إسلام ويب

لا يتحقق التوحيد إلا بتحقيق أركانه وواجباته ومستحباته، والقلب هو المعني بتحقيق التوحيد، فعلى المسلم أن يراقب قلبه، ويحذر من العجب والغرور.

كيفية تحقيق التوحيد

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.

وبعد:

قال المؤلف رحمه الله: [باب من حقق التوحيد دخل بغير حساب.

قال الله تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل:120] وصف إبراهيم عليه السلام بهذه الصفات التي هي الغاية في تحقيق التوحيد:

الأولى: أنه كان أمة، أي قدوة وإماماً معلماً للخير، وما ذاك إلا لتكميله مقام الصبر واليقين اللذين تنال بهما الإمامة في الدين.

الثانية: قوله: (قانتاً) قال شيخ الإسلام: القنوت دوام الطاعة، والمصلي إذا أطال قيامه أو ركوعه أو سجوده فهو قانت. قال تعالى: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر:9] أهـ. ملخصاً.

الثالثة: أنه كان حنيفاً. قلت: قال العلامة ابن القيم: الحنيف المقبل على الله، المعرض عن كل ما سواه. أ.هـ

الرابعة: أنه ما كان من المشركين، أي لصحة إخلاصه وكمال صدقه وبعده عن الشرك. قلت: يوضح هذا قوله تعالى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ [الممتحنة:4] أي على دينه من إخوانه المسلمين. قاله ابن جرير رحمه الله تعالى. إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [الممتحنة:4]، وذكر تعالى عن خليله عليه السلام أنه قال لأبيه آزر: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا [مريم:48-49] فهذا هو تحقيق التوحيد، وهو البراءة من الشرك وأهله، واعتزالهم والكفر بهم وعداوتهم وبغضهم. فالله المستعان].

إن تحقيق التوحيد يكون بثلاثة أشياء، يعني: من أراد أن ينال دخول الجنة بغير عذاب ولا حساب، فلا بد من تحقيق ثلاثة أشياء:

الأول: تحقيق أركان.

والثاني: تحقيق واجبات.

والثالث: تحقيق مستحبات.

أما تحقيق الأركان فهو أن يبتعد عن الشرك الأكبر وهو قوله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ [المائدة:72]، وهذا هو تحقيق أركان، ولا يدخل أحد الجنة مآلاً أو حالاً إلا أن يحقق هذا الركن، وهو أن يبتعد عن الشرك الأكبر.

الثاني: تحقيق واجبات، وهو أن يبتعد عن الشرك الأصغر، فإن الشرك الأصغر لا يغفره الله سبحانه وتعالى، وأيضاً هو من أكبر الكبائر، ومن الشرك الأصغر أن يتعلق بأسباب لم يجعلها الشارع سبباً، وليست هي سبباً في الجبلة والطبيعة، فلا بد من تحقيقها.

الثالث: تحقيق مستحبات، وهو أن يتوكل على الله حق توكله، وهذا هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث ابن عباس : ( وعلى ربهم يتوكلون )، فهم يتركون الكي، ويتركون طلب الاسترقاء من الآخرين، وإن كان أصل هذا جائزاً، كما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( استرقوا لها )، وكما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كوى أسعد بن زرارة ، وثبت أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم طلب العلاج، ولكن خوفاً من أن يقع ذلك في قلب العبد المكلف طلب منه أن يتنزه عن تلك الأشياء، وإن كان تحقيق ذلك مع هذا الأمر لا يؤثر، ولكن قل أن تجد من المكلفين من يتعلق بمثل هذا وهو متوكل على الله حق توكله.

إذاً: لا بد من تحقيق ثلاثة أشياء: تحقيق أركان، تحقيق واجبات، تحقيق مستحبات.

العبرة في تحقيق التوحيد أعمال القلوب

الأمر الثاني: أن هذا التحقيق لا يؤثر على وجود شيء تعلق بالدنيا، وذلك أن إبراهيم عليه السلام: كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا [النحل:120]، وقد ذكر أهل التفسير أن إبراهيم عليه السلام قد رزقه ربه كثيراً من الغنم والبقر والماشية حتى إن جيرانه لا يتضررون من كثرة مواشيه، ولم يتعلق قلبه بها، فدل ذلك على أن أصل الغنى أو أصل الفقر ليس محموداً لذاته، ولكن الشأن كل الشأن هو تعلق القلب بها، فإذا تعلق القلب بالفقر فإن من الناس من يحب أن يثنى عليه ويمدح بأنه ورع زاهد طلق الدنيا، وهو أحب إليه من أن يحصل على مال قارون، أو مال أكبر رجل من الدنيا ليحصل على هذا الثناء، وهذا هو شرك المسألة، ولهذا قال يوسف بن أسباط : يزهد أحدهم في ديناره في درهمه ليس في جاهه، ما معنى جاهه؟ يعني: يحب إذا جاء إلى المجالس أن يثنى عليه، وأن يقدم إلى صدور المجالس التي كان ابن عمر يسميها المذابح.

كذلك أن يطهر قلبه من طغيان الغنى، ولهذا الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتعوذ بالله من الغنى ولا من الفقر، إنما تعوذ من شر فتنة الغنى وشر فتنة الفقر، وهل قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اللهم لا تجعل الدنيا همي). أم قال: أكبر همي؟ بل قال: (أكبر همي)، لأنه لا بد أن تكون الدنيا جزءاً من همك لأجل أن تؤدي بها واجباتك الشرعية من نفقة على نفسك، أو نفقة على ولدك، أو نفقة على زوجك، ولهذا فإن تحقيق التوحيد لا بد أن يكون تحقيق قلب قبل أن يكون تحقيق جوارح، ولهذا هي دعوة بأن يلتفت الإنسان إلى قلبه أكثر من التفاته إلى الجوارح، ولهذا يقول العلامة ابن القيم في أعمال القلوب: فهي الأكثر الذي به يتفاضل العباد عند ربهم؛ لقوله تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود:7]، فلم يقل: أكثر عملاً، وإنما قال: أحسن عملاً، والإحسان إنما يكون بأمرين: أصوبه وأخلصه، أخلصه بين العبد وبين ربه، وأصوبه متابعة لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

مراقبة القلب وعدم العجب

قال المؤلف رحمه الله: [في هذه الآية: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً [النحل:120] لئلا يستوحش سالك الطريق من قلة السالكين قَانِتًا لِلَّهِ [النحل:120] لا للملوك ولا للتجار المترفين حَنِيفًا [النحل:120] لا يميل يميناً ولا شمالاً; كفعل العلماء المفتونين وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل:120] خلافاً لمن كثر سوادهم وزعم أنه من المسلمين ].

يعني: ليس قانتاً طويل الإقامة عند أصحاب الدنيا، ولا عند الرؤساء فإن كثيراً من الناس يظهر زهده عند العامة ما إن يذكر أحد المسئولين إلا اشرأبت نفسه إليه، وتطلعت نفسه إلى القرب منه، وهذا والله ليس بقانت لله، وأذكر أن شيخنا عبد العزيز بن باز عندما كنا في الدرس، فجاءه خبر موت أحد الذين لهم جاه في المجتمع، وكانت الصلاة عليه عشاءً فجاء أحد هؤلاء الذين ربما يكونون من القانتين لدنياهم، فقال للشيخ: إن فلان بن فلان سوف يصلى عليه في جامع تركي بن عبد الله، وكان الشيخ في الدرس، وكنت أتأمل هذا الموقف؛ لأن بعض الناس أحياناً يرتبك ويشعر أصحاب الدنيا باهتمامهم أكثر من اهتمامهم لأهل الدين، فكان الشيخ يقول للملقي: نعم نعم، كأنه ما سمع، فاقترب منه، وقال له ذلك والشيخ يقول: نعم نعم، يعني: أكمل، فأقر في أذنه ثالثة وشيخنا يقول: نعم نعم، وكأن الموضوع لا يعنيه؛ لأن العلم أولى، ولأنه جلس لتعليم الناس، والجلوس لتعليم الناس أولى من هذا الأمر، وهذا لا يتأتى إلا ممن نزع من قلبه دنيا الناس وإن كان كثير المال كثير العطاء كثير الرفادة، لكن الشأن هو تعلق القلب بمثل هذه الأشياء.

والحنيف: هو المائل فهو مائل عن الشرك إلى التوحيد هذا معناه؛ لأن النفوس ميالة، ولهذا كان إبراهيم عليه السلام مائلاً، لكن ليس مائلاً إلى الشرك، ولا مائلاً إلى البدع، ولا مائلاً إلى الأهواء، ولكنه مائل إلى الله سبحانه وتعالى، ولهذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم قريباً من ذلك كما في الصحيحين من حديث كعب بن مالك قال: ( مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تفيئها الريح مرة وتعدلها أخرى حتى تهيج )، وهذا الثبات لا يكون إلا بعد الوفاة، ولهذا فإن طبيعة المؤمن مرة إقبال ومرة إدبار، ولهذا لا ينبغي للإنسان أن يتضايق حينما يجد من قلبه انصرافاً أحياناً عن طاعة الله؛ لأن الله يريد منه ذلك حتى يكون تواباً، والتواب هو الرجاع، أما الذي يحس أنه لم يقصر ولم يذنب وهذا خطير جداً، ويقول: أنا ما فعلت ذنباً ويلتفت ذات اليمين فما يجد ذنباً عنده فيما يتصور، ثم يلتفت ذات اليسار ولا يجد ذنباً عنده، ويقول: أنا أفضل من فلان، فأنا ما عندي تلفزيون، أنا ما عندي، منكرات، أنا ما عندي أنا ما عندي، أيضاً أنا أفضل من الناس، هنا يقع إشكال؛ لأن العكوف هو عكوف القلب على الله سبحانه وتعالى، وليست المسألة مسألة منكر أو غيره، الإشكال أن تظن أنك قد حققت ما أمرك الله به مطلقاً، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( لن يدخل الجنة أحد بعمله قالوا: ولا أنت؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته ).

ولهذا انظر قصة الرجل الذي يقول: والله لا يغفر الله لفلان، من الذي قال هذا؟ هذا الذي جلس على جبل يطيع الله ولا يعصيه، فاغتر بطاعته لله وحينما رأى مثل هؤلاء الذين لا يبالون، قال: ( والله لا يغفر الله لفلان -من باب الإعجاب بنفسه- فقال الله: من ذا الذي يتألى عليّ ألا أغفر لفلان، قد غفرت له وأحبطت عملك )، لم يحبط عمله لأجل قوله فقط، ولكن لأجل رصيد في قلبه وهو الإعجاب بنفسه، ولهذا جاء عند الحاكم بسند فيه ضعف، لكن يقول ابن القيم عنه: هو صحيح المعنى، وهو: ( أن رجلاً عبد الله على رأس جبل ستين سنة، ثم بعثه الله فيمن بعثه، ثم قال: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي فقال العبد المسكين: لا يا رب! بل بعملي، فضحك الله جل جلاله وتقدست أسماؤه حينما اغتر العبد بعمله، فقال: زنوا عمل عبدي سائر ستين سنة بنعمة البصر، فوضعت في ميزان، وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا [الأنبياء:47]، فرجحت بهن نعمة البصر )، الآن جاءت مسألة العدل بعد أن كان في الأول بالرحمة، ( فقال الله للزبانية: خذوا عبدي إلى النار، قال: فجعل يصيح ويقول: يا رب! بل برحمتك بل برحمتك، فضحك الله جل جلاله، وقال: خذوا عبدي برحمتي إلى الجنة ).

ما للعباد عليه حق واجبكلا ولا سعي لديه ضائع

إن عذبوا فبعدله أو نعموافبفضله وهو الكريم الواسع

لزوم قول الحق والثبات عليه

قال المؤلف رحمه الله: [ قوله تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً [النحل:120] على الإسلام. ولم يك في زمانه أحد على الإسلام غيره. قلت: ولا منافاة بين هذا وبين ما تقدم ].

ولهذا ينبغي للإنسان أن يراجع نفسه في كل أموره، هل هو طائع لله أم ليس بطائع لله؟ هل هو موافق للحق أم لا؟ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا [سبأ:46]، لا تغتر بالجماهير، الجماهير يؤثرون عليك وعلى أقوالك، ولهذا من تأثر بالجماهير يجد أن قراءته للقرآن استدلالاً لما يريده الجماهير، وقراءته للسنة استدلالاً لما يريده الجماهير، وقراءته في الأخبار استدلالاً لما يريده الجماهير، فتنصب كل أقواله وكل أفعاله لما يريده الجماهير، والواقع أن الإنسان ينبغي أن يتحدث بما يريده الله ورسوله له.

ولهذا ينبغي أن يبتعد عن التأثر بالناس، والله سبحانه وتعالى نزه نبيه عن ذلك فقال حينما قال المشركون: إن محمداً يتقول على الله لأجل أن يكثر منه الأحزاب والأوباش وغيره، فقال الله: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة:44-46]، هذا معنى كبير، وهو أن الله نزه نبيه صلى الله عليه وسلم من تأثير الجماهير، ونزهه سبحانه وتعالى من أن ينصرف إلى الجماهير ويترك أوامر الله فقال: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ [الإسراء:74-75]، فهذا يدل على أن الله نزه نبيه صلى الله عليه وسلم من الهوى؛ لأنه قد غسل قلبه بماء زمزم.

فحذار! حذار! أن تنظر إلى كثرة الهالكين وإن كنت وحدك، كما قال ابن مسعود قال: الجماعة من وافق الحق ولو كان وحده، فإبراهيم لم يكن على الإسلام إلا هو وزوجه بعد ذلك، وكان أمة، ولهذا أخبر صلى الله عليه وسلم ( أنه في آخر الزمان يكون القابض على دينه كالقابض على الجمر )، فالقابض على دينه ليس فقط يصلي، بل يظهر أوامر الله، واليوم يستحي الإنسان أن يبين أحكام الشرع خوفاً من أن يقال له: أنت لا تحترم المرأة، أو يقال له: أنت لا تحترم حقوق الإنسان، أو يقال له: إن هذه قضايا إرهابية، أو يقال له: إن هذه قضايا تخالف الحرية الشخصية، فيسمونها بغير اسمها إلى أن يبطل أحكام الشرع، فالسالم من راوغ في أجوبته أو داهن في أحكامه وأقواله، فنسأل الله العصمة في القول والعمل.

ولهذا ينبغي للإنسان أن يراجع نفسه ويسأل ربه أن يعصمه من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه قالوا: يا رسول الله! كيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض من البلاء ما لا يطيق )، فالقرب من البلاء والقرب من الجماهير، والقرب من أصحاب الدنيا والجاه تؤثر على الإنسان شاء أم أبى، ولهذا فإن سيرة سفيان الثوري -هذا الذي يسمى إمام المسلمين في زمانه- لعجيبة في هذا الباب.

ولهذا ينبغي للإنسان أن يكون أمة وحده، ولكن هذا لا يتأتى إلا من جمع بين أمرين، بين خشية وعلم فمن جمع خشية بلا علم ضل، ومن جمع علماً بلا خشية ضل أو زاغ، فاسأل ربك أن تحصل على هذين الأمرين.

الحذر من اغترار الإنسان بنفسه

قال المؤلف رحمه الله: [قلت: ولا منافاة بين هذا وبين ما تقدم من أنه كان إماماً يقتدى به في الخير.

قال: وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ [المؤمنون:57-59]. وصف المؤمنين السابقين إلى الجنة فأثنى عليهم بالصفات التي أعظمها: أنهم بربهم لا يشركون. ولما كان المرء قد يعرض له ما يقدح في إسلامه: من شرك جلي أو خفي، نفى ذلك عنهم، وهذا هو تحقيق التوحيد الذي حسنت بهم أعمالهم وكملت ونفعتهم.

قلت: قوله: (حسنت وكملت) هذا باعتبار سلامتهم من الشرك الأصغر، وأما الشرك الأكبر فلا يقال في تركه ذلك، فتدبر. ولو قال الشارح: صحت لكان أقوم ].

الإنسان قد يجزم أنه قد حقق التوحيد، أو حقق الأركان، فهو لم يشرك بالله ولم يدع إلا لله، ولم يدعو إلا الله، ولم ينذر إلا لله، لكن يخاف على نفسه الشرك الأصغر الذي هو الشرك الخفي، ولهذا قال أبو العالية : أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف على نفسه النفاق، ما منهم أحد يقول: إيماني كإيمان جبرائيل وميكائيل. هؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، فإذا أنت لم تحاسب نفسك في هذا فاعلم أنك لم تسر على الطريق الذي سار عليه الأولون، ولهذا قال ابن مسعود: فإنهم على الهدي المستقيم، فمن نال ما نالوه، وسلك ما سلكوه، واستقام على ما استقاموا عليه فإنه على الهدي المستقيم، فإذا لم يفعل مثل ذلك فإنه من الهالكين، ولهذا ينبغي للإنسان أن ينظر لما عليه الصحابة، ولا يغتر بأن ظاهر الدليل على كذا، أو فعل كذا على كذا؛ لأن الإنسان أحياناً تلتبس عليه الأمور، ولهذا فإن بلعام بن باعوراء هذا الذي ترك دين الله سبحانه وتعالى شأنه عجيب، فليست المسألة أنك تكثر من الصلاة فقط، أو أنك تكثر من التسبيح فقط، لا، مع ذلك اجعل قلبك يسجد لله، اجعل قلبك يعتكف بين يدي الله سبحانه وتعالى يلهث بأن يقول: يا حي! يا قيوم! برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك.

شرح حديث: (سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ...)

قال المؤلف رحمه الله: [قال ابن كثير: وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ [المؤمنون:59] أي: لا يعبدون مع الله غيره، بل يوحدونه ويعلمون أنه لا إله إلا الله أحد صمد، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وأنه لا نظير له.

قال المصنف: عن حصين بن عبد الرحمن قال: كنت عند سعيد بن جبير، فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ فقلت: أنا. ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة، ولكني لدغت. قال: فما صنعت؟ قلت: ارتقيت. قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي، قال: وما حدثكم؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال: ( لا رقية إلا من عين أو حمة ).

قال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: ( عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم، فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه. فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، ثم نهض فدخل منزله. فخاض الناس في أولئك. فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئاً، وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه، فقال: هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون. فقام عكاشة بن محصن فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم، قال: أنت منهم. ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: سبقك بها عكاشة ).

هكذا أورده المصنف غير معزو، وقد رواه البخاري مختصراً ومطولاً، ومسلم واللفظ له، والترمذي والنسائي عن حصين بن عبد الرحمن قال: كنت عند سعيد بن جبير، فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ فقلت: أنا، ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة، ولكني لدغت، قال: فما صنعت؟ قلت: ارتقيت. قال: فما حملك على ذلك؟

قوله: (عن حصين بن عبد الرحمن) هو السلمي أبو الهذيل الكوفي. ثقة، مات سنة ستة وثلاثين ومائة، وله ثلاث وتسعون سنة.

وسعيد بن جبير: هو الإمام الفقيه من جلة أصحاب ابن عباس، روايته عن عائشة وأبي موسى مرسلة، وهو كوفي مولى لبني أسد، قتل بين يدي الحجاج سنة خمس وتسعين ولم يكمل الخمسين.

قوله: (انقض) هو بالقاف والضاد المعجمة أي سقط.

(والبارحة) هي أقرب ليلة مضت. قال أبو العباس ثعلب: يقال قبل الزوال: رأيت الليلة، وبعد الزوال: رأيت البارحة، وكذا قال غيره، وهي مشتقة من برح إذا زال.

قوله: (أما إني لم أكن في صلاة) قال في مغني اللبيب: (أما) بالفتح والتخفيف على وجهين: أحدهما: أن تكون حرف استفتاح بمنزلة (ألا) فإذا وقعت (أن) بعدها كسرت. الثاني: أن تكون بمعنى حقاً، أو أحق. وقال آخرون: هي كلمتان الهمزة للاستفهام و(ما) اسم بمعنى شيء، أي: أذلك الشيء حق؟ فالمعنى أحق هذا؟ وهو الصواب. و(ما) نصب على الظرفية، وهذه تفتح (أن) بعدها. انتهى.

والأنسب هنا هو الوجه الأول، والقائل هو حصين، خاف أن يظن الحاضرون أنه رآه وهو يصلي، فنفى عن نفسه إبهام العبادة، وهذا يدل على فضل السلف وحرصهم على الإخلاص وبعدهم عن الرياء والتزين بما ليس فيهم.

قوله: (ولكني لدغت) بضم أوله وكسر ثانيه. قال أهل اللغة: يقال: لدغته العقرب وذوات السموم، إذا أصابته بسمها، وذلك بأن تأبره بشوكتها.

قوله: (قلت: ارتقيت) لفظ مسلم: (استرقيت) أي: طلبت من يرقيني.

قوله: (فما حملك على ذلك) فيه طلب الحجة على صحة المذهب].

[فيه طلب الحجة على صحة المذهب. قلت: حديث حدثناه الشعبي].

يعني: أن الإنسان لا يكتفي بالادعاء فلا بد من الدليل، ما الذي جعلك تذهب إلى هذا؟ فيقول: حديث حدثنا. ويظهر -والله تبارك وتعالى أعلم- أن سعيد بن جبير إنما ذكر هذا الحديث كأنه رد على فعل حصين ، ولهذا ذهب بعض أهل العلم إلى أن الإنسان لا يسترقي يعني: لا يطلب من يرقيه إلا أن يرقيه شخص من غير طلب منه مع عدم تعلق القلب، قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطلب أحداً أن يرقيه، وإن كان قد طلب من أحد أن يسترقي، قال: (ما لي أرى أجسام بني أخي أبهم حاجة؟ قالت: لا ولكن العين تسرع إليهم، فقال: أرقيهم)، أما هو صلى الله عليه وسلم فإنه لم يطلب من أحد أن يرقيه، وإن كانت عائشة تأخذ بكفه فتقرأ المعوذات ثم تمسح بيده صلى الله عليه وسلم، ولهذا فإن سعيد بن جبير استدل بهذا الحديث، فـحصين بن عبد الرحمن طلب من يسترقي له لأجل حاجته لذلك، فذكر سعيد بن جبير هذا الحديث كأنه يرى أن الأفضل أن الإنسان لا يطلب.

وذهب بعض أهل العلم إلى أن هذا الحديث ليس حدياً ولكنه من باب الصفة، وباب الصفة لا يلزم منه أكثر من أن يعرف الإنسان بذلك، فكونهم لا يسترقون؛ يعني لأن طلب الرقية وإن كان لا يخالف التوكل لكنه ربما يؤثر في التوكل.

وأما الكي وإن كان أصله لا يخالف التوكل، ولكنه ربما تعلق قلبه به، فيقول: لولا هذا الكي ما شفيت، فيقع قلبه على هذا؛ لأنه سريع الحسم، والقاعدة أنهم: (وعلى ربهم يتوكلون)، فمن طلب من أحد أن يسترقيه وتوكل على الله وعلم أن هذا الرجل ضعيف، ولكن كتاب الله أقوى وتأمل ما يقرأ له، وتعلق قلبه به فإن ذلك لا يضيره، ولا يكون خارجاً عن هذا الحديث، وهذا هو رأي بعض أهل العلم، وقد رجحه شيخنا عبد العزيز بن باز وشيخنا محمد بن عثيمين أن القاعدة أن هذا لا يخالف التوكل فيما لو طلب الرقية.

واعلم أن الذين حجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم قد عدهم الحاكم وذكر بأنهم مائة ألف.

ومن المعلوم أن الصحابة هم أفضل ممن جاء بعدهم، وهل الأفضلية أفضلية أوصاف أم أفضلية أشخاص؟ هل جنس الصحابة أفضل ممن جاء بعدهم، أم أفراد الصحابة أفضل ممن جاء بعدهم؟ الإمام أحمد رحمه الله وابن عيينة وبعض السلف ونسبه بعضهم للجمهور أن أشخاص الصحابة أفضل ممن جاء بعدهم، ولهذا قال عبد الله بن المبارك : لغبار طار في أنف معاوية خير من عمر بن عبد العزيز وأكثر وهذا مذهب الإمام أحمد ، وقال بعضهم: إنما هي أفضلية أوصاف خاصة ممن أسلم بعد الفتح، وحاول أن يقسم فقال: من أسلم قبل الفتح فهو أفضل، ومن أسلم بعد الفتح فإن كان قد قاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم ولازمه فهو أفضل، وأما من أسلم من الأعراب وغيرهم فهم ليسوا بأفضل ممن جاء بعدهم ممن حقق وهذا أمره عند الله.

الشاهد من هذا أن سبعين ألفاً مع مائة ألف أقل من مقدار الصحابة فربما زهد الإنسان بهذا لكن فضل الله عظيم، ولهذا جاء في بعض الروايات: (مع كل واحد منهم سبعون ألفاً) فيكون عددهم سبعين في سبعين فهذا يدل على أنهم كثير، والإنسان كما قال تعالى: بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ [القيامة:14].

ترجمة الإمام الشعبي

قال المؤلف رحمه الله: [قلت: حديث حدثناه الشعبي، قال: وما حدثكم؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن الحصيب].

وكان عامر إنساناً حصيفاً، وكان قد خرج على الحجاج بن يوسف، وكان يجلس عنده ويبين أحكام الشرع إذا سأله، فلما وقعت الفتنة كان ممن قد جيء به ليقتل، وكان الحجاج بن يوسف قد قتل في فتنة ابن الأشعث مائة ألف حبر، فجاء بـعامر الشعبي فقال: ما عندك يا شعبي وقد قرب إلى السيف؟ قال: فحدثه حتى ضحك، قال: ثم عفا عنه، وهذا يدل على أن هذا لا يخالف الفقيه الذي يداري ولا يداهن، يداري أحد الذين يخافهم لا حرج في ذلك، والناس طبقات ليس كل أحد مثل سعيد بن جبير عندما أراد الحجاج أن يقتله، قال: اللهم لا تسلطه على أحد بعدي.

نكتفي بهذا وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , كتاب التوحيد - باب من حقق التوحيد دخل الجنة بلا حساب [1] للشيخ : عبد الله بن ناصر السلمي

https://audio.islamweb.net