إسلام ويب

من أركان الحج والعمرة الطواف بالبيت الحرام، وللطواف كيفية وشروط ومستحبات، فإن أكمل الحاج أو المعتمر الطواف فإنه يذهب إلى الصفا والمروة ويسعى بينهما، فإذا انتهى حلق أو قصر إن كان معتمراً أو متمتعاً، وتبدأ أعمال الحج يوم التروية، فيبيت بمنى ليلة عرفة، ثم ينطلق بعدها ليقف بجبل عرفات ويدعو الله بتضرع وانكسار.

تابع أحكام الطواف

شروط الطواف

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:

يقول المؤلف: [ وأما شروطه، يعني -شروط الطواف- فإن منها حد موضعه، وجمهور العلماء على أن الحجر من البيت، وأن من طاف بالبيت لزمه إدخال الحجر فيه ]. وقد ذهب عامة أهل العلم خلافاً لـأبي حنيفة إلى أن من طاف وقد دخل ما بين الحجر والبيت، أن هذا الشوط ليس بصحيح، وأنه يجب عليه أن يعيد هذا الشوط، فإن طال الفصل إطالةً عرفية؛ فإنه يجب عليه أن يعيد هذه الأشواط كلها، فإن لم يفعل؛ فإنه لم يطف، ويترتب عليه أحكام من ترك الطواف؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لـعائشة : ( لولا حدثان قومك بالكفر لهدمت الكعبة ولصيرتها على قواعد إبراهيم )، وفي رواية: ( ولأدخلت الحجر منها )، وهذا يدل على أن الحجر من البيت، ومن طاف وقد دخل ما بين الحجر والبيت؛ فإنه لم يطف حول البيت.

وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أنه يصح طواف من دخل ما بين الحجر والبيت؛ لقوله تعالى: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29]، قال: ويصدق عليه أنه طاف.

والراجح: هو قول عامة أهل العلم.

إذا ثبت هذا: فعلى القول الراجح يشرع الطواف بالبيت في أي ساعة شاء الحاج أو المعتمر، ولا يدخل هذا في أوقات النهي كالصلاة، فإن أوقات النهي خمسة: بعد الفجر، وبعد طلوع الشمس إلى ارتفاعها، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول الشمس، وبعد صلاة العصر حتى تصفر، ومن بعد اصفرارها إلى غروب الشمس، وقد ذهب الشافعي رحمه الله وجماعة من فقهاء الحديث والأثر إلى أنه يجوز للحاج والمعتمر أن يطوف أي ساعة شاء، لما ثبت عند الإمام أبي داود و الترمذي و الدارمي و النسائي وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في حديث جبير بن مطعم : ( يا بني عبد مناف! لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت أو صلى أي ساعة شاء من ليل أو نهار )، وهذا هو الراجح.

الطهارة في الطواف

يقول المؤلف: [ واختلفوا في جواز الطواف بغير طهارة، مع إجماعهم على أن من سننه الطهارة ].

الطهارة للطواف اختلف فيها العلماء: فذهب مالك و الشافعي و أحمد أن الطهارة للطواف شرط، وأن من طاف من غير طهارة فلا يصح طوافه، واستدلوا على ذلك: بأمره عليه الصلاة والسلام عائشة كما في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري )، وفي رواية مسلم : ( حتى تغتسلي )، والمؤلف ذكر أنها أسماء بنت عميس ، وهذا خطأ، والصحيح أنها عائشة وليست أسماء بنت عميس .

والدليل الآخر: ما رواه ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله أباح فيه الكلام )، وهذا الحديث لا يصح مرفوعاً، والصواب: أن عطاء رواه عن طاوس عن ابن عباس موقوفاً، وأكثر الرواة رووه موقوفاً، عطاء بن يسار عن طاوس عن ابن عباس هكذا فيما أحفظ.

ثم إنه لو صح هذا الحديث فإنه لا يدل على الشرطية، فإن الشرطية أمر زائد على الأمر؛ لأنك تقول للشخص: لا تفعل كذا أو افعل كذا، فإن فعل خلافه فلا يلزم منه بطلانه، لكن ربما يترتب عليه أمر من الأمور، كما لو ترك المصلي ناسياً أو جاهلاً التسبيح في الركوع أو السجود، فإن صلاته تصح بشرط سجود السهو، وهذا ما يسميه العلماء: الجبران، حيث يجبره بسجود السهو.

والقول الثاني في المسألة، وهو مذهب أبي حنيفة ، ورواية عند الإمام أحمد : أن الطهارة للطواف واجبة، ولا ينبغي له أن يطوف بلا طهارة، ومن فعل فإن كان قريباً من البيت وجب عليه أن يعيد، فإن بعد جبره بدم؛ لأن غاية ما يقال فيه: إن الطهارة للطواف واجبة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري )، وفي رواية: ( حتى تغتسلي )، ومن ظن أن الأمر هنا لأجل الحيض فقد أبعد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( حتى تغتسلي )، ولو كان لأجل الحيض لقال: حتى ينقطع عنك الدم.

ثم إن أبا العباس بن تيمية رحمه الله قال: إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك لأجل الدخول في المسجد، فالحائض ممنوعة من الدخول في المسجد.

والجمهور يقولون بخلاف ذلك، قالوا: لأنه لو أريد من عائشة ألا تدخل المسجد لقال: افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تدخلي البيت، فيشمل الدخول ويشمل الطواف، أما وقد قال عليه الصلاة والسلام بأبي هو وأمي: ( غير ألا تطوفي بالبيت )، فإنه جائز أن تدخل البيت من غير طواف، ولو تأملت هذا لرأيته حسناً من الجمهور اعتراضاً على أبي العباس بن تيمية .

القول الثالث: وهو قول حماد بن أبي سليمان و سليمان التيمي و شعبة كما نقل ذلك ابن أبي شيبة واختاره ابن تيمية : أن الطهارة سنة، والغريب أن الذين قالوا: إن الطهارة سنة، قيل لهم: ما ترون في دخول الحائض المسجد؟ قالوا: جائز، قلنا: ما ترون في طواف الحائض؟ قالوا: لا تطوف، وقد نقل غير واحد من أهل العلم الإجماع على أن الحائض لا تطوف بالبيت، ومن قال: إنها سنة، يخالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة ألا تطوف بالبيت، إلا على قول من قال: إن الحائض إنما منعت من الطواف لأجل دخول المسجد، وهذا الدليل منها، وهذا لا إشكال، لكن الإشكال على الذين يجوزون دخول الحائض المسجد، ويمنعون الحائض من الطواف، ويقولون: الطهارة سنة، وهذا تناقض في الأقوال!

على كل حال: الراجح -والله أعلم- أن الطهارة ليست بشرط ولا سنة، ولكنها واجبة، وهو مذهب أبي حنيفة ، ورواية عند الإمام أحمد ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة : ( افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت، حتى تطهري )، ومعنى تطهري: لفظ مشترك، واللفظ المشترك كما يقول جمهور الأصوليين: أنه يعمل به على جميع معانيه، ما لم يخالفه اللفظ بأن يكون المعنيان متضادين، فإذا كان المعنيان غير متضادين؛ فإنه يجوز حمل اللفظ المشترك على جميع معانيه، كما يقول جمهور الأصوليين.

وعلى هذا فقوله: ( حتى تطهري ) يعني: تطهري من الحيض، وتطهري من الحدث الأصغر، وفي رواية أيضاً: ( حتى تغتسلي )، وهذا يدل على أصل الطهارة، ومما يدل على ذلك كما يقول العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: أن عائشة كما في الصحيحين قالت: ( إن أول ما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن توضأ ثم طاف )، قال: وقد فعله عليه الصلاة والسلام بياناً لمجمل القول، وهو قوله: ( خذوا عني مناسككم )، والفعل إذا خرج بياناً لمجمل القول؛ دل على وجوبه، كقاعدة المالكية و أبي العباس بن تيمية ، ولكن ابن تيمية يقول: دل على أنه مأمور به، وهذا التخريج جيد، لكنه ليس ظاهراً في الاستدلال.

إذا قلنا: إن الطهارة واجبة، فهي واجبة في كل شوط، فلو طاف ثلاثة أشواط ثم أحدث في الرابع، فإن استطاع أن يتوضأ ويرجع قريباً؛ فإنه لا يستأنف بل يبدأ في الشوط الرابع، وهذا قول عند الحنابلة، وقول عند الشافعية، وهذا أظهر والله أعلم.

يقول المؤلف: [القول في أعداده وأحكامه.

وأما أعداده فإن العلماء أجمعوا على أن الطواف ثلاثة أنواع: طواف القدوم على مكة، وطواف الإفاضة بعد رمي جمرة العقبة يوم النحر، وطواف الوداع، وأجمعوا على أن الواجب منها الذي يفوت الحج بفواته هو طواف الإفاضة، وأنه المعني بقوله تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29]، وأنه لا يجزئ عنه دم، وجمهورهم على أنه لا يجزئ طواف القدوم على مكة عن طواف الإفاضة إذا نسي طواف الإفاضة ].

بعبارة أوضح عامة أهل العلم يقولون: لو طاف المفرد أو القارن طواف القدوم، وسعى سعي الحج ولم يكن قد طاف طواف الإفاضة؛ فإنه لا يكون طواف القدوم بدلاً عن طواف الإفاضة.

وذهب مالك و أحمد رحمه الله في رواية إلى أن من طاف طواف الوداع ونسي طواف الإفاضة؛ فإن طواف الإفاضة يجزئ عنه طواف الوداع، خاصةً لمن بعد عن ذلك، وهذا كثيراً ما نسأل عنه، بعض النساء تقول: قبل عشر سنوات، قبل عشرين سنة، ما أذكر أني طفت طواف الإفاضة، ولا أذكر أني طفت طواف الوداع، لكني أذكر أني طفت لكن ما أدري أيهما، نقول: هذه بتلك، ولا حرج في ذلك؛ لأن عبادة الحج تختلف عن غيرها من العبادات.

وقد قال الشافعية والحنابلة: من أحرم بالحج عن الغير ولم يكن قد حج عن نفسه؛ فإن حجته ولو انتهت تنقلب إلى حجة نفسه، وهذا يدل على أن الحج له خصيصة وأنه ليس كغيره من العبادات، وإن كنا نقول: الأولى بالحاج إذا كان قد طاف للوداع، ولم يكن نوى طواف الإفاضة، الأولى له أن يعيد، لكنه لو ذهب بعيداً؛ فإن قول المالكية ورواية عند الحنابلة فيه قوة، والله أعلم.

طواف التمتع

يقول المؤلف: [ وأجمعوا أن من تمتع بالعمرة إلى الحج أن عليه طوافين: طوافاً للعمرة لحله منها، وطوافاً للحج يوم النحر على ما في حديث عائشة المشهور ].

هذا لا إشكال فيه، لكن الإشكال: هل المتمتع يلزمه سعيان أم سعي واحد؟ الواقع أن في المسألة خلافاً، فذهب جمهور الفقهاء إلى أن المتمتع يلزمه سعيان؛ لأن السعي الأول إنما هو سعي عن العمرة، وقد أخذ عمرةً تامة، فيلزمه سعي آخر لحجه، فلا يدخل هذا بذاك، خاصةً وأنه ربما يأخذ عمرة ولم يكن قد نوى الحج، أو أنه ربما أخذ عمرةً في أشهر الحج عن والده، وحجةً عن والدته؛ فيكون متمتعاً، فلو لم نوجب عليه إلا سعياً واحداً؛ لكان سعي هذا لوالده وليس لأمه.

وهذا القول قوي، ومما يستدل له: ما رواه البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( وأما الذين أحلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فإنما طافوا طوافاً آخر بعد عرفة )، قال أهل العلم: قول عائشة : ( طوافاً آخر بعد عرفة ) إنما تقصد بذلك السعي؛ لأنهم كلهم بعد عرفة قد طافوا طواف الإفاضة؛ ولهذا تقصد عائشة طوافاً آخر، يعني السعي، وبعضهم يقول: إن هذه اللفظة مدرجة من كلام الزهري ، كما يقول أبو العباس بن تيمية رحمه الله، وبعضهم يقول: إنه أخطأ فيها بعض الرواة.

وذهب أحمد في رواية، وهو اختيار أبي العباس بن تيمية رحمه الله: إلى أن المتمتع لا يلزمه إلا سعي واحد عن حجه وعمرته، واستدل على ذلك بما جاء في صحيح مسلم من حديث جابر رضي الله عنه قال: ( وكفانا السعي قبل عرفة عن حجنا وعمرتنا )، وفي رواية قال: ( لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً )، قالوا: ومن المعلوم أن جابراً كان متمتعاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـجابر : ( لسنا ننوي إلا الحج لا نعرف العمرة، حتى إذا كنا بسرف قال لنا صلى الله عليه وسلم: من كان منكم قد ساق الهدي؛ فليكن قارناً، ومن لم يسق الهدي فليجعلها عمرة، قلنا: أي الحل؟ قال: الحل كله )، قالوا: فهذا يدل على أن جابراً كان متمتعاً، ومع ذلك قال: ( لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً )، وهذا القول أيضاً قوي، إلا أن القول الأول أحوط وأقوى من حيث النظر.

أعيد باختصار: جمهور الفقهاء يرون أن المتمتع يلزمه سعيان، وذهب أحمد في رواية، وهو قول جابر بن عبد الله ، وقول بعض الصحابة أيضاً ذكرهم ابن عبد البر كـسعد و ابن عمر و ابن مسعود : أن المتمتع يلزمه سعي واحد، والقول الأول أقوى من حيث النظر.

ومما يقوي قول الجمهور: أن عائشة رضي الله عنها قالت: ( يا رسول الله! يصدر الناس بنسكين، وأصدر بنسك واحد )، وتقصد عائشة : أن الذين أخذوا عمرة وأخذوا حجاً صدروا بنسكين، و عائشة كانت قارنة، وطافت طوافاً واحداً، وسعت سعياً واحداً، ومن المعلوم أن المفرد طوافه الأول سنة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ( طوافك بالبيت وسعيك بين الصفا والمروة يجزئ عن حجك وعمرتك جميعاً ).

مما يدل على أن غير القارن يجب عليه أن يأخذ طوافين وسعيين، ولا يجزئ إلا في حق القارن، وهذا أظهر، فإن كلمة الإجزاء دليل على أن ضده الكمال، وخص ذلك في القارن، وهذا أيضاً كما قلت: قوي من حيث النظر.

السعي

حكم السعي بين الصفا والمروة

ندخل في [ القول في السعي بين الصفا والمروة، والقول في السعي في حكمه ].

أما حكم السعي: فهو مسألة خلافية، ذهب أبو حنيفة إلى أنه سنة.

وذهب الجمهور إلى أنه ركن، وذهب أحمد رحمه الله في رواية، وهو قول أبي يعلى ، و ابن قدامة ، واختيار أبي العباس بن تيمية : إلى أن السعي واجب وليس بركن في الحج والعمرة، وهذا القول أظهر: أن السعي واجب وليس بركن ولا سنة.

والدليل على وجوبه: قوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي موسى : ( بم أهللت؟ قال: أهللت بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فإني قد سقت الهدي، فطف بالبيت، ثم اسع بين الصفا والمروة، ثم قصر )، وهذا يدل على أمره عليه الصلاة والسلام بالسعي، وقال: ( فطوفوا بالبيت، واسعوا بين الصفا والمروة ثم أقيموا حلالاً )، وهذا يدل على أمره، وغايته أنه مأمور، وأما الركنية فهي تحتاج إلى دليل آخر؛ لأن معنى الركنية: أنه لا يجزئه إلا بأن يفعله، وهذا يحتاج إلى شيء في ماهية العبادة.

وأما حديث ( إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا )، من رواية حبيبة بنت أبي تجراة فهو حديث ضعيف؛ فإن في سنده عبد الله بن المؤمل ومع ضعفه قد اضطرب في روايته، وعلى هذا: فيجبره بدم.

وكم يطوف المفرد؟

المفرد إن كان طاف للقدوم؛ فإنه يطوف طوافاً آخر بعد التعريف، وهو طواف الركن المسمى طواف الإفاضة، أما السعي فلا يلزمه إلا سعي واحد.

وطواف الوداع أمره هين، فالمفرد إما أن يطوف ثلاثة طوافات: طواف القدوم، وطواف الإفاضة، وطواف الوداع، وإما أن يطوف طوافاً واحداً ويجزئه، بأن يؤخر طواف الإفاضة إلى طواف الوداع وينويهما جميعاً، ولا يطوف للقدوم بأن جاء إلى عرفة قبل البيت.

فإن قال قائل: ما هي أدلة الذين قالوا: إن السعي سنة؟

الذين قالوا: إن السعي سنة قالوا في قوله تعالى: فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158]، القاعدة في رفع الجناح هي عدم الوجوب، فلو قلت: لا جناح عليك أن تصنع كذا، فليس هو أمراً، وإنما هو في الإباحة، فرفع الجناح إنما هو من باب الإباحة، واستحبابه لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن عائشة ردت عليهم فقالت: لو كان كما قلتم لقال الله تعالى: فلا جناح عليه ألا يطوف بهما، ولعمري ما أتم الله حج امرئ ولا عمرته ما لم يطف بالبيت، وهذا قول عائشة رضي الله عنها.

و ابن عباس يرى استحبابه كما ثبت بإسناد صحيح عند ابن أبي شيبة عن ابن عباس رضي الله عنه قال: من نسي السعي فلا شيء عليه، ولكننا نقول: الأقرب هو أن السعي واجب لأمر النبي صلى الله عليه وسلم فيه وليس بركن، وهذا اختيار ابن تيمية رحمه الله.

صفة السعي بين الصفا والمروة

يقول المؤلف: [ القول في صفته ].

يعني صفة السعي بين الصفا والمروة، وصفته أنه إذا طاف الحاج أو المعتمر -ثم صلى ركعتين- فإن تيسر له أن يستلم الحجر فالحمد لله، وإلا فيشير إليه ثم يذهب إلى الصفا فإن رأى الصفا قال: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158]، ولا يكمل الآية، فإذا شرع في صعود الصفا قال: أبدأ بما بدأ الله به، ثم يستقبل البيت فيرفع يديه، ثم يكبر ثلاثاً وهو رافع يديه، ولا يشير في التكبير، بل يكبر وهو رافع يديه كهيئة الدعاء، فيقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم يدعو، فيفعل مرة ثانية ثلاث تكبيرات، والتهليل مرتين، ثم يدعو، ثم يكبر ثلاثاً، ويهلل مرتين، ثم يسير؛ لقول جابر في صحيح مسلم : ( ثم دعا بين ذلك ) الحديث الطويل.

وهذه الصفة رواها جابر عند الطبراني بإسناد جيد كما يقول أبو العباس بن تيمية رحمه الله.

إذاً: يدعو مرتين، ويكبر تسعاً، ويهلل ستاً، ثم ينحدر متجهاً إلى المروة، حتى إذا كان بين العلمين الأخضرين؛ شرع له بأن يسعى؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا رأى المروة لا يقول: أبدأ بما بدأ الله به، ولا يقرأ الآية؛ لأن هذا إنما هو مشروع في أول السعي في الصفا، ثم يستقبل البيت ويرفع يديه ويصنع في المروة مثلما صنع في الصفا بأن يكبر ثلاثاً ويهلل مرتين ثم يدعو، ثم يكبر ثلاثاً ثم يهلل مرتين ثم يدعو، ثم يكبر ثلاثاً ويهلل مرتين ثم ينطلق من المروة إلى الصفا، فيكون الذهاب من الصفا إلى المروة يعد شوطاً واحداً، بحيث يبتدئ بالصفا وينتهي بالمروة، فإذا كان آخر شوط انتهى على المروة؛ فإنه لا يدعو ولا يكبر لقول جابر : ( حتى إذا كنا عند المروة قال لنا صلى الله عليه وسلم: من كان منكم أهدى فليتم نسكه، ومن لم يكن منكم أهدى فليحل )، وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن قد دعا في آخر شوط، والله تبارك وتعالى أعلم.

أما في الطواف فإنه يستحب له أن يمس الحجر وأن يكبر، ولو كان في الشوط السابع؛ لأن جابراً يقول: ( كلما أتى على الركن استلمه وكبر )، فهذا يدل على أن الاستلام ليس لأجل الابتداء بالطواف، ولكن لأجل بروزه واستقباله الحجر.

شروط السعي وترتيبه

يقول المؤلف: [ وأما شروطه .. ].

ذهب عامة أهل العلم إلى أنه لا يلزم الطهارة للسعي؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لـعائشة : ( افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري )، وأما رواية يحيى عن مالك في قصة عائشة : ( غير ألا تطوفي بالبيت وبين الصفا والمروة )؛ فإن يحيى بن يحيى -من رواة الموطأ- أخطأ فيها، والأقرب: أنه يستحب الطهارة للسعي ولا يجب.

المسألة الأخرى: [ القول في ترتيبه ].

حكم تقديم السعي على الطواف: ذهب عامة الفقهاء، بل نقل الماوردي الشافعي و الحطاب المالكي و النووي الإجماع على أنه لا يصح سعي إلا ويسبقه طواف مشروع كطواف القدوم، أو طواف العمرة، أو طواف الحج، وهذا قول عامة أهل العلم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فطف بالبيت، ثم اسع بين الصفا والمروة )، فأمره بالترتيب، و(ثم) تقتضي الترتيب مع التراخي.

وذهب أحمد في رواية إلى أن من سعى قبل أن يطوف جاهلاً أو ناسياً لا حرج عليه، أما المتعمد فيجب عليه أن يعيد، والأقرب والله أعلم أنه لا يشرع السعى إلا أن يسبقه بطواف مشروع.

وأما الحديث المشهور الذي يرويه جرير بن عبد الحميد الضبي عن الشيباني عن زياد بن علاقة عن أسامة بن شريك : ( أن رجلاً قال: يا رسول الله! سعيت قبل أن أطوف، قال: طف ولا حرج )، فهذا الحديث ضعيف، فإن جرير بن عبد الحميد الضبي تفرد به من بين أصحاب الشيباني ، كما ذكر ذلك الخطابي و البيهقي و الدارقطني و الضياء في المختارة، و ابن القيم ، وأشار إليه البخاري في التاريخ الكبير، ثم إن الشيباني تابعه غيره عن زياد فلم يذكروا هذه اللفظة، كما تابعه أيوب السختياني عن زياد بن علاقة فلم يذكر ( سعيت قبل أن أطوف )؛ فدل ذلك على أن رواية (سعيت قبل أن أطوف) ضعيفة.

ثم إن الراوي لم يقل: سعيت ولم أطف؛ بل قال له: ( طف ولا حرج )، والناس اليوم يسعون بلا طواف، ولا أعلم أحداً من المتقدمين قال بجواز ذلك، قال بعضهم في طواف القدوم: إنه سنة، فيسعى الإنسان فقط من غير طواف، ولا أعلم أحداً من أهل العلم قال بجواز ذلك؛ لأن السؤال إنما هو في تقديم السعي على الطواف.

وإنما شرع طواف القدوم كي يسعى سعياً شرعياً، هذا الأقرب والله أعلم، إلا الجاهل والناسي كما قال أحمد ، فإنه يعفى عنه إذا كان سعى ثم طاف، أما سعى من غير طواف؛ فهذا ينظر فيه.

الإهلال بالحج يوم التروية

يقول المؤلف: [ الخروج إلى عرفة. وأما الفعل الذي يلي هذا الفعل للحاج فهو الخروج يوم التروية إلى منى ].

يشرع للحاج إذا كان قد تحلل من العمرة أن يهل بالحج ضحى يوم الثامن، وهو يوم التروية؛ وسمي يوم التروية لأن الناس كانت تروي الماء لأجل بقائهم في منى، فيشرع للحاج أن يهل بالحج في ضحى يوم الثامن ويتجه إلى منى، بأن يصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر بمنى، ويستحب له الاغتسال والتطيب كما صنع في إحرامه عند الميقات.

ولو أخر الإحرام إلى ضحى يوم التاسع، أو صبيحة يوم التاسع؛ جاز وخالف السنة، وأنا أقول: إنه من أخر إحرامه عن ضحى يوم الثامن؛ فقد حرم نفسه خيراً عظيماً لأمور:

أولاً: أنه حرم نفسه التلبية؛ لأنه إذا تحلل لا يشرع له أن يلبي، فإذا أهل بالحج شرع له التلبية، وهذه لا تكون إلا للحاج، وقد قال صلى الله عليه سلم: (ما من مسلم يلبي، إلا لبى من عن يمينه أو عن شماله حتى تنقطع الأرض من هاهنا، وتنقطع الأرض من هاهنا )، كما في حديث سهل بن سعد الساعدي .

ثانياً: أن من لم يهل بالحج ضحى يوم الثامن، لم يصل الظهر والعصر والمغرب والعشاء وهو محرم، فيكون قد خالف السنة في هذا.

ثالثاً: أنه ربما يموت وهو لم يهل بالحج، ولكنه لو مات وهو قد لبس ثياب الإحرام؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً، الله أكبر.

رابعاً: أن الله سبحانه وتعالى يباهي بأهل الموقف وهم المحرمون، وأما من أخر إحرامه حتى يوماً فجائز أن يموت ولم يكن قد حج، فالمباهاة إنما هي في الحجيج، وأي حرمان أعظم ممن يؤخر هذا الموطن! وقد رأيت من أخر الإحرام إلى ما قبل أذان المغرب بنصف ساعة، وهو حرمان، نسأل الله أن يعفو عنا وعنه.

المبيت في منى ليلة عرفة

يقول المؤلف: [ والمبيت بها ليلة عرف سنة ].

ذهب عامة الفقهاء، بل نقل ابن المنذر الإجماع: على أن المبيت بمنى ليلة عرفة سنة، وخالف في ذلك ابن حزم و الألباني رحمهما الله فقالا بوجوب ذلك، والراجح -والله أعلم- عدم الوجوب؛ لحديث عروة بن مضرس كما عند أهل السنن و أحمد أنه قال: ( يا رسول الله! جئت من جبل طي أكللت مطيتي وأتعبت نفسي، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً؛ فقد تم حجه وقضى تفثه )، ومن المعلوم: أن عروة بن مضرس لم يقف مع النبي في منى، فدل ذلك: على أن المبيت بمنى ليلة عرفة لا يجب.

فإذا وقف الحاج فإنه يشرع له أن يمضي من منى إلى عرفة ضحى، يعني: بعد صلاة الفجر، إذا أسفر شرع له أن يخرج، فإذا طلعت الشمس استحب له أن يخرج إلى عرفة، ولو خرج قبل ذلك جاز، واتباع السنة أولى.

وقت الوقوف بعرفة

والوقوف بعرفة متى يبدأ؟

ذهب عامة أهل العلم من الحنفية والشافعية والمالكية؛ بل نقل ابن عبد البر الإجماع، وكذا ابن رشد تبعاً لـأبي عمر بن عبد البر : أن الوقوف بعرفة يبدأ من بعد الزوال يوم التاسع، فلو وقف صبيحة يوم التاسع بعرفة، ثم خرج قبل أذان الظهر لم يصح حجه.

وذهب الحنابلة رحمهم الله إلى أن من وقف بعرفة صبيحة يومها قبل الزوال ثم خرج؛ فإن حجه صحيح، ولكن يجبره بدم، فجمهور أهل العلم يقولون: إن الوقوف بعرفة يبدأ من بعد زوال الشمس، والحنابلة يقولون: يبدأ من بعد طلوع الشمس.

وعلى هذا: فمن وقف بعرفة صبيحة يومها ثم مرض، فنقل إلى منى، فلم يعاف إلا من الغد، ما يكون حجه باطلاً، بل يقول العلماء: حجه قد فات، وفرق بين البطلان والفوات، وفي كتب الفقه باب يسمى: باب الفوات والإحصار، يذكر في كتاب الحج، فيقال: حجه قد فات، ولا يقال باطل، فالبطلان إنما هو في حق من جامع قبل عرفة، ما يبطل الحج ويفسد إلا بالجماع قبل التحلل الأول على قول عامة أهل العلم، وإلا فيجب المضي فيه حتى مع فساده، أما من فاته الوقوف بعرفة، فيقال فيه: فاته الحج، هذا على قول الجمهور، أما على قول الحنابلة: فإن حجه صحيح، ولكن يجبره بدم؛ لأنه يجب عليه أن يجمع بين الليل والنهار في عرفة.

نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , بداية المجتهد - كتاب الحج [6] للشيخ : عبد الله بن ناصر السلمي

https://audio.islamweb.net