إسلام ويب

من السنة الواردة في الأذان أن يجلس المؤذن بين الأذان والإقامة ولو يسيراً، أما من جمع أكثر من صلاة في وقت واحد فله أن يؤذن مرة ويقيم لكل صلاة، وللمستمع أن يتابع المؤذن وأن يحوقل بعد الحيعلتين، ولا يجوز أن يخرج المصلي من المسجد بعد سماع الأذان إلا لعذر أو بنية الرجوع.

مشروعية الفصل بين الأذان والإقامة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه تسليماً كثيراً.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، أما بعد:

فقد كنت قد ذكرت أن مذهب مالك أنه يؤذن أو يقيم الإقامة فرادى حتى التكبير، فأفادني بعض الإخوة جزاه الله خيراً! وذكر لي مقولات عن المالكية أن التكبير عن مالك مرتين فيضاف في موضعه.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويسن جلوسه أي: المؤذن بعد أذان المغرب أو صلاة يسن تعجيلها قبل الإقامة يسيراً؛ لأن الأذان شرع للإعلام فسن تأخير الإقامة للإدراك، ومن جمع بين صلاتين لعذر أذن للأولى وأقام لكل منهما، سواء كان جمع تقديم أو تأخير، أو قضى فرائض فوائت أذن للأولى ثم أقام لكل فريضة من الأولى وما بعدها، وإن كانت الفائتة واحدة أذن لها وأقام، ثم إن خاف من رفع صوته به تلبيساً أسر وإلا جهر، فلو ترك الأذان لها فلا بأس].

قول المؤلف: (ويسن جلوسه أي: المؤذن بعد أذان المغرب أو صلاة يسن تعجيلها قبل الإقامة يسيراً)، قوله: (يسن جلوسه) في مثل هذا، فيه نظر؛ ذلك أن الاستحباب حكم شرعي، لا يثبت إلا بدليل شرعي، ولو قال المؤلف كما قال بعض الأصحاب ويسن سكوته بمقدار جلسة خفيفة حتى يميز بين الأذان والإقامة لكان في ذلك وجه، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم كما في حجة الوداع، كما في صحيح مسلم من حديث جابر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة أذن ثم أقام فصلى )، وعلى هذا فقول المؤلف: (ويسن جلوسه) إن كان قصد الجلوس المعروف، فيقال: لو قال المؤلف ويسن أن يفصل بين الأذان والإقامة مطلقاً، كي يطبق الناس سنة من السنن، فالظهر يسن قبلها أربع ركعات أو ركعتين لحديث عائشة أربع، وحديث ابن عمر ركعتين، والمغرب لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن المغفل : ( صلوا قبل المغرب ركعتين، صلوا قبل المغرب ركعتين، صلوا قبل المغرب ركعتين لمن شاء )، وحديث: ( بين كل أذانين صلاة )، فلو قال المؤلف: ويسن سكوت قدر ما يصلي مأموم ركعتين لكان أفضل، ويسن الفصل بين الأذان والإقامة قدر ما يصلي مأموم ركعتين لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( بين كل أذانين صلاة )، لكان أفضل.

قال المؤلف رحمه الله: (لأن الأذان شرع للإعلام فالسنة تأخير الإقامة للإدراك)، وهذا الفرق واضح أن الأذان غير الإقامة بدليل: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أذن بلال اضطجع، وكان إذا نام نفخ )، وهذا يدل على الفصل بين الأذان والإقامة.

الأذان والإقامة لمن جمع صلاتين

الجمع لعذر كسفر

قال المؤلف رحمه الله: (ومن جمع بين صلاتين لعذر أذن للأولى وأقام لكل منهما، سواء كان جمع تقديم أو تأخير)، الذي يظهر والله تبارك وتعالى أعلم وهو مذهب أكثر أهل العلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا جمع بين الظهر والعصر، أو بين المغرب والعشاء جمع تقديم أو تأخير، كسفر أنه كان يؤذن للأولى ويقيم لكل صلاة؛ لما جاء في صحيح مسلم من حديث جابر : ( فأذن وأقام لكل صلاة )، وأما ما جاء في حديث ابن عمر كما في الصحيحين : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للأولى وأقام للأولى فقط )، فهذا كما يقول أهل العلم أنه وهم من ابن عمر ولربما لم يسمع الإقامة الثانية لبعده في آخر الصف، وإلا فالمحفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقام لكل صلاة.

الأذان والإقامة لمن قضى فرائض الفوائت

قال المؤلف رحمه الله: (أو قضى فرائض فوائت أذن للأولى ثم أقام لكل فريضة)، هنا لو أن شخصاً نام عن صلاة الفجر والظهر ولم يقم إلا العصر، فالمشروع في حقه أن يؤذن أذاناً واحداً لجميع الصلوات الثلاث، ثم يصلي الفجر ثم الظهر ثم العصر بعد كل إقامة لكل صلاة، يقيم للفجر ثم يصلي، ثم يقيم للظهر ثم يصلي، ثم يقيم للعصر ثم يصلي، وهذا الحكم إذا كانوا جماعة، أو كان في بلد من غير رفع الصوت بحيث يشوش على الناس، فلو كانوا جماعة، جاءوا في استراحة فأحب أحدهم أن يؤذن فلا حرج أن يؤذن ليسمعهم، كما مر معنا أن رفع الصوت ركن إلا لمن حضر.

وعلى هذا فقول المؤلف: مطلقاً أنه يؤذن إذا جمع فائتة، لا بد أن يقال: إذا لم يحصل تشويش في ذلك؛ لأنه ربما يرفع صوته بالأذان فيظن الناس أن أذان المغرب قد دخل، أو أن عليه صلاة الظهر فصلاها في آخر وقت الظهر فأذن لها فيظن الناس أن وقت العصر قد دخل، فيقال: إن الأذان هنا إنما هو لتحقيق السنة وليس للدعاء والنداء إلى الصلاة عامة.

قال المؤلف رحمه الله: (وإن كانت الفائتة واحدة أذن لها وأقام) دليله ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي قتادة في قصة النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في غزوة من الغزوات فقال: ( من يكلأ لنا الليل؟ قال بلال : أنا يا رسول الله! فنام الصحابة ورسول الله معهم، فنام بلال في آخر الوقت فلم يصحوا إلا والشمس على ظهورهم، فقال: ما هذا يا بلال ؟ فقال: أخذ بعيني الذي أخذ بعينك يا رسول الله قال: ارتحلوا فقال: إن هذا مكان حضرنا فيه شيطان، ثم انتقل فأمر بلالاً فأذن ثم أقام )، وعلى هذا فنقول لمن نام عن صلاة الفجر حتى خرج وقتها: يسن لك أن تنتقل من مكانك الذي نمت فيه عن الصلاة فتصلي في غرفة أخرى، أو في بقعة أخرى، هذه استحسنها بعض أهل العلم؛ نقول: لأن هذا مكان حضرنا فيه شيطان كما جاء في الصحيحين من حديث ابن مسعود أنه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم: ( رجل نام حتى أصبح )، ومعنى أصبح يعني: حتى طلع الصبح والشمس، فقال: ( ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه )، وقال بعضهم: إن الاستحباب إنما هو في الأمكنة التي يحضرها الناس، أما في البيوتات فلم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة أنهم انتقلوا من ذلك، والمسألة محل بحث، لكن نقول: لو انتقل على سبيل الاستحسان والاقتداء لم يكن ببعيد، والله أعلم.

الإسرار بالأذان للفائتة أو تركه عند خشية التلبيس على الناس

قال المؤلف رحمه الله: (ثم إن خاف من رفع صوته به تلبيساً أسر)، إن خاف أن يرفع صوته فيلبس على الناس فإنه يسر، والله أعلم.

ثم إني أقول: إن هذه السنة التي أشار إليها المؤلف تخفى على كثير من المسلمين حيث إنه إذا كان في بيته ففاتته الصلاة، فإنه يسن له أن يؤذن إذا كانوا مجموعة، خاصةً أهل البيت إذا كان هو وزوجته وأولاده قد ناموا عن الصلاة؛ فإنه يوقظهم ويؤذن في البيت، ثم إن الأذان طرد للشيطان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: ( إذا أذن المؤذن أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين )، وهذه من القواعد في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أذن المؤذن أدبر الشيطان حتى يكون في الروحاء، حتى لا يسمع التأذين )، قال سليمان الأعمش : فسألته: كم بين الروحاء وبين مسجد رسول الله، قال: ستة وثلاثون ميلاً، تقريباً خمسين كيلو متراً، وفي رواية: ( وله حصاص )، بعضهم يفسر الحصاص مثل الضراط، وهذا يدل على ما رواه مالك عن زيد بن أسلم أنه إذا كان جلس في مكان أذن ليطرد الشيطان، والله أعلم.

قال المؤلف رحمه الله: (فلو ترك الأذان لها فلا بأس)، نقول: نعم لا بأس، فلو دخل مسجداً قد صلي فيه كما يقول ابن قدامة : إن شاء أذن وأقام وإن شاء تركهما، ولكن لو قيل: إن كان قد جاء إلى مسجد قد أذن فيه فلا يؤذن إذا كان الوقت قريباً، أما إن جاءوا من سفر ودخلوا المسجد والناس قد صلوا فلا حرج أن يؤذن؛ بل يقال: يستحب في حقكم أن تؤذنوا إذا كنتم مجموعة.

متابعة المؤذن في الأذان والإقامة

قال المؤلف رحمه الله: [ ويسن لسامعه أي: لسامع المؤذن أو المقيم، ولو أن السامع امرأة أو سمعه ثانياً وثالثاً حيث سن متابعته سراً بمثل ما يقول، ولو في طواف أو قراءة، ويقضيها المصلي والمتخلي ].

متابعة المؤذن بالأذان

قول المؤلف: (ويسن لسامعه)، يعني: سامع المؤذن، أن يقول مثل ما يقول المؤذن، لكن المؤلف هنا قال: يسن، وهذا قول جمهور أهل العلم على أن متابعة المؤذن سنة وليس بواجب، وأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول )، كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري أن هذا ليس على سبيل الوجوب، ودليل الصارف ما ثبت في الصحيح من حديث أنس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يؤذن فقال الله أكبر الله أكبر عندما سمعه يكبر: على الفطرة، ولما سمعه قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال: خرجت من النار )، قالوا: ولم يتابعه النبي صلى الله عليه وسلم، واستدلوا بما جاء في حديث معاوية أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتابع المؤذن إلا عند الشهادتين ولم يتابعه في حي على الصلاة، حي على الفلاح، فلو كانت المتابعة واجبة لأكملها النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن قول أبي حنيفة و ابن حزم بوجوب المتابعة ليس بقوي؛ لأن الأذان فرض كفاية، فإذا كان الأذان فرض كفاية، ولربما كان المؤذنون قد فعلوا الاستحباب وليس الكفاية، فكيف يقال إن متابعته واجبة، الأذان أصلاً سنة الآن لو أذن مسجدنا هذا الجامع المبارك ثم أذن جامع عثمان بن عفان رضي الله عنه، أذان هذين المسجدين على سبيل الاستحباب؛ لأنه قد أذن في البلد فكيف يقال إن متابعة المؤذن الذي فعل المستحب واجبة؟! هذا بعيد، وعلى هذا فالراجح أن متابعة المؤذن سنة وليست بواجبة.

متابعة المؤذن بالإقامة

قال المؤلف رحمه الله: (ويسن متابعة المؤذن والمقيم)، فهل يسن متابعة المقيم؟ يعني: إذا شرع المؤذن في الإقامة هل يسن متابعته؟ الحنابلة لهم روايتان في ذلك، الأظهر عن أحمد رحمه الله كما نقلها ابن رجب عن الإمام أحمد أنه لا يتابعه، وهذا هو الأظهر والله أعلم، أنه لا يسن متابعة المؤذن حال الإقامة، وذلك لأمور:

أولاً: لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تابع المقيم حال إقامته.

ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول )، وجاء في حديث عمر في صحيح مسلم قال: ( فإذا قال: الله أكبر الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال أحدكم: أشهد أن لا إله إلا الله )، فذكر الأذان ولم يذكر الإقامة.

ثالثاً: أن ما جاء في حديث أبي أمامة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما أذن بلال ثم أقام قال: أقامها الله وأدامها )، نقول: هذا حديث ضعيف، ثم لو صح ليس فيه دلالة ظاهرة على المتابعة، إلا في قول: قد قامت الصلاة، وعلى هذا فقد كان الإمام أحمد رحمه الله إذا شرع المؤذن بالإقامة رفع يديه فدعا، وهذا الوقت وقت للدعاء يخفى على كثير من الناس، فتجدهم ينشغلون بالقيام وبعض السنن فيبحثون عن السواك، ولا يدعون ربهم ويتضرعون فمن المعلوم أن مثل هذا الموطن موطن إجابة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عند ابن حبان وأصله عند أبي داود بسند لا بأس به من حديث سهل بن سعد الساعدي ( ساعتان تفتح فيهما أبواب السماء عند حضرة الصلاة وعند الصف ) يعني: في القتال، عند حضرة الصلاة وعند القتال وحضرة الصلاة متى؟ عند الإقامة، وأما بين الأذان والإقامة فسوف يأتي إن شاء الله إيراد ذلك.

مشروعية تكرار المتابعة مع أكثر من مؤذن والإسرار بها

قال المؤلف رحمه الله: (ولو أن السامع امرأة)، يعني: أنه يستحب مطلقاً حتى لو كانت امرأة وهي لا يجب عليها أن تصلي في المسجد.

قال المؤلف رحمه الله: (أو سمعه ثانياً وثالثاً حيث سن)، اختلف العلماء هل الأصل في الأمر التكرار أم عدم التكرار؟ في ذلك خلاف، لكنهم قالوا في تحرير محل النزاع: إذا وجد سبب يقتضي التكرار شرع لوجود السبب لا لأصل الصيغة، صيغة العمل، قالوا: وهذا منه، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا سمعتم المؤذن فقولوا )، فهذا سبب في التكرار وليس لأجل صيغة الأمر، وهذا الذي يظهر والله أعلم.

ولهذا يستحب للإنسان أن يتابع المؤذن، ولو أذن بعض الجوامع فتابع هذا حتى إذا انتهى تابع الثاني حتى إذا انتهى تابع الثالث، فإن في ذلك فضيلة؛ لأنه يصدق عليه أنه سمع المؤذن والله أعلم.

قال المؤلف رحمه الله: (متابعته سراً بمثل ما يقول) يعني لا يجهر؛ لأن هذا ذكر، والأصل أن الإنسان يخفي عبادته كما قال الله تعالى: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:271]، وقال صلى الله عليه وسلم كما عند أهل السنن من حديث عقبة : ( الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة ).

حكم متابعة المؤذن من هو في عبادة كالطواف والصلاة

قول المؤلف: (ولو في طواف أو قراءة)، يعني: يشرع للسامع إذا سمع المؤذن أن يتابعه، ولو كان في طواف أو في قراءة قرآن فإنه يقف ثم يتابع المؤذن، وقد رأيت شيخنا عبد العزيز بن باز حريصاً كل الحرص على متابعة المؤذن، ومعلوم أن متابعة المؤذن بإذن الله مدخلة العبد الجنة، كما في صحيح مسلم من حديث عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من سمع المؤذن يقول: الله أكبر الله أكبر فقال أحدهم: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله فقال أحدهم: أشهد أن لا إله إلا الله، حتى قال: الله أكبر الله أكبر فقال أحدهم: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: لا إله إلا الله ، فقال أحدهم: لا إله إلا الله من قلبه، دخل الجنة ).

قال المؤلف رحمه الله: (ويقضيها المصلي) المصلي لا يتابع المؤذن؛ لأن في الصلاة شغلاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود : ( إن في الصلاة لشغلاً )، هذا قول أكثر أهل العلم، وذهب أبو العباس بن تيمية رحمه الله كما في الاختيارات قال: ويتابع المؤذن ولو في صلاة؛ لأنه ذكر ودعاء إلا في الحيعلتين؛ لأنه مناداة، وهذا قول ابن حزم ، والذي يظهر والله أعلم أن ابن حزم و ابن تيمية أخذا بالعموم، والجمهور أخذوا بالعموم وقالوا: إن المصلي مشغول بعبادة أعظم، وهي الصلاة: ( إن في الصلاة شغلاً ).

لكن كيف نوجه كلام الجمهور وهو قوي؟ الذي أرى أن قول الجمهور أقوى، وهو المذهب خلافاً لـابن حزم و ابن تيمية .

نقول: إن للصلاة في كل موطن فيها ذكر مشروع، فإذا ذكر الله في متابعة المؤذن صار هذا ذكراً مشروعاً في غير محله، فقد قال العلماء: لو ذكر الله بذكر مشروع في غير محله في صلاة سن له أن يسجد للسهو، فمن غير المناسب أن نقول: يتابع المؤذن وهو يصلي؛ ولهذا فالذي يظهر والله أعلم أن المصلي لا يتابع مؤذنه.

لكن المؤلف يقول: (ويقضيها المصلي)، المصلي هل يقضيها كما قال المؤلف أم يقال: إنها سنة فات محلها؟ الذي يظهر والله أعلم أنه لو تابعه فحسن؛ لكننا لا نقول: إنها سنة؛ لأن السنة هي حال المتابعة، وأما إذا انتهى المؤذن فلا يقال: قولوا مثل ما يقول؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( فإذا قال: حي على الصلاة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: حي على الفلاح، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: الله أكبر الله أكبر فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر )، إلا أنه إذا انشغل السامع عن المؤذن في أول الأذان فإن الأفضل أن يقول ما فاته حتى يدرك ما وصل إليه المؤذن، ولنفرض أن المؤذن قال: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله ثم سمعه أو تذكر وكان منشغلاً، فإنه يقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله ثم يتابع بعد ذلك؛ لأن هذه السنة لم تفت بعد.

متابعة المؤذن من المتخلي في الخلاء

قال المؤلف رحمه الله: (والمتخلي) أي: يقضي المتخلي؛ قالوا: لأن الأذان ذكر فلا يناسب أن يذكر الله حال الخلاء، لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن عمر : ( إني كرهت أن أذكر الله وأنا على غير طهر )، فلم يسلم على الرجل، وقد يقال: إن ثمة فرقاً بين حال التخلي يعني: حال قضاء الحاجة، وحال وجود المرء في الخلاء، فأما حال التخلي فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد على المسلم سلامه حتى انتهى من الخلاء وقال: ( إني كرهت أن أذكر الله على غير طهر )، وأما حال وجود المسلم في الخلاء، فإن الذي يظهر والله أعلم استحباب متابعته؛ لأن عندنا قاعدة: إذا تعارض المأمور والمحظور وكانا في درجة واحدة قدم المأمور، وإذا تعارض واجب ومحرم يقدم الواجب؛ لأن الواجب أقوى من المحرم، وإذا تعارض مستحب ومكروه يقدم المستحب، فالذكر في الخلاء مكروه، ومتابعة المؤذن مستحبة، وهما في درجة واحدة، فنقول: الأفضل متابعة المؤذن؛ ولأن المتابعة هنا يفوت محلها فهي من ذوات الأسباب، كما شرع للمصلي أن يصلي ركعتي المسجد، ولو كان في وقت نهي.

ما يقوله المتابع للأذان عند الحيعلة والتثويب

قال المؤلف رحمه الله: [وتسن حوقلته في الحيعلة أي: أن يقول السامع: لا حول ولا قوة إلا بالله، إذا قال المؤذن أو المقيم: حي على الصلاة حي على الفلاح]؛ وذلك لما جاء في صحيح مسلم من حديث عمر رضي الله عنه: ( ولا يقول: حي على الصلاة لا حول ولا قوة إلا بالله )، بل يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله فقط.

قال المؤلف رحمه الله: [وإذا قال: الصلاة خير من النوم ويسمى التثويب، قال السامع: صدقت وبررت].

قول المؤلف: (صدقت وبررت)، هذا هو المذهب عند الحنابلة، والراجح والله أعلم أن السامع يقول مثل ما يقول المؤذن، فيقول: الصلاة خير من النوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( فقولوا مثل ما يقول )، ولا يخرج من هذا العموم إلا بدليل فخرج الحيعلتين لحديث عمر والله أعلم.

قول المتابع عند: قد قامت الصلاة

قال المؤلف رحمه الله: [وإذا قال المقيم: قد قامت الصلاة، قال السامع: أقامها الله وأدامها].

كما قلنا لحديث أبي أمامة : ( أن بلالاً أخذ بالإقامة فلما أن قال: قد قامت الصلاة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أقامها الله وأدامها )، وهذا حديث ضعيف، في سنده شهر بن حوشب ورجل مجهول.

حكم متابعة المؤذن نفسه

قال المؤلف رحمه الله: [وكذا يستحب للمؤذن والمقيم إجابة أنفسهما للجمع بين ثواب الأذان والإجابة].

الحنابلة في القول الثاني يرون أن المؤذن يستحب له أن يجيب نفسه فيقول: الله أكبر، فيقول في نفسه: الله أكبر، وعلى هذا فقس، ولكن الذي يظهر والله أعلم هو عدم الاستحباب، كالداعي والسامع، فإن الداعي يدعو، والسامع يؤمن، فلا يناسب أن يقول الداعي: اللهم اهدنا فيمن هديت! آمين، اللهم اغفر لنا ولوالدينا! آمين، لا يناسب، هذا له حق مشروع، وهذا له حق مشروع.

الأذكار الواردة أثناء الأذان وبعده

قال المؤلف رحمه الله: [ويسن قوله: أي قول المؤذن وسامعه بعد فراغه: اللهم، أصله يا الله، والميم بدل من يا، قاله الخليل و سيبويه . رب هذه الدعوة: بفتح الدال أي: دعوة الأذان، التامة: أي: الكاملة السالمة من نقص يتطرق إليها].

يعني أن الدعاء دعوة إلى الناس للصلاة، فالسامع والمؤذن يقولان: اللهم رب هذه الدعوة التامة، وهذا الدعاء مشروع في حق المؤذن وفي حق السامع.

حكم قول من سمع الأذان: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله

وقبل ذلك هناك سنن لم يذكرها المؤلف، وهو أنه يشرع للسامع إذا سمع المؤذن يؤذن أن يقول: ( وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً )، كما في صحيح مسلم من حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه، وهذا يقوله السامع من حين يسمع المؤذن، أو من حين شروع المؤذن في الشهادتين، أو بعد ذلك بقليل؛ لأن الحينية هنا تصدق على أول الأذان أو في وسطه، ولو قال: أشهد أن لا إله إلا الله من غير قوله: وأنا أشهد فهذا صحيح أيضاً؛ لأن محمد بن رمح الراوي هو الذي قال: وأنا أشهد، وأما رواية قتيبة بن سعيد ففيها: أشهد أن لا إله إلا الله لا شريك له وأشهد أن محمداً رسول الله رضيت بالله رباً، ثم يتابع المؤذن.

ما يقال بعد الانتهاء من الأذان

فإذا انتهى المؤذن من أذانه قالا جميعاً: اللهم رب هذه الدعوة التامة، التامة: معناها الكاملة من جميع النقص، ولأجل فضل هذا الأذان كان بعض الفضلاء إذا أراد أن يقرأ على معين أو على من به مس أذن فكان في ذلك طرد للشيطان، وهذا ينفع بإذن الله؛ إذ أن الرقية من باب العلاج والشفاء والتجربة، فإذا نفعت فالحمد لله، ولا يقال: إنه لا بد فيها من نص؛ لأن العلاج يعرف بالتجارب كما أشار إلى ذلك ابن القيم وهو قول شيخنا عبد العزيز بن باز .

قال المؤلف رحمه الله: [والصلاة القائمة التي ستقوم وتفعل بصفاتها].

هنا ينبغي للمسلم أن يستشعر حينما يدعو بهذا الدعاء أنها اشتملت على ذكر وعلى دعوة وعلى توحيد، وعلى انقياد، فإذا استشعر مثل هذا فهو متذلل عابد لله سبحانه وتعالى.

وقوله: (والصلاة القائمة) فهو يقول: إن هذه الصلاة التي سوف أصليها إنما هي لله سبحانه وتعالى، فهذا دعوة إلى الإخلاص قبل حصوله، وهذا يدل على الانقياد، والانقياد معناه: أنه ينقاد لفعل العبادة ولو لم يكن في وقتها وهو عازم على أن يفعلها مخلصاً لله تعالى.

قال المؤلف رحمه الله: [آت محمداً الوسيلة: منزلة في الجنة، والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته أي: الشفاعة العظمى في موقف القيامة؛ لأنه يحمده فيه الأولون والآخرون].

قول: (آت محمد الوسيلة والفضيلة)، الوسيلة: من أعلى منازل الجنة، كما أشار إلى ذلك أهل العلم؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( هي منزلة في الجنة وأرجو أن أكون أنا هو )، يعني: أعظم منزلة في الجنة. والفضيلة الذي يظهر والله أعلم أنها رتبة زائدة.

قال المؤلف رحمه الله: (وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته)، ما هو المقام المحمود؟ ذكر ابن جرير قال: ذهب أكثر أهل التأويل إلى أن المقام المحمود هو المقام الذي يبعثه الله سبحانه وتعالى للفصل والقضاء وهي الشفاعة العظمى، وقد جاء في ذلك أحاديث صحيحة منها ما رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله : ( ثم يبعثه الله المقام المحمود )، وكذلك في حديث كعب بن مالك عند الإمام أحمد رحمه الله وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( فأقول ما شاء الله أن أقول فذلك المقام المحمود )، وجاء أيضاً من حديث أبي هريرة عند ابن جرير الطبري ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن قول الله تعالى: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79]، قال: هي الشفاعة )، فهذا تفسير القرآن بالسنة، وهذا قول عامة أهل العلم.

وقال مجاهد رضي الله عنه: إن المقام المحمود هو أن يقعد الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على عرشه، وأن يجلسه على عرش الرحمن، وهذا التفسير من مجاهد لم يقله أحد من الصحابة، ولم ينكره أحد من الصحابة كما أشار إلى ذلك ابن جرير الطبري ، وقد ذكر عبد الله بن أحمد في كتاب السنة، و الخلال في كتاب السنة، و عثمان بن سعيد الدارمي في رده على بشر المريسي أن جماعة من السلف ذهبوا إلى ما ذهب إليه مجاهد ؛ بل قال عبد الله ابن الإمام أحمد : إن من رده فهو مبتدع جهمي، والذي يظهر كما هو طريقة كثير من السلف كـابن جرير الطبري و عثمان بن سعيد الدارمي وبعض مشايخنا كشيخنا محمد وشيخنا عبد العزيز يقولون: إن صح فالحمد لله، وهذه طريقة السلف يعني: إنها إن ثبتت الأحاديث الصحيحة قلنا بها ولا نردها، فإن صحت فالحمد لله، فيكون المقام المحمود: هو الشفاعة العظمى، ولا مانع أن يكون أيضاً إقعاد أو إجلاس النبي صلى الله عليه وسلم على العرش، لكن ما نجزم إلا بدليل صحيح، فيمكن أن يكون ويمكن ألا يكون؛ لأن هذا من مجاهد وإن كان بعضهم يقول: مجاهد لم يقله لرأيه، لكننا هنا بهذه الطريقة طريقة السلف وهم لم ينكروا ذلك ولم يردوه، ولكنهم أوقفوا هذا إلى العلم، وهذا هو العلم الحق, أن الإنسان لا يقول إلا بعلم، وعلى هذا فنقول: هل المقام المحمود هو إقعاد الله نبيه صلى الله عليه وسلم على العرش؟ نقول: إن صح، والله أعلم.

ولكن أكثر السلف -وهذا هو الذي ثبت بالنص الشرعي- يقولون: إن المقام المحمود هو الشفاعة العظمى هذا من غير إنكار، بل أجمعت جميع طوائف المسلمين سنيهم وبدعيهم على أنه للنبي صلى الله عليه وسلم.

بعض الأحكام المتعلقة بما بين الأذان والإقامة

قال المؤلف رحمه الله: [ثم يدعو. ويحرم خروج من وجبت عليه الصلاة بعد الأذان في الوقت من مسجد بلا عذر أو نية رجوع].

مشروعية الدعاء بين الأذان والإقامة

قول المؤلف: (ثم يدعو) جاء في حديث أنس أنه قال: ( الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة )، وهذا الحديث رواه الثوري عن زيد العمي عن معاوية بن قرة عن أنس ، وأحسن منه ما رواه أهل السنن أبو داود وغيره، وأحسن منه ما رواه النسائي من حديث بريد بن أبي مريم عن أنس : ( الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد )، وأما زيادة: ( ثم سلوا الله العفو والعافية ) فلا؛ بل جاء في رواية بريد بن أبي مريم عن أنس : ( الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد فادعوا )، وقد جاء عند ابن حبان بسند لا بأس به: ( ساعتان تفتح فيهما أبواب السماء ويستجاب فيهما: الدعاء عند الأذان بالصلاة، وعند الصف في سبيل الله ).

حكم الخروج من المسجد بعد الأذان

قال المؤلف رحمه الله: (ويحرم خروج من وجبت عليه الصلاة بعد الأذان في الوقت)، قول المؤلف: يحرم، هذا الذي يظهر والله أعلم إلا لمن أراد أن يصلي في مسجد آخر، أو كان معذوراً في الخروج، لعذر ذاتي لنفسه، أو أراد أن يرجع فهذه ثلاثة أعذار، مثلاً أن ينوي أن يصلي في مسجد آخر، أو أراد نية الرجوع، أو كان معذوراً في عدم حضور الجماعة، ولكنا نقول مع ذلك لا يخرج إلا بعد انتهاء المؤذن.

أما دليل حرمة الخروج فلما رواه الجماعة إلا البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن أبي الشعثاء : ( كنا قعوداً عند أبي هريرة فأذن المؤذن فقام رجل يمشي فخرج من المسجد فأتبعه أبو هريرة بصره، فلما خرج قال: أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم ).

وأما عدم استحباب الخروج من المسجد بعد أن يشرع المؤذن في الأذان لعدم مشابهته بالشيطان، كما أشار إلى ذلك ابن تيمية و أحمد رحمه الله قبل ذلك؛ لأنه كما قال صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة : ( إذا أذن المؤذن أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين )، فلا يناسب أن يشابه العبد المسلم الشيطان في ذلك، وأما ما جاء عند ابن ماجه من حديث عثمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أدرك الأذان في المسجد ثم خرج لحاجة وهو لا يريد الرجوع فهو منافق )، فهذا حديث في سنده ضعف، و الألباني مرة ضعفه ومرة صححه، والحديث ضعيف، وأحسن منه ما رواه أبو داود في المراسيل عن سعيد بن المسيب عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يخرج من المسجد أحد بعد النداء إلا منافق إلا أحد أخرجته حاجة وهو يريد الرجوع )، ولكنا نقول: إن الصواب أنه مرسل، ومراسيل سعيد أقوى من غيرها، ولكنها ضعيفة والله تبارك وتعالى أعلم.

نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , الروض المربع - كتاب الصلاة [8] للشيخ : عبد الله بن ناصر السلمي

https://audio.islamweb.net