إسلام ويب

لقد فرض الله على عباده الصلاة وجعل لها شروطاً لا تصح إلا بها، منها الوضوء الذي لا يصح هو أيضاً إلا بشروط منها: النية، وطهورية الماء وإباحته، وإزالة ما يمنع من وصول الماء إلى البشرة، ودخول الوقت لمن حدثه دائم.

اشتراط النية في الوضوء

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم آمين. وبعد:

تنبيه لطلاب العلم!

يقولون: أحياناً الطلاب يغيرون من وجهة معلمهم أكثر من أن يغير المعلم وجهة نظر الطلاب، وهذه من الأخطاء، ولهذا جاءني كثير من الإخوة يقولون: إننا لن ننتهي إذا استمرينا على هذا الأمر، وأنا أقول: إن شاء الله سوف ننتهي بأمور:

أولاً: يظهر أن الطلاب لا يعرفون الفرق بين باب العبادات وغيرها من الأبواب، باب العبادات كل فقرة لا بد فيها من دليل أو تعليل أو أثر، أما باب المعاملات فتقرأ سطران وكلها في قضية واحدة، ولهذا نشرح في زاد المستقنع صفحة كاملة مدة ساعة، ما لا نستطيع أن نشرح فيها سطرين في باب العبادات، وهذا معروف عند من يعرف ذلك.

ثانياً: أن طريقة الدرس هو بيان مراد المؤلف، وصورة المسألة، والمحاذير، والراجح، وطريقة الاستدلال، وقاعدة المذهب أو قاعدة الأئمة من بعدهم، وليس غرضنا هو أن نفكك عبارة المؤلف، ونبين المذهب فقط، هذا ليس من طريقتنا، أهم شيء أن الطالب يتخرج وهو يعرف طريقة الاستدلال.

أما مسألة يحفظ المذهب أو لا يحفظ المذهب، يحفظ القول الراجح، أو لا يحفظ القول الراجح، فأنتم أمام مسيرة تعليمية طويلة جداً، فلو تطلع على الروض مرتين أو ثلاث فإنك تستطيع بعد خمس سنوات أن تحفظه، لكن أنى لك بطريقة الاستدلال، أنى لك أن تعرف طريقة قواعد الأئمة.

العلم وحفظ المسائل يأتي بالدربة، وكثرة المسائل والمراجعة؛ لكن إذا مشى طالب العلم على طريقة واحدة يصعب عليه أن يرجع إلى طريقة أخرى، فإذا عرف طريقة الاستدلال، وعرف طريقة الأئمة، وعرف الآثار الواردة في هذا الباب استطاع أن يحتذي هذه الخطوة، وإلا كثيرون هم الذين يحفظون الزاد، وإذا سئلوا قالوا: قال في الروض، وقال كذا؛ لكن هل ينعموا بطريقة الاستدلال بالأدلة، بالآثار، بأقوال الصحابة؟ هذا الذي ينبغي أن يكون عليه طالب العلم.

قال المؤلف رحمه الله: [ والنية لغة: القصد، ومحلها القلب، فلا يضر سبق لسانه بغير قصده ويخلصها لله تعالى ].

تعريف النية ومحلها

عندما ذكر المؤلف شروط الوضوء قال: النية، وعرفها في اللغة، فقال: (لغة: القصد)، وأيضاً لغة القصد والعزم، تقول: نويت أن أسافر إلى مدينة كذا أي: عزمت. ولكن بعضهم يفرق، فيقول: القصد في حال فعل الشيء، والعزم متأخر عنه، يقول: عزمت أن أسير إلى الرياض، ولما تفعل الوصول، أما أن تقول: قصدت الوضوء، فهي تكون في الغالب مقارنة، أو شيئاً قليلاً، هكذا فرقوا بين العزم والقصد، فقالوا: إن القصد تكون النية عن العزم قبل، وأما مع القصد تكون أحياناً مقارنة.

يقول المؤلف: (ومحلها القلب)؛ لأنها من أعمال القلوب، وليست من أعمال الجوارح؛ ولذا فلا ينبغي التكلف فيها، فبمجرد قيام الإنسان من مرقده إلى مكان الوضوء، فهو ناوٍ رفع الحدث، وبمجرد دخول الأذان وقصد الإنسان الصلاة، وذهابه إلى أماكن الوضوء، فهذا دليل على نية رفع الحدث، والفقهاء رحمهم الله خاصة المتأخرون منهم تكلفوا في بيان مراد النية، حتى جعلت بعض الناس يصاب بالوسوسة، كما قال أبو العباس بن تيمية رحمه الله، كما سوف يأتي بيان ذلك، ولهذا كثر الموسوسون عندنا، بل إن كل ثلاثة أيام، أو أربعة أيام، أو أسبوع يتصل عليّ موسوس، وأمس اتصلت عليّ امرأة تبكي بكاءً مراً لأجل الوسوسة، وقبل ثلاثة أيام اتصل عليّ مهندس مصاب بهذا المرض والعياذ بالله، واتصل عليّ طالب علم، فعرفت مغزاه، فقلت له: أنت لست واقعاً في كذا، ودليل ذلك مذهب أحمد فقد قال: كذا، وقال مالك : كذا. قال: الآن ارتحت؛ لأنا خاطبناه بالذي يريد، لو قلت: وقال الله، قد يقول: لا، إلى الآن ما عندي مشكلة؛ لأنه ما تصور، فإذا قلت: مالك رحمه الله يرى أن مثل ذلك بدعة، و أحمد رحمه الله كذلك، يرتاح. فمثل هؤلاء يجب عليهم أن يعرفوا أن مطاوعتهم لإبليس هو فرح له وحزن عليك حينما لم تتبع آثار سلفك؛ ولهذا لا ينبغي للإنسان أن يتكلف في هذا الأمر، وإذا جاءته الوسوسة بمثل هذا فعليه أن ينفث على يساره ثلاثاً، ويقول: آمنت بالله ورسله، آمنت بالله ورسله، آمنت بالله ورسله، ثم لينته.

وعلى هذا فمجرد الفعل دليل على إرادة القلب ولا يلزم التلفظ ولو تلفظ -وهذا مراد المؤلف- فلا يضر سبق لسانه بغير قصده، فلو تلفظ بلسانه ولم يقصد في قلبه، فإن المؤلف يقول حينئذٍ: لا يضر، وهذا على الاطراد، استثنى بعض العلماء أو أكثر العلماء لفظ الطلاق والرجعة والعتاق؛ لحديث عبد الرحمن العبلي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ثلاث جدهن جد وهزلهن جد، الطلاق والرجعة والعتاق )، والحديث ضعيف؛ إذ أن أبا محمد العبلي لم يسمع من أبي هريرة رضي الله عنه.

يقول المؤلف: (يخلصها لله تعالى) يعني: يجعل عبادته مقصود بها رضا الله سبحانه وتعالى، وتطهره مقصود به رضا الله سبحانه وتعالى، فإذا أراد أن يتوضأ في رحلة مع زملائه، ومن عادته أن يتوضأ مرة مرة، فأراد أن يتوضأ ثلاث مرات، فنقول: اجعل هذه السنة مرادة لله سبحانه وتعالى، وبعض الناس يبالغ في مسألة التعليم، ويبالغ في تعليم إخوانه، لكنه فيما بينه وبين نفسه ربما يكون كسولاً خمولاً ضعيف الإرادة، ضعيف القوة، فليتق الله في ذلك، وليجعل سريرته أعظم من علانيته.

قال المؤلف رحمه الله: [ شرط هو لغة: العلامة، واصطلاحاً: ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته ].

(الشرط) بتسكين الراء، وأصله مخفف من الشرط، وهو العلامة، فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا [محمد:18] يعني: علاماتها.

يقول المؤلف: لغة: العلامة، واصطلاحاً عرفها بقوله: ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم، لو سكت لكفى؛ لكن لأجل الدقة عند الأصوليين يقولون: ولا عدم لذاته.

شرح التعريف نقول: (ما يلزم من عدمه العدم)، فهذا احتراز من المانع، إذ أن المانع ما يلزم من وجوده العدم، يلزم من وجود المانع عدم الصلاة، أو يلزم من وجود المانع عدم القتل، فالأبوة مانعة من وجود القصاص، أليس كذلك؟ فالمانع ما يلزم من وجوده العدم.

القسم الثاني: قال: (ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم)، ليخرج بذلك السبب والمانع، إذ أن السبب يلزم من وجوده وجود، ومن عدمه عدم، أليس كذلك؟ وكذلك المانع لا يلزم من عدمه وجود ولا عدم، عكس قولنا: ولا يلزم من وجوده وجود، فالمانع لا يلزم من عدمه الوجود.

وأما قوله: (لذاته)، فهذه الكلمة احتراز من صورة، أو صورتين، يقولون: قد يوجد الشرط، ويوجد معه السبب فالصلاة، الشرط: الطهارة، والسبب: دخول الوقت، فتوجد معه الصلاة، ونحن قلنا: لا يلزم من وجوده وجود الصلاة، فالطهارة لا يلزم من وجودها وجود الصلاة، لكنها لو قارنت هذا بذاتها، يعني: وجود الشرط بذاته، لا يلزم منه وجود الصلاة، وربما توجد الطهارة ويوجد معها السبب، يعني: توضأت أنت بعد دخول الوقت، فوجدت الطهارة، ووجد المسبب وهو الصلاة؛ لكن وجود الصلاة لأجل وجود الشرط بذاته، أم بشيء آخر، وهو السبب، وهذا مراد المؤلف بقوله: بذاته، أي: بذاته يعني: لذات الشرط، فإن وجد شيء آخر قارن الشرط، فلا يلزم منه أن يكون وجود الطهارة شرط لوجود الصلاة، بل لوجود شيء آخر خارج عن ذات الشرط، وكذلك قل: قد توجد الطهارة -التي هي القسم الثاني- ولا توجد الصلاة؛ لكن عدم وجود الصلاة إنما هو لوجود مانع وهو وقت النهي، وليس لذات وجود الشرط، فقد توجد الطهارة ولا توجد الصلاة، والمانع هو ما يلزم من وجوده العدم، فقد توجد الطهارة ولا توجد الصلاة؛ لكن ليس لأجل الشرط، ولكن لأجل وجود مانع، وهو وقت النهي، فهذا مراد المؤلف بقوله: لذاته.

مدى إجزاء نية الوضوء لصلاة معينة عن رفع الحدث مطلقاً

قال المؤلف رحمه الله: [ وإن نوى صلاة معينة لا غيرها ارتفع مطلقاً ].

يقول: لو نوى الطهارة لصلاة الظهر، أو نوى الطهارة ليمس المصحف؛ لكنه لم ينو رفع الحدث مطلقاً عن بدنه، فهذه النية كافية؛ لأنه نوى عبادة معينة، فتجزئ عن جميعها؛ لأن قصد نية رفع بعض الحدث يكون كأنه قصد رفع كل الأحداث؛ لأن نية قصد رفع بعض الحدث الذي يمنع من مس المصحف، كأنه نوى رفع كل ما يستباح له الطهارة، وإن شئت فقل التعليل الثاني: لأن الحدث وصف قائم بالبدن، ولا يتجزأ فإذا قصد رفع الحدث في بعض أنواع العبادات التي لا تباح إلا بالطهارة، فكأنه رفع هذا الوصف، وتأمل هذا التعليل فإننا سوف نعلل به على خلاف مراد المؤلف.

اشتراط النية لرفع الأحداث كلها

قال المؤلف رحمه الله: [ لطهارة الأحداث كلها؛ لحديث: ( إنما الأعمال بالنيات ) ].

والحديث متفق عليه من حديث عمر رضي الله عنه.

قال المؤلف رحمه الله: [ فلا يصح وضوء وغسل وتيمم ولو مستحبات إلا بها ].

هذا مذهب عامة أهل العلم خلافاً لبعض الحنفية الذين قالوا: إنه لو توضأ وفعل أفعال الوضوء لإزالة الأوسخ أجزأ عن رفع الحدث.

والصحيح أن الحدث وصف قائم بالبدن، يمنع من الصلاة ونحوها إلا بنية رفعه.

قال المؤلف رحمه الله: [ فينوي رفع الحدث، أو يقصد الطهارة لما لا يباح إلا بها أي: بالطهارة ].

الآن كلام المؤلف: (فينوي رفع الحدث)، أو ينوي، أو يقصد، أو يعزم الطهارة لما لا يباح إلا بوجود الطهارة، كأنه جواب لسؤال مقدر، وهو ماذا ينوي؟ أو كيف ينوي؟ أو كيف تصح العبادة؟ تصح بأن ينوي الطهارة لما لا يباح إلا بوجودها كالصلاة، وقراءة القرآن، ونحو ذلك مما هو واجب فيه الطهارة.

قال المؤلف رحمه الله: [ كالصلاة والطواف ومس المصحف؛ لأن ذلك يستلزم رفع الحدث، فإن نوى طهارة أو وضوءاً أو أطلق، أو غسل أعضاءه ليزيل عنها النجاسة، أو ليعلم غيره أو للتبرد لم يجزه ].

فإن نوى طهارة، يعني: التنظف، أو نوى التبرد، بأن أحس بحرارة فقام وتوضأ، أو أراد أن يعلم غيره الوضوء، ولم يقصد رفع الحدث، فإن المؤلف يقول: إن أطلق الطهارة، أو اغتسل للتبرد، أو توضأ للتبرد، فإن حدثه حينئذٍ لا يرتفع؛ لأنه لم ينو رفع الحدث، ولم ينو الطهارة التي لا يباح فعل العبادة إلا بها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( وإنما لكل امرئ ما نوى ).

نية الوضوء لمن حدثه دائم

قال المؤلف رحمه الله: [وينوي من حدثه دائم استباحة الصلاة ويرتفع حدثه].

يقول المؤلف: (من حدثه دائم)، مثل: من به سلس البول الذي يدر ذكره بولاً دائماً، أو مثل المستحاضة، أو من يأتيه سيلان، أو إفرازات مهبلية في حق المرأة دائماً، فهؤلاء كل منهم حدثه دائم، فحق لكل واحد من هؤلاء أن ينوي حين الوضوء استباحة الصلاة، أو رفع الحدث، فإن نوى استباحة الصلاة ارتفع حدثه على الأصح؛ لكنه لو نوى رفع الحدث لا استباحة الصلاة فإنه لا يرتفع حدثه، وفرق بين الأمرين، يعني: هذا الوضوء جعله مجزئاً له أن يمس المصحف، مجزئاً له أن يصلي، مجزئاً له أن يطوف، لا أنه جعل هذا الوضوء رافعاً للوصف القائم بالبدن، يقول: إن نوى الاستباحة ارتفع حدثه، أما إن نوى رفع الحدث من حدثه دائم، فقد نقل عن صاحب المبدع ابن مفلح أنه قال: الأقيس أنه لا يرتفع؛ فمن حدثه دائم، فيقصد بهذا الوضوء جواز واستباحة هذه العبادة، لا أن الوصف القائم بالبدن قد ارتفع، يقول: حينئذٍ (ويرتفع حدثه) يعني: ويباح له ما يباح لمن حدثه قد ارتفع، وسوف نأتي إلى هذا الأمر.

لماذا قال المؤلف: ينوي استباحة؟ قالوا: لأن الحدث ما زال قائماً موجوداً، فإذا قصد ارتفاع الحدث دون الاستباحة مع وجود الحدث فإنه لم يرتفع.

حكم تعيين نية رفع الحدث للفرض

قال المؤلف رحمه الله: [ ولا يحتاج إلى تعيين النية للفرض ].

هذه الكلمة عارضة، الأولى أن يجعلها بعد قوله: فلو نوى رفع الحدث، فيقوله: (لا يحتاج إلى تعيين النية للفرض) مثلاً، يعني: إني لو توضأت لرفع الحدث، فلا يلزمني أن أنوي رفع الحدث لصلاة فرض، أو إذا نويت رفع الحدث لمس المصحف، فلا يلزم أن أنوي لأجل أن أصلي به صلاة الفرض، فبمجرد ارتفاع الوصف القائم بالبدن لما لا يباح إلا بالطهارة، فإنه يباح لي أن أصلي به الفروض وغيرها، فهذه الكلمة معترضة.

حكم الوضوء لمن حدثه دائم بنية رفع الحدث

قال المؤلف رحمه الله: [ فلو نوى رفع الحدث لم يرتفع في الأقيس قاله في المبدع ].

الأولى أن يجعل قوله: (ولا يحتاج إلى تعيين النية للفرض) قبل قوله: (وينوي من حدثه دائم)، أما قوله: (فلو نوى رفع الحدث) من حدثه دائم (لم يرتفع)، هذا الأصل، العبارة معناها: فلو نوى رفع الحدث من حدثه دائم لم يرتفع، يقول: (في الأقيس)، قالوا: لأن نية رفع الحدث مع وجود الحدث مانع من الارتفاع، ولو قيل خلافاً للمذهب: صحة الصلاة، وارتفاع الحدث جاز، وصحت عبادته لأمور:

أولاً: أن عامة الناس لا يميز بين نية استباحة، ونية الرفع، وتكليف العباد بما لم يرد به نص من الشرع محل نظر.

ثانياً: أن العلماء حينما أمروا من حدثه دائم بالوضوء جعلوا وجود الحدث كالعدم، جعلوا وجود الحدث بعد الوضوء كالعدم، فلا يضر وجوده حينئذٍ لحديث عائشة عند البخاري : ( إن كان بعض أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم لتضع الطشت تحتها وهي تصلي )، يعني: أنها مستحاضة، فجعل هذا الحدث مع وجود الوضوء كأنه غير موجود، فقولنا: فإن نوى من حدثه دائم ارتفاع الحدث فإنه يرتفع حكماً لا حقيقة، وحينئذٍ لا فرق بين أن نقول: يستباح أو ارتفع، هذا الذي يظهر، والله تبارك وتعالى أعلم، وسوف يأتي إن شاء الله هل يتوضأ عند نية كل فريضة، أم عند دخول الوقت، أم يستحب له ذلك، وإن كان الأظهر والله أعلم مذهب جمهور أهل العلم على وجوب الوضوء خلافاً لـمالك رحمه الله.

النطق بالنية في الوضوء سراً

قال المؤلف رحمه الله: [ ويستحب نطقه بالنية سراً ].

قول المؤلف: (يستحب نطقه بالنية سراً) النطق غير التلفظ بها جهراً، فيسمع نفسه، يعني: يقول بينه وبين نفسه: اللهم إني نويت أن أرفع حدثي، اللهم إني نويت أن أصلي بهذا الوضوء كذا، اللهم إني نويت أن أمس المصحف، فهذا هو مراد المؤلف، فإن رفع صوته بحيث يسمع من بجانبه، قالوا: هذا بدعة، عند الأئمة الأربعة، كما نقل ذلك صاحب الإقناع، أما إذا كان سراً أو في القلب، يعني: كأنه يسمع نفسه فقط، فهذا يقول المؤلف: يستحب، قالوا: لأنه إذا تلفظ سراً واطأ ما في القلب إرادة ما في الجوارح؛ وقالوا: ويستحب مقارنة النية بما يفعل وقت العبادة فلأجل هذا إذا تلفظ علمنا تواطؤ إرادة ما في القلب مع إرادة ما في الجوارح، وليس هذا أعني به التلفظ، أو الاستسرار منصوص عن أحمد رحمه الله، ولا يعرف لـأحمد أنه نص على ذلك، لا في الوضوء، ولا في الصلاة، ولا في غيرها، والمعروف عن أحمد فقط في الحج خاصة، نقل ابن مفلح نص أحمد على جواز قول: اللهم إني نويت أن أحج لبيت الله الحرام، أو أن أعتمر، و ابن تيمية رحمه الله قال: لا يعرف التلفظ بالنية لا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من الصحابة، لا في الوضوء، ولا في الصلاة، ولا في سائر العبادات، ونقله عنه تلميذه ابن القيم ، وعليه سار مشايخنا، والمعروف عن أحمد أنه جوز التلفظ بالنية في الحج والعمرة خاصة، والقول ما قال أحمد .

أما قول ابن تيمية رحمه الله: أنه لم يعرف عن أحد من الصحابة أنهم قالوا ذلك، فهذا معترض لما رواه الشافعي في مسنده، و ابن أبي شيبة بسند صحيح كالشمس من حديث سفيان بن عيينة ، قال: حدثنا هشام بن عروة عن أبيه (أن عائشة قالت له: هل اشترطت؟ قال: وماذا أقول يا أماه أو يا أم المؤمنين؟! قالت: قل: اللهم الحج عمدت، وإياه أردت، فإن تيسر كان الحج فهو الحج، وإلا فمحلي حيث حبستني)، هذا نص، وإسناده صحيح كالشمس، وهذا نص من صحابي، فقد قرر ابن تيمية أن فعل الصحابي لا يكون بدعة، وهذا منصوص أحمد أنه جوز التلفظ بالنية في الحج والعمرة خاصة، وهذا مما يستدرك على أبي العباس بن تيمية رحمه الله، وبعض الناس يظن أن العالم ما يهم، ولا يخطئ، ولا يريدون من العالم أن يهم، ولا يريدون من العالم أن يخطئ، وهذا لا يمكن، بل يعلم الإنسان ويفرح أن الدين إنما هو لله سبحانه وتعالى، وقد قلت كثيراً ومراراً وتكراراً قول أبي العباس : ما من إمام من أئمة الإسلام إلا وقد اضطرب في أصوله، وذلك ليكون الدين لله.

حينئذٍ نقول: التلفظ بالنية الصحيح أنه غير مشروع، وهو إلى البدعة أقرب، وأما الاستسرار بها فهو غير مشروع، إلا في الحج والعمرة خاصة، فهو جائز ليس بسنة.

أولاً: لأن ابن تيمية نقل أنه لا يعلم عن رسول الله ولا أحد من الصحابة، ولا أحد من الأئمة أنه جوز التلفظ بالنية، أو الاستسرار بها في جميع العبادات، وقلت: إن عائشة رضي الله عنها روت جواز ذلك في الحج والعمرة خاصة.

ثانياً: ابن تيمية نفى أن يكون الشافعي تلفظ بالنية في الصلاة، وقال: إنما أخطأ أصحاب الشافعي على الشافعي ، هذا كلام ابن تيمية ، وليس الأمر كما قال أبو العباس ، فقد روى ابن الأعرابي في معجمه، قال: حدثنا محمد بن إسحاق بن خزيمة ، قال: حدثنا الربيع بن سليمان عن شيخه محمد بن إدريس الشافعي أنه كان إذا أراد أن يصلي قال: اللهم إني نويت أن أصلي الظهر، ثم كبر، فهذا يدل على أن هذا نص عند الشافعي ، خلافاً لما نفاه أبو العباس بن تيمية رحمه الله عن الشافعي هذا الأمر، والمعروف عن الشافعي أنه يجوز الاستسرار بالنية، أما رفع الصوت والجهر، فهذا معروف أنه لم يعرف عن أحد من أئمة الدين، وعلماء الملة، ذكرت هذا؛ لأن مثل هذه الأشياء ربما لا يستطيعها الإنسان ولو بالبحث إلا إذا وقعت له اتفاقاً كما لا يخفى.

شروط صحة الوضوء والغسل

اشتراط الإسلام والعقل والتمييز وطهورية الماء وإباحته

قال المؤلف رحمه الله: [ تتمة: ويشترط لوضوء وغسل أيضاً إسلام وعقل وتمييز وطهورية ماء وإباحته ].

هذه من شروط الوضوء نفسه، وكذلك الغسل، لا بد من أن يكون مسلماً؛ لأن الكافر غير مأمور بالعبادة، وإن كان معاقباً عليها.

وكذلك لا بد من عقل، فالمجنون لا يقبل منه.

وكذلك لا بد فيه من تمييز؛ لأن الصبي الذي لا يفهم الخطاب، ولا يرد الجواب لا يعول عليه.

وكذلك طهورية ماء، وطهورية الماء عندهم هو أن يكون طاهراً مطهراً، فأما إن كان طاهراً غير مطهر، كما مر معنا في أقسام المياه، فإنه لا يرفع.

كذلك إباحته، يعني: أن يكون الماء مباحاً غير مغصوب، فإن كان مغصوباً فإنه لا يرفع حدثه عند الحنابلة، وكذلك قالوا في الماء الذي وقف للشرب، فإن توضأ منه لم يرتفع حدثه؛ لأنه تصرف فيه على غير مراد الواقف.

وهل يدخل فيها البرادات هذه التي في المسجد، لأن بعض الناس إذا لم يجد ماء في دورة المياه ذهب إلى البراد وتوضأ منه، وهذا يقع كثيراً؟

الأقرب -والله أعلم- أن هذا لا بأس به؛ لأن من وضع البراد لم يقصد الشرب فقط، إنما قصد الانتفاع، وهذا في حق الجوعى والظمأى الذين لا يجدون ماءً للشرب، فربما يكون قاصداً، أو يقصد الواقف هذا الأمر، والراجح -والله أعلم- وهو مذهب الجمهور خلافاً للحنابلة: أن من توضأ بماء مغصوب ارتفع حدثه مع الإثم.

فائدة: ينبغي للإنسان ألا يطلق لفظ السنة، أو الاستحباب؛ لأننا نرى أن الاستحباب والسنة لفظ بمعنى واحد، وإن حاول بعض الشافعية أن يفرق بين الاستحباب والسنة، فقال: السنة ما ثبت بدليل نصي على استحبابه، وعلى سنيته، والاستحباب ما ثبت بالقواعد والاستحسان من غير نص فيه.

ابن تيمية يقول: إذا أطلق الإنسان السنة على شيء ليس في السنة يصدق عليه قوله: ( من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار )، وهذا يدل على أن الإنسان لا ينبغي له أن يتعجل في إطلاق السنة، إلا عن علم، والله أعلم.

اشتراط إزالة ما يمنع من وصول الماء إلى البشرة في الوضوء

قال المؤلف رحمه الله: [ وإزالة ما يمنع وصوله وانقطاع موجب ].

وإزالة ما يمنع وصوله، فإذا كان ثمة شيء يمنع الوصول، فإنه يزيله، كالعجين، والبويات، والمناكير، أعاذنا الله وإياكم من منكر ونكير، وهل يصح منكر ونكير؟

بعض العلماء قال: لا يصح اسم منكر ونكير، والأقرب -والله أعلم- أن رواية أهل السنن من حديث أبي هريرة صحيحة، فقد صحح أحمد حديث منكر ونكير.

ورأى أبو العباس بن تيمية رحمه الله: أن ما عجز عنه المرء من إزالة ما يمنع وصول الماء إذا كان يسيراً فإنه مغتفر، وهذا رأي عند الحنفية خلافاً للجمهور، مثل النساء التي تضع هذا الصبغة من المناكير، فربما تكون في البر وليس معها مزيل له، فإنها تؤمر أن تحكه ما استطاعت، فإن بقي شيء في أطراف الظفر، فإن ذلك مغتفر، ومما يدل على ذلك أن الصحابة كانوا يستخدمون العجين، وكانت الأتربة، والأوساخ تلصق تحت الأظفار، ولم يكونوا يتحرزون من إزالتها، كما أشار إلى ذلك أبو العباس بن تيمية ، فتمنع هذه الأتربة وصول الماء إلى تحت الظفر، وهذا مما هو مغتفر، وأقول: مثل ذلك الذي يبقى في أطراف الظفر من الأصباغ التي تمنع وصول الماء.

اشتراط الفراغ من الاستنجاء والاستجمار ودخول الوقت على من حدثه دائم لفرضه

قال المؤلف رحمه الله: [ ولوضوء فراغ استنجاء أو استجمار، ودخول وقت على من حدثه دائم لفرضه ].

يقول المؤلف: (وانقطاع موجب، ولوضوء فراغ استنجاء) كما مر معنا، أنه لا يصح الوضوء، إلا أن ينتهي من الاستجمار أو الاستنجاء، وقلنا: إن المسألة فيها خلاف، ولو قدر إزالة الخارج من السبيلين بما يمنع من مسه، فإن بعض العلماء جوز ذلك، وقلنا: إن المسألة محل تأمل، وأما قوله: (ودخول وقت على من حدثه دائم لفرضه) هذا مذهب الجمهور، قالوا: من حدثه دائم فلا يصح منه وضوء، إلا بعد أن يدخل وقت الصلاة الأخرى، فلو توضأ للظهر، وقبل أذان العصر توضأ للعصر قالوا: لا يصح من حدثه دائم، حتى يدخل وقت الصلاة، هذا قول، واستدلوا على ذلك بما جاء في قصة فاطمة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تتوضأ لكل صلاة، وقلنا: إن الأقرب -والله أعلم- أن هذه الزيادة من قول عروة ، وأن الذي رفعه حماد بن زيد وأخطأ في ذلك كما حكى ذلك النسائي وغيره، ولو قيل: أنه إن نوى رفع الحدث أو استباحة الصلاة لفرض جديد، ولو لم يدخل الوقت جاز؛ لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا [المائدة:6] ، فهو قد نوى رفع الحدث لنية صلاة الفرض جاز؛ لأننا لو أخذنا بقول الحنابلة فيمن حدثه دائم، للزم على القول الراجح أن وقت الجمعة يبدأ من الزوال، ولأمرناه وهو جالس في المسجد أن يخرج ليتوضأ بعد دخول الوقت، خلافاً للحنابلة؛ لأن الحنابلة يرون أن دخول وقت الجمعة يبدأ كصلاة العيد بعد ارتفاع الشمس قيد رمح، وعلى الراجح وهو مذهب عامة الفقهاء أنه بعد زوال الشمس، وقلنا: إن الأقرب -والله أعلم- أن الأولى أن يتوضأ بعد دخول الوقت، ولكن لو توضأ قريباً قبل دخول الوقت أجزأ ذلك؛ لأن ذلك مما يشق، وليس ثمة دليل صريح في هذا، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة:6] دليل قوي على أنه لا يلزم بدخول الوقت، ولو قلنا: بدخول الوقت لشق ذلك على من به حدث دائم في صلاة الجمعة.

ارتفاع الحدث عمن نوى الأدنى بطهارته دون الأعلى ناسياً وعكسه

قال المؤلف رحمه الله: [ فإن نوى ما تسن له الطهارة كقراءة قرآن وذكر وأذان ونوم وغضب ارتفع حدثه ].

وهذه جاء فيها بعض الروايات، في الأذان، وفي الذكر، وفي الغضب، يقول المؤلف: إن نوى عبادة مستحبة يستحب لها الطهارة كالذكر، أو كالأذان، فإن حدثه حينئذٍ يرتفع؛ لأنه قصد ارتفاع الوصف القائم بالبدن لفعل سنة، فهذا الوصف إذا زال زال الحكم سواء كان لفرض أو لغيره.

قال المؤلف رحمه الله: [ أو نوى تجديداً مسنوناً بأن صلى بالوضوء الذي قبله ناسياً حدثه ارتفع حدثه ].

مثال ذلك: شخص توضأ فصلى الظهر، فلما كان وقت العصر ظن أنه ما زال طاهراً، فأراد أن يجدد الوضوء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال، كما عند الإمام أحمد والنسائي : (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالوضوء عند كل صلاة)، فأراد أن يتوضأ ولم يعلم أنه قد أحدث، فيقول المؤلف: فإن نوى تجديداً مسنوناً، ولم يعلم بحدثه ارتفع أيضاً حدثه؛ لأنه قصده إزالة أو رفع الوصف القائم بالبدن.

قال المؤلف رحمه الله: [وإن نوى من عليه جنابة غسلاً مسنوناً كغسل الجمعة قال في الوجيز: ناسياً أجزأ عن واجب].

يعني: شخص جامع أهله بعد صلاة فجر يوم الجمعة، ثم قام ولم يعلم بجنابته كأن يكون قد نسي، أو ذهل، وأراد أن يغتسل بقصد اغتسال سنة الجمعة، فيقول المؤلف: قال في الوجيز: ناسياً أجزأ عن غسل الجنابة، وهذا محل تأمل؛ لأنه نوى طهارة شرعية، فهذه الطهارة الشرعية جعلته يباح له ذلك، لكنهم قالوا: أن من نوى دخول الكبير في الصغير لا يجزئ، بخلاف العكس، فغسل يوم الجمعة صغير والحدث الأكبر كبير، فكيف يدخل الصغير في الكبير؟ ولهذا الأحوط -والله أعلم- أن ينوي لرفع الحدث الأكبر، فإن لم ينو أمر أن يغتسل خروجاً من الخلاف؛ لأن الصغير لا يدخل ولا ينضوي الكبير تحته، وأما من قال: أنه نوى رفع الحدث بالحدث، نقول: نعم هو نوى رفع الحدث لأعضائه الخمسة أو الأربعة؛ لكنه لم ينو رفع الحدث لعامة بدنه، والله أعلم.

قال المؤلف رحمه الله: [ كما مر فيمن نوى التجديد ].

وهذا فرق بينهما؛ لأن هذا نوى التجديد في الأعضاء الأربعة، ورفع الحدث في الأعضاء الأربعة فتساويا.

قال المؤلف رحمه الله: [ وكذا عكسه أي: إن نوى واجباً أجزأ عن المسنون ].

هذا لا إشكال فيه.

تشريك النية في الطهارة

قال المؤلف رحمه الله: [ وإن نواهما حصلا ].

حصلا، يعني: إن نوى رفع الحدث الأكبر وغسل يوم الجمعة أجزأ.

قال المؤلف رحمه الله: [ والأفضل أن يغتسل للواجب ثم للمسنون كاملاً ].

يعني: من به حدث أكبر، ونوى الاغتسال للجمعة، فيستحب له أن يغتسل مرتين، للحدث الأكبر، وللجمعة، وهذا يحتاج إلى دليل، ولا دليل، والعبادات مبناها على التوقيف، والأقرب -والله أعلم- أنه يغتسل مرة واحدة، ثم يرتفع حدثه، ويجزئ عن نية اغتسال الجمعة، وعن رفع الحدث، ويكون بذلك قد فعل السنة، والله أعلم.

ونقف عند هذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، جزاكم الله خيراً.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , الروض المربع - كتاب الطهارة [10] للشيخ : عبد الله بن ناصر السلمي

https://audio.islamweb.net