اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , زاد المستقنع - كتاب البيع [5] للشيخ : عبد الله بن ناصر السلمي
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.
قال المؤلف رحمه الله: [باب الغصب].
الغصب في اللغة: مصدر غصب يغصب بكسر الصاد، وهو أخذ الشيء ظلماً وقهراً، فإن كان في غير القهر فإنه يكون له مسميات كما سوف يأتي، إما سرقة وإما نهبة وإما اختلاس.
واصطلاحاً: عرفه المؤلف بقوله: [وهو الاستيلاء على حق غيره قهراً بغير حق].
وقوله: (الاستيلاء) يعني: أن يأخذ مال الغير ويستولي عليه بحيث لا يستطيع مالكه التصرف.
يقول المؤلف: (على حق غيره)، وهذه العبارة أنفع مما لو قلنا: من مال غيره؛ لأن الحق عام يشمل المال ويشمل الحق حقوق الاختصاصي والحق المعنوي. والآن هناك الخدمات المالية التي يسمونها الخدمية، هناك عين ونقد وخدمي، الآن الخدمية أحياناً أقوى من وجود المال نفسه، فشركة الاتصالات مثلاً خدمية، تعطيك خدمة فهو حق لك، لو جاء شخص وأخذ هذا الحق واستولى عليه فهو ليس مالاً معيناً، وإن كان هو مال من حيث المنفعة، فهو حق.
قوله: (حق غيره) لو قال المؤلف: حق معصوم لكان أحسن؛ لأن قوله: (حق غيره) يحتمل من المسلمين وغير المسلمين، وغير المسلمين يحتمل المحاربين وغير المحاربين، لكن إذا قلنا: حق معصوم، علمنا أن كل من ماله معصوم مثل المسلم والذمي والمعاهد والمستأمن فإن ماله معصوم.
قول المؤلف: (قهراً) يخرج بذلك المسروق والمنتهب والمختلس، فإن المنتهب ليس بغصب؛ لأنه لم يؤخذ قهراً، وكذلك المختلس، فإنه ليس بغصب، والمختلس لا يسمى غاصباً.
قول المؤلف: (بغير حق) يخرج بذلك ما لو استولى الغير على مال معصوم بحق، مثل: تصرف الحاكم على مال المفلس، فإنه يتصرف ويستولي عليه ويمنعه من التصرف؛ لأنه بحق، وليس بغصب، كذلك مال الولي على الصغير، فإنه يستولي عليه، وجعل الشارع مال الصبي مالاً للولي بقوله: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ [النساء:5].
طيب! المؤلف مثل على ذلك قال: [من عقار] العقار: هو كل ملك ثابت له أصل يسمى عقاراً، فالدار عقار، والأرض عقار، والنخل عقار، خلافاً لما يظنه العامة من الناس الآن أن العقار هو الأرض وما بني عليها؛ لكن عند الفقهاء أن العقار يشمل حتى النخل الذي له أصل.
يقول المؤلف: [ومنقول] والمنقول، هو: كل ما ينقل من أثاث وحيوان ونحو ذلك.
الكلب كلبان: كلب يجوز اقتناؤه مثل كلب الصيد والزرع والماشية، وكلب لا يجوز اقتناؤه وهو كلب الدار وكلب غير هذه الأشياء الثلاثة، فأما كلب الأشياء الثلاثة -وهو كلب الزرع والماشية والصيد- فهو كلب مأذون بالانتفاع فيه، وهو حق اختص به صاحبه، لكنهم اختلفوا هل كل ما لا يجوز بيعه لا يضمنه الغاصب أم أن ثمة فرق بين ما لا يجوز بيعه وبين ما يضمنه لو تلف؟
فالحنابلة يرون أن ثمة تلازماً بين ما يجوز بيعه فيجب ضمانه، وبين ما لا يجوز بيعه فلا يجب ضمانه، هذا مذهب الحنابلة والشافعية.
وذهب المالكية والحنفية إلى أنه ليس ثمة تلازماً بين ما لا يجوز بيعه، وبين ما يلزم ضمانه، فيمكن أن نلزم بالضمان وإن لم نجوز البيع ككلب الصيد والماشية والزرع، واستدلوا بدليل بعيد قالوا: مثل غرة الجنين؛ لأن الجنين لا يجوز بيعه، ولكن يضمن بغرة عبد أو وليدة خمس الدية، وهذا فرق بعيد، والراجح هو مذهب الحنابلة والشافعية.
قال المؤلف: [أو خمر ذمي].
خمر الذمي إن كان مستوراً قد ستره صاحبه -يعني: الذمي- فإنه يكون محترماً، ومع ذلك لا يصح بيعه، فقال الحنابلة: أو خمر ذمي يعني: مستوراً [ردهما] يعني: يجب على الغاصب أن يرد كلب الصيد أو الزرع، أو يرد خمر الذمي المستور الذي ستره، مثاله: صنع الذمي خمراً في بيته فجاء رجل من الخمارين المسلمين فغصب هذه الجرة، فاشتكى هذا الذمي إلى القاضي فقال: دخل جاري وأخذ الخمر، فالقاضي يحكم بالرد.
فلو غصب داره ودخله أخذ منه آلات اللهو، فهل يأمر القاضي بردها؟ ولو جاءنا الذمي، وقد تعامل مع ذمي مثله بالربا، وجاءنا يتقاضى هل نقضيه بالربا؟ فيه إشكال أو ما فيه إشكال؟
إذاً ثمة فرق، وهو أننا في ديننا أذنا للذمي أن يشرب خمراً إذا كان مستوراً، فهذا إذن له، ولكن إذا كان سوف يظهره فلا؛ لأننا حينما أذنا له بالبقاء فمعنى ذلك أننا أذنا له بجميع ما يعمله أهل الذمة، لكن يجب أن يكون مستوراً.
فلو دخل شخص على ذمي في بيته وهو يعبد النصرانية المحرفة، ثم اشتكاه عند الهيئة، فهل نقول لرجال الهيئة أن يأخذوه؟ لا؛ لأنا أذنا له بالبقاء، لكن لو أنه ذهب ففتح كنيسة وصارت غير معلنة، فيجب علينا أن ننكر؛ لأنه ما أذنا له بذلك، إذاً خمر الذمي إن كان مستوراً فللقاضي أن يطلب من الغاصب أن يرده إليه، يعني: لأنه محترم عنده، أما آلات اللهو فإنها غير محترمة، هذا قول الحنابلة.
الحنابلة يرون أن جلد الميتة لا يطهر بالدباغ، هذا مذهب الحنابلة، ولكن يجوز استعماله في اليابسات، ولو جاء شخص ورأى عندك جلود ميتة، فأخذها منك فاشتكيت عند القاضي فإن القاضي على مذهب الحنابلة لا يلزمه بالرد؛ لأنها نجسة.
والقول الثاني وهو قول الجمهور: أنه ما كان يمكن الانتفاع به بعد إصلاحه كجلد الميتة فإنه يجب على القاضي أن يأمره بالرد فهو مال، ولو أتلفه ضمنه، ولو غصبه وجب رده؛ لأنه يؤول إلى المال.
يعني: لو أن الغاصب غصب كلباً يقتنى، أو خمر ذمي مستور، أو جلد ميتة أتلفها، فإنها هدر يعني: لو جاء إلى القاضي قال: إنه أتلفه، فإن القاضي لا يحكم بذلك؛ قالوا: لأنه ثمة فرق بين كون الشيء محترماً وهو موجود فيجب رده، وبين ما لو تلف، هذا مذهب الحنابلة والشافعية.
وذهب المالكية والحنفية إلى أن هذه الأشياء تضمن بالقيمة، أما نحن فنقول: الراجح أن جلد الميتة يضمن؛ لأنه يؤول إلى المالية، وأما كلب الصيد فإني أقول: إن القاضي يعزر متلف كلب الصيد، ولو عاقبه بالمال ليصرف في منافع العامة يعني: بيت المال، فيكون من باب التعزير بالمال، فلو أن رجلاً غضب على صاحبه وهو عنده كلب صيد فقتله، قال: وأنا ما أضمن شيئاً، فأدى في ذلك إلى التنازع، فأقول: إن القاضي يعزر متلف كلب الصيد إذا كان قاصداً وله أن يعزره أيضاً، أولاً يعزره جسدياً بسجن ونحوه، وله أيضاً أن يعزره بمال، لكن يبذله في المصارف العامة، وهذا جمع بين الأقوال، والله تبارك وتعالى أعلم.
ومثلها الخمر لا يضمن، وللقاضي أن يعزر الغاصب إذا كان قد دخل بيت الذمي ومنعه، لكن التعزير يكون تعزيراً جسدياً، وما أذن لهم في بيوتهم، أذن لهم أن يعملوا بما شاءوا، لكن آلات اللهو غير مأذون لهم فيها شرعاً، ولو فعلوا المنكر، واشتكاهم شخص أنهم فعلوا المنكر ما يعزرون؛ لأن دينهم محرف كله، نحن لو قيل بذلك لقيل بعدم عبادتهم بشرعنا، وهذا ما يلزم.
يعني: لو أن شخصاً أمسك بحر واستولى عليه، قال المؤلف: (لم يضمن)؛ لأن الحر ليس بمال، لكن إن استعمله كرهاً مثل ذهب إلى مزرعة صاحبه وأركب عامل المزرعة وأخذه إلى الربع الخالي وعنده أبعره وغنمه، قال: ارع هذه وإلا أمتك جوعاً، فاستعمله، أو استولى على حر وقال له: اعمل لي كذا، غصبه على العمل، فإن المؤلف يقول: (وإن استعمله كرهاً) فلا شك أن عمل الحر منفعة هي متقومة، فإنه يضمن هذا الاستعمال.
يقول المؤلف: [أو حبسه].
يعني: حبسه مدة [فعليه أجرة مثله]، يعني: لو أن شخصاً حبس حراً مدة شهر مثلاً فإنه يلزمه أجرة مثله.
مثال ذلك: أحد الموظفين في القطاع الخاص جاءه شخص بينه وبينه خصومة فأخذه فحبسه مدة عشرة أيام، فخصم من راتبه لأجل الغياب مدة العشرة الأيام، فللموظف هذا أن يطالب الغاصب بأجرة ما خصم من راتبة، وهذا إذا كان له عمل.
ومثل ذلك: إذا كان الموظف عند رب العمل له منافع، فغصبها مدة، فللقاضي أن يقضي بمنافع هذه كما سوف يأتي بيانه.
أما لو فوت عليه منفعة، ومعنى فوت عليه منفعة: مثل صورة واقعية هناك اكتتاب في شركة ما، مدة الاكتتاب عشرة أيام، جاء شخص فاستولى على حر خمسة عشر يوماً فعندما خرج انتهى الاكتتاب، ومن عادة هذا المحبوس أن يكتتب، ففوت عليه منفعة، ومثل ذلك: إذا طلب العميل في الأسهم من البنك أمراً، فكتب له ورقة وأعطوه أمراً، وقال: أريد أن تشتري لي كذا وكذا من الأسهم، فلم يشتر البنك ذلك حتى ارتفعت السهم، ففوت عليه منفعة، وهو قاصد إضرار العميل، أو منعه من التداول في محفظته، كلما يأتيهم يقولون: اصبر، محفظتك فيها إشكال، فالناس يتبايعون إلا هو، فالبنك هنا قد منعه من إدارة محفظته، ولو كان هو يضارب يومياً لربح، ففوت عليه الربح، فهل يضمن؟ وهل للمغصوب أن يطالب بما فوت؟
عامة أهل العلم يقولون: ما فات من الربح فليس فيه ضمان، والله أعلم.
يعني: ويلزم الغاصب رد المغصوب إن كان باقياً وقدر على رده، هذا بإجماع أهل العلم كما نقل ذلك ابن قدامة رحمه الله، فمن غصب شيئاً لزمه رده إذا كان باقياً.
وهل للمغصوب أن يطالب الغاصب بضمان منافع الأعيان المغصوبة كالدار والدابة ونحو ذلك؟
صورة المسألة: جاء شخص وغصب دارك، أو غصب أرضك، أو غصب سيارتك، ومكثت في يده سنة، ثم ردها ولم تتغير، الآن يجب الرد، فهل للمغصوب أن يطالب الغاصب بأجرة المنفعة التي حبسها الغاصب عن المغصوب؟
الراجح والله تبارك وتعالى أعلم وهو مذهب جمهور الفقهاء أن منافع المنافع الأعيان مضمونة خلافاً للأحناف؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( على اليد ما أخذت حتى تؤديه ) كما رواه أبو داود و الترمذي ، ولأن المنافع أموال متقومة، وقد جعل الشارع هذه المنافع مهراً: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ [القصص:27] فهي مهر، وهذا هو الراجح والله تبارك وتعالى أعلم.
أما النقد: كأن غصب منك نقوداً وأبقاها عنده مدة سنة فهل تطالبه بمنفعة، بحيث إنك لو لم تتعامل بهذه الأموال لاستطاع البنك حبس حسابك الجاري ولم تستطع أن تدخل عليه، وهذا واقع كثيراً، أو عندك حساب في بنك، وحولته إلى بنك آخر، فالحوالة هنا قيمتها مليون، كلما جئت إلى البنك المحال إليه، قال لك: لا لم يدخل بحسابك، وكلما ذهبت إلى البنك المحيل قال: حولناه، والأصل أن الإشكال من البنك المحيل، فمنعه لأن أكثر البنوك هنا يسحبون من حسابك ويبقيها عنده الفرع نفسه، ينتفع منها عشرة أيام، خمسة عشر يوماً، عشرين يوماً، أو شهراً، ثم بعد ذلك يحولها لك، هذا الغصب وهو ما زاد على نقل المثل؛ لأن له عشرة أيام، وهم يجعلون الحوالة من ثلاثة أيام إلى عشرة أيام إذا كانت مبلغاً كبيراً، فما زاد على ذلك فهل لك أن تطالب بمنفعة النقود؟
عامة الفقهاء خلافاً للمالكية يقولون: إن النقود لا تضمن؛ لأن ضمانها هنا ضمان فوات منفعة، وفوات المنفعة لا يضمن إلا إذا تصرف الغاصب بالدراهم بالمضاربة أو بشراء سلع ونحو ذلك.
مثال ذلك: جاء الغاصب فاشترى بها، مثل ما يفعل أصحاب المساهمات العقارية فإنه يفتح مساهمة أرض معينة، ثم يتبين أن الأرض فيها إشكال، فيقضي القاضي بأن الأرض ليست لفاتح المساهمة، فتبقي الأموال عنده، فيطالبه الناس بها وهي عنده يضارب بها بالأسهم، أو يشتري بها أرضاً أخرى فهو غاصب أليس، كذلك؟
قالوا: إذا تصرف بهذا المال فإن ربح المال كله يكون للمغصوب، و( ليس لعرق ظالم أجر ) وهذا هو مذهب الأئمة الأربعة.
وذهب أبو العباس بن تيمية إلى أن الغاصب إن كان قد تصرف تصرفاً ينفع المال فإن الربح يكون بينه وبين المغصوب على مضاربته، أو ربح مضاربة المثل.
وأقول: إنه إذا كان غاصباً فـ( ليس لعرق ظالم أجر )، ويجب عليه رده ورد المال؛ لأن هذا المال عين لصاحبه، إلا إذا تصرف الغاصب ظاناً أنه يجوز له فحينئذٍ نقول: له مضاربة المثل، مثل الذين يفتحون مساهمات عقارية ويبيعون بعض الأراضي وتكون عندهم سيولة فيتصرفون بها قبل تصفية الأراضي.
للتوضيح أكثر: رجل عنده أرض فتح بها مساهمة وخططها، وعدد الأراضي ألف قطعة، باع خمسمائة قطعة وخمسمائة لم تبع، العادة أن صاحب المساهمة لا يوزع رأس المال ولا الربح للمساهمين حتى تنتهي باقي القطع بيعاً.
الملاحظ مع الأسف الشديد أن أصحاب المساهمات يشترون بالأموال الموجودة عندهم أرضاً أو يضاربون بها أصحاب المضاربات العقارية أو بالأسهم، يقول أحدهم: أنا ضامن، وعندي شيء يغطي هذه الأشياء، نقول: لا، يرحمك الله هذا تصرف، لكنك حينما تصرفت ظاناً أن هذا يجوز لك، فإنه يجب عليك مضاربة المثل، فتأخذ جزءاً من الربح، والربح الباقي كله للمساهمين، ولا يجوز لك التصرف أصلاً ابتداءً؛ لأن هذا في حكم الغصب، لكنك إذا اجتهدت ظاناً أن ذلك يجوز لك فإن فيها مضاربة المثل.
إذاً: ثمة فرق بين الأمرين، وهذا مع الأسف الشديد كثر، بل إن بعض الإخوة -هداهم الله- يظن أن له المنة على المساهمين، ولا يسوغ ذلك.
المؤلف قال: (يلزم رد المغصوب) إن كان باقياً لما رواه أبو داود و الترمذي و أحمد وغيرهم من حديث عبد الله بن السائب بن يزيد بن السائب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يأخذ أحدكم متاع أخيه لا جاداً ولا هازلاً، ومن أخذ عصا أخيه فليردها )، وهذا الحديث إسناده جيد.
يقول المؤلف: وجب رده [بزيادته] يعني: لو أنه غصب شاة أو فرساً أو ناقة، ثم طرقها فحل هذا الغاصب فحملت، ووضعت، ثم تكاثرت بسبب الحمل، فكل هذا المال يكون للمالك فيجب رده، سواء كانت الزيادة متصلة أو منفصلة، متصلة مثل الحمل يعني: صارت حاملاً، منفصلة: يعني: وضعت جنينها.
يقول المؤلف: [وإن غرم أضعافه].
يعني: يجب على الغاصب أن يرد المغصوب ولو غرم بسبب الرد أضعاف أضعاف قيمة المغصوب، مثل من غصب مالاً في السعودية، ثم ذهب به إلى مصر، التكلفة بنقله من مصر إلى السعودية تكون أضعاف قيمة السلعة المغصوبة، فإن المؤلف يقول: يجب على الغاصب أن يرده، فلا يقول: خذ هذا مالك وانتهينا، بل يجب عليه أن يرده ولو غرم أضعاف أضعافه إلا أن يأذن المغصوب.
يعني: أن الغاصب لو بنى في الأرض المغصوبة أو غرس فيها، والغرس دائماً يكون فيه النخل ثابتاً فإن المؤلف يقول: (لزمه القلع) يعني: لزمه بإذن أو بطلب من المالك.
[وأرش نقصها وتسويتها والأجرة]، يعني: أن الغاصب إن بنى في الأرض أو غرس، لكنه غرس غير زرع، فالزرع ليس مثل الغرس، فالغرس شيء ثابت مثل النخل، فإن بنى أو غرس فإنه يلزم الغاصب أربعة أشياء:
الأول: يلزمه القلع.
الثاني: يلزمه أرش النقص الحاصل بسبب الأرض، مثل الذين يزرعون أراضي الناس، تعرفون أن الأرض إذا زرع عليها مرة أو مرتين أو ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً فإنها تنقص، فلا بد من إعادة وضع السماد لها، فأرش النقص يضمنه.
الثالث: يلزمه تسوية الأرض إن احتاجت إلى تسوية، مثل: بعض الناس يغصب الأرض ثم يضع فيها عقم أو عقوم -رملية- فإنه يجب عليه تسوية الأرض.
الرابع: يجب عليه الأجرة؛ لأنها أجرة منفعة أعيان، يجب عليه أربعة أشياء.
الدليل: ما رواه هشام بن عروة عن أبيه عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ليس لعرق ظالم حق )، وعرق الظالم مأخوذ من عروق الشجر، وهو أن يجيء الرجل إلى أرض قد أحياها صاحبها، فيستولي على هذه الأرض ويضع فيها غرساً أو يبني فيها شيئاً، ثم تثبت لدى مالكها البينة على أنها له، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( ليس لعرق ظالم حق )، يعني: هذه العروق ليس لك فيها أجر فيجب عليك أن تقلع، حتى ولو نبتت هذه الزروع، أو هذه النخل، فهذا معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( ليس لعرق ظالم حق ).
ومن الأدلة أيضاً: أن الغاصب قد استوفى بعض منافع الأرض، ومنافع الأرض متقومة ومضمونة فيضمن جميع ما حصل بسببه.
أما لو زرع الغاصب في الأرض المغصوبة فلا يخلو الأمر من حالين:
الحال الأولى: أن يحصد الزرع قبل رد الأرض إلى مالكها، فإن أهل العلم يقولون: إن الزرع والحصد كله للغاصب؛ لأنه ماله.
مثال ذلك: زرع الغاصب قمحاً بأرض مغصوبة، ثم أدخلها على الصوامع، وحصل على مليون ريال، فإن هذا المليون للغاصب؛ لأن الغاصب زرع من ماله هو، فهو نماء ماله، ولكن للمالك أن يطالبه بأجرة المثل، هذا إذا قلنا: إنه حصد الزرع.
الحال الثانية: إذا استطاع المالك أن يرد المغصوب والزرع موجود، فإن أهل العلم اختلفوا؛ لكن الراجح هو مذهب الحنابلة قالوا: إن المالك مخير، يعني: صاحب الأرض مخير بين أن يبقي زرع الغاصب إلى حصاده بأجرته، وبين أن يأخذ الزرع ويعطي الغاصب نفقة البذر وأتعابه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث رافع بن خديج : ( من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته ) يعني: ليس للغاصب شيء من الزرع، ولكن له النفقة يعني: نفقة البذر ونفقة التعب والماء إذا كان قد جلبه من غير هذه الأرض، والحديث رواه أبو داود و الترمذي وحسنه الإمام البخاري رحمه الله.
يعني: جاء الغاصب وغصب صقراً لزيد من الناس، وأخذ هذا الصقر وذهب يصيد فصاد حبارى وأرانب وثعالب، فيقول المؤلف: هذا الصيد لمالك الصقر، فيلزم هنا أن يرجع الغاصب الحبارى والأرانب والثعالب، الثعالب ليس بصيد فلا يرجعه؛ لكن يرجع الصيد؛ لأن الثعلب غير متقوم، ليس بمال.
يقول المؤلف: فهذا الصيد لمالكه؛ لأن هذا الصيد إنما جاء من المال المغصوب.
ومثل ذلك: ما لو سرق منه شبكة لصيد البحر أو لصيد الطيور، الآن يوجد شبكات توضع وقت مهاجرة الطيور فمجرد أن الطير يضع رجليه في هذه الشبكة إلا وينقلب إلى أسفله، وصار هذا ميسوراً، فربع ساعة يصيدون فيها ألفاً من الطيور، فلو حصل غصب لهذه الشبكة فإن الطيور كلها تكون للمالك.
طيب! ولو غصب منشاراً ومطرقة وبدأ يعمل بها في إصلاح الأبواب والنجارة، فهل يلزمه أن يعيد أجرة هذا الصنع للمالك أم لا؟
نقول: لا يلزم؛ لأن هذا العمل من عمل يده، ولكن للمغصوب أن يطالب بأجرة مثل المنشار والمطرقة.
[ونسج الغزل، وقصر الثوب]، القصار: هو الذي يصبغ الثوب، أو يبيض الثوب.
[ونجر الخشبة] حتى صارت باباً [ونحوه، أو صار الحب زرعاً والبيضة فرخاً، والنوى غرساً رده وأرش نقصه].
هنا يقول المؤلف: (رده وأرش نقصه)، لا شك أننا قلنا: إن الرد واجب، ولكن هنا مسألة الرد تنقسم إلى قسمين: ما يمكن رده إلى الحال الأولى كالحلي والأواني ونحو ذلك، فهنا يجب أن يعيده الغاصب إلى حالته الأولى، ولو كان ثمة نقص بعد الإعادة فيجب عليه أن يتحمل أرش النقص.
الحال الثانية: ما لا يمكن رده على حالته مثل الخشب إذا صنعه أبواباً، ومثل الطين الفخار إذا صنعه بعض الصناعات، فهنا لا يلزم رده؛ لأن رده سوف يجعله أقل وأكثر نقصاناً، فإنه حينئذٍ يلزمه أرش نقصه، ويلزمه أيضاً القيمة، يعني: مثل البيضة صارت فرخاً لا يمكن رده، ولكنه يمكنه أرش النقص، وقيمة هذه البيضة، ويرد الفرخ، ويرد الأرش الحاصل بسبب نقص البيض، هذا المقصود.
مثل شخص غصب جملاً من أجمل ما يكون، وكانت المسابقة سوف تتم، وكانت قيمته مليوناً، والآن وصل بعضهم خمسة عشر مليون، وبعد انتهاء المسابقة أو المضمار أو الاجتماع نزلت قيمته إلى ثمانمائة ألف، فعلى رأي المؤلف أنه يضمن النقص الحاصل، يضمن إذا كان يقصد الجمال في الإبل، وأما إذا لم يكن يقصد الجمال في الإبل ولا يريده فإنه لا يضمن، جمعاً بين الأقوال والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: (ضمن النقص).
لماذا ضمن النقص بالتعلم؟ لأن الزيادة الثانية وهي تعلم السباق غير الزيادة الأولى وهي السمن، فإن كانت الزيادة الثانية مثل الزيادة الأولى فإنه لا يضمن شيئاً.
قال المؤلف رحمه الله: [وإن تعلم أو سمن فزادت قيمته ثم نسي أو هزل فنقصت ضمن الزيادة].
(فإن تعلم أو سمن فزادت قيمته) أي: إن تعلم الشيء المغصوب. وهي العين المغصوبة، أو علمها الغاصب، أو زادت العين المغصوبة عند الغاصب فزادت قيمتها، ثم بعد ذلك نسي المغصوب الصنعة أو نقصت أو نقص الوزن، فإن الغاصب حينئذٍ يضمن الزيادة، ولو كانت الزيادة في أثناء الغصب هذا كلام الحنابلة.
مثاله: غصب جملاً هزيلاً، فأقامه عنده فسمن، وهذا السمن الذي زاد يقدر بألف ريال، ثم نقص إلى خمسمائة ريال وهي الحالة التي كانت وقت غصبه، يقول المؤلف: (وإن تعلم) يعني: أثناء الغصب، (أو سمن) أثناء الغصب (فزادت قيمته) جراء السمن وجراء تعلم الصنعة (ثم نسي) الصنعة، (أو هزل) فإنه يضمن، مع أن التعلم كان من قبل الغاصب، قالوا: لأن الزيادة الحاصلة في يد الغاصب تعامل معاملة الزيادة الموجودة حال الغصب؛ لأن زيادة العين زيادة في ملك صاحبها، والمالك هو غير الغاصب فيضمن الغاصب حينئذٍ؛ لأن العين الزائدة تابعة للعين الأصلية.
قال المؤلف رحمه الله: [ كما لو عادت من غير جنس الأول].
أي: عادت الزيادة، مثاله: غصب دابة فسمنت وصارت تساوي خمسة آلاف، ثم هزلت الدابة فصارت قيمتها مثلاً أربعة آلاف، فعلمها الجري فصارت تساوي قيمتها خمسة آلاف فإنه في هذه الحالة يضمن نقص الهزال.
والقول الثاني: أنه لا يضمن إذا كانت القيمة على نحو ما غصب، والعلم عند الله سبحانه وتعالى.
قال المؤلف رحمه الله: [ومن جنسها].
يعني: إن كانت الزيادة الثانية من جنس الزيادة الأولى؛ لأن عندنا زيادة أولى وزيادة ثانية، فلو نقصت الزيادة الأولى وتعلم الزيادة الثانية، فإن كانت الزيادة الثانية من غير جنس الزيادة الأولى فإنه يضمن النقص الحاصل في الزيادة الأولى، مثل: إن كانت سمينة وقيمتها خمسة آلاف، ثم هزلت فصارت قيمتها أربعة آلاف، ثم علمها صنعة مثل الجري فصارت قيمتها خمسة آلاف ريال فإنه في هذه الحالة يضمن؛ لأن الزيادة الأولى ليست من جنس الثانية.
أما إن كانت من جنسها كأن يكون علمها الجري، ثم نسيت الجري وعودها القفز، فإنه لا يضمن؛ لأن الضمان يكون في أكثرهما، فإن كان الأكثر في الأول فإنه يضمن الفرق.
مثل: إن كان الأول قيمته خمسة آلاف، والثاني قيمته خمسة آلاف فإنه لا يضمن، أما إن كان الأول قيمته ستة آلاف والثاني قيمته خمسة آلاف فإنه يضمن ألفاً، وإن كان الأول قيمته خمسة آلاف والثاني قيمته ستة آلاف لا يضمن.
وهذه الزيادة يأخذها الغاصب؛ لأنها تابعة للعين، هذه صورة المسألة وهي في الغالب لا تكون في زماننا إلا في بعض الصور مثل ما ذكرت لكم في بعض الدواب والآن الناس لا يأخذون مثل هذه الأشياء.
القسم الأول: إن خلط المال بما يتميز، مثل: أن يخلط بر بشعير، فإنه يتميز البر من الشعير، أو أن يخلط قمحاً بأرز، ففي هذه الحالة الواجب رد المغصوب، وتمييز ما يملكه عما لا يملكه، وما يحصل من أجرة في التفريغ تكون على الغاصب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( على اليد ما أخذت حتى تؤديه )، ( وليس لعرق ظالم حق )، كما في حديث سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل .
القسم الثاني: إن خلط الغاصب المال المغصوب بماله مما لا يتميز، كما لو كان عند الغاصب قمحاً خمسة أطنان، فجاء فغصبه وخلطه بقمحه، فهنا لا يتميز، فيجب عليه أن يرد مثلما أخذ بمواصفاته، فإن كان أخذ خمسة أطنان يجب عليه أن يرجع خمسة أطنان، وإن كان أخذ ستة يجب عليه أن يخرع ستة على حسب المواصفات.
فإن خلطه بما لا يتميز مثل: لو كان المغصوب براً أمريكياً وخلطه ببر نجدي وهو غالباً لا يتميز ولكن خلطه بأحسن منه، فإن المال يكون بقدر ملكيهما فيباع ويعطى كل واحد بقدر الملك، قدر حصة كل واحد.
يعني: غصب ثوباً ثم صبغه، أو أخذ ثوباً ووضع فيه بعض الألبسة التي يسمونها التطريزات النسائية التي تعطيه أكثر من قيمته، فإن المؤلف يقول: (أو صبغ الثوب) يعني: الغاصب صبغ الثوب، وقل مثل ذلك: طرزه بالتطريزات النسائية التي تعطيه جمالاً.
يقول: (أو لت سويقاً) واللت: العجن، (سويقاً) مخلوطاً (بدهن أو عكسه)، يعني: غصب دهناً ولت به سويقاً، غصب تطريزات ووضعها في ثوب يملكه، يقول المؤلف: ينظر فإن لم تنقص بسبب هذا الوضع فيباع ويوزع الثمن على القيمتين؛ لأنهما شريكان بقدر ماليهما فيه، أما إن نقصت القيمة يعني: غصب ثوباً ثم وضع فيه تطريزات، وهذا الثوب بسبب وجود التطريزات نقص ثمنه، يقول: (فإن نقصت القيمة ضمنها) أي الغاصب فيقال: هذا الثوب مع التطريز يساوي مائة وأربعين، ريالاً لكن مع وجود التطريز الثوب وحده كم يساوي؟ تسعين أو ثمانين، ريالاً يقول المؤلف: إنه يضمن النقص، وهو عشرون أو عشرة على الأقل في تقديرنا لقيمته بثمانين أو تسعين.
كل هذه الأشياء دليل على قاعدة استخرج العلماء منها هذه المسائل التي أحياناً ما نفهمها منها، والقاعدة: هي قوله صلى الله عليه وسلم: ( على اليد ما أخذت حتى تؤديه )، فإن أخذت شيئاً فيجب عليها أن تؤديه كما أخذته هذه اليد الغاصبة، بحيث لو نقص ضمن الغاصب النقص، وإن لم ينقص صار المال مشتركاً بينهما على قدر مال كل واحد منهما، وإن زاد وجب رده؛ لأن الزيادة تبع للعين.
كل هذه المسائل لهذه القاعدة التي ذكرناها لكم.
إذا لم تزد السلعة ولم تنقص وجب ردها، إن نقصت بسبب هذا الوضع ضمن النقص ووجب رد السلعة، أو بيعها ورد القيمة، وإن زاد فهو للعين المغصوبة بقدر ماليهما.
قال المؤلف رحمه الله: (وإن زادت قيمة أحدهما فلصاحبه).
فإن زادت قيمة الثوب فهي لصاحب الثوب، وإن زادت قيمة التطريز التي هي من فعل الغاصب فهي للغاصب؛ لأن الزيادة تبع للأصل، وإذا كان التطريز تبعاً للأصل فهو له.
وهذا يحصل في الألعاب في محلات الهدايا بمجرد وضعهم على بعض الأشياء حتى السلة مثلاً سلة مهملات، فجاء صاحب الهدايا فطرزها ووضع عليها أشياء، هذا الوضع زاد من قيمتها، فهنا القيمة تكون للغاصب، وإن كانت نفس السلة زادت بسبب هذا الوضع ولكن الزيادة لأجل هذا الشيء فإنه يكون للمغصوب منه، ولا أجرة لعمل الغاصب كما مر معنا، يعني: الآن التطريزات تباع بريالين، لكنه جاء وبدأ يضع فيها بعض الزينة فبعض النساء تنبهر من هذا الأمر فصار له قيمة، هذه القيمة تكون للمغصوب منه، والله أعلم، وليس للغاصب شيء إلا إن كانت الزيادة بسبب وضع التطريز نفسه، أما إذا كانوا يعرفون فلا.
هذا قول الحنابلة، ورأي أبو العباس بن تيمية : أن الغاصب إن كان قد ربح شيئاً بعمله فإنه يدخل بينهما مرابحة المثل.
يعني: لو صبغ أو نسج الغاصب ثوب المغصوب منه، أو عمل حديداً في بعض الأبواب فإنه لا يجبر من أبى قلع الصبغ، وإنما يباع ويعطى كل واحد منهما قدر ماله؛ لأن كل واحد له مال في هذا الشيء، وهذا معنى قول المؤلف: (ولا يجبر من أبى قلع الصبغ إذا طلبه صاحبه)، فلو أراد صاحب الصبغ وهو الغاصب قلعه، أو أراد ذلك صاحب الثوب لم يجبر الآخر عليه؛ لأن فيه إتلافه، وهذا غير مسألة ( من زرع في أرض قوم بغير إذن فليس لهم من الزرع شيء، وله نفقته ) كما في حديث رافع .
وهناك قول آخر وهو: أن الغاصب لا يلزمه الرضا؛ بل للمالك أن يجبر الغاصب بالإزالة إذا أراد الثوب، وما حصل من نقص جبره الغاصب، هذا القول الثاني.
وله أيضاً ألا يزيله، ويباع إذا كان في ذلك ضرر على المالك ورغب في عدم إزالته، وهذا القول فيه قوة كما ترى؛ لأن المتضرر الأول هو المالك، فهنا تعارض ضرران، والقاعدة: أنه إذا تعارض ضرران يقدم أدناهما على أعلاهما، والأدنى هو ضرر الغاصب؛ لأنه متعد، بخلاف المتجنى عليه.
صورة المسألة: زيد عنده أرض فجاء بكر فغصبها، ثم باعها على علي، فـعلي غرس في هذه الأرض أو بنى فيها، ثم رجعت لصاحب الأرض زيد، فجاء زيد فقلع الغرس، وهدم البناء، فهنا يرجع الغارس المشتري صاحب البناء وهو علي على بائعها الغاصب بكر بالغرامة.
والأقرب أن يقال: إن كان المشتري يعلم بالغصب فإنه قد دخل على علم وبينة، وإن لم يعلم فله أجرة هذا الفساد؛ لأن الغاصب ضره بذلك، وأوهمه أنها ملكه.
يعني: جاء شخص واشترى من مزرعة بطيخاً، واستأجر من شخص سيارة وحمل البطيخ عليها، فسلم صاحب المزرعة البطيخ لسائق السيارة، فجاء الغاصب فأخذ هذا البطيخ وذهب إلى شخص وقال له: خذ هذا كله هدية، يقول: (وإن أطعمه) يعني الغاصب (لعالم بغصبه)، يعني: إن كان الذي أخذ البطيخ يعلم بالغصب (فالضمان عليه)، وعكسه بعكسه، إن كان لا يعلم فالضمان على الغاصب، وللمغصوب منه مطالبة الغاصب؛ لأنه متعد، ومطالبة الآكل؛ لأنه عالم ومتعد، فإن ألزم الغاصب فله أن يرجع على الآكل؛ لأنه هو المفسد والمتعدى الأصلي.
صورة المسألة: بكر غصب من زيد شاة ولكن زيداً لا يستطيع المطالبة، فجاء بكر وذبح الشاة وجاء زيداً بالأكل وقال: خذ هذه لك أنت وزوجتك هدية. الآن أطعمها الغاصب مالكها أو رهنها إياه.
وكذلك إذا تبايع معه بعد سنة، وقال المغصوب منه للغاصب: أريد رهناً قال الغاصب: خذ هذه، ولم يعلم المشتري بالسرقة، مثل أن يكون سرق، والسرقة في حكم الغصب، فلو سرق منه بعيراً ثم آجره إياه، يقول المؤلف: لم يبرأ الغاصب؛ لأن يد المشتري المغصوب منه هنا يد أمانة كالإجارة، أو يد هبة تبرع من الغاصب، فهو دخل عن غير بينة، فحينئذٍ الضمان على الغاصب.
يقول ابن القيم من حيث الدليل: فلم يرد له عين ماله على أنه ملك له، ولكننا نقول: إن كان قد سرق منه ويخشى أنه لو أخبره لحصلت مشكلة، فإنه يرجعها له من باب الهدية أو غيرها، هذا الراجح والله أعلم.
إذاً: إن كان من غير علم ويخشى الغضب من المغصوب منه فإنه لا حرج أن يملكه إياه، وإن كان لا يخاف فيجب أن يرجعها له، وهذا يحصل عند بعض الإخوة الذين يكونون ساكنين مع أعمامهم، فيكون الشاب يأخذ سرقة من عمه، ثم عمه انتقل بعد زمن وتاب هذا الشاب، فنقول: لا حرج أن تهدي عمك هذا الظرف أو تدخله في حسابه، أو تضعها له من باب الهدية ونحو ذلك، ولو لم تخبره بأنها كانت مالاً له وأنك سرقته.
قال المؤلف رحمه الله: (ويبرأ) يعني: الغاصب (بإعارته).
يعني: بإعارة هذا الشيء للمغصوب منه، مثلاً: الغاصب سرق شاة من المغصوب منه؛ فالسرقة في حكم الغصب، ثم أعارها الغاصب للمغصوب منه، على مذهب الحنابلة أن الإعارة يدها يد ضمان، فإن قبضها لمالكها على أن يده يد ضمان برئت ذمة الغاصب، وإلا فلا.
وبغض النظر عن القول الصواب؛ لكن هذه أقوال فيها فقه وفيها تأمل، وكم نحن بحاجة إلى مثل هذا في زماننا.
والراجح والله أعلم: أن الإعارة يدها يد أمانة إلا بالشرط، وليست يد ضمان، ولو قلنا: إنه ضمنه إياه بالشرط فإن الراجح أنه لا يضمن؛ لأنه لم يأخذها على أنها ماله، ولكنه أخذها على أنها مال صاحبه الغاصب.
إذاً: فما ثمرة الخلاف؟
ثمرة الخلاف نوضحها بمثال أولاً: جاء بكر وغصب من المغصوب منه زيد شاة، وكانت سمينة قيمتها خمسة آلاف ريال، ثم بعد زمن هزلت وصارت قيمتها ثلاثة آلاف ريال، ثم جاء زيد فاستعار من بكر عارية مضمونة بالشرط -حتى نخرج من الإشكال- وتعدى زيد المغصوب منه بهذه السلعة ولم يعلم بأنها له، فهنا زيد يضمن؛ لأنه تعدى.
وثمرة الخلاف هنا، لو قلنا: إنه يبرأ؛ لأنه أفسد ملكه بيده فيكون إذاً ليس هناك طالب ولا مطلوب.
وإذا قلنا: لا يبرأ فإن زيداً له أن يطالب بالنقص الحاصل وقت أخذ الغصب، فنقول: قيمتها وقت الغصب خمسة آلاف، والآن قيمتها ثلاثة آلاف بعد التلف، فنقول: أنت يا بكر! عليك خمسة آلاف؛ لأنك غصبت البهيمة وهي سمينة وكانت قيمتها خمسة آلاف، وأنت يا زيد! أتلفت شيئاً تضمنه في ذمتك ثلاثة آلاف، فإذا كانت السلعة له وأتلفها رجع هذا بهذا وضمن ويعطي بكر زيداً ألفي ريال.
مثال آخر: بكر غصب من زيد بعيراً سميناً بخمسة آلاف، وبعد مدة هزل وصارت قيمته ثلاثة آلاف، فجاء بكر الغاصب وأعار هذا الجمل لزيد، وزيد رجل أعمى لا يبصر، ولم يعلم أن هذا ملكه، فقال بكر لزيد: يا زيد! هذه عارية مضمونة، فقبل زيد ثم تعدى، فعلى كلام ابن القيم يعتبر زيد لم يقبض عين ماله؛ لأنه أخذه على أنه ملك صاحبه فبكر تعدى بالغصب ابتداءً، وزيد تعدى بتعديه على العارية، فيضمن زيد العارية ويضمن بكر الغصب، فبكر يضمن الخمسة آلاف وزيد يضمن الثلاثة آلاف، وبالمقاصة يضمن بكر لزيد ألفي ريال هذه ثمرة الخلاف.
ففي هذه الحالة على قول الحنابلة أن الغاصب يبرأ، وعلى القول الراجح: أنه لا يبرأ.
هذه صورة المسألة، طريقة الضمان عند الحنابلة أن كل مكيل أو موزون فهو مثلي، والقيمي هو ما لم يكن موزوناً أو مكيلاً، فالسيارة مثلية على كلام الحنابلة، فقد رأينا السيارة توزن، والدابة قيمية، وهذا على تعريف الحنابلة أن القيمي ما لا يكال ولا يوزن.
وقال بعضهم: إن المثلي ما يوجد له مثل أو مشابه أو مقارب، والقيمي: ما لا يوجد له مشابه أو مماثل أو مقارب، وهذا قول عند أهل الحديث وهو رواية عند الإمام أحمد وقول عند بعض الأحناف، واختاره أبو العباس بن تيمية رحمه الله، يقول ابن تيمية في هذا: أنه لا شك أن أخذ مماثل للشيء أولى من إعطائه الدراهم، وهذا القيمي، فكما قال صلى الله عليه وسلم: ( لما جاءته مولاة لإحدى زوجاته بصحفة فيها طعام، وكان عند عائشة فغضبت عائشة فضربتها فكسرتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: غارت أمكم، غارت أمكم، وبدأ يجمع الطعام، وقال: طعام بطعام وصحفة بصحفة ).
والنبي صلى الله عليه وسلم استقرض بعيراً وقضى خيراً منه، هذا القول أقوى والله تبارك وتعالى أعلم وأحكم، وعلى هذا (وما تلف أو تعيب من مغصوب مثلي غرم مثله) سواء كان مكيلاً أو مثلياً أو موزوناً.
لكن يقول المؤلف: وإن لم يكن مكيلاً أو موزوناً -يعني: لم يكن مثلياً- (فقيمته يوم تعذره)، يعني: يوم تعذر المثلي، فلو غصبه محلاً، ثم مات في وقت الشتاء، فقيمته في الشتاء يختلف عن قيمته وقت الصيف؛ لأنه يحتاج إليه في وقت الشتاء أكثر مما يحتاج إليه في وقت الصيف، فيقول المؤلف: (فقيمته يوم تعذر).
وإذا تعذر المثلي فكذلك قيمته يوم التعذر، مثل أن يكون غصبه براً فلم يوجد البر، فيرجع من المثل إلى القيمة وقت التعذر.
والأصل كما قلنا: الراجح نوع المثل سواء كان مشابهاً أو لا، سواء كان مكيلاً أو موزوناً.
قال المؤلف رحمه الله: (ويضمن غير المثلي بقيمته يوم تلفه). الراجح أنه إن كان القيمي هذا له مثل فإنه يجب المثل؛ لأن هذا أدعى في العدل يقول ابن تيمية : ولا ريب أن ضمان المال بجنسه مع اعتبار القيمة أقرب إلى العدل من ضمانه بغير جنسه.
قال المؤلف رحمه الله: (وإن تخمر عصير فالمثل).
يعني: العصير إذا تخمر صار كأنه تالف فيضمن المثل، ومثل بالعصير لأن العصير موزون.
قال المؤلف رحمه الله: (فإن انقلب خلاً دفعه لمالكه).
يعني: كان خمراً وانقلب خلاً فدفعه لمالكه، ودفع (معه نقص قيمته).
كيف يقول المؤلف: (إذا انقلب خلاً دفعه إلى مالكه) ودفع (معه نقص قيمته)، وقد قلنا: إن الخمر ليس له قيمة، اشترطنا في الغصب أن يكون مالاً مباحاً، فلو غصب خمراً لم يجب شيئاً، يقول المؤلف: وإن انقلب خلاً دفعه وضمن النقص، يضمن النقص في الخمر مع أنه حرام؛ لأنه لم يكن حكم الغصب في الخمر إلا ما كان الغصب من العصير، فيضمن النقص إن كان عصيراً إلى أن كان خلاً.
أسأل الله أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , زاد المستقنع - كتاب البيع [5] للشيخ : عبد الله بن ناصر السلمي
https://audio.islamweb.net