعالى: وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27].

قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة:6] أي: أصروا على كفرهم ولم يستجيبوا للهدى والحق سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6] , فإن الله لا يوفق إلى الخير وإلى النور إلا من أقبل على ربه واستسلم له وقصد الخير فيه, أما من عاند وكابر فهذا من أسباب الحرمان, وهذا وقع للكفار في الأصول, وقد يعرض لبعض المسلمين فيما دون ذلك, فإن الكبر درجات.

ولذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ) , وكما في حديث عبد الله رضي الله تعالى عنه في الصحيح، قال: ( الكبر بطر الحق وغمط الناس ) . فرد الحق ولو كان يسيراً هذا هو أحد أوجه الكبر.

تفسير قوله تعالى: (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ...)

قال تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ [البقرة:7] , أي: بظلمهم لأنفسهم وعنادهم واستكبارهم (ختم الله على قلوبهم), وصاروا يظنون أنفسهم على شيء وليسوا على شيء.

وفي قوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [البقرة:7] وصف بديع, فإن القلوب لما كان المعنى فيها ليس حسياً ذكر الله ذلك على التمام؛ لأنها مستودع الإدراك, فلم يذكر فيها غشاوة بل ذكر فيها الختم, وهو أبلغ.

ولما ذكر الحسيات قال: وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [البقرة:7] , فإنهم يشاهدون حال النبي صلى الله عليه وسلم وتتحرك نفوسهم أحياناً لبعض الشواهد التي يأتي بها عليه الصلاة والسلام, لكن يمنعهم من ذلك هذه الأوجه من الاستكبار أو الإبقاء على ما كان عليه آباؤهم أو نحو ذلك، وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [البقرة:7] وهي: غشاوة الضلالة. فإن الحق الذي نزل من عند الله هو نور كما سماه الله في كتابه, والعقل والإدراك هو بمنزلة البصر, وهذا مثل شريف مناسب, فحيث كان العقل والإدراك مناسباً وفاعلاً, وحيث كان الإبصار حديداً صار الإدراك للشريعة والفهم لها أجل وأتم.

وحيث نقص مقام العقل والإدراك قل العلم وقل الفقه، وإن كانت الإرادة حسنة؛ ولهذا يكون بعض الصالحين قليل الفقه, وقليل المعرفة, وإن كانت حاله حسنة وإرادته حسنة.

ولكن من المعلوم أن الدين تمامه بالجمع بين العلم وحسن الإرادة, فمن فاته هذا فهو نقص ولا شك, وإن كان صاحبه صالحاً؛ لأن من أعظم ما يعبد الله جل وعلا به معرفته, فمعرفته من مقامات عبوديته, فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد:19] , فهذا أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بمقام من مقامات العبودية, وهو العلم.

وليس يصح أن يقال: إن العلم وسيلة إلى العمل كما يقوله بعض المتأخرين من أهل السلوك والأحوال، بل العلم في الشريعة مقصود لذاته.. بل العلم في كل أحوال بني آدم غاية بذاته, فتجد أن العلوم كلها في أحوال بني آدم هي غاية بذاتها, ومقصودة لذاتها, وإن لم تكن شرعية.

ثم قال: وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:7] , هذا وعيد للكفار, وهو أحد أوجه الوعيد التي جاءت فيهم, والله جل وعلا يذكر وعيدهم على أوجه: فيذكر العذاب العظيم تارة, ويذكر العذاب الأليم تارة, ويذكر العذاب الأكبر تارة, ويذكر العذاب المهين تارة.

مع أن بعض أوجه العذاب إنما جاءت في الكفار دون غيرهم؛ ولهذا لما ذكر الله من يؤذي نبيه والمؤمنين؛ قال: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا [الأحزاب:57] .

فالعذاب المهين -إذا نظرت في القرآن- لا يأتي إلا في عذاب الكفار, كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

إلى هنا وبالله التوفيق, ونسأل الله جل وعلا بأسمائه وصفاته أن ينصر دينه, وأن يعلي كلمته, وأن يجعلنا من أنصار دينه وشرعه، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة البقرة - الآيات [6-7] للشيخ : يوسف الغفيص

https://audio.islamweb.net