إسلام ويب

من حكمة الله أن شرع حد القذف وشرب المسكر؛ حماية للأعراض والعقول، فحد القذف ثمانون جلدة، وحد شرب المسكر اختلف فيه، ولإثبات حد القذف وشرب المسكر لابد فيه من شروط يجب توافرها. ويشرع التعزير لكل معصية ليس فيه حد، وقد اختلف في مقداره، والصواب أنه راجع للإمام.

حد القذف

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم إنا نعوذ بك أن نضل أو نُضل، أو نزل أو نُزل، أو أن نظلم أو نُظلم، أو نجهل أو يُجهل علينا، وبعد:

فقد قال المؤلف رحمه الله: [ باب حد القذف: ومن رمى محصناً بالزنا أو شهد عليه به فلم تكمل الشهادة عليه جُلد ثمانين جلدة إذا طالب المقذوف، والمحصن هو الحر البالغ المسلم العاقل العفيف.

ويحد من قذف الملاعنة أو ولدها.

ومن قذف جماعة بكلمة واحدة فحد واحد إذا طالبوا أو واحد منهم، فإن عفا بعضهم لم يسقط حق غيره ].

أدلة ثبوت حد القذف

قول المؤلف رحمه الله: (باب حد القذف)، أولاً: القذف ثابت حكمه بالكتاب كما قال تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [النور:4]، وثابت بالسنة أيضاً كما في الصحيحين: حينما جلد النبي صلى الله عليه وسلم حمنة بنت جحش و حسان وغيرهم ممن قذف عائشة رضي الله عنها.

وقد أجمع أهل العلم على وجوب الحد على من قذف المحصن وهو من وجدت فيه شروط خمسة أو أربعة على الخلاف الذي سوف نذكره إن شاء الله.

ما يشترط في المقذوف لإثبات حد القذف

الشرط الأول: يشترط في المقذوف أن يكون حراً، فلو قُذف العبد فإن عامة أهل العلم يقولون: لا يجب بسبب قذفه الحد، وقال الظاهرية وعلى رأسهم داود الظاهري: إن العبد والحر في هذا سواء؛ لأن العبد مُكلف، وتصله المعرة -يعني: العيب- كغيره، والتفريق لابد له من دليل صحيح وإلا فلا يعول على التفريق.

أما الجمهور فقد قالوا: إنه يُشترط في المقذوف أن يكون حراً، واستدلوا على ذلك بأن قالوا: إن العبد إذا رُمي بالقذف فهو نقص في قيمته، وإلحاق المعرة عليه إنما هو بنقص القيمة وليس كالحر، ومثله مثل ما لو عيب السلعة للغير وهو كاذب، هذا تفريق الجمهور.

والشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله مشى على تأصيل الظاهرية، ورأى أن الأصل أن المكلف حراً كان أو عبداً مخاطب في التشريع ولا فرق فيه، حتى أنه رأى أن العبد لو حج صح حجه، كقول الظاهرية، والأقرب أن يقال: إن العبد كالحر ما لم يرد التفريق على لسان الشارع، وكون الشارع لم ينص هنا بالتفريق بين العبد والحر فهذا دليل على ألا فرق بينهم.

الشرط الثاني: أن يكون المقذوف مسلماً، فإن كان غير مسلم فلا يجب به حد القذف، لكن إذا كان ذمياً وطالب بسبب قذف المسلم له فإن المسلم يُعزر إن لم يُثبت ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن أهل الذمة لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، فيبقى حق احترامه ما دام في موطن أهل الإسلام، أما أن يحد المسلم بسبب قذف الكافر فلا.

الشرط الثالث: أن يكون المقذوف بالغاً، فإن كان غير بالغ فلا يُحد القاذف، فالقاذف لو قذف صبياً غير بالغ فإنه لا يُحد؛ لأن الصبي غير مكلف، ولا يلحقه معرة كما تلحق الكبير. وهذا قول الحنابلة.

القول الثاني: قالوا: لا يشترط البلوغ؛ لأن الصبي غير البالغ يُتعير به -أي: بالزنا- مثله مثل الكبير، وعلى هذا قالوا: إن الصبي الذي من قذفه يحد هو الذي يمكن أن يُجامع مثله، وهو ابن عشر سنين فأكثر، فلو قذف شخص صبياً دون العاشرة فإنه لا يحد؛ لأنه يُعلم كذبه ولا يتعير به، لكن ابن العاشرة يُتعير به، ويمكن حصول الوطء منه، وهذا أقرب والله أعلم، وعلى هذا فيقال: المحصن هو الحر على قول عامة أهل العلم المسلم الذي يطأ مثله أو يوطأ مثلها.

الشرط الرابع: أن يكون المقذوف عاقلاً، فلو قذف مجنوناً بالزنا فإنه لا يُقام عليه حد القذف؛ لأن المجنون غير مكلف، ولا تلحقه معرة بذلك ولو حصل منه الزنا، فقالوا: يشترط أن يكون عاقلاً.

الشرط الخامس: أن يكون المقذوف عفيفاً، والعفيف الذي لا يخالط النساء، أما الذي لا يبالي أدخل على أهله رجل أم رجلان، وهذا هو الذي يسمى الديوث -عافانا الله وإياكم وجميع المسلمين- فلو قذف مثل هذا فإنه لا يقام عليه حد القذف؛ لأنه يشتهر منه ذلك، لكن قد يقال: أنه يُعزر، أما حد القذف فإن الجمهور يقولون: لا يقام عليه حد القذف.

إقامة حد القذف على من قذف المحصن بالزنا دون شهود

قول المؤلف رحمه الله: (ومن رمى محصناً بالزنا أو شهد عليه به فلم تكمل الشهادة)، يعني: جاء شخص ورمى آخر بالزنا، فيقال له: ائت بأربعة شهود، فجاء الشهود فشهدوا أن فلاناً زنى بفلانة فإذا لم تكتمل الشهادة جُلد ثمانين جلدة والعلماء يقولون: القذف فيه حق لله وحق للعبد، فلأجل هذا قالوا: إن القاذف لا يقام عليه الحد إلا بطلب من المقذوف، بخلاف السرقة على قول -والراجح كما سوف يأتي أن السرقة مثل القذف- بخلاف الزنا فالزنا لو شهد أربعة أن فلاناً زنى أُقيم عليه حد الزنا، ولا يشترط أن تأتي المزني بها وتقول: فلان زنى بي؛ لأن الزنا يثبت بالغصب أو بالرضا.

وأما إذا لم تكتمل الشهادة فإن العلماء أجمعوا على أن الشهود يقام عليهم حد القذف، وقلنا: لا يشترط أن يكون في مجلس واحد، والدليل على ذلك أن عمر رضي الله عنه حينما شهد أبو بكرة و نافع و شبل بن معبد على المغيرة ولم يشهد الرابع، وفي بعض الروايات كما رواه الطحاوي أنه قال عمر وقد صرخ به: ما عندك يا سلح العقاب؟ قال: والله يا أمير المؤمنين! ما رأيت إلا نفساً يعلو واستاً ينبو، ورأيت رجليها بين أذنيها كأنها أذنا حمار، يعني: ما شاهد أن الميل دخل في المكحلة، فقال عمر: الله أكبر! يعني: أنه ما رأى الزنا الذي يقال فيه: إن المرود دخل في المكحلة، فأقام عمر رضي الله عنه الحد على من شهد على المغيرة ، وقلنا: إنه لابد حين إقامة حد القذف من طلب المقذوف، فإن طلب المقذوف أُقيم وإلا فلا؛ لأنه فيه حق للعبد. والمحصن يقول المؤلف: (هو الحر البالغ المسلم العاقل العفيف)، كما مر معنا.

إقامة حد القذف على من قذف الملاعنة أو ولدها

قول المؤلف رحمه الله: (ويُحد من قذف الملاعنة أو ولدها)، الملاعنة إذا لاعنت زوجها ولاعنها زوجها فكما هو معلوم أن الزوج يشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين أن فلانة زوجته زنت ويسميها، فزوجته إما أن تُلاعن وإما أن تُرجم؛ لأنها زانية، وتعتبر شهادة؛ لأن شهادة الزوج ويمينه الخامسة -الدعاء على نفسه- بمثابة أربعة شهود، فالزوجة إن لاعنت زوجها وشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين فإنه لا يُقام عليها ولا عليه الحد، ويُفرق بينهما وهي سنة المتلاعنين، وأما الولد فإنه يكون ولداً للزوج والزوجة، فيقال: فلان بن فلان، ما لم يُلاعن الزوج وينفي الولد؛ لأنه جائز أن تزني المرأة والعياذ بالله وهي متزوجة ولا تحمل، وجائز أن تزني وهي حامل، والحمل من الزوج، فنفي الولد لا بد فيه من التصريح.

وعلى هذا فلو لاعن الزوج زوجته ونفى الولد ثم لاعنت زوجها وحملت ووضعت، فيقول المؤلف: (ويُحد من قذف الملاعنة أو ولدها)، فلو جاءت به على نحو الذي زنى بها فلا يجوز حدها، ومن قذفها فإنه يحد، وكذلك ولدها لو قيل له: أنت ابن الزانية، فيحد القاذف أو يقال: فلانة زانية بدليل أن ولدها الذي جاء على نحو من قذفت به، ودليل ذلك ما رواه أبو داود بسند جيد أن ابن عباس رضي الله عنه قال: ( فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الملاعنة ألا تُرمى ولا يُرمى ولدها، ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد ).

حد من قذف جماعة بالزنا

قول المؤلف: (ومن قذف جماعة بكلمة واحدة فحد واحد)، مثال ذلك: شخص قال: بنو فلان زناة -عافانا الله وإياكم- هذا قذف جماعة، أو قال: أولاد العائلة الفلانية زناة، أو قال: أصحاب الأتوبيس الذين جاءوا من البلد الفلاني أو أصحاب الطائرة هذه التي جاءت من بلاد الغرب زناة، فهم جماعة، ومن قذف جماعة بكلمة واحدة يقول المؤلف: (فحد واحد)، يعني: فلا يقال: إذا كانت الطائرة فيها مقعداً فكل واحد ادعى عليه القذف يحد به؛ لأن المقصود من إقامة الحد وإثباته عند القاضي تكذيب القاذف، فإن أقيم عليه الحد علمنا أن قذفه كذب ولا تلحقهم معرة، ولهذا قال: فتزول المعرة بجلده حداً واحداً.

وذهب ابن المنذر وهو رواية عن الإمام أحمد: أن لكل واحد حقاً، فلو جاء أصحاب الطائرة وهم ثلاثمائة كل واحد شهد عند القاضي فإنه يُجلد 80عن كل واحد حداً، يعني: مقدار حد القذف مضروباً في عددهم جلدة تُقسم عليه على كلام ابن المنذر.

واختار ابن قدامة أنه يُجلد مرة واحدة؛ لأننا علمنا أن كذبه ثابت، وهذا بخلاف ما لو رمى جماعة بغير كلمة واحدة، فقال: فلان زاني وفلان زاني وفلان زاني، هذا ليس بكلمة واحدة، أما إذا قال: فلان زاني، وفلان زاني، وفلان زاني، وفلان زاني، فإنه يُقام عليه حد القذف عن كل واحد؛ لأن التخصيص ليس كالتعميم، فإن طالبوا كلهم أقيم عليه الحد وإن طالب واحد منهم فإن الحد أيضاً يُقام عليه؛ لأن حقه هنا باقٍ، والله أعلم، ولهذا قال: (فإن عفا بعضهم لم يسقط حق غيره).

حد المسكر

قال المؤلف رحمه الله: [باب حد المسكر: ومن شرب مسكراً قل أو كثر مختاراً عالماً أن كثيره يسكر جلد لحد أربعين جلدة؛ لأن علياً رضي الله عنه جلد الوليد بن عقبة في الخمر أربعين، وقال: (جلد النبي أربعين و أبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل سنة، وهذا أحب إليّ)، وسواء كان عصير العنب أو غيره.

ومن أتى من المحرمات ما لا حد فيه لم يزد على عشر جلدات؛ لما روى أبو بردة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يجلد أحد أكثر من عشر جلدات إلا في حد من حدود الله )، إلا أن يطأ جارية امرأته بإذنها فإنه يجلد مائة].

تعريف السكر

قول المؤلف رحمه الله: (باب حد المسكر)، أي: هذا باب يُذكر فيه حد متناول المسكر، والسُكر: هو اختلاط العقل، وقال الشافعي و أحمد رحمهم الله: أن يخلط في كلامه خلاف عادته، قال الوزير ابن هبيرة في كتاب الإفصاح: اتفقوا أن كل شراب يُسكر قليله فكثيره حرام، ويُسمى خمراً، وفيه الحد، وهذا الاتفاق الذي نقله يقصد به اتفاق الأئمة الأربعة، والواقع أن الحنفية يُخالفون في ذلك، كما سوف يأتي بيانه.

ضابط المسكر

قول المؤلف رحمه الله: ( ومن شرب مُسكراً قل أو كثُر مختاراً ...) إلخ فيه مسائل:

المسألة الأولى: أن كل مسُكر حرام، وأن كل مُسكر خمر -كما سوف يأتي بيانه- وعليه فلا يجوز شربه سواء كان للذة أو للتداوي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إنه ليس بدواء ولكنه داء ) كما في رواية مسلم من حديث طارق بن شهاب ، وقال عليه الصلاة والسلام: ( إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها )، فلا يجوز شرب الخمر سواء للتداوي أو للذة والمتعة، وفرق بين الخمر وبين البنج، فالبنج جائز بخلاف الخمر؛ لأن البنج ليس فيه طيش وطرب ولذة في شربه، أما الخمر ففيه.

وقولنا كل مسكر خمر هذا يُفيد أنه سواء كان من عصير العنب أو من عصير التمر أو من عصير الشعير أو من عصير الحنطة أو من عصير البُسر، وهذا هو قول عامة الفقهاء، وقال أبو حنيفة : الخمر لا يُسمى خمراً إلا من عصير العنب خاصة، وما كان من غيره فيُسمى نقيعاً أو نبيذاً، مثل: نبيذ التمر، نقيع المشمش، نقيع الحنطة، نقيع الشعير، ولا يسمى خمراً، والحقيقة العُرفية كالحقيقة الشرعية، وقد خفيت السنة على الأحناف في هذا الباب فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ( نزل تحريم الخمر وهو من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر العقل )، فهذا نص في المسألة.

وقال الراغب الأصفهاني في كتابه المفردات وغيره: كل شيء يستر العقل يُسمى خمراً في لغة العرب، سُميت بذلك لمخامرتها العقل وسترها له، وهذا هو قول جمهور علماء اللغة، ومما يدل على أن هذا هو قول علماء اللغة ما قاله أنس رضي الله عنه: ( نزل تحريم الخمر وكان خمرنا من التمر والبُسر )، يعني: أن خمر أهل الحجاز لم يكن من العنب إنما كان أكثره من التمر، فهل يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم جوز لأهل الحجاز أن يشربوا خمرهم؟! فهذا بعيد كل البعد، وعلى هذا فكل مسكر حرام.

شرب القليل من الخمر الذي لم يصل بصاحبه للسكر

المسألة الثانية: إذا ثبت أن هذا المسكر يُسكر كثيره فلا يجوز شرب قليله، وعلى هذا فالنبيذ الذي يُقدم أحياناً في الطائرات الأجنبية أو في بعض الفنادق الذي إذا شرب الإنسان كأساً منه لا يسكُر، ولكنه إذا شرب كأسين أو ثلاثة أو أربعة ربما يترنح فهذا خمر، وإذا فعل ذلك أقيم عليه حد المسكر، وما يشربه أحياناً في بعض البلاد العربية هما يسمونه الشربونة، الذي يفعلونه في بيوتهم مثل: شربونة من التمر تُقذف فتبقى ثلاث ليال ثم يشربونها في الأكل، يقولون: إنها تهضم، وأحياناً يسكر الإنسان وهو يأكل، عافانا الله وإياكم.

أحياناً يكون نسبة الخمر فيها يسيرة فيخلطه بعصير طبيعي، أو يخلط خمراً بمياه غازية أو خمراً بشعير أو ببيرة شعير، ويُقلل نسبة الخمر لكنه لو شرب كأساً كبيراً ربما خمر، وهذا دليل على أن الخمر فيه لم يذب ولم يتلاش فهو موجود، ولهذا حرُم عليه أن يشربها؛ لأن ما أسكر كثيره فقليله حرام.

أما البيرة الموجودة هذه -بيرة الشعير- ليست بخمر، وكلمة بيرة معناها: شركة كانت تصنع الخمر من الشعير، يسمونه باللغة الإنجليزية بيرة، فجيء بها إلى البلاد الإسلامية فسُميت بيرة، والواقع أن شرب الشعير هذا ليس فيه خمر إطلاقاً وليس فيه مواد كحولية، وما يقوله بعضهم: إني إذا شربت كثيراً أصاب بفتور، فنقول: لو تشرب أربع كاسات من الماء فإنك تُصاب بفتور، وهذا هو رأي شيخنا محمد بن عثيمين رحمه الله، يقول: وما يقال: إنه إذا شرب كثيراً أصابه بفتور، نقول: لو تشرب ماءً حتى يمتلئ بطنك أصبت بفتور، ولا تستطيع أن تتحرك، ويحس الإنسان أحياناً بدوخة، فالقضية هي أنك إذا شربت كثيراً لا تسكر السُكر المعروف الذي يختلط كلامك على عادتك، وبعض الناس يقول: إن فيها مادة الإيثالين أو الميثالين، وهذه يا إخوان! كل عصير تشربه فيه هذه المادة، وحتى التمر فيه هذه المادة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم جوز إذا قذف التمر بالماء ثم جلس ثلاث ليال، ولهذا نهى عن شربه بعد أكثر من ثلاث ليال، وكان إذا مر عليه الليلة الثالثة -يعني: الليلة الثالثة أقل من ثلاثة أيام- أعطاه غلامه وإلا أراقه، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يُقذف التمر بالبُسر أو التمر بالزبيب، وقال: ( ليقذفه تمراً فرداً، أو بُسراً فرداً، أو زبيباً فرداً )؛ والعلة: لأنه إذا اختلط التمر بالزبيب أو التمر بالبُسر يسرع فيه الغليان والتخمر، ولهذا يشربه ولا يدري، وبعض المحدثين الذين كانوا يشربون النبيذ لم يعلموا بهذا، فكانوا ينبذون التمر بالبُسر في اليوم الأول والثاني ثم يصابون بنوع من الدوخة فيقال: رأيت فلان بن فلان المحدث عند بابه قد سقط وهذا موجود في بعض التراجم، وهناك محدثون معرفون لكني لا أريد أن أذكر أسماءهم حتى لا يُفهم غلطاً.

على هذا أحبتي الكرام! فنقول: كل مسكر خمر، سواء كان من عصير العنب مطبوخاً أو غير مطبوخ.

شروط من يقام عليه حد شرب المسكر

المسألة الثالثة: ألا يقام الحد على من شربها إلا أن يكون مكلفاً عالماً بالتحريم مختاراً لشربها، فالتكليف يعني البلوغ والعقل، وأن يكون عالماً بالتحريم كما قال عمر بن الخطاب و عثمان : إنما الحد على من علمه، وقال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، ولابد أن يُقال: أن يكون (مثله يجهل ذلك)، ومعنى مثله يجهل ذلك. مثل شخص ركب طائرة أجنبية ولا يعرف اللغة الإنجليزية، وهناك مشروب مُسكر اسمه قريب من بعض المسميات الغازية المشروبة عندنا، فيقول له المضيف: تريد كذا، وهو لا يحسن اللغة الإنجليزية، فيقول: نعم، فيُعطى هذا المشروب وهو نبيذ يُسكر عافانا الله وإياكم، فيشربه وهو لا يعلم، فتجده يختلط كلامه، فإذا رآه شخص فلا يقل: يقام عليه الحد، أو إذا نزل إلى بلادنا وهو يترنح فلا يُقال ذلك، فلابد أن يكون عالماً بالتحريم، والعلم هنا علم بحكم الخمر وعلم بحال المشروب، فلو جاء شخص وقال له: ما هذا؟ قال: هذا بربيكان بالليمون، فشربها فإذا هي ليست كما قيل له فسكر فإنه لا يقام عليه الحد، وقلنا: لا بد من إثبات أن مثله يجهل.

أقوال العلماء في مقدار حد شرب المسكر

المسألة الرابعة: أن حد شارب الخمر اختلف العلماء فيه، فقال بعضهم: حده ثمانون؛ لأن عمر رضي الله عنه جلد ثمانين جلدة، واستشار الصحابة في ذلك فقال عبد الرحمن بن عوف: اجعله كأخف الحدود، وأخف الحدود حد القذف، فضرب عمر ثمانين.

وقال بعضهم وهم الحنابلة كما في الروض: إنما الحد أربعون، ويجوز للإمام أن يزيد فيه إلى ثمانين كما صنع عمر ، ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ( أنه جلد الوليد بن عقبة أربعين جلدة، ثم قال للجلاد بعد ما ضرب الأربعين: حسبك ثم قال: جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين و أبو بكر أربعين و عمر ثمانين وكل سنة، وهذا أحب إليّ )، وقوله رضي الله عنه: (كل سنة)، يعني: أنه كله جائز فالسنة تطلق أحياناً في عُرف الصحابة على المشروعية والجواز لا على الوجوب.

وقال الحنابلة: يجوز للإمام أن يزيد إلى ثمانين تعزيراً.

لأن جلد عمر ثمانين كان تعزيراً، ومما يدل على أن عمر إنما جلد ثمانين تعزيراً، هو قول السائب رضي الله عنه: حتى إذا عتوا في شرب الخمر وفسقوا جلد عمر ثمانين، يعني: أن عمر إنما جلد ثمانين؛ لأن الأمر قد تفشى، كما قال السائب: حتى إذا عتوا في شرب الخمر وفسقوا جلد عمر ثمانين.

القول الثالث في المسألة: قول ابن جرير الطبري وأظنه رواية عند الإمام أحمد: ليس في الخمر حد محدود، ولكن إن ضرب أربعين فحسن، وإن ضرب دون ذلك قريباً فحسن، وإن ضرب ثمانين فحسن، قالوا: والدليل على ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: ( أتي برجل شرب الخمر فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: اضربوه، فمنا الضارب بنعله، ومنا الضارب بثوبه، ومنا الضارب بالجريد )، فهذا يدل على أنه لو كان حداً لما جاز تغييره.

قالوا: ومما يدل على ذلك قول أنس رضي الله عنه كما في الحديث المتفق عليه: (أنه أتي للنبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب الخمر فضربه بالنعال نحواً من أربعين)، قالوا: فكلمة ( نحواً من أربعين ) دليل على أن الشرب ليس فيه حد محدود إذ المقصود تأديبه وتوبيخه، قال: ( ثم أتي به لـأبي بكر فصنع به مثل ذلك، ثم أتي به لـعمر فاستشار الناس في الحد فقال ابن عوف : أقل الحدود ثمانون، فضربه عمر )، متفق عليه، وهذا قول له وجاهته وقوته.

وقد يقال: إن قول أنس: (نحواً)، أنه من الأربعين فأكثر أو فأقل، فالخطأ في الحساب من أنس ، وهذا الحديث يدل على أنه يُضرب أربعون ولا يلزم بسوط كحد الزنا، كما قلنا: إن من شروط إقامة الحد أن يكون بسوط لا جديد ولا خلق، أما حد الخمر فيجوز ضربه بغير السوط، وتكون هذه الأحاديث التي عند مسلم و البخاري من حديث أبي هريرة ومن حديث أنس دليلاً على جواز ضربه بغير السوط، وهذا التخريج حسن، والله أعلم.

إطلاق الخمر على كل مسكر

قول المؤلف رحمه الله: (وسواء كان عصير العنب أو غيره)، مر معنا أن الراجح أن كل ما خامر العقل فهو خمر، لكن هل المخدرات من الخمر أم لا؟ وهل لو شرب شخص الكلونيا هل يكون خمراً؟

بعض الفقهاء يقول: كل ما خامر العقل فهو خمر، وبعضهم قال: هذا ليس بخمر، وإن كانت عقوبته أشد من الخمر؛ لأن تغطية العقل تنقسم إلى قسمين: طرب ولذة أو سم وتغطية، فالمخدرات سم وتغطية، أما الخمر فهو لذة، فأقل ما يقال في المخدرات: إنه مثل الخمر وإن كان أشد من الخمر؛ لأنه قاتل، والإدمان فيه شديد حداً بخلاف الخمر.

وقالوا: إن الخمور تختلف عن الكحول، فالكحول موادها سامة، وأما الخمر فالغالب أنه لا يقتل، وعلى هذا فما يوجد في الطيب والعطور من مادة تثبت الطيب وتنشره وتسمى مادة السبرتو -وإن قلنا: إن شربها ربما يغطي العقل- فليست بخمر، وعلى هذا نستفيد أن الخمر على قول الأئمة الأربعة: إنه نجس، ولا يمكن أن نقول: إن الكحول الموجودة في الأطياب نجسة.

والقول الثاني: إن الخمر أصله ليس بنجس، وهو قول شيخنا محمد بن عثيمين وهو أرجح حين التأمل، وإن كان دليل الجمهور ليس ظاهراً في النجاسة؛ لأن الرجس لا يلزم منه النجاسة، كما لا يخفى.

الأمور التي يثبت بها السكر

ويثبت السكر إما بإقرار الشارب ولو مرة واحدة، فلو قال: أنا شربت الخمر أُقيم عليه الحد، أو بشهادة عدلين أنهما رأياه يشرب، وإذا وجد منه رائحة الخمر فهل يقام عليه الحد أم لا؟ مثلاً: رجال الهيئة والشرطة أوقفوا واحداً على الطريق فنظروا إلى عينيه وفتشوه فما وجدوا شيئاً، فاستنكهوه فوجدوا منه رائحة الخمر أو رائحة الحشيشة، هل يقام عليه الحد؟

ذهب أحمد و مالك واختيار ابن تيمية إلى أن من وجد منه رائحة الخمر أو علامة على الشرب كالتقيأ مثلاً فإنه يُقام عليه الحد، واستدلوا بما في صحيح مسلم وغيره في قصة أبي هريرة و حمران مولى عثمان أن أحدهما رأى الوليد بن عقبة يشرب الخمر، والآخر رآه يتقيأ، فقال عثمان: إنه ما تقيأ حتى شربها، والصحيح أن من وجدت فيه أمارات وقرائن فإنه يُقام عليه الحد خلافاً للحنفية والشافعية فإنهم قالوا: إن هذه قرينة، والحدود تدرأ بالشبهات، وهذا القول الذي هو قول الحنابلة والمالكية هو قول لـعمر بن الخطاب رضي الله عنه في الزنا، فقد قال: (فإن الرجم ثابت في كتاب الله على من زنى أو كان الحبل أو الاعتراف)، الحبل يعني: وجدت امرأة لا سيد لها ولا زوج وهي حامل، من أين أتاها الحمل هذا إلا من الزنا، ولا يقال: إنها جائز أنها دخلت الحمام واستجمرت بمنديل فيه مني رجل فحملت، كما يقول بعض الفقهاء فهذا بعيد، ولكنها لو ادعت أن رجلاً أتاها وهي نائمة قُبل قولها كما جاء في بعض الآثار: أن عمر بن الخطاب أراد أن يقيم على امرأة الحد، فادعت أنها كانت نائمة، فقال علي بن أبي طالب : أرأيت يا أمير المؤمنين! لو كانت مجنونة؟ قال: نعم، قال: فإنه رُفع عنها القلم، فلم يقم عليها الحد، هذه أهم مسائل الباب.

التعزير وأحكامه

قول المؤلف رحمه الله: (ومن أتى من المحرمات ما لا حد فيه لم يُزد على عشر جلدات)، هذا باب التعزير، والمؤلف أراد الاختصار فلم يذكر الباب، والتعزير في اللغة يُطلق على معنيين: المنعة، والنصرة، قال تعالى: وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [الفتح:9]، يعني: تنصروه، ويُطلق التعزير في الاصطلاح على أنه التأديب على ما لا يجوز فعله في معصية لا حد فيها ولا كفارة، وقد اختلف العلماء في المعاصي التي يفعلها العباد ولم تصل إلى الحدود، مثل ما لو قبل أجنبية أو وطئها دون الفرج، أو أركبها وخلا بها، أو وطئ أمة مُشركة، أو أخذ مال والده، أو سرق من بيت المال، فكل هذه لا حدود فيها ومع ذلك فإنه يُعزر، إذا ثبت التعزير فقد اختلف العلماء في مقدار ما يجلد على أقوال:

القول الأول: قالوا: لا يُجلد فوق عشرة أسواط، واستدلوا بما رواه أبو بردة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يجلد أحد أكثر من عشر جلدات إلا في حد من حدود الله ).

القول الثاني: قالوا: إنه يُجلد بمقدار ما لا يبلغ بكل جناية حداً مشروعاً في جنس تلك الجناية، ومعنى ذلك يقولون: إنه إن أركب أجنبية ووطئها فيما دون الفرج فهذه الجناية جناية استمتاع، ولها جناية مقدرة وهي الزنا، وحد الزنا الجلد مائة، فيُجلد بما لا يبلغ حد الجناية المقدرة شرعاً، أي: إلى تسعة وتسعين، وإذا قذف بما ليس هو بعرض فإنه يجلد بما لا يبلغ حد القذف، وعلى هذا فقس، وهذا قول لـالخرقي ، واستدل بما روى أبو داود و الترمذي و ابن ماجه بسند حسن أن النعمان بن بشير الأنصاري رضي الله عنه: (قضى في الذي وطئ جارية امرأته بإذنها أنه يُجلد مائة جلدة)، يعني: رجل وطئ جارية امرأته بإذنها -أي: بإذن امرأته- فقضى أن يُجلد مائة وهذا تعزير وليس بحد؛ لأنه لو أقيم عليه الحد فإنه يُرجم؛ لأنه محصن، ولكنه أقيم عليه الجلد مائة من باب التعزير.

والقول الثالث وهو اختيار ابن تيمية رحمه الله قال: إن التعزير لا حد له، فجائز أن يُعزر إلى القتل، وجائز أن يضرب في أكثر من أربعين وأكثر من ثمانين، فإن عمر رضي الله عنه جلد في الخمر أكثر من مقداره؛ لأن مقداره أربعين ثم جلد ثمانين فأوصلها أكثر من الحد، فجعل زائد التعزير أكثر من حده، كما أن قوله عليه الصلاة والسلام: ( لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله )، قال: ليس المراد بحدود الله الحدود التي يذكرها الفقهاء، ولكن المراد بحدود الله هي محارمه، فكل معصية ارتكبها العبد فقد ارتكب محارم الله، وقال تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا [البقرة:229]، فحدود الله محارمه، وليس المراد بالحدود هي الحدود التي يذكرها الفقهاء في كتبهم، وهذا القول أقرب والله أعلم.

قول المؤلف رحمه الله: (إلا أن يطأ جارية امرأته بإذنها فإنه يُجلد مائة)، وإنما أخرج هذا بسبب الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي و ابن ماجه من حديث النعمان بن بشير في الذي وطئ جارية امرأته بإذنها فُجلد مائة جلدة، والأقرب كما قلنا: هو القول الثالث.

لعلنا نقف عند هذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , عمدة الفقه - كتاب الحدود [5] للشيخ : عبد الله بن ناصر السلمي

https://audio.islamweb.net