إسلام ويب

لقد حذر الشارع من النجاسة والتهاون بها، ولم يعف عن شيء منها إلا ما كان يسيراً، ورغب في أن يكون المسلم مميزاً في طهارته ومظهره، فشرع له كل ما تدعو الحاجة إلى أن يظهر بمظهر يليق به كمسلم، دون إسراف أو تشبه.

النجاسات وكيفية التطهر منها وما يتعلق بها

كيفية غسل وتطهير عين النجاسة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وأعنا على اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:

قال المؤلف رحمه الله: [وتغسل كل نجاسة سبعاً إحداهن بالتراب] فإذا وقعت نجاسة على مكان فإنه يجب غسلها سبع مرات، ولو تنقى المكان في غسلة أو غسلتين، فلو افترضنا أن نجاسة وقعت في ثوب فلا بد -لأجل أن يكون الثوب طاهراً- أن يغسل الثوب أو البقعة التي وقعت فيها النجاسة سبع مرات، فلو غسلنا الغسلة الأولى ثم الثانية فزالت النجاسة، فإن الحنابلة يقولون: ما زالت النجاسة الحكمية باقية حكماً ولو زالت عيناً؛ فيجب أن يزيد ثالثة ورابعة وخامسة وسادسة وفي السابعة يصير المغسول طاهراً، والغسالة التي بعدها طاهرة، هذه السبع غسلات إحداهن بالتراب.

ما دليلهم على هذا؟ قالوا: قياساً على نجاسة الكلب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة : ( طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب )، وفي حديث عبد الله بن المغفل : ( إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فاغسلوه سبعاً وعفروه الثامنة بالتراب )، وقد جاء عند الترمذي من حديث أبي هريرة في زيادة: ( إحداهن بالتراب )، وهذه الرواية منكرة تفرد بها رجل يقال له: علي بن المسهر وأخطأ في ذلك، والصحيح: أن الرواية المشهورة الصحيحة الثابتة هي رواية: ( أولاهن بالتراب ) من حديث أبي هريرة ، وأما الرواية في حديث عبد الله بن المغفل : ( وعفروه الثامنة بالتراب )، فإن الجمع بينهما أن نقول: إن قوله: ( وعفروه الثامنة بالتراب ) هو أنه جعل الغسلات جزءاً، والتراب جزءاً، ولم يعين الأولى أو الثانية، بل إنه نظر إلى مجموع عدد الغسلات الثمان ولم يعين أيهما أولاً، أما في رواية: ( أولاهن )، فإنها ابتدأت بالتراب، وهذا هو الأظهر، فيغسله بالتراب، يعني: في نجاسة ولوغ الكلب، ثم بعد غسله بالتراب يفيض عليه سبع غسلات بالماء؛ ليكون الإناء بعد ذلك طاهراً ونظيفاً.

أما رواية: ( إحداهن ) فهي وإن كانت لم تخالف من حيث المخالفة المعنوية، لكنها رواية غير مشهورة، هذا في غسل الكلب.

وأما القياس على غسل الكلب في سائر النجاسات فقد مر أن قياس الخنزير على الكلب محل نظر؛ لأن ذلك من باب الأمر الذي قد علم علته، وهي أن للكلب في ولوغه أضرار ثبتت بخلاف سائر النجاسات، أما بعضهم فيقول: إن تخصيص ذلك بالكلب أمر تعبدي، والقاعدة: أن التعبد لا يقاس عليه، ولكن الواقع أنه ليس ثمة تعبد في هذا، ولكنها حكمة مقصودة لأجل تيقن إزالة الخبث الذي في ولوغ الكلب.

والقاعدة الفقهية: أن المظنة تقام مقام الحقيقة حين عدم العلم بها، فأنت إذا ولغ الكلب في الإناء لا تدري: هل يزال بأربع أو بست أو بسبع أو بواحدة؟ فهذه المظنة وهي من شدة ضرر ولوغ الكلب أقامت السبع مقام اليقين في الإزالة، وصارت المظنة في هذا الأمر تقام مقام الحقيقة، فنجاسة ولوغ الكلب باقية، فالمظنة بقاؤها ولو زالت في أربع أو خمس أو ست، لكن غالب الناس ربما لا يحسن الغسل، فأقيمت المظنة مقام الحقيقة؛ لعلة أن النجاسة باقية.

أما قياس نجاسة الكلب على غيره فمحل نظر، وقد جاءوا بحديث عن ابن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن تزال النجاسة بسبع غسلات )، ذكر ذلك ابن قدامة في المغني، ولكن هذا الحديث ليس له إسناد ولا خطام ولا زمام، وعلى هذا فالحديث لا يصح.

والراجح: هو القول الثاني في المسألة، وهو مذهب جماهير السلف والخلف وهو أن النجاسة عين خبيثة متى ما زال أثرها زالت، والحنابلة حينما جاءت أحاديث تبين أن النجاسة متى ما زال أثرها بغير سبع غسلات زالت، قالوا: هذا مستثنى كما سوف يأتي، والراجح عدم الاستثناء، وأن النجاسة عين خبيثة متى ما زال أثرها زالت.

ولا فرق بين وجود النجاسة في الأرض أو وجودها في غير الأرض، وقد قال صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيحين من حديث أسماء في الدم: ( دم الحيض يقع في الثوب؟ قال: تحكه ثم تقرصه بالماء، ثم تنضحه، ثم تصلي فيه )، ولم يأمر صلى الله عليه وسلم بأن يغسل سبع غسلات، وهذا يدل على أن الراجح أن النجاسة عين خبيثة متى ما زال أثرها زالت ولو بواحدة.

إذا ثبت هذا فإن المؤلف يقول: (فإن كانت على الأرض أو نحوها فمرة)، يعني: إن كانت النجاسة على الأرض فيكفي غسل الأرض مرة واحدة إذا علمنا زوال النجاسة، واستدل المؤلف على هذا بما جاء في الصحيحين من حديث أنس بن مالك في قصة الأعرابي الذي بال في المسجد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تزرموه، ثم دعا بذنوب من ماء فأفرغه عليه )، وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم طهر المكان بالإضافة والغمر، فدل ذلك على أن طهارة الأرض تجزئ ولو بمرة واحدة، وهذا هو الراجح، وهو قول عامة السلف والخلف، ولا فرق في ذلك بين الأرض وغيرها، وقد جاء في صحيح البخاري عن ابن عمر : ( كانت الكلاب تقبل وتدبر -زاد أبو داود : وتبول في المسجد- ولم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك )، وجه الدلالة: أن النجاسة عين خبيثة متى ما زال أثرها بالريح أو بالشمس أو بالماء زال حكمها، وهذا هو مذهب أبي حنيفة ورواية عند الإمام أحمد اختارها أبو العباس بن تيمية رحمه الله.

الغسالة التي تتساقط من الشيء المتنجس

قال المؤلف رحمه الله: [وغسالة كل مرة إن لم تتغير كمغسولها].

يعني: أنك إذا أردت أن تغسل الثوب فالغسالة -وهي الماء المتساقط من الشيء المتنجس- حكمها كحكم مغسولها، فإن كان المغسول طاهراً صارت الغسالة طاهرة، وإن كان المغسول نجساً حكماً أو عيناً كانت الغسالة نجسة حكماً أو عيناً، وعلى هذا -فعلى المذهب وهو أن تغسل سبع مرات- فلو أزيلت النجاسة مرة أو مرتين أو ثلاثاً، فالغسالة الرابعة التي سقطت من الثوب نجسة؛ لأنه على المذهب أن المغسول نجس حكماً، وعلى الراجح تكون طاهرة؛ لأننا نقول: إن النجاسة عين خبيثة متى ما زال أثرها زالت.

كيفية التطهر من بول الغلام الذي لم يطعم

قال المؤلف رحمه الله: [ويرش بول غلام لم يطعم].

أجمع العلماء على أن البول نجس، وهذا الإجماع مستصحب في بول الغلام الذي لم يطعم، والراجح أن بول الغلام نجس، إلا أنه خفف في طريقة تطهيره.

والمقصود بالغلام عند جمهور الفقهاء هو الذي لم يفطم بعد، ولم يشته الطعام، وعلى هذا فالذي فطم وبدأ يتلهف على الطعام غير الحليب فإن بوله يغسل، وإذا كان الطفل يعطى الكسرة من الخبز فيأخذها ويتلمظها فهذا لا يقال عنه: إنه أكل الطعام حتى يشتهيه وتتلهف نفسه عليه، والمقصود بغير الطعام هو الحليب، سواء كان الحليب الصناعي أو الحليب الطبيعي، فإذا كان لا يأكل أو لا يشرب إلا حليب الأم أو الحليب الصناعي فإنه يرش بوله، فأما إذا كان يشرب السيريلاك، وهو مثل الحليب لكنه من البسكوت الذي يصنع من القمح، فإذا كان الطفل يتلهف لشرب مثل هذا فإنه يكون طعاماً، فلا فرق بين أن يتلهف لشرب السيريلاك أو أن يتلهف لأكل الكسرة من الخبز، كل ذلك يعد طعاماً، هذا هو مذهب جماهير أهل العلم.

ودليل رشه ما جاء عند أهل السنن من حديث أبي السمح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يرش من بول الغلام ويغسل من بول الجارية )، وجاء أيضاً في حديث علي بن أبي طالب رضي الله عن الجميع أنه قال: ( ينضح بول الغلام ويغسل بول الجارية، قال قتادة : هذا إذا لم يطعما، فإذا طعما غسل جميعاً ).

ودليل اشتراط عدم أكل الغلام للطعام ما جاء في الصحيحين من حديث أم قيس بنت محصن : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بغلام لم يأكل الطعام فوضعه في حجره فبال، فدعا بماء فنضح ثوبه، ولم يغسله )، فدل ذلك على أن الغلام إذا لم يطعم فإن بوله يرش، وأما إذا طعم فلا فرق بين الغلام والجارية، وقد جاء عن ابن حزم رحمه الله أن الغلام يرش بوله حتى يبلغ، ولو كان ابن اثنتي عشرة سنة، يقول: لأن الغلام في لغة العرب هو اسم لمن لم يبلغ، فالمراهق الذي لم يبلغ يرش بوله؛ لأنه لا عبرة بأكل الطعام من عدمه، يقول: ليس في هذا نص ظاهر؛ لأن حديث أم قيس إنما حكت واقعة حال، ولكن الظاهر أنه لا بد من اشتراط عدم أكل الطعام، والله أعلم.

الدم اليسير وما تولد منه كالقيح والصديد

قال المؤلف رحمه الله: [ويعفى في الصلاة عن يسير دم طاهر].

قلنا: إن الدم الخارج من غير السبيلين الراجح: أنه نجس، ولكن يعفى عن يسيره، ودليل العفو عن اليسير منه ما يلي: أولاً: ما جاء في صحيح البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه، فإذا وجدت على ثوبها دماً نصعته بريقها ثم صلت فيه )، وجه الدلالة: أن النصع للنجاسة بالريق لا يزيلها، وقد قالت عائشة : ( ثم صلت فيه ) وكان ذلك على مرأى ومسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، فدل ذلك على أن أثر النجاسة باق في الثوب، لكنه لما كان يسيراً عفي عنه.

ثانياً: مما يدل على ذلك ما رواه ابن أبي شيبة وغيره من حديث بكر بن عبد الله المزني عن ابن عمر أنه عصر بثرة في وجهه فخرج منها الدم، ثم صلى ولم يتوضأ، وهذا هو الراجح والله أعلم، وهو مذهب جمهور الفقهاء القائلين بنجاسة الدم، فإنهم قالوا: يعفى عن يسيره.

إذا ثبت هذا فإنه قد ثبت أيضاً عن بعض الصحابة أنه مج دماً من فمه فصلى ولم يتوضأ، وهذا قول الصحابة مثل: عائشة و ابن عمر ، وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، فدل ذلك على أنه يعفى عن يسيره.

وما هو ما حد اليسير؟

قال بعضهم حد اليسير: شبر في شبر، كما جاء عن أحمد في رواية، والراجح أن أحمد عندما قال: شبر في شبر؛ لأجل أن يوضح ذلك في حق من فعله، وإلا فإن الراجح هي الرواية الثانية: أن معرفة اليسير من القليل إنما هي بالعرف، فما تعارف وفحش في حق أوساط الناس فإنه صار كثيراً، وما قل في حق أوساط الناس فإنه يكون قليلاً.

وقول المؤلف: (وما تولد منه) يعني: أنه يعفى في الصلاة عن دم يسير وما تولد من الدم اليسير، والذي يتولد من الدم اليسير هو القيح والصديد والماء الذي يخرج بعد أو مع الجرح، فهذا المتولد يعتبر عند الجمهور نجساً، ويعفى عن يسيره؛ لحديث ابن عمر .

وقول المؤلف: (يسير دم طاهر)، ليس المقصود أن المكان يكون طاهراً، ولا أن الدم نفسه طاهر، ولكن المقصود أن الدم خارج من حيوان طاهر، والحيوان الطاهر نوعان: مأكول اللحم، وإنسان، فمأكول اللحم خرج بالإجماع؛ لأن فضلات مأكول اللحم كلها طاهرة، فمادام أن بوله وروثه طاهر، فكذلك دمه، ما عدا الدم المسفوح، فهذا يعفى عن يسيره، وأما الإنسان فإن دمه نجس خرج من السبيلين أم لا، ويعفى عن يسيره، وكذلك ما تولد من هذا الدم.

ثم قال المؤلف: (وهو ما لا يفحش في النفس) كأن المؤلف يقول: إن اليسير في العرف هو ما لا يفحش في النفس، يعني: في أوساط الناس، وإلا فإنه ليس المقصود في نفس كل مكلف؛ لأن بعض الناس يوسوس، فلو قلت له: شبر في شبر قال: لعله أنملة في أنملة، وهذا ليس بصحيح، فإن أهل العراق سألوا ابن عمر عن يسير الدم فقال: يسألون عن دم البعوض ويقتلون الحسين ! فبعض الناس عنده وسوسة، يخرج من الحمام ويقول: أخشى أن رذاذ البول قد سقط على ثيابي، فيغسل ثوبه كله، فإن سألته لماذا غسلت ثوبك؟ قال: لأنه ربما يكون قد سقط عليه شيء من رذاذ البول، فإذا سألته: هل رأيته؟ قال: لا، إذاً: لماذا غسلت الثوب؟ قال: لإقامة المظنة مقام الحقيقة، أعوذ بالله! هذا كله من الوسوسة ولا يجوز، وأما ما يقع من ذلك فإن هذا معفو عنه كما هو قول جمهور العلماء؛ لأن ذلك مما تعم به البلوى، والله أعلم.

المذي الخارج من الإنسان وكيفية التطهر منه

قال المؤلف رحمه الله: [وكذا المذي].

لما كان المذي نجساً بالإجماع لم يعف عنه، إلا أنه خفف في طريقة غسله، وهو النضح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن المذي، فقال: (اغسل ذكرك وتوضأ)، وأما غسل الثوب فقال: كما في حديث سهل رضي الله عنه: ( ينضحه ) أو قال: ( انضح فرجك )، فدل على أن ذلك معفو عنه، والمقصود بالنضح هو: أن يرش الماء على مكان المذي، فإن كان ثمة جرم فيجب إزالة الجرم، فإذا زال الجرم ثم نضح الماء على البقعة حتى غمرها فإن ذلك يعد نوعاً من النضح، ولا يلزم الغسل وهو الفرك، وعلى هذا فإذا أخذ كفاً من ماء ثم وضعه على مكان ثيابه الداخلية فإنه يكون بإذن الله طاهراً ولا يلزم فركه، ولكن إذا كان لا يزال ركداً فلا بد من إزالة ذلك الجرم، والله أعلم.

دم الاستحاضة وما يعفى منه

قال المؤلف رحمه الله: [وأثر الاستحاضة].

الاستحاضة دمها نجس، لكن يعفى عن الأثر الموجود فيها؛ لأن الدم قد يكون متجمعاً في فرج المرأة فيعفى عنه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لـحمنة بنت جحش عندما قالت: ( يا رسول الله! إني أستحاض فلا أطهر، قال: أنعت لك الكرسف، قالت: يا رسول الله! إنه أكثر من ذلك؟ قال: فتلجمي )، والتلجم أن تضع ثوباً أو قطنة أو كرسفاً على مكان الدم ثم تلفه، فيكون كالحفاظة، ومن المعلوم أن المرأة إذا تلجمت فإنه يبقى أثر الدم في الصلاة الثانية، فدل ذلك على أن هذا معفو عنه.

وأما استدلال الشوكاني رحمه الله على هذا بأن دم الاستحاضة طاهر فهذا قول ضعيف، والله أعلم.

إذا علم هذا فإنه لا يلزم -على الراجح والله أعلم- أن تغير المرأة القطن في كل صلاة؛ لأن هذا مما يشق، وكذلك من به سلس بول إذا كان قد وضع على ذكره قطنة فإنه لا يلزم أن يغيرها في كل صلاة؛ والله أعلم.

ما يبقى بعد الاستجمار من أثر الخارج من السبيلين

قال المؤلف رحمه الله: [أثر الاستجمار].

فإن الإنسان إذا استجمر من أثر الخارج من السبيلين كما لو تغوط مثلاً فأزال النجاسة بثلاثة أحجار؛ -لأنه لا بد من ثلاثة أحجار، ولو أنقى المحل بأقل من ذلك كما هو مذهب الشافعية والحنابلة كما سوف يأتي- فإن الشيء الموجود الباقي يعفى عنه إذا صعب إزالته بالحجارة، فأثر ذلك معفو عنه، والله أعلم.

وهذه قاعدة عند العلماء يقولون: ما تعم به البلوى يعفى عنه، الآن يا إخوان! الذين يعملون في الحراثة تجد أن تحت أظفارهم وسخاً، ومن المعلوم أنه لو توضأ فإن ما تحت هذا الوسخ لن يصل إليه الماء، فهذا يعفى عنه، وكذلك الخبازين الذين يعجنون، إذا صلوا فإنه أحياناً يبقى بعض العجين متناثراً في أيديهم، ومن المعلوم أن ما كان تحت من الجلد فيه عجين لم يصبه الماء، فهذا معفو عنه؛ لأن هذا مما تعم به بلوى مثل هذا العمل، والقاعدة: أن ما تعم به البلوى يعفى عنه، وأقول: هذا هو مذهب أبي حنيفة اختاره أبو العباس بن تيمية .

وكذلك يعفى عن يسير نجاسة يشق إزالتها كما في أثر الاستجمار، ويقال مثل ذلك إذا وضعت المرأة الطلاء الذي يوضع على الأظفار، فإنها إذا أرادت أن تتوضأ فإنها مأمورة بإزالته، فما يتبقى في أطراف الظفر مما يشق إزالته، فهذا مما يعفى عنه، كما يبقى في أيدي الخبازين من أثر العجين، والله أعلم.

ملاقاة الخف والذيل للنجاسة وكيفية تطهيرها

قال المؤلف رحمه الله: [والخف].

فإن الخف إذا وطئ النجاسة فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بدلكه بالتراب، وقال: كما ورد عند أهل السنن من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أتى أحدكم المسجد فلينظر في نعليه فإن وجد بهما الأذى فليدلكهما بالتراب فإن التراب لهما طهور )، ومن المعلوم أن الإنسان إذا دلك خفه بالتراب فلا بد أن يعلق بعض الشيء من النجاسة في الخف، فدل ذلك على أن هذا مما يعفى عنه، والله أعلم.

وهذا من سماحة الإسلام ويسر الشريعة، وهذا فرق بين تساهل النصارى وشدة اليهود، فقد كانت اليهود إذا أصاب جلد أحدهم بول قرضه بالمقاريض والعياذ بالله، كما جاء في الصحيح من حديث أبي موسى ، وأما النصارى فإن عندهم رهبانية ليست عند اليهود، لكنهم لا يتوقون من النجاسة، فاليهود عندهم شدة في الطهارة أشد من النصارى؛ ولهذا لا تكاد تجد يهودياً يبول في المراحيض التي يكون فيها الناس، بخلاف النصارى فإنهم يتساهلون في البول، فاليهود أنظف من النصارى؛ ولهذا حتى في الذبائح تجد أن اليهود أشد نظافة من النصارى، والله أعلم.

ثم قال المؤلف: (والذيل بعد دلكه)، والأولى أن يقول المؤلف: والخف والذيل بعد دلكهما؛ حتى يعود الدلك إلى الذيل والخف، مع أن الذيل لا يدلك، ولكن المؤلف أراد أن يقول: والخف بعد دلكه والذيل بعد مروره بأرض طاهرة، هذا مراد المؤلف، وهذا يسمى عند علماء البلاغة: لف ونشر، وإلا فإن الأولى أن يقول المؤلف: وأثر الاستجمار والخف بعد دلكه والذيل بعد مروره بأرض طاهرة، وإنما قال: إن الذيل يطهر بمروره بأرض طاهرة؛ لما جاء في حديث أم إبراهيم بنت عبد الرحمن بن عوف عن أم سلمة رضي الله عنها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن المرأة تصيب النجاسة ذيلها؟ فقال: يطهره ما بعده )، وهذا الحديث تكلم في إسناده؛ وذلك لأن أم إبراهيم بنت عبد الرحمن بن عوف مجهولة، ولكننا نقول: إن هذا الجهالة معفو عنها، يقول الإمام الذهبي : لا تكاد تعرف بعض النساء الموجودات اللاتي يروين عن الصحابيات ولا أعلم فيهن قادح، والله أعلم.

وإذا ثبت هذا فإن الحديث -أيضاً- له شاهد آخر من حديث أبي هريرة يقويه، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

من أحكام السواك

قال المؤلف رحمه الله: [باب السواك.

السواك سنة، لا بعد الزوال لصائم، ويتأكد عند الصلاة، والانتباه، وتغير فم، وقراءة، ووضوء، ودخول المنزل، بعود أراك ونحوه عرضاً، وسن الادهان غباً، والاكتحال وتراً، والاستحداد، وقص الشارب، وقلم الظفر، ونتف الإبط، والتيامن في كل شأنه، ونظره في المرآة، وتسريح شعره.

ويجب الختان إن لم يخفه، ويكره القزع، ونتف الشيب وسن تغييره بغير سواد]. ‏

حكم السواك

قال المؤلف رحمه الله: (باب السواك).

السواك سنة بالإجماع، سواء كان لأجل الوضوء أم لأجل الصلاة، خلافاً لـإسحاق بن راهويه فإنه أوجب السواك عند الصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم: ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة )، والأئمة يقولون: إن السواك سنة، وهذا هو الراجح، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم )، فدل ذلك على أن المقصود بالأمر هنا أمر الوجوب لا أمر الاستحباب.

السواك بعد الزوال للصائم

يتأكد استحباب السواك في مواضع سوف يأتي بيانها، إلا أن المؤلف يقول: (السواك سنة)، يعني: مطلقاً في سائر الأحوال والأزمان والأمكنة، (إلا لصائم بعد زوال الشمس)، والمقصود بعد الزوال يعني: بعد أذان الظهر فإنه لا يشرع، وسبب استثناء المؤلف هو أن بعد الزوال تظهر رائحة فم الصائم، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: ( لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك )، وهذه الرائحة مرغوبة عند الله سبحانه وتعالى فلا يشرع إزالتها؛ لأنها محبوبة عند الله.

والجواب على هذا أن يقال: ورد الحديث عند مسلم بلفظ: ( أطيب عند الله يوم القيامة )، كما أن الدم نجس، لكنه عند الله يوم القيامة ( اللون لون دم، والريح ريح مسك )، فلا تقاس أحكام الدنيا بأحكام الآخرة.

الدليل الثاني عند الحنابلة: ما جاء من حديث كيسان القصار عن يزيد بن بلال عن علي رضي الله عنه موقوفاً أنه قال: استاك بالغداة ولا تستاك بالعشي، وجاء أيضاً مرفوعاً من حديث خباب بن الأرت : ( إذا صمتم فاستاكوا بالغداة ولا تستاكوا بالعشي )، وهذا حديث ضعيف، فإن في سنده كيسان أبو عمرو القصار ، حديثه ضعيف لا يعول عليه؛ ولهذا فإن مذهب الحنابلة ليس براجح، والراجح هو القول الثاني وهو مذهب أبي حنيفة و مالك ورواية عند الإمام أحمد .

اختار أبو العباس بن تيمية رحمه الله أنه يشرع السواك في حق الصائم قبل الزوال وبعده، وقد جاء في حديث عبد الله بن ربيعة : ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا أحصي استاك وهو صائم )، والحديث تكلم في إسناده، وهو قابل للتحسين.

ومما يدل على ذلك وهو أحسن شيء في الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء )، كما رواه مالك في الموطأ، و البخاري معلقاً، وكذلك في رواية: ( لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة )، وجه الدلالة: أن الشارع أمر بالسواك عند كل صلاة، وعند كل وضوء، وهذا يسقط في حق الصائم وغيره، فدل ذلك على عدم التفريق، ومن فرق فعليه الدليل، ولا دليل، والقاعدة الأصولية تقول: ترك الاستفصال بمقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء ) فيصدق عليه أن يكون ذلك في حق الصائم وفي حق غيره، فدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما لم يفصل مع أن الاحتمال قائم بالتفريق، فدل على أن الأصل العموم، والله أعلم.

مواضع تتأكد فيها مشروعية السواك

قال المؤلف رحمه الله: (ويتأكد)، يعني: أن السواك مشروع، لكنه يتأكد في مواضع، أشار المؤلف إليها بقوله: (عند الصلاة)، ودليل ذلك ما جاء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة )، والحديث متفق عليه.

ثم قال المؤلف: (والانتباه)، يعني: الانتباه من نوم الليل، فإذا انتبه الإنسان من نوم الليل فإنه يشرع له أن يشوص فاه بالسواك، كما جاء في الصحيحين من حديث حذيفة رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك ).

وأيضاً يقول المؤلف: (عند تغير الفم) يعني: عند تغير رائحة الفم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول كما عند الإمام أحمد و ابن ماجه من حديث عائشة : ( السواك مطهرة للفم مرضاة للرب )، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم: ( كان إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك ) فإن من المعلوم أن الإنسان إذا قام من النوم فإنه مظنة تغير رائحة الفم، فلا يعلم سنة في هذا إلا لأجل تغير رائحة الفم، والله أعلم.

ثم قال المؤلف: (وقراءة)، يعني: يشرع للإنسان أن يتسوك عند إرادة قراءة القرآن، لما روى الدمياطي في المتجر الرابح من حديث علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الملك ليضع فاه على موضع في القارئ فما خرج منه شيء وقع في في الملك، ألا فطيبوا أفواهكم بالسواك )، وهذا الحديث حسنه الدمياطي في المتجر الرابح، وله طرق.

ولكننا نقول: وإن كان الإسناد تكلم فيه الحفاظ إلا أنه لما جاز وشرع للإنسان إذا أراد أن يصلي أن يتسوك فإن الحكمة من ذلك أن الصلاة فيها عبادة وقراءة، فدل ذلك على أنه يشرع للإنسان أن يتسوك عند إرادة القراءة بجامع عدم الفارق، والقياس بعدم الفارق في العبادات جائز؛ لأن هذا من باب عموم اللفظ؛ ولهذا يقول ابن تيمية : إن القياس بعدم الفارق لم يخالف فيه أحد حتى نفاة القياس كالظاهرية، وقد أجمع العلماء على الأخذ به كما حكى ذلك الغزالي و الجويني و أبو العباس بن تيمية ، وأما أهل الظاهر فإنهم لا يسمونه قياساً، ولكنهم يسمونه من الدلالات اللفظية، والله أعلم.

ثم قال المؤلف: (ووضوء)، يعني: يشرع للإنسان أن يتسوك عند إرادة الوضوء كما روى مالك في الموطأ و البخاري معلقاً بصيغة الجزم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في حديث أبي هريرة : ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء ).

وكذلك عند (دخول) المنزل لما روى مسلم في صحيحه أن عائشة سئلت: ( بأي شيء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدأ إذا دخل منزله؟ قالت: بالسواك )؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يلاطف أهله، تقول عائشة كما في الصحيحين: ( وكان صلى الله عليه وسلم يدخل على نسائه بعد العصر، وكان يدنو منهن )، يعني: أنه كان يقبلهن بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام.

عند الصلاة، وتغير رائحة الفم، وعند الانتبهاه من النوم، وقراءة القرآن، والوضوء ودخول المنزل، فهذه ستة مواضع يشرع للإنسان أن يتسوك فيها.

ومن المعلوم أن السواك إنما هو في الأسنان، لكن يشرع أيضاً أن يسوك لسانه، كما في الصحيحين من حديث أبي موسى أنه قال: ( أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتسوك ويقول: أع أع، وطرف السواك على لسانه )، فهذا يدل على أن الإنسان يشرع له أيضاً أن يشوص لسانه.

ما يجزئ الاستياك به

قال المؤلف رحمه الله: (بعود أراك)، المشروع أن يكون السواك بعود رطب من الأراك، وإن لم يجد جاز بكل عود رطب، وقولنا: بالرطب؛ لأنه إذا لم يكن رطباً فإنه يؤثر على اللثة، فيكون ضرره أكثر من نفعه، والقاعدة: أن الضرر يزال بقدر الإمكان.

بعض العلماء قال: إن السواك غير مشروع في موضعين:

الأول: في حال الصلاة فلا يتسوك وهو يصلي؛ لأن هذا خلاف الأولى، أو مكروه.

الثاني: إذا كان وقت الخطبة والإمام يخطب، فإنه ليس كحال مس الحصى ( ومن مس الحصى فقد لغا )؛ ولكن لأجل أنه ينبغي أن يتابع الخطيب، كما أشار إلى ذلك الشافعية، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

ثم قال المؤلف: (ونحوه)، يعني: ونحو عود الأراك، الذي يظهر والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم أن السواك لا يكون إلا بعود، وأما الخرقة أو الأصبع فإن الذي يظهر والله أعلم أنه يحصل له الأجر على حسب الإنقاء؛ لأجل التنظف لا لأجل ذات السواك، فإن ( السواك مرضاة للرب )، وهذا لا شأن للخرقة ولا للأصبع فيه، وعلى هذا ففرشة الأسنان وإن كانت أحياناً مجدية أكثر من السواك، وهي مرغوبة من حيث التنظف، لكن المرضاة للرب لا نقول بها إلا بدليل، والدليل إنما ثبت في السواك، والله أعلم.

الأفضل في كيفية الاستياك

قال المؤلف رحمه الله: (عرضاً).

يعني: طريقة السواك تكون عرضاً بالنسبة إلى أسنانه، وطولاً بالنسبة إلى فمه، أقول: كل هذا ليس فيه دليل، والشارع شرع لنا السواك ولم يذكر لنا صفته، والقاعدة الفقهية: أن كل عبادة شرعت من غير بيان كيفية الصفة دل ذلك على أن أي كيفية لأداء تلك العبادة مشروعة، وقل مثل ذلك في التسبيح، فإن الشارع شرع لنا أن نسبح ثلاثاً وثلاثين، وأن نحمد ثلاثاً وثلاثين، وأن نكبر ثلاثاً وثلاثين، ونقول تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ولم يبين لنا الصفة، فدل على أن لنا أن نقول: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، أو أن نقول: سبحان الله سبحان الله سبحان الله، ثم الحمد لله الحمد لله الحمد لله، ثم الله أكبر الله أكبر الله أكبر، وعلى هذا فقس.

وعليه فإن صفة الاستياك ليس فيها سنة ثابتة، لكن الأطباء يقولون: إن الاستياك طولاً أنفع، وذلك باتجاه اللثة إلى الأسنان، وأقول: إن كلام الأطباء من باب الأفضلية لكن لا يقال بالاستحباب، فالاستحباب حكم شرعي لا يثبت إلا بدليل شرعي، والله أعلم.

أحكام تتعلق بنظافة البدن

الادهان غباً والاكتحال وتراً

قال المؤلف رحمه الله: (وسن الادهان غباً).

الغب: هو مرة دون مرة ودليل هذا ما جاء عند أهل السنن ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدهن غباً )، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كثير من الإرثاة، يعني: لا يشرع للإنسان كل يوم أن يسرح شعره مثل المرأة؛ لأن هذا ترفع، وقد قال عمر رضي الله عنه: شلشلوا وتمعدنوا فإن النعم لا تدوم، لكن أيضاً لا ينبغي للإنسان أن يخرج ولم يسرح لحيته ولا شعره إذا كان طويلاً، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( من كان له شعر فليكرمه )، ( وقد خرج رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو رث الهيئة، فقال له: هل لك مال؟ قال: نعم، قال: من أي أنواع المال؟ قال: من كل أنواع المال يا رسول الله! من الإبل والبقر والغنم، قال: فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده )، وكان صلى الله عليه وسلم من رآه يرى الجمال يلوح في محياه بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام.

قال المؤلف: (والاكتحال) أي: يشرع الاكتحال وهو نوعان: بإثمد، أو بغيره، فإن كان بالإثمد فإنه سنة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( عليكم بالإثمد فإنه يجلي البصر )، وهذا مشروع، وقال صلى الله عليه وسلم: ( عليكم بالإثمد فإنه منبتة للشعر، مذهبة للقذاء مصفاة للبصر )، وله ألفاظ أخرى، والحديث إسناده جيد، وأما غير الإثمد، فإن الراجح والله أعلم أنه جائز في حق الرجل، وهو ما يسمى: الاكتحال بالزينة، والله أعلم.

والمقصود بالوتر هو أن يكحل عينه مرة من اليمين إلى الشمال، أو من الشمال إلى اليمين واحدة، ثم يعود مرة ثانية، ثم يعود ثالثة فيكون قد اكتحل ثلاث مرات في كل عين، هذا هو السنة، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

الاستحداد

قال المؤلف رحمه الله: [والاستحداد].

الاستحداد: هو استعمال الحديدة لإزالة الشعر، وهذا إنما يكون في حلق العانة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( عشر من الفطرة، ثم قال منها: الاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظفار، ونتف الإبط، وغسل البراجم، وتخليل اللحية ... )، الحديث، وهذا الحديث رواه مسلم من حديث عائشة ، وقد تكلم فيه الإمام أحمد ، وهذا من الأحاديث التي تكلم فيها الحفاظ على مسلم .

والحديث الآخر حديث أبي هريرة كما في الصحيحين: ( خمس من الفطرة: الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط ).

قص الشارب

قال المؤلف رحمه الله: (وقص الشارب).

فيستحب للإنسان أن يقص شاربه، وقد ذكر ابن حزم في مراتب الإجماع على أن ذلك فرض، والراجح أنه ليس بفرض، ولكنه مستحب، كما هو مذهب جماهير أهل العلم.

وأما قص الشارب فإن الراجح أن له صفات.

الصفة الأولى: أن يقص أطراف شاربه إلى الشفة العليا كما جاء في بعض الروايات ( أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع السواك في طرف الشفة، ثم قال للمغيرة : قص ).

الصفة الثانية: أن يقص سائر الشارب، يعني: يعمم سائر الشارب بالقص، والقص يطلق على أطراف الشارب أو على كله على الراجح، وبعضهم يقول: إن قص الشارب يطلق على أطراف الشارب فقط، وأما سائر الشارب فإنه يسمى حفاً كما جاء في حديث آخر وهو قوله صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة و ابن عمر : ( حفوا الشوارب وأعفوا اللحى )، قالوا: فإن الحف هو في سائر الشارب، واعلم أن الحف ليس هو الحلق.

وأما حلق الشارب فالراجح والله أعلم أنه لا يشرع، فإن الحف شيء والحلق شيء آخر، ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حلق شاربه، وإنما كان ابن عمر يحف شاربه حتى يرى بياض ما تحته، وهذا يدل على المبالغة في الحف، وعلى هذا فإن السنة أن يحف، والحف نوع من التقصير؛ ولهذا فإن الإنسان إذا حلق رأسه بالماكينة ولو كان صفراً، فإن هذا لا يعد حلقاً، وإنما الحلق بالموسى، فلا يشرع للإنسان أن يحلق شاربه، بل إن الإمام مالك رحمه الله بالغ في ذلك، وقال: من حلق شاربه عزر، والحنابلة يخففون في ذلك، والأقرب هو عدم الاستحباب في حلق الشارب، وإنما هو الحف بالماكينة، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

قلم الأظفار ونتف الإبط

قال المؤلف رحمه الله: (وقلم الأظفار).

يعني: تقليم الأظفار، يستحب للإنسان أن يقلم أظفاره، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة ، وفي صحيح مسلم من حديث عائشة .

ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة تقليم الأظفار حديث، وما يذكره بعض الفقهاء أنه بالخنصر ثم الوسطى، ثم البنصر، ثم الإبهام، ثم السبابة، كل ذلك لا يصح، فكل صفة قص بها الإنسان أظفاره فهي جائزة، وليس ثمة سنة.

واعلم أنه يشرع للإنسان إذا حلق رأسه أو قلم أظفاره أن يدفنها، كما روى ابن أبي شيبة بسند جيد عن ابن عمر أنه كان يدفن السن والأظفار؛ وذلك لأجل ألا تستخدم في ما يضر الإنسان، ولأجل ألا تستقذر، فإن بعض الناس هداهم الله لا يبالون بذلك، بل إنك ربما تجد قلامة أظفارهم في المساجد والعياذ بالله، وقد ( أمر النبي صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور، وأن تنظف وتطيب ).

ثم قال المؤلف: (ونتف الإبط).

يعني: يشرع للإنسان أن ينتف إبطيه، والنتف يكون بالملقاط، أو بالحلاوى، أو بأي آلة، وهذا من باب المبالغة في التنظف، فإن حلق إبطيه من غير نتف جاز، والله أعلم.

التيامن والنظر إلى المرآة

قال المؤلف رحمه الله: (والتيامن في كل شأنه).

يعني: يشرع للإنسان أن يبدأ باليمين في كل ما كان فيه تكريم لليمين، ويبدأ بالشمال في كل ما سوى ذلك؛ لما جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجبه التيمن في شأنه كله في طهوره إذا تطهر، وفي تنعله إذا تنعل، وفي ترجله إذا ترجل ).

يقول المؤلف: (ونظره في المرآة).

يعني: يسن النظر في المرآة؛ ليزيل ما عسى أن يقع في رأسه أو في لحيته أو في وجهه، وقد جاء عند أحمد و أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى وجهه في المرآة قال: ( اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي )، وهذا الحديث حسنه بعض المتأخرين، ولكن الحديث في سنده ضعف، فإن قاله الإنسان ليس من باب التعبد، وإنما من باب الدعاء أحياناً فلا حرج في ذلك إن شاء الله أن نقول: إنه مستحب، وأما قوله: يستحب، فإن الاستحباب حكم شرعي لا يثبت إلا بدليل شرعي، وعلى هذا فالنظر إلى المرآة من باب الأولوية، لكن أن يقال: إن ذلك سنة فليس بصحيح؛ لأن السنة حكم شرعي لا تثبت إلا بدليل شرعي.

تسريح الشعر وإكرامه

قال المؤلف رحمه الله: (وتسريح شعره).

يستحب للإنسان أن يسرح شعره؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( من كان له شعر فليكرمه )، ومن إكرام الشعر تسريحه، وقد قال ابن عباس كما في الصحيحين: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة يسدل شعره، وكانت قريش تفرق، فلما هاجر إلى المدينة وفتح الله عليه مكة كانت اليهود تسدل، وكان صلى الله عليه وسلم يفرق )؛ وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم لما كان في مكة وفيها أهل الوثن فهو إما أن يوافق أهل الكتاب، وإما أن يوافق أهل الوثن، إما أن يسدل وإما أن يفرق، فأحب موافقة أهل الكتاب، فلما فتح الله عليه مكة وزال أهل الوثن أراد مخالفة أهل الكتاب، وهذا يدل على أن المسلم يجب أن يكون في الجملة متميزاً عن غيره، والآن إذا قلنا لا ينبغي التشبه، قالوا: لماذا؟ أليس كله شعر؟ لماذا تشددون على الناس؟ لا يا أخي! ليست المسألة مسألة تشديد، نحن نكرمك بإكرام الله لك بالإسلام، نحن نطلب منك أن تعتز بدينك حينما أعزك الله بالإسلام، بأن تتميز حتى في حركاتك وهندامك.

أما دليل تسريح شعره صلى الله عليه وسلم ما جاء في حديث عائشة : ( في ترجله إذا ترجل )، وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يترجل، وقد قالت عائشة رضي الله عنها: ( وكان يدخل عليّ رأسه فأرجله وأنا حائض ).

حكم الختان ووقته

قال المؤلف رحمه الله: (ويجب الختان).

الحنابلة يرون أن الختان واجب في حق الرجل وفي حق المرأة، والراجح والله أعلم: أنه واجب في حق الرجل جائز في حق المرأة، وأما قولنا: جائز في حق المرأة؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: ( إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان فقد وجب الغسل )، وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن المرأة لها ختان، ولكنه لم يأمر بذلك، فدل على جوازه، وأما الرجل فالراجح والله أعلم أنه واجب؛ لأن ذلك له أثر في طهارته، فيجب عليه إذا بلغ؛ لأن الغلفة التي تكون على الذكر ربما تستجمع بعض القاذورات وبعض البول، فيكون فيه ضرر، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث ابن عباس : ( أنه مر على قبرين فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان بكبير، أما أحدهما فكان لا يستنجي من بوله)، وقال: ( استنجوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه )، وعليه فإذا قرب الإنسان من حال البلوغ فيجب عليه أن يختتن؛ لأجل ألا تبقى بعض القاذورات على ذكره، وأما قبل ذلك فإنه يجوز، وقد قال ابن عباس : كانوا يختنون إذا ناهزوا، يعني: إذا قرب بلوغهم فإنهم يختنون.

وللوالدين أن يختنا ابنهم في المهد، وكل ذلك جائز والله أعلم، وبعضهم كانوا يختنون وهم أبناء سبع سنين، وكره مالك سبع سنين؛ لأن ذلك فعل اليهود، فأحب ألا يشابه اليهود في وقت الختان.

والذي يظهر والله أعلم أن الختان ليس له وقت محدود، فأي وقت فعل جاز، شريطة ألا يتقصد مشابهة أهل الكتاب، والله أعلم.

قال المؤلف: (ويجب الختان إن لم يخفه) يعني: ما لم يخف ضرر الختان على نفسه، فإن خاف الهلاك أو المرض -لأنه ربما أن الخاتن لا يعرف ولا يحسن الختان، وهو يتمنى وجود طبيب أو ماهر في هذا فلم يجده- أو كان يخشى على نفسه فلا حرج حتى يأتي من يحسن ذلك، فإذا كان هو يحسن الختان وجب عليه أن يختن نفسه، والله أعلم.

ولهذا فإذا وجبت عليه الصلاة والطهارة وجب عليه الختان وأما قبل ذلك فإنه جائز، والله أعلم.

معنى القزع وحكمه

قال المؤلف رحمه الله: (ويكره القزع).

القزع: حلق بعض الرأس وترك بعضه، سواء كان حلق بعضه في الأطراف أم في القفا أم في الوسط، واعلم أن المقصود بذلك هو الحلق، وأما تخفيف جانبين وإبقاء الوسط فإن ذلك جائز ما لم يكن فيه تشبه أو شبه بالعاهرات أو بالكفار، فإذا لم يكن فيه تشبه فليس ذلك بقزع، خلاف لما يظنه العامة، فإن العامة يظنون أن التخفيف محرم، والصحيح أنه مكروه، فالقص إذا لم يكن فيه تشبه بقص سافر أو عاهر أو عاهرة، فإن ذلك جائز، وإنما الممنوع هو حلق بعض الرأس وترك بعضه، لأن ذلك هو من القزع، والمؤلف يقول: (يكره)، والراجح والله أعلم: أنه محرم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( احلقه كله أو اتركه كله )، وهذا أمر، والأصل في الأوامر الوجوب.

واعلم أن ما قارب الحلق فإنه يأخذ حكمه، فالماكينة تأخذ حكم الحلق، أما المقص فيخفف فيه، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

نتف الشيب وصبغه

قال المؤلف رحمه الله: (ونتف الشيب).

يعني: يكره نتف الشيب؛ لما جاء من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن نتف الشيب وقال: إنه نور المسلم )، والحديث إسناده جيد، وقد قال أنس رضي الله عنه: إنه كان يكره أن ينتف الرجل الشعرة البيضاء من رأسه ولحيته.

وقال بعضهم: إن ذلك محرم؛ لأنه من النمص، والذي يظهر والله أعلم أن الشعرة والشعرتين والثلاث ليست من النمص، والمقصود بالنمص ألا يبقى شعر في جهة يقصد بها ذلك، وأما الشعرة والشعرتان فإن ذلك ليس من النمص، ولكنه مكروه، والله أعلم.

ثم قال المؤلف: (وسن تغييره بغير سواد).

يشرع للإنسان أن يغير البياض الموجود في لحيته ورأسه، لما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم )، ويستحب للإنسان أن يغير ذلك بالحناء والكتم فيخلطها، والكتم: نبات يميل إلى السواد، والحناء معروف؛ لقوله صلى الله عليه وسلم كما عند أهل السنن: ( إن أفضل ما غيرتم به الشيب الحناء والكتم ).

وأما الصبغ بالسواد فإن المؤلف يقول: (وسن تغييره بغير سواد)، فأما السواد فقد اختلف العلماء فيه: فبعض العلماء يرى أنه منهي عنه وهو حرام، وهو رواية عند الإمام أحمد ، وكذلك مذهب الشافعية حيث قال عنها النووي : إنه هو الصواب.

والقول الثاني في المسألة وهو مذهب جمهور الصحابة: أن تغيير الشيب بالسواد ليس بحرام، وقد قال أنس رضي الله عنه: ورأيت أبا بكر ولحيته قد خضبها بالكتم، ومن المعلوم أن الكتم فيه نوع من السواد، وكذلك كان الحسن بن علي و الحسين و سعد بن أبي وقاص يصبغون.

والذي يظهر والله أعلم أن تغيير الشيب بالسواد مكروه؛ لما جاء عند الترمذي من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( سيكون في آخر الزمان قوم يخضبون بالسواد كحواصل الطير لا يجدون رائحة الجنة )، وهذا الحديث تكلم فيه الحفاظ، وقد قال الحافظ ابن حجر : اختلف في رفعه ووقفه، والأقرب أن الحديث صحيح، وفيه دلالة على الذم، ولكن ليس المقصود بهذا الحديث أن مجرد الصبغ بالسواد هو سبب لدخول النار، ولكن هذه صفة ذم لأهل هذا الأمر، وهو أنه في آخر الزمان يكثر المدلسون، ويكثر الكذابون، ويكثر الذين يظهرون ما لا يبطنون، فهذا هو المقصود بهذا الحديث، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث عمران بن حصين : ( ثم يأتي قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، ويظهر فيهم السمن )، هل نقول: أن السمين آثم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ويظهر فيهم السمن )؟ لا، ولكن المقصود أن هذا السمن بسبب أكل الحرام، وعدم أداء الواجبات والأركان، فهذا هو المقصود.

وأما الاستدلال بالحديث الذي يرويه أبو الزبير المكي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حق أبي قحافة : ( غيروا هذا الشيب وجنبوه السواد )، فكلمة (وجنبوه السواد) رواها أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي عن جابر ، وقد اختلف فيه على أبي الزبير فرواه الأوزاعي و ابن جريج كلاهما عن أبي الزبير عن جابر وفيه : ( غيروا هذا الشيب وجنبوه السواد )، ورواه زهير بن معاوية أبو خيثمة عن أبي الزبير قال: فقلت: هل قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لا، ذلك أن أبا الزبير مرة يرفعه، ومرة لا يرفعه، مما يدل على أن زيادة (وجنبوه السواد) ليست بمحفوظة كما ذكر ذلك غير واحد من الحفاظ؛ ولكننا نقول: إن تغيير الشيب بالسواد مكروه؛ لأن ( المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور )، وهذا هو مذهب جمهور الفقهاء، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

وبهذا نكون قد انتهينا من هذا الباب، ولعلنا نقف عند هذا، أسأل الله أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , التسهيل في الفقه - كتاب الطهارة [2] للشيخ : عبد الله بن ناصر السلمي

https://audio.islamweb.net