إسلام ويب

تضمن حديث جابر صورة تفصيلية لحج النبي صلى الله عليه وسلم، حيث ذكر أنه صلى الله عليه وسلم ساق الهدي، وأمر من لم يسق الهدي أن يتحلل ويجعلها عمرة، حتى إذا جاء يوم التروية أمرهم بالإهلال بالحج وبات بمنى، ثم أفاض يوم التاسع إلى عرفة، وخطب خطبته الفذة الجامعة بعرفة، والتي نبه فيها على حرمة الدماء والأموال والأعراض، وبات بمزدلفة ثم رمى الجمار يوم النحر ثم أفاض إلى البيت.

فوائد متفرقة في الحج

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبسًا علينا فنضل.

وبعد:

قال جابر رضي الله عنه: ( حتى إذا كان آخر طوافه على المروة فقال: لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة, فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله! ألعامنا هذا أم لأبد؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى وقال: دخلت العمرة في الحج مرتين، لا بل لأبد أبد, وقدم علي من اليمن ببدن النبي صلى الله عليه وسلم, فوجد فاطمة رضي الله عنها ممن حل, ولبست ثياباً صبيغاً واكتحلت، فأنكر ذلك عليها، فقالت: إن أبي أمرني بهذا, قال فكان علي يقول بالعراق: فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم محرشاً على فاطمة على الذي صنعت، مستفتياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكرت عنه، فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها، فقال: صدقت صدقت, ماذا قلت حين فرضت الحج؟ قال: قلت اللهم إني أهل بما أهل به رسولك، قال: فإن معي الهدي فلا تحل ).

ترك الدعاء في آخر أشواط السعي

قال جابر: (حتى إذا كان آخر طوافه على المروة)، في هذا فوائد:

الفائدة الأولى: أن المستحب في حق المحرم الذي طاف بين الصفا والمروة في آخر طواف على المروة ألا يقول شيئاً، لا يدعو ولا يستقبل القبلة، وهذا بخلاف آخر شوط من الطواف بالبيت، فإنه يستقبل الحجر ويستلمه أو يشير إليه كما مر معنا، أما على المروة فإنه لا يدعو؛ لأن ظاهر الحديث أنه إذا كان آخر طوافه على المروة فقال: ( لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ).

علة أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بفسخ حج القران

الفائدة الثانية: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: ( لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ), لم يكن هذا ابتداء ولكن جاءت روايات تؤكد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك حينما أشكل عليهم أن يتحللوا من حجهم قال جابر : ( حتى إذا كنا على المروة قال النبي صلى الله عليه وسلم: طوفوا بالبيت ), يقول جابر : ( حتى إذا قدمنا البيت، قال: طوفوا بالبيت، وبين الصفا والمروة، وقصروا، وأقيموا حلالاً, فقالوا: أي الحل؟ قال: الحل كله, قالوا: يا رسول الله! تقطر مذاكيرنا، ثم نذهب إلى عرفة ), كما في رواية البخاري : قال: ( افعلوا ما آمركم به، فإني لولا أني سقت الهدي ), فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمرهم بفسخ الحج أو القران -لمن لم يسق الهدي- إلى عمرة، ليس دليلاً على أن فعلهم أفضل من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك جبراً لخواطرهم، وللتأكيد بأن هذا شرع سوف يستمر إلى يوم الدين.

الحلق والتقصير في الحج

الفائدة الثالثة: لم يذكر جابر التقصير أو الحلق، والحلق هو ظاهر قوله: ( وأقيموا حلالاً ), وهذا يدل على أن الحلق قد اختلف العلماء فيه، هل هو نسك، أم محظور من محظورات الإحرام؟ أم هو محظور من محظورات الإحرام في وقت ونسك؟ ثلاث روايات كلها عند الإمام أحمد، أقربها -والله أعلم- أن الحلق محظور ونسك، محظور فلا يسوغ لامرئ أن يمس شيئاً من شعره في وقت الإحرام، ونسك في أنه يجب عليه أن يعمله, فإذا لم يعمله فإنه يجبره بدم، كما يحصل لبعض الناس حيث يطوف ويسعى، ثم يلبس ثيابه ويرجع إلى بلده، ويجلس شهراً أو أسبوعاً أو أسبوعين ثم يسأل.

فنقول: إن كان وقع بأهله، أو حلق من غير نية، أو طال الفصل بأن جلس شهرين أو ثلاثة أشهر، فإنه يجبره بدم، وإن كان الوقت قريباً فإننا نأمره أن يخلع ثياب المخيط ثم يقصر أو يحلق، ويكون بذلك قد تحلل، فإن فعل محظوراً من محظورات الإحرام جاهلاً أو ناسياً، سواء كان وطئاً أو غيره، فإنه لا حرج عليه، وهذا هو الأقرب، وهو اختيار ابن تيمية رحمه الله.

ومذهب الشافعي: أن الوطء إذا فعله الإنسان جاهلاً أو ناسياً فلا شيء عليه؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه ابن ماجه وغيره: ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ).

وقوله عليه الصلاة والسلام: ( وقصروا وأقيموا حلالاً ), مع أنه قال: ( اللهم اغفر للمحلقين، اللهم اغفر للمحلقين، اللهم اغفر للمحلقين ), قال أهل العلم: إذا كان بين العمرة والحج وقت قصير فإنه يستحب أن يقصر؛ لقوله: ( وقصروا وأقيموا حلالاً ), وإذا كان بين العمرة والحج وقت طويل بحيث ينبت شعر رأسه، فإن الأفضل في حقه الحلق؛ لعموم الأحاديث الدالة على أفضلية الحلق، هذا هو الأقرب والله أعلم.

فسخ القران أو الإفراد إلى عمرة

الفائدة الرابعة: قوله عليه الصلاة والسلام: ( وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة ).

هذا يسمى عند العلماء فسخ القران والإفراد إلى عمرة، وهذا الفسخ ذهب المالكية والشافعية ومن وافقهم إلى أنه خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وإلا فمن أحرم بحج أو قران فلا يسوغ له أن يفسخه إلى عمرة، واستدلوا بما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: ( كانت العمرة لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ), يعني بذلك: فسخ الحج والقران إلى عمرة.

والقول الثاني في المسألة، وهو مشهور مذهب الحنابلة أنه يجوز فسخ الإفراد أو القران إلى عمرة قبل الطواف بالبيت، فإن طاف بالبيت على أنه قارن أو مفرد قالوا: فلا يسوغ له أن يفسخه بعمرة، واستدلوا على ذلك بحديث جابر رضي الله عنه قال: ( حتى إذا قدمنا البيت قال: طوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة، وأقيموا حلالاً ), قالوا: فأمرهم بالفسخ قبل طوافهم بالبيت.

القول الثالث في المسألة، وهو الأقرب والله أعلم: أن فسخ القران والإفراد مستحب بأن يجعلها عمرة، وهذا هو مذهب أهل الحديث، وهو الذي نص عليه الإمام أحمد ، بل حينما قيل له: إن أبا ذر يقول: إنها لأصحاب النبي خاصة، قال: أو يقول هذا أحد, وهذا من غرائب الإمام أحمد أن يقول هذا، إلا أنه متأكد أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان متمتعاً، بل إن سلمة بن شبيب من تلامذة الإمام أحمد قال: يا أبا عبد الله! كل أمرك عندي حسن، إلا أنك قويت أهل الرفض؛ تقول بالمتعة، أو تقول بفسخ الحج إلى العمرة، فغضب الإمام أحمد وقال: يا سلمة ! كان الناس يقولون عنك: إنك أحمق، وكنت أدافع عنك، وما علمت أنك أحمق إلا هذه الساعة، عندي أحد عشر حديثاً عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أتراني أدعها لقولك.

وهذه فائدة لطالب العلم أن أهل البدعة لو وافقونا في سنتنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم فلا ضير، فما يدريك لعلهم يهتدون، فالإمام أحمد رحمه الله لم يبال بخلاف أحد حينما علم أن السنة واضحة في هذا.

قال أصحاب هذا القول: إنه يستحب الفسخ سواء كان قبل الطواف أو بعده، قالوا: أما قبل الطواف كما في حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أمرهم أن يتحللوا مرتين، قبل أن يطوفوا وبعد أن طافوا وسعوا ), أما قبل أن يطوفوا قال: (حتى إذا قدم إلى البيت قال: طوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة وقصروا), هذا حديث رواه مسلم من حديث أبي موسى ، ورواه مسلم أيضاً من حديث جابر أنه قال: ( حتى إذا كان آخر طواف على المروة ), هذا يدل على أنه بعد الطواف والسعي، خلافاً لـابن قدامة رحمه الله حيث منع الفسخ بعد الطواف والسعي، قالوا: وهذا يدل على استحباب فسخ الحج أو القران إلى عمرة, إلا إذا خشي فوات الحج وهو عرفة, فإذا أمكن أن يتم عمرة قبل فوات عرفة، أو استحباب وقوفها في النهار أو بعد الزوال، فإنه يستحب له أن يفسخ.

القول الرابع: هو قول ابن حزم و ابن القيم ، ونسبوه إلى ابن عباس ، وفي نسبة القول إلى ابن عباس نظر كما سوف يتبين لك، قالوا بوجوب الفسخ وأن التمتع واجب، وقال ابن القيم في المجلد الثاني: ونحن نشهد الله على أنفسنا أنا لو أحرمنا بحج، لرأينا أن فرضاً علينا أن نفسخها إلى عمرة؛ تفادياً من غضب الله وغضب رسوله, فوالله ما نسخ الفسخ ولا جاء عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, وهذا القول قوي من ابن القيم رحمه الله، وإن كان الصواب هو جواز الأنساك الثلاثة كلها كما مر معنا, إلا أنا لم نذكر الخلاف هل هو واجب أو لا، وعلى هذا: فالصواب هو القول الثالث وهو اختيار ابن تيمية , أنه يستحب الفسخ قبل الطواف وبعد الطواف، وأن الأنساك الثلاثة كلها جائزة، خلافاً لـابن حزم و ابن القيم وبعض العلماء المعاصرين كالشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله.

ومما يبين لك أن الأنساك الثلاثة جائزة كلها:

أولاً: قول عائشة رضي الله عنها كما في صحيح مسلم : ( خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من شاء منكم أهل بعمرة، أو بعمرة وحج، أو بحج ), قالت عائشة : ( فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بعمرة وحج، ومنا من أهل بحج بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ).

الدليل الثاني: ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( والذي نفسي بيده ليهلن ابن مريم ), يعني: عيسى عليه الصلاة والسلام ( ليهلن ابن مريم بفج الروحاء, حاجاً أو معتمراً، أو ليثنينهما ), قوله (حاجاً) يعني: مفرداً (أو معتمراً), يعني: متمتعاً، (أو ليثنينهما), يعني: قارناً، ومعلوم أن عيسى بن مريم إذا نزل سوف ينزل بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على بقاء التشريع النبوي.

أما نسبة هذا القول لـابن عباس , فـابن عباس رضي الله عنه يرى أن كل من طاف بالبيت فقد حل شاء أم أبى، فالمفرد والقارن لو أتيا البيت قبل عرفة فواجب عليهم أن يتحللوا من قرانهم أو من إفرادهم ليكونوا متحللين، أما لو أفردوا الحج أو صاروا قارنين ولم يأتوا البيت إلا بعد عرفة، فإنهم يكونون قارنين أو مفردين، وهذا هو الأقرب والله أعلم، فـابن عباس إنما منع أن يطوف الإنسان طواف القدوم فيجب عليه أن يتحلل؛ ولهذا قال: شاء أم أبى، وهذا القول لـابن عباس أظهر من تفسير ابن حزم و ابن القيم له، حيث إنهم يوجبون الفسخ مطلقاً.

معنى قوله عليه الصلاة والسلام: دخلت العمرة في الحج

المسألة الأخرى: قوله عليه الصلاة والسلام: ( دخلت العمرة في الحج مرتين، لا بل لأبد الأبد ).

معنى هذه العبارة ما قاله ابن القيم يعني: وجوب الفسخ، وقيل المعنى هو: ( أرأيت عمرتنا هذه ألعامنا هذا أم لأبد الأبد ), فدل ذلك على أن السؤال: أرأيت مشروعية العمرة هنا لعامنا أم لأبد الأبد، فشبك بين أصابعه وقال: ( لأبد الأبد ), فهذا يدل على أن العمرة صارت شريعة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم الدين، (بل لأبد أبد), فدل ذلك على استحباب الفسخ لا على وجوبه.

فإن قال قائل: ما تقولون في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة

نقول: كل من ساق الهدي يجب عليه أن يبقى على إحرامه حتى يتحلل منه يوم العيد؛ لما جاء في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما سألته حفصة : ( ما بال الناس حلوا ولم تحلل أنت من عمرتك؟ قال: إني لبدت رأسي، وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر ), وعلى هذا فلو أهل بعمرة وقد ساق الهدي فيجب عليه أن يجعلها قراناً.

ولو أهل بإفراد وساق الهدي هل يكون قارناً أو مفرداً؟ الأقرب والله أعلم أنه يكون مفرداً.

أما قول بعض الشافعية وبعض الحنابلة: إن من ساق الهدي وهو متمتع جاز أن ينحر هديه قبل يوم العيد، فإن في هذا نظر، وإن كانوا قد استدلوا بأدلة منها: إذا جاز لمن لم يجد الهدي أن يصوم قبل يوم، فلأن يجوز أن ينحره من باب أولى؛ لأن البدل يأخذ حكم المبدل، والراجح: أنه لا يسوغ له أن ينحر هديه إلا إذا بلغ محله كما قال الله: ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:33], وهو يوم العيد، هذا هو الراجح.

وقت الصيام لمن لم يجد الهدي

المسألة الأخرى: من لم يجد الهدي، وعزم على الصوم فإن الحنابلة والحنفية ذهبوا إلى أن له أن يصوم من حين إحرامه بالعمرة؛ لقوله تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ [البقرة:196]، قالوا: فالعمرة سبب للتمتع، وإذا كان كذلك فيجوز تقديم السبب عن وقت الوجوب، ووقت الوجوب هو يوم العيد، قالوا: مثل النصاب سبب لوجوب الزكاة، ووقت وجوب الزكاة حين إتمام الحول، قالوا: وإذا بلغ نصاباً جاز أن يقدم الزكاة قبل الحول، فإذا وجد السبب جاز تقديمه عن وقت الوجوب، فكذلك قالوا في الحج، واستدلوا على هذا أيضاً كما قال ابن تيمية بأن عامة الصحابة الذين فسخوا الحج إلى عمرة أكثرهم ليس معه هدي، قال: وهم إنما أحرموا بالحج يوم الثامن, كما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كما في صحيح مسلم ، قال جابر : ( فأهللنا بالبطحاء يوم الثامن ), قال: ومنهم من صام, فدل على أن صيامه قبل الحج، وقبل أن يحرم بالحج، وهذا القول أصح.

القول الثاني: قول الشافعية والمالكية لا يصوم حتى يحرم بالحج؛ لأن الله يقول: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ [البقرة:196]، فلا بد أن يكون صيامه في الحج. قالوا: وإذا كان كذلك فإذا لم يكن معه هدي فإنه يهل بالحج من اليوم الأول من ذي الحجة، أو يوم السابع قبل التروية، ويوم التروية، ويوم عرفة، هكذا قال المالكية والشافعية، ولا شك أن هذا القول ليس بقوي كما قال ابن تيمية :

إن عامة الصحابة كانوا ليس معهم هدي، وأمروا بالصيام فصاموا، وإنما أهلوا بالحج يوم الثامن، فدل على أن صيامهم كان قبل إهلالهم بالحج.

عرفنا أن بداية الصيام من حين إحرامه بالعمرة، ومتى ينتهي؟

الأقرب والله أعلم هو قول الشافعية أن آخر يوم هو يوم التروية.

وإن كان الحنابلة يقولون: آخر يوم هو يوم عرفة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أصبح يوم عرفة مفطراً؛ لأنه أدعى لتورعه وإخباته وانكساره بين يدي الله.

لباس الزينة للمحرمة

يقول جابر: ( وقدم علي من اليمن ببدن النبي صلى الله عليه وسلم، فوجد فاطمة رضي الله عنها ممن حل, ولبست ثياباً صبيغاً واكتحلت، فأنكر ذلك عليها ) هنا سؤال وهو: هل تمنع المرأة المحرمة من لباس معين؟

نقول: الأقرب والله أعلم أنه يجوز للمرأة أن تلبس ما شاءت من أنواع الثياب، كما روى محمد بن إسحاق قال: حدثنا نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروي موقوفاً عليه: أنه قال: ( ولتلبس -أي المحرمة- ما شاءت من خز وحلي ومعصفر وسراويل وخف ), فهذا يدل على أن المرأة لها أن تلبس أي شيء شاءت، وكذا رواه ابن أبي شيبة عن عائشة رضي الله عنها قالت: ( لا تتبرقع المحرمة، ولا تنتقب، ولا تتلثم, ولتلبس ما شاءت من معصفر وخز وحلي ), ولكن لا ينبغي للمرأة أن تلبس لباس زينة، لا لأنه محظور ولكن لأنه مكروه، فالأولى ألا تلبسه، ودليله هو قول علي : ( ولبست ثياباً صبيغاً ), يعني: متجملاً، فأنكر ذلك عليها، فقالت: ( أبي أمرني بذلك ), تعني: بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدل على أن المحرمة كانت ممنوعة من أن تتزين.

الكحل للمحرمة

وقوله: ( واكتحلت ), هل الكحل تمنع منه المحرمة أم لا؟

نقول: ينقسم الكحل إلى أقسام:

القسم الأول: ألا يكون بإثمد ولا بزينة يعني: ألا يكون كحلاً فيه طيب ولا يكون فيه زينة؛ بل يكون للدواء، وقد كانوا في الأول يضعونه بأن يضمدهما بالصبر يعني: للعلاج، يضع قطرة أو أي شيء على العين، هذا يسمى كحلاً، لكن ليس بلازم أن يصير كحلاً أسود، بل يمكن أن يكون أحمر، فهذا لا بأس به، كما روى عن عمر بن عبيد الله أنه اشتكى عينيه، فذهب إلى أبان بن عثمان فأمره أن يضمدهما بالصبر، وأخبره أن عثمان رضي الله عنه حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( في المحرم يشتكى عينيه أن يضمدهما بالصبر ), وهذا الحديث رواه مسلم في صحيحه، وإن كان أبو حاتم أنكر سماع أبان بن عثمان من عثمان رضي الله عنه.

القسم الثاني: أن يضمدهما بالإثمد، فالإثمد إذا كان مطيباً فيمنع منه المحرم؛ لأن فيه طيباً، وإذا لم يكن فيه طيب فإن ذلك مكروه على الراجح.

القسم الثالث: إذا كان ليس فيه طيب ولكن فيه زينة، فإن ذلك أيضاً مكروه، ودليل الكراهة:

أولاً: أن علياً رضي الله عنه أنكر على فاطمة رضي الله عنها، والرسول صلى الله عليه وسلم صدقه، قال: ( فأنكرت ذلك عليها ... ), وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم أذن لـفاطمة أن تكتحل بعد ما تحللت، فهذا دليل على أن الأولى أنها لا تصنع هذا.

الثاني: (أن شميسة -امرأة- اشتكت عينيها، فسألت عائشة أن تكتحل بالإثمد، فقالت عائشة رضي الله عنها: اكتحلي بأي كحل شئت، غير ألا يكون بالإثمد، أما إنه ليس بحرام ولكنا نكرهه), إذا ثبت هذا فإن الشافعي رضي الله عنه ورحمه قال: فإن فعلا، -أي المحرم رجلاً كان أو امرأة- فلا أعلم أحداً قال بأن عليهما الفدية، ونقله أيضاً ابن قدامة مقرراً له وقال: لا أعلم خلافاً، وقد وجدت عند ابن أبي شيبة من طريق يزيد بن ميسرة عن قتادة قال: سألت امرأة عبد الرحمن بن أبي بكر و عبد الله بن عمر : في أنها اكتحلت وهي محرمة، فأمرها عبد الرحمن بن أبي بكر : أن تهريق دماً، هذا يدل على أن نقل الإجماع محل تأمل، نعم قد نقول بأن الإجماع ثابت؛ لأن قتادة لم يسمع من أحد من الصحابة، فيكون الإجماع على محله، والعلم عند الله.

من أحرم من غير تعيين النسك

قال: ( صدقت صدقت, ماذا قلت حين فرضت الحج؟ ) يعني: حينما أحرمت بالحج، (قال: قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسولك) أي: يجوز للمحرم أن يحرم من غير نية أحد الأنساك، ولكن له أن يجعله بعد ذلك.

وقال الحنابلة: إنه لو أحرم من غير تعيين أحد الأنساك صح إحرامه؛ لكن لو طاف قبل أن يعين فلا يصح طوافه؛ لأنه لم يحدد، هكذا قالوا.

والأقرب والله أعلم صحة ذلك؛ وذلك لأن الصحابة طافوا طواف القدوم وهو سنة في حقهم، فلما كان آخر طواف على المروة أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعلوا هذا الطواف طواف ركن عمرة، فدل ذلك على صحة أن يحرم الإنسان من غير نية حتى لو طاف، فله أن يقربه بعد ذلك.

حالات الإهلال بما أهل به الغير

المسألة الأخرى: يجوز للإنسان أن يهل بما أهل به زيد، وفي ذلك أحوال:

الحال الأولى: إذا لم يكن قد أهل زيد أصلاً، يعني قال: اللهم إني أهللت بما أهل به زيد، وكان زيد لم يحج هذا السنة، فنقول: يجوز أن يجعلها أي شيء شاء.

الحال الثانية: أن يقول: اللهم إني أهللت بما أهل به زيد, فوجد زيداً ممن ساق الهدي وهو لم يسق الهدي، فنقول: يجوز أن تجعلها قراناً ويجوز أن تجعلها تمتعاً؛ لأنه يجوز أن تقلبها تمتعاً، كما جاء في الصحيحين من حديث أبي موسى : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( بم أهللت؟ قال: اللهم إني أهللت بما أهل به رسولك، قال: فإني قد سقت الهدي ) يعني: وأنت لم تسق الهدي, ( فطف بالبيت، واسع بين الصفا والمروة، ثم قصر، وأقم حلالاً ).

الحال الثالثة: أن يقول: اللهم إني أهللت بما أهل به زيد، فكان زيد متمتعاً، فهل له أن يكون مفرداً؟

نقول: لا، ليس له أن يكون مفرداً؛ لأنه أخذ بالأعلى، فيجب عليه أن يكون متمتعاً، نعم يجوز أن يدخل الحج على العمرة إذا عجز عن الوصول إلى البيت كما صنعت عائشة رضي الله عنها.

أحكام يوم الثامن والتاسع من ذي الحجة للحاج

قال جابر : ( فكان جماعة الهدي الذي قدم به علي من اليمن, والذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم مائة, قال: فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي، فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة, فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال .. ).

هذا الكلام فيه مسائل:

الموضع الذي يهل منه المحرم للحج يوم الثامن وحكم تأخيره

المسألة الأولى: أنه يستحب لمن تحلل بعمرة أن يحرم ضحى يوم الثامن، بحيث يصلي وهو محرم بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ويحرم من الموضع الذي هو فيه، وما ذكره الحنابلة من أنه يحرم ببطن مكة، وبعضهم قال: من تحت الميزاب, فهذا ليس له أساس من الصحة، بل ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر قال: ( فأهللنا من البطحاء ), والبطحاء كانت خارج مكة، فدل ذلك: على أنه يحرم من الموضع الذي هو فيه، فإن كان في منى أحرم من منى، وإن كان من مكة أحرم من مكة، وإن كان في جدة أحرم من جدة، وهذا هو اختيار ابن تيمية رحمه الله.

ولا ينبغي للحاج أن يؤخر إحرامه ضحى يوم الثامن، وبعض الحجاج هداهم الله يؤخرون هذا الإحرام، ويقول: ما دام أنه سنة فلي أن أؤخر، ونقول: حرمت نفسك خيراً كثيراً لأمور:

الأمر الأول: أن صلاتك الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر وأنت محرم خير من صلاتك من غير إحرام.

الأمر الثاني: أنه يشرع لك عبادات وأنت محرم ما لا يشرع إذا كنت غير محرم.

الأمر الثالث: أنك لو مت, مت وأنت محرم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبياً ), أما لو مت قبل الإحرام فقد مت ولك أجر نيتك, لكنك لا تبعث يوم القيامة ملبياً.

المبيت بمنى ليلة عرفة

المسألة الأخرى: وهو حكم المبيت بمنى ليلة عرفة، نقول: يستحب المبيت بمنى ليلة عرفة والبقاء من النهار، وقد نقل ابن المنذر الإجماع على ذلك، ومما يدل على عدم وجوبه حديث عروة بن المضرس كما روى الإمام أحمد و الترمذي وغيرهما أنه جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فجر ليلة مزدلفة، قال: ( يا رسول الله! جئت من جبل طيء، أكللت مطيتي وأتعبت نفسي، فوالله ما بقي من جبل إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟ قال: من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى نفيض، وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهاراً، فقد تم حجه وقضى تفثه ), فإتمام حجه وقضاء تفثه دليل على أن المبيت بمنى مستحب، وهذا هو الأقرب، وقد ذهب الشيخ الألباني إلى وجوبه، وفي هذا القول نظر، والله أعلم.

سبب التسمية بيوم التروية

المسألة الأخرى: يوم التروية، سمي بيوم التروية لأمرين:

الأمر الأول وهو الأشهر: أن الناس كان يتروون الماء يوم الثامن لحاجتهم إليه في منى وعرفة.

الأمر الثاني: قيل: لأن إبراهيم رأى أنه يذبح إسماعيل يوم الثامن، فلم يعلم هل هي رؤيا أم حلم، فلما كان يوم عرفة عرف أنها رؤيا, فسمي يوم التاسع يوم عرفة، ويوم الثامن يوم التروية من الرؤيا.

وقت الخروج من عرفة

المسألة الأخرى: يستحب للحاج ألا يخرج من عرفة إلا بعد طلوع الشمس، أما لو خرج قبل ذلك فنقول: جائز ولكنه ترك السنة، وتطبيق سنة النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يأتي ويذر في الحج -خاصة أصحاب الحملات- هذا مما يشق.

مجاوزة النبي مزدلفة إلى عرفة يوم التاسع والنزول بنمرة

ويستحب أيضاً البقاء بنمرة كما في حديث جابر : ( وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة ), ونمرة غرب عرفة، وهي ليست من عرفة، والمسجد الموضوع في نمرة آخره فقط من عرفة، أما أوله فليس من عرفة، ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى نمرة، ( ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام ) يعني بذلك: المزدلفة، والمشعر الحرام يطلق على المزدلفة، ويطلق على الجبل الذي يسمى: قزح؛ وذلك لأن قريشاً ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة ويقولون: نحن الحمس، والحمس من الشدة، يعني: أنهم أشداء في الدين، ويقولون: نحن أهل الحرم وخاصته، واستثنوا أنفسهم عن غيرهم من الناس الذين يقفون بعرفة، فالرسول صلى الله عليه وسلم جاء ليبطل دين قريش والوثنية، ويرفع راية التوحيد والإلهية، فجاء بمخالفة المشركين, فوقف بنمرة، والواقع الآن أن الناس تذهب من منى إلى عرفة ابتداء، وقد ذكر النووي رحمه الله: أنه لا يستحب دخول عرفة قبل الزوال، بل بالغ رحمه الله وقال: ذلك من البدع، والأقرب جواز ذلك ولكنه ليس بسنة.

ابتداء الوقوف بعرفة

أما وقت الوقوف بعرفة فقد اختلف العلماء فيه على قولين:

القول الأول: قول الحنابلة وهو من مفاريد الحنابلة، من مفردات المذهب الحنبلي، قالوا: يبدأ الوقوف بعرفة من طلوع الشمس يوم التاسع إلى طلوع الفجر يوم العيد، واستدلوا على ذلك بحديث عروة بن المضرس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهاراً، فقد تم حجه وقضى تفثه ), قالوا: وقوله: ( ليلاً أو نهاراً ), دليل على الإطلاق.

القول الثاني: قول جمهور الفقهاء من الأحناف والمالكية والشافعية: أن بداية الوقوف بعرفة يبدأ من بعد الزوال؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأت عرفة إلا بعد زوال الشمس؛ لقوله: ( حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطن الوادي فخطب بالناس ).

والأقرب والله أعلم هو قول الحنابلة؛ لأن حديث عروة نص في المسألة، ولكننا نقول: النبي صلى الله عليه وسلم إنما ابتدأ الدعاء بعد الزوال، فلو اشتغل قبل الزوال بقضاء شيء من حوائجه, أو أخذ قسطاً من الراحة فهو حسن، حتى يتفرغ بعد الزوال للدعاء.

الوقوف بعرفة

المسألة الأخرى: ينبغي للحاج أن يتيقن وقوفه بعرفة, إذ إن نمرة وعرنة ليستا من عرفة، وهذا قول عامة الفقهاء، إلا ما يحكى عن مالك بن أنس أنه قال: لو وقف بعرنة أجزأه ويجبره بدم، مع أن بعض المالكية أنكر هذه الرواية وقال: ليست مشهورة عن مالك كما أشار إلى ذلك ابن عبد البر رحمه الله, بل نقل ابن عبد البر الإجماع قال: إلا ما يحكى عن مالك أن عرنة ليست من عرفة ... الخ واستدل الجمهور بما رواه جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( وعرفة كلها موقف، وارفعوا عن بطن عرنة ), وفي سنده ضعف، ومثله حديث جابر عند ابن ماجه وفيه ضعف، فيه القاسم بن عبد الله العمري.

وأصح شيء في الباب ما رواه ابن خزيمة من طريق أبي الزبير عن أبي معبد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ارتفعوا عن بطن عرفة, وارتفعوا عن بطن محسر ), ورواه ابن خزيمة من طريق ابن جريج قال: حدثني أبو معبد عن ابن عباس أنه قال: كان يقال: ( ارتفعوا عن بطن محسر، وارتفعوا عن عرنة ), ولو فرض ضعف هذا الحديث فقد ورد في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( وقفت هنا وعرفة كلها موقف ), ومن المعلوم أن عرنة ليست من عرفة، كما قال ابن القيم : إنما هي برزخ بين عرفة وبين مزدلفة.

وقفات مع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة

قوله: ( فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال: إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث ، كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء, فإنكم أخذتموهن بأمان الله, واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح, ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به، كتاب الله، وأنتم تسألون عنى فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: اللهم اشهد اللهم اشهد، ثلاث مرات ).

عدد خطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع

هذه خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، وهي أعظم خطبه عليه الصلاة والسلام، وقد اختلف العلماء كم مرة خطب النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في حجة الوداع:

ذهب الإمام أحمد إلى أنها ثلاث خطب، الأولى يوم عرفة، والثانية: يوم العيد بعدما رمى جمرة العقبة، والثالثة: يوم القر يوم الحادي عشر؛ لأن الناس تقر في منى.

وذهب الشافعية إلى أنه خطبهم يوم السابع مع هذه الأيام الثلاثة؛ ولكن خطبته في يوم السابع لم ينص أحد بإسناد صحيح على ذلك.

وخطبة النبي صلى الله عليه وسلم هذه فيها فوائد عظيمة، ولا يسعنا أن نذكر إلا نتفاً منها وإن كنت أحب من الدعاة وطلبة العلم الذين يذهبون مع الحملات أن يركزوا على هذه النقاط، والرسول صلى الله عليه وسلم ركز على نقاط كثيرة:

ذكر النبي عليه السلام حرمة الدماء في خطبته يوم عرفة

النقطة الأولى: أن دماء الناس معصومة، ولا يجوز لمسلم أن يهتك هذه الحرمة بأي مسوغ كان: ( ولزوال البيت أهون عند الله من قتل امرئ مسلم بغير حق ), فينبغي للمسلم أن يركز على هذه النقطة، وأن يعلم المسلم أن دماء المسلمين معصومة، ولا يجوز قتل المسلم إلا ببرهان, وقد أجمع أهل العلم على أنه ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والمبدل لدينه, والمفارق للجماعة ), وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم لـعمر حينما سب عبد الله بن أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه، فقال عمر : ( يا رسول الله! دعني أضرب عنقه، قال: لا ), وقال لـخالد : ( لا، لعله أن يكون يصلي ), فدل ذلك على أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما روى محمد بن نصر المروزي : ( نهيت عن قتل المصلين )، فلا يجوز لمسلم أن يهتك هذه الحرمة سواء ادعى بمسوغ أو غير مسوغ.

وليعلم المسلم أن هذا مزلة قدم، ومزلة هفوة أفهام، وليتق الله يوم تنصب الموازين وترفع الحقوق، فيؤخذ للشاة الجلحاء حقها من الشاة القرناء، والويل ثم الويل ثم الويل لمن هتك هذا الأمر بأي مسوغ كان؛ ولهذا من الله سبحانه وتعالى على قريش أن آمنهم من خوف، ولا شك أن الدين لن يثبت، والعقيدة لن تستقر في ظل وضع أمني مشوب، لا يعلم مدى اختلاله إلا علام الغيوب.

ذكر النبي عليه السلام حرمة الأموال في خطبته يوم عرفة

النقطة الثانية: ( أموالكم حرام عليكم ).

والناظر في هذه الأيام يرى تساهل كثير من المسلمين بأموال المسلمين، فكم هي الشركات ذات النصب والاحتيال التي تدعي زوراً وبهتاناً أنها تضارب على موافقة الشريعة، فيتبين بعد زمن ليس بالطويل أنها كلها شركات نصب واحتيال، فالويل ثم الويل، والثبور ثم الثبور لمن أخذ أموال الناس يريد إتلافها، فإن مآله أن يتلفه الله, كما قال صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة.

ذكر النبي عليه السلام حرمة الربا في خطبته يوم عرفة

قال: ( كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ).

وبين عليه الصلاة والسلام حرمة وعظم الربا، وكأنه بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام حينما يقرر هذه القواعد, كأنه يعلم ما سيحصل للأمة من هتك للأعراض والدماء، وسرقة للأموال والنصب والاحتيال, واستسهال للربا بأي شكل من أشكاله، فلم يجوز الحبيب عليه الصلاة والسلام يوماً من الأيام ولا أحد من الصحابة درهم رباً بأي مسوغ، سواء كنت لا تأكله أو تأكله، والواقع اليوم يبين لنا استسهال كثير من المسلمين والعياذ بالله بأمر الربا، وأن الناس تكالبوا على الربا وهم لا يشعرون، فتش عن قلبك، هل كنت تستسهل الربا أم لا؟

فتش عن جيبك، فلربما فيه بطاقة ماستر كارد، أو أمريكان إكسبرس، أو فيزا فيها شرط ربوي وأنت لا تشعر أنك قد وقعت في الربا والعياذ بالله، وإني لأعجب حينما أسمع من يقول: إن نسبة الربا في الشركة الفلانية يسيرة.

وأسألكم سؤالاً: لو أن شركة من الشركات جاءت إلينا، وأنشأت شركة عقارية ورأس مالها مليار، وقالت: ثلاثمائة مليون منه هي فندق اسمه كذا يقوم على الدعارة؛ على الزنا وعلى شرب الخمر، ونسبة العائد منه للشركة ثلاثة في المائة فقط، لا يجوز الدخول في شراء أسهم هذه الشركات والذي منعنا من هذه الشركة أنها شركة دعارة وخمر, مع أن الربا أعظم عند الله سبحانه وتعالى من هذه: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور:15]، وبعض الناس يقول: نحن لا نقول: إن الربا -معاذ الله- حرام، نقول: ليس الخلاف بيننا وبينكم أن الربا حلال أو حرام، الخلاف في الدخول في عقد الربا، ثم بعد ذلك من باب التسهيل يقولون: إذا كنت مضارباً فلا بأس أن تشتري أسهم الشركات المختلطة، وإذا كنت مستثمراً أخرج نسبة الربا، فأنا أقول: المستثمر أهون عند الله من المضارب؛ لأن المستثمر إذا أخذ الربح سوف يخرجه تخلصاً، فهو استطاع أن يتخلص من هذا السهم، أما المضارب فإنه يشتري السهم الذي فيه حرام ثم يبيعه على غيره الذي فيه حرام، فأصبح المضارب أعظم إثماً عند الله سبحانه وتعالى من المستثمر، فينبغي للمسلم أن يشجع الشركات القائمة على عدم القرض والاقتراض، وأن يعلم أنه يمتحن في دينه وفي أمانته وفي ماله، وقد بين الله أنه يمتحن الإنسان في أحب شيء إليه، والصحابة قدموا إلى مكة وكانوا جوعى عطشى وهم محرومون، فقال الله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ [المائدة:94]، فدل على أن المسلم ينبغي له أن يحتاط، وأن يعلم أن هذه الأزمنة أزمنة مزلة قدم, وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة : ( يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء أمن الحلال أخذ أم من الحرام ), وبين عليه الصلاة والسلام: ( أنه من لم يسلمه الربا في آخر الزمان أصابه من غباره ), وغباره مثل هذه الشركات المختلطة كما تسمى، فينبغي للمسلم أن يحتاط، وليعلم أنه إذا استقر في ذهنه أن هذه الشركة فيها نسبة حرام فعليه أن يبتعد، والحمد لله هنالك الشركات المباحة فهي غنية وغنيمة باردة لمن اتقى الشبهات: ( ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه).

ذكر النبي عليه السلام لحقوق المرأة في خطبته يوم عرفة

النقطة الأخيرة: هي حق المرأة؛ الزوجة والأم والبنت والأخت والخالة والعمة, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( فاتقوا الله في النساء ), فيجب على المسلم أن يبين هذا الحق للرجال والنساء؛ حتى لا تظلم وتهتك المرأة، ويباح عرض البنت والأخت، نسأل الله أن يلطف بنا.

والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

الأسئلة

أخذ المال مقابل النيابة في الحج

السؤال: ما حكم أخذ المال عن نيابة الحج؟

الجواب: أخذ المال للحج ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: من حج ليأخذ، فهو لم يرد الحج إلا لأجل أن يتكسب، فهذا يقول ابن تيمية رحمه الله: ليس له في الآخرة من خلاق؛ لأنه جعل الدين عرضاً للدنيا.

القسم الثاني: من أخذ ليحج, فهو ناوٍ إما عن نفسه وإما عن غيره، فلأجل قلة ذات اليد أخذ؛ لأنه يحب أن يحج ولو عن غيره، فنقول: هذا جائز، أو شخص يريد أن يحج فجاءه شخص وقال: حج عني وخذ هذا المال، فهذا لا بأس به أيضاً؛ لأنه وقع اتفاقاً، أما أن يقول: أنا ما أنا بحاج إلا بنقود، فإذا قال: خذ خمسة آلاف، قال: لا، أريد عشرة، إذا قال: خذ عشرة، قال: لا، أريد خمسة عشر، فهذا ليس له في الآخرة من خلاق.

الإمساك عن الشعر والظفر من أول العشر لمن أراد الحج متمتعاً أو قارناً

السؤال: من أراد الحج متمتعاً هل يمسك عن حلق شعره وأظفاره من بداية العشر؟

الجواب: المتمتع والقارن وكل من أراد أن يهدي في البيت لا يحرم عليه شيء إلا أن يدخل في نسك الحج أو العمرة، فإذا نوى أن يكون متمتعاً أو قارناً فله أن يأخذ من شعره أو من بشرته ما دام لم يدخل في النسك، وكذلك من أراد أن يبقى في الرياض مثلاً لا يريد أن يحج ولا يعتمر ولكن أحب أن يذبح في منى، فيطلب من أحد الأشخاص يسوق له الهدي فيذبحه في منى، فهذا يجوز له ذلك، ولا يحرم عليه شيء أبداً، كما قالت عائشة رضي الله عنها: ( أنا فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة، ولم يحرم عليه شيء كان له حلاً), كما روى مسلم في صحيحه.

شرب القهوة الممزوجة بالزعفران للحاج

السؤال: ما حكم شرب القهوة المخلوطة بالزعفران بالنسبة للحاج؟

الجواب: اختلف العلماء في الزعفران إذا طبخ، هل يبقى ممنوعاً منه المحرم أم لا؟

فذهب المالكية والحنفية إلى أن الزعفران إذا طبخ خرج عن مسمى الطيب، وأرى أن هذا القول قوي.

القول الثاني: مذهب الشافعية والحنابلة قالوا: إن الزعفران إذا طبخ لا يخرج عن مسمى الطيب إذا بقي طعمه، أو طعمه ورائحته، أما إذا لم يبق إلا لونه فلا بأس به، مثل الصفار الذي يوضع فوق الأرز، فهذا لون, يسميه العوام: كروم، أو صفار البيض، أو صفار اللحم، فهذا لا بأس به؛ لأنه لم يبق طعمه ولا رائحته، فإذا كانت القهوة فيها زعفران لون فقط من غير طعم ولا رائحة، فلا بأس منه، أما إذا كان فيه طعم أو طعم ورائحة فالأولى والأحرى أن يجتنبه المحرم.

خروج الحاج من عرفة قبل الغروب لقضاء حاجته

السؤال: ما حكم خروج الحاج من عرفة قبل الغروب؛ وذلك لقضاء حاجته لوجود زحام عند الدورات ثم يرجع؟

الجواب: الخروج من عرفة قبل الغروب لا يجوز، وقد ذهب عامة الفقهاء إلى أنه لا يجوز له أن يخرج حتى تغرب الشمس، أما لو خرج وعاد إليها قريباً قبل الغروب فلا حرج في ذلك خاصة إذا كان في حاجة إن شاء الله، أما إذا خرج ولم ينو الرجوع فإن عامة الفقهاء قالوا عليه دم؛ بل بالغ المالكية وقالوا يفسد حجه ويتحلل بعمرة؛ لأن البقاء إلى الليل عندهم ركن. وذهب الشافعية في قول: إلى أنه لو خرج قبل الغروب فلا حرج عليه ولكن يجبره بدم.

ولكن الأقرب قول عامة الفقهاء: إنه لا يسوغ له, فإذا خرج وجب عليه أن يرجع قبل الغروب، فلو رجع بعد الغروب فذهب الجمهور إلى أنه عليه دم، وقال بعضهم: لو رجع بعد الغروب, وجمع بين الليل والنهار، جاز له ذلك، والعلم عند الله.

الأضحية للحاج

السؤال: ما حكم الأضحية للحاج؟

الجواب: ذهب الحنابلة والشافعية وهو اختيار ابن حزم إلى أن الأضحية مشروعة لكل مسلم حاجاً أو معتمراً أو غيرهما، وهذا القول أقرب والله أعلم، ومما يدل على ذلك ما رواه البيهقي وأصله عند مسلم من حديث ثوبان : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( يا ثوبان! أصلح لنا لحم هذه الشاة ), في رواية البيهقي : ( لحم هذه الأضحية ), قال: ( فما زلنا نأكل منها حتى قدمنا المدينة ), ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى هدياً، وبعضهم يشكك في هذه الرواية، لكننا نقول: الأصل أن الأضحية مشروعة لكل مسلم، ومن فعل مثل الرسول بحيث ينحر مائة من الإبل هدياً، فهذا خير له من الأضحية.

وقد ذهب ابن تيمية و ابن القيم إلى أنه لا يشرع في حق المحرم الحاج أضحية، والأقرب والله أعلم أنه يسوغ له ذلك، وهذا اختيار شيخنا ابن باز ، والله أعلم.

قصر الصلاة في المشاعر للحاج

السؤال: هل يصلي في منى قصراً أم إتماماً؟

الجواب: أولاً: أما المسافر فإن الأفضل في حقه أن يصلي في منى قصراً من غير جمع، وأما عرفة فالأفضل أن يصليها قصراً جمع تقديم.

وفي مزدلفة اختلف العلماء فيه:

فذهب عامة الفقهاء إلى أنه يصلي المغرب والعشاء جمع تأخير في وقت العشاء، وهو الأفضل، نقل الإجماع على ذلك ابن عبد البر و ابن قدامة و ابن المنذر و ابن تيمية و النووي و ابن حجر و الخطابي وغيرهم, واستدلوا بما جاء في صحيح البخاري من حديث ابن مسعود أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن هاتين الصلاتين حولتا عن وقتهما -صلاة المغرب والعشاء- فلا يقدم الناس جمعاً حتى يأتموا، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر إلى غير ميقاتها ) يعني: في أول وقتها، ولكن لو صلى من أول وصوله فلا حرج إن شاء الله، وبعض مشايخنا كشيخنا ابن باز يفتي بذلك، وبعض الإخوة هداهم الله من أول وصولهم قبل أن يجتمع أصحاب الحملات تجدهم يصلون ولم يتوضأ بعضهم فأرى أن هذا من التكلف، فصلاة الرجل مع الرجلين خير من الصلاة وحده، ومع الثلاثة خير من الاثنين، والله أعلم.

الثاني: وأما المكي، فالأقرب والله أعلم وهو مذهب الحنابلة والشافعية أن المكي يستحب له أو يجب عليه أن يصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء وجميع الصلوات في منى متماً، وأما في عرفة فإنه يتم ويجمع جمع تقديم، وفي مزدلفة يتم ويجمع، هذا الأقرب والله أعلم، وأما من قال: إنه يقصر لأنه نسك، فنقول: يلزم من هذا أنه من حين إحرامه أن يقصر ولو كان في بيته، ولا قائل بهذا، ومما يدل على أن القصر إنما هو خاص في السفر ما رواه الترمذي و ابن خزيمة بسند صحيح من حديث أنس بن مالك الكعبي رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله وضع على المسافر شطر الصلاة والصوم ), فخص ذلك بالمسافر، فدل ذلك على أن غير المسافر لا يسوغ له أن يقصر الصلاة.

تأخير طواف الإفاضة وطوافه بنية الإفاضة والوداع

السؤال: ما حكم تأخير طواف الإفاضة إلى طواف الوداع؟

الجواب: إذا أخر المحرم أو الحاج طواف الإفاضة، ونواهما إفاضة ووداعاً جاز له ذلك، ولو طاف بعد ذلك بين الصفا والمروة، فيصدق عليه أنه جعل الطواف آخر عهده بالبيت، ومما يدل على ذلك ما بوب عليه البخاري في صحيحه قال: باب العمرة أو طواف الوداع، وذكر حديث عائشة رضي الله عنها: أنها اعتمرت ثم خرجت, فجعلت عمرتها مكتفية عن طواف الوداع، وبعضهم يقول: إن عائشة بعدما اعتمرت طافت طوافاً آخر كما في رواية البخاري ، ولكننا نقول: يصدق عليه أنه كان آخر عهده بالبيت الطواف، والرسول صلى الله عليه وسلم طاف للوداع ثم صلى الفجر، وبعضهم يشكك في هذا، والعلم عند الله.

مدى كون المسعى من المسجد الحرام

السؤال: هل المسعى من المسجد؟

الجواب: المسعى -الصفا والمروة- ليس من المسجد، وكونه يكون قريباً لا يدل على ذلك؛ لأن الله جعله مشعراً حراماً فلا يسوغ لأحد أن يدخله المسجد، مثله كمثل بيت لك قريب من المسجد، فأراد المسلمون أن يوسعوه فأبيت، فجعلوا المسجد حوالي بيتك وتكون بيتك خارج المسجد، فكذلك الصفا والمروة، ومثله حجرة الرسول صلى الله عليه وسلم فليست من المسجد, والعلم عند الله.

مدى صحة حج من عليه دين

السؤال: أنا مقيم في المملكة وعلي دين ما يقرب من ألف وستمائة ريال، وأصحاب الدين لم يطالبوني بالدين، وقد حجيت العام الماضي ولم أسدد المبلغ المذكور، علماً أنه كان يوجد معي ما يقارب ذلك المبلغ، سؤالي هو: هل حجي صحيح؟ وهل يجوز لي أن أحج عن شخص آخر في هذا العام؟ أفتوني مأجورين.

الجواب: أما الحج في حق المدين فهو يصح بإجماع الفقهاء كما قال ابن عبد البر ، أما أنه يأثم أو لا يأثم؟ نقول: هذا يختلف فالدين أنواع.

الأول: إذا كان الدين مقسطاً وهو يستطيع أن يسدد، فلا بأس أن يحج ولا حرج في ذلك.

الثاني: إذا كان الدين مؤجلاً لا يحل وقت الحج، فنقول: يجوز له الحج.

الثالث: إذا كان عليه دين حال وعنده ما يفي به, فنقول: يجوز له ذلك، حتى لو لم يطالبه المدين.

الرابع: إذا لم يكن عنده شيء أصلاً وعليه دين ولا يستطيع أن يفي، فجاءه شخص وقال: حج معنا متبرعاً ولا نريد منك شيئاً، أو حج عن الغير فله أن يحج عن الغير ولا حرج في ذلك، والله أعلم.

الخامس: إذا كان عليه دين ولم يطالب به، فله أن يحج، والله أعلم.

وضع المحرم المشابيك على ثوب إحرامه

السؤال: ما حكم وضع المشابيك في الإحرام سواء لحاجة أم لغير حاجة؟

الجواب: وضع المشابيك في الإحرام في الرداء لا بأس به على الأقرب والله أعلم، وهو اختيار ابن تيمية بشرط ألا يجعله على صفة لبس المخيط، مثلما يفعله بعض الإخوة بحيث لو فتح يديه كأنه مخيط، وكذلك يضعون قبقاب إلى الصدر، فهذا ممنوع؛ لأنه في حكم لبس المخيط، أو يضعون الرداء ويخرقونه من الوسط ويدخلون رءوسهم فيه, فهذا ممنوع؛ لأنه في حكم المخيط.

أما الإزار فله أن يضع شبابيك يمنع من فتحه، أما أن يلبس إزاراً على هيئة السراويل من الأعلى بأن يكون له تكة فهذا منعه عامة الفقهاء وقالوا: لا يسمى هذا سروالاً في لغة العرب, بل يسمى نقبة، وقالوا: النقبة هي سراويل في أعلاها إزار في أسفلها، مثلما يفعله بعض الإخوة الذين يلبسون إزاراً مخيطاً غير مفتوح كهيئة التنورة كما يسميها العوام، فهذا ممنوع منه المحرم، وهذا قول عامة العلماء من أهل اللغة والفقهاء، وشيخنا محمد بن عثيمين رحمه الله جوز ذلك بناء على أنه يسمى إزاراً في لغة العرب، غير أن ابن الأثير و الفيروزأبادي و ابن منظور وهم أئمة اللغة قالوا: يسمى نقبة ولا يسمى إزاراً.

ضابط التقصير لمن تحلل من إحرامه

السؤال: ما ضابط التقصير؟ وهل ما يفعله بعضهم من أنه يأخذ من بعض نواحي شعره يكفيه ذلك؟

الجواب: الله سبحانه وتعالى يقول: مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ [الفتح:27], فيجب تعميم الرأس، ومعنى تعميم الرأس: أن يقصر جوانب الرأس كله لا أن يأخذ من كل شعرة، فهذا من المتعذر، وأما ما يفعله بعض الإخوة بأن يأخذ شعرات ذات اليمين وشعرات ذات الشمال، وشعرات من أمام وخلف ووسط, فهذا جوزه الشافعية ومنعه جمهور الفقهاء، وأرى أنه لا ينبغي أن يصنع هذا بل يعمم سائر رأسه, بأن يأخذ مقصاً ومشطاً ثم يمشط شعره ذات اليمين وذات الشمال, والمقص يمشي، ومع هذا فنقول: يجزئه إن شاء الله، ولا يلزم أن يكون القص شعراً طويلاً أم قصيراً.

يبقى مسألة تسأل عنها كثير من النساء: يكون شعرها مدرجاً فماذا تصنع؟ نقول: هي بالخيار، إما أن تجمعه حتى يكون آخره فتقص بقدر الأنملة، وإما أن تأخذ من الأعلى قليلاً ثم الذي فوقه قليلاً, ثم الذي فوقه قليلاً فيكون فيه نوع من الانضباط، والعلم عند الله.

أفضل شروح حديث جابر في حجة النبي صلى الله عليه وسلم

السؤال: ما أفضل شروحات حديث جابر ، ولو دللتمونا إلى كتاب يجمع ما تقوله؟

الجواب: أما حديث جابر فقد ذكرنا في أول الكلام أن ابن المنذر ألف فيه جزءًا وذكر مائة وخمسين مسألة، وكثير من المعاصرين لهم شروحات بعضها موجز وبعضها طويل، وبعضها بأشرطة وبعضها بمذكرات، فلا أعلم كتاباً حوى جميع المسائل؛ لأن غالب من يشرحها يشرحها في دورات مثل دورتنا هذه، فلا يستطيع أن يعم جميع هذه المسائل، ولو يوجد عالم يذكر حديث جابر في كل مسألة، ثم ينقل مقولات الأئمة وكلام الفقهاء فيها، فلعله يكون قد حوى واستوعب.

موضع ذكر ابن تيمية أن أصل الأنساك القران لمن ساق الهدي

السؤال: في أي مكان ذكر شيخ الإسلام بأن أصل الإنساك القران؟

الجواب: ذكر ابن تيمية رحمه الله أن الأصل في الأنساك القران لمن ساق الهدي ولم يقل القران مطلقاً، ذكر ذلك في مجموع الفتاوى، المجلد السادس والعشرين، وقال: وهو مذهب أحمد رحمه الله.

رجم الجمار ليلاً

السؤال: هل يجوز الرجم للكبرى ليلاً، وكذلك في الأيام الأخرى بعد الزحام ليلاً، أو بعد الزوال؟

الجواب: أما الرمي ليلاً لجمرة العقبة فهو يجوز، وقد روى مالك في موطئه: أن صفية بنت أبي عبيد كانت قد جلست في مزدلفة تنفس امرأة, فذهب ابن عمر وتركها في مزدلفة, حتى إذا كان ليلة الحادي عشر قال لها: الآن حين قدمت، قالت: نعم، قال: فارم الجمرة، وهذا يدل على أن ابن عمر جوز الرمي.

وأما الحديث الذي رواه أبو يعلى : ( الرعاة يرعون في النهار ويرمون في الليل ), فهذا حديث ضعيف لا يصح، ولا يصح في الرمي حديث صحيح إلا ما رواه مالك : أن ابن عمر جوز ذلك. وأما ( رميت بعدما أمسيت ) فهذا ليس دليلاً كما أشار إلى ذلك الحنابلة؛ لأن في معنى المساء يدخل ما بعد العصر، والراوي: جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الحادي عشر يوم القر، فسأله عن ذلك.

لكننا نقول: يجوز الرمي ليلاً لعدم الدليل المانع من ذلك.

أما أيام رمي الجمار فإن يوم الحادي عشر يبدأ من بعد زوال الشمس، ولا يسوغ ولا يجوز أن يرميه قبل ذلك، أما اليوم الثاني فإنه يبدأ أيضاً بعد زوال الشمس. وهل له أن يرمي في اليوم الثاني قبل الزوال؟ محل بحث وتأمل، وأما جمهور الفقهاء فإنهم يمنعون الرمي قبل الزوال، وأنا أرى أن المنع قبل الزوال أولى، نعم ثبت عند عبد الرزاق قال: حدثنا ابن جريج قال: حدثنا ابن أبي مليكة قال: [رأيت ابن عباس رمى جمرة العقبة يوم النفر الأول قبل الزوال ثم صدر]، ورواه الفاكهي بإسناد لا بأس به عن عبد الله بن الزبير , ولكني أرى أن حديث الفاكهي فيه كلام؛ لأن الفاكهي لا يعرف، أما أثر ابن عباس فهو صحيح حيث إن ابن جريج روايته كلها عن ابن أبي مليكة صحيحة كما قال يحيى بن سعيد القطان ، ولكن الأولى ألا يرمي الإنسان إلا بعد الزوال، والعلم عند الله سبحانه وتعالى.

من مر على الميقات ولم يحرم

السؤال: خرجت من المنزل لابساً الإحرام لكي أنوي مباشرة عندما أصل إلى الميقات، ولكن نمت عند الميقات ولم أنو؛ لأنني كنت نائماً، ولما وصلت جدة تذكرت أني لم أنو، فماذا يجب علي؟

الجواب: إذا لم يدخل الإنسان في النسك حتى تعدى الميقات، فإنه يجب عليه أن يرجع إلى الميقات الذي تعداه فيحرم منه، فإن شق عليه ذلك فإنه يحرم من مكانه وعليه دم، كما أشار إلى ذلك أهل العلم كـابن قدامة وغيره.

التصدر للتعليم قبل إكمال طلب العلم

السؤال: يقول: أنا طالب علم أقوم بشرح الدروس لأقاربي وأصدقائي.

وقمت بدورة مصغرة للحج، ولكني إذا حضرت الدروس عرفت أنه ليس عندي علم، فهل أستمر أم أتوقف، فقد أعطاني ربي أسلوباً وحفظاً وإقبالاً من الناس ولله الحمد؟

الجواب: اجمع بين الأمرين: احضر دروس طلاب العلم وأهل العلم، واشرح إذا كنت تستطيع، لكن لا ينبغي للإنسان أن يتصدر للعلم والتعليم وبضاعته مزجاة، وكما قال سفيان بن عيينة عندما طلب منه أن يحدث وكان صغيراً، وكان قد حوى علم الأولين، فلما جلس على كرسيه بكى ثم قال:

خلت الديار فسدت غير مسود ومن البلاء تفردي بالسؤدد

فالأولى بالإنسان أن يحصل العلم وأن يكون اهتمامه بالعلم والتحصيل أكثر من اهتمامه بالتعليم؛ لأنه إذا علم سوف يتفرغ كثيراً ولا يحصل، وربما يفهم مسائل يستغرب منها الكبار والصغار بسبب سوء فهمه، مثلما حصل لبعض طلاب العلم الذين تشيخوا على الصحيفة، أحدهم يقول في حديث أبي سعيد في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ثم يخرج الله أقواماً لم يعملوا خيراً قط ), قال: (خيراً) نكرة في سياق النفي، فتعم أي خير، فيجوز للإنسان أن يدخل الجنة ولو لم يعمل خيراً قط.

أعوذ بالله! وهذه كلها من الأغلاط، وبعضهم في حديث جابر الذي معنا، في مثل طبعة دار المعارف كثيرة التصحيفات يشرح لطلابه الموجود في النسخة، قال: (وأهل الناس بمثل الذي يهلون به، ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته)، هو يقرأ في نسخة: بيته، قال: ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته، ويستحب للمحرم أن يبقى في بيته، وهذا خطأ تصحيف؛ فلهذا ينبغي للطالب أن لا يتعجل في التدريس حتى يرى أنه قد حصل، فإذا جمع وقرأ ودرس على مشايخه في الفقه، وفي الحديث، وفي اللغة، حتى جمع شيئاً ما فلا بأس، والحمد لله.

نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين، وأن يمنحنا وإياكم رضاه والعمل بسنة نبينا صلى الله عليه وسلم والتقوى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , حديث جابر في صفة حج النبي [3] للشيخ : عبد الله بن ناصر السلمي

https://audio.islamweb.net