إسلام ويب

المساجد هي أطهر وأفضل البقاع وأحبها إلى الله، ولها خصوصيات تميزها عن غيرها من البقاع، ومن ذلك: أن الضالة لا تنشد في المساجد، وأما تشبيك الأصابع ووضع إحدى الرجلين على الأخرى مع الاستلقاء في المسجد ؛ لأنه قد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك.

النهي عن إنشاد الضالة في المسجد

شرح حديث: (جاء رجل ينشد ضالة في المسجد فقال له رسول الله: لا وجدت)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ النهي عن إنشاد الضالة في المسجد.

أخبرنا محمد بن وهب حدثنا محمد بن سلمة عن أبي عبد الرحيم حدثني زيد بن أبي أنيسة عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنهما أنه قال: ( جاء رجل ينشد ضالة في المسجد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا وجدت ) ].

يقول النسائي رحمه الله: النهي عن إنشاد الضالة في المسجد.

إنشاد الضالة المراد به السؤال عنها مع رفع الصوت؛ لأن نشد، وأنشد كلها تتعلق بالصوت، ورفع الصوت، فيقال: نشد ينشد فهو ناشد إذا كان يطلب الحاجة، ويسأل عنها، ويقال: أنشد ينشد فهو منشد إذا كان يعرف بها حيث وجدها، فيقول: من له ضالة فليأتِ إلي، أو من ضاع له شيء فإنه موجود عندي، فيأتي ويصفه، ويعرفه بالهيئات التي هو عليها، وكله فيه رفع الصوت، ومن ذلك ما هو معروف في اللغة، وما جاء في بعض الأحاديث: (أنشدك الله)، يعني: أسألك رافعاً نشيدتي أو صوتي.

والنسائي رحمه الله عقد هذه الترجمة التي هي النهي عن إنشاد الضالة في المسجد، وأورد تحتها حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه: أنه سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا وجدت )، والنفي في قوله: (لا وجدت) دعاء؛ لأن الأظهر فيه أنه دعاء عليه، وأنه لا يجد هذا الذي يسأل عنه؛ لأنه سأل عنه في مكان ليس هو محل السؤال، وليس من الأماكن التي يبحث فيها عن الدنيا، ويشتغل فيها في الدنيا الذي هو المسجد، بل ذلك شأن الأسواق، وليس شأن المساجد، والمساجد إنما بنيت لذكر الله عز وجل، وعبادته، والصلاة، والذكر، والدعاء، ولم تبنَ للبحث عن الدنيا، وإنشاد الضالة، والسؤال عن الشيء المفقود وما إلى ذلك من الأمور التي هي أمور دنيوية، وليس المسجد محلاً للبحث عنها ولطلبها.

ومن العلماء من قال: إن المعنى: أن (لا) ناهية، وأن الفعل المنهي عنه محذوف دل عليه ما تقدم، وتقديره: لا تنشد، أي: لا تسأل، ثم قال: (لا، وجدت)، أي: دعاء له بأن يجد بغيته، وأن يجد حاجته، ولكن الأظهر هو الأول، وهو أنه دعاء عليه، ويكون هذا معاملة للإنسان بنقيض قصده، بأنه كان يريد هذا الذي فقد منه في المسجد، فيبحث عنه، وصار جوابه الدعاء عليه بأن لا يجد هذا الذي فقده؛ لأنه سأل عنه في مكان ليس له أن يسأل عنه.

تراجم رجال إسناد حديث: (جاء رجل ينشد ضالة في المسجد فقال له رسول الله: لا وجدت)

قوله : [ أخبرنا محمد بن وهب ].

هو الحراني، وهو صدوق، خرج له النسائي وحده.

[ حدثنا محمد بن سلمة ].

وهو الحراني أيضاً، وهو ثقة، خرج له البخاري في جزء القراءة، ومسلم، وأصحاب السنن الأربعة، فهؤلاء كلهم خرجوا لـمحمد بن سلمة الحراني.

ويماثله في الترجمة محمد بن سلمة المرادي، إلا أنه متأخر عنه؛ لأن ذاك من شيوخ النسائي، وأما هذا فمن شيوخ شيوخه، لم يدركه النسائي، وهو من طبقة شيوخ شيوخه، والنسائي يروي عنه بواسطة؛ لأنه لم يدركه، وأما محمد بن سلمة المرادي فهذا من شيوخه وقد أدركه، وقد جاء في بعض نسخ التقريب الطبعة المصرية: أنه من الحادية عشرة، وليس كذلك، بل هو من التاسعة؛ من طبقة شيوخ شيوخ النسائي، فهو من التاسعة وليس من الحادي عشرة كما جاء في تلك النسخة.

[ عن أبي عبد الرحيم ].

أبو عبد الرحيم، هو خالد بن أبي يزيد الحراني، وهو ثقة، خرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم، وأبو داود، والنسائي ، وهو مشهور بكنيته، ولهذا يأتي ذكره بها ليس مذكوراً مع ذلك اسمه.

[ حدثني زيد بن أبي أنيسة ].

وهو زيد بن أبي أنيسة الجزري، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.

[ عن أبي الزبير].

أبو الزبير.

هو محمد بن مسلم بن تدرس المكي، وهو صدوق يدلس، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

[ عن جابر رضي الله عنهما ].

صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنه وعن أبيه وعن الصحابة أجمعين، وهو أحد الصحابة المكثرين من رواية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد السبعة الذين عرفوا بكثرة الحديث عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، والذين قال عنهم السيوطي في ألفيته:

والمكثرون في رواية الأثرأبو هريرة يليه ابن عمر

وأنس والبحر كالخدريِوجابر وزوجة النبي

يعني: عائشة.

وجابر هو أحد هؤلاء السبعة الذين عرفوا بكثرة الحديث عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.

إظهار السلاح في المسجد

شرح حديث: (مر رجل بسهام في المسجد فقال رسول الله: خذ بنصالها)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ إظهار السلاح في المسجد.

أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن المسور الزهري -بصري- ومحمد بن منصور، قالا: حدثنا سفيان قال: ( قلت لـعمرو : أسمعت جابراً يقول: مر رجل بسهام في المسجد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ بنصالها؟ قال: نعم ) ].

يقول النسائي رحمه الله: إظهار السلاح في المسجد، يعني: وجوده، وبروزه، والدخول به للمسجد للحاجة.

وأورد النسائي هذه الترجمة، وذكر تحتها حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه، في قصة مرور رجل بسهام في المسجد، فقيل له: (خذ بنصالها)، ويقول فيه سفيان لـعمرو بن دينار : ( أسمعت جابراً يحدث أنه مر رجل بسهام، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: خذ بنصالها؟ قال: نعم )، وقد روي الحديث في البخاري، وفي غيره، وفي بعض الكتب أنه لم يقل فيه: نعم، ومثل هذا لا يؤثر عند المحققين من المحدثين، بل يكفي في ذلك سكوت الشيخ بعد أن يسأل فلا يجيب بالنفي، فإذا كان متيقظاً متنبهاً، وسئل عن مثل هذا السؤال وسكت فإن ذلك كافٍ، ولا يشترط فيه أن يقول: نعم، وقد اشترط بعض العلماء أن يقول: نعم، ولكن هذا ليس بلازم، وقد جاء في عدد من الأحاديث أن ذكر السؤال بدون ذكر نعم، واعتبره أكثر العلماء المحققين كافياً، ولا يحتاج معه، ولا يشترط أن يقول الشيخ عندما يسأل مثل هذا السؤال: نعم، وفي الحديث الذي معنا أنه قال: نعم، وإنما الخلاف فيما إذا لم يقل: نعم، وإنما سكت.

وجاء في صحيح مسلم أن الرجل دخل بها في المسجد يتصدق بها، أي: يوزعها صدقة، والرسول صلى الله عليه وسلم أمره أن يأخذ بنصالها، وهي الجزء المحدد منها، أي: طرفه الذي يحصل منه الضرر، فأمره أن يأخذ بنصالها كما جاء في بعض الروايات؛ حتى لا تخدش مسلماً، أي: حتى لا تجرح مسلماً، فإذا كان طرفها المحدد ليس بيده، وإنما هو في جهة أخرى فقد تخدش أحداً من الناس فيحصل بذلك الضرر، وهذا من الأخذ بسد الذرائع؛ لأن كونه يأخذ بنصالها سداً لذريعة حصول الضرر؛ كون النصال بارزة، فقد تلمس أحداً فتجرحه، ويخرج منه الدم، وفي الحديث دليل على حرمة دم المسلم ولو كان قليلاً؛ لأن هذا النهي إنما هو لخدش، أو شيء يحصل سيلان الدم ولو كان يسيراً، وتحريم الدماء، والأموال، والأعراض من الأمور التي جاءت الشريعة بتأكيدها، والتحذير منها، وقد حذر من ذلك صلوات الله وسلامه وبركاته عليه في حجة الوداع حيث قال بعد أن سأل عن اليوم، والشهر، والمكان، ويريد أن يقرر حرمة ذلك كما أن هذا معلوم حرمته، فقال: ( إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا )، فالحديث يدل على حرمة إيذاء المسلم، وعلى حرمة دمه، ولو كان ذلك الدم يسيراً، ولو كان من غير قصد؛ لأن هذا الرجل معلوم أنه لا يقصد، ولكن كون النصال بارزة، وقد تلمس أحداً فتجرحه فيحصل له ضرر بذلك.

تراجم رجال إسناد حديث: (مر رجل بسهام في المسجد فقال رسول الله: خذ بنصالها)

قوله: [ أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن ].

هو عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن المسور الزهري، وهو ابن مخرمة، وهو بصري، والنسائي رحمه الله نسب شيخه، وأطال في نسبه، وقد ذكرنا فيما مضى أن التلميذ له أن يذكر شيخه بما يريد، وله أن ينسب كما يريد، إن أراد أن يطول نسبته فعل، وإن أراد أن يقصر نسبته فعل، وهذا هو ما يفعله النسائي وغيره، فأحياناً يذكر الشخص بكلمتين؛ اسمه واسم أبيه، وأحياناً يذكره بكنيته فقط، وأحياناً يطيل في نسبه كما هنا: عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن المسور الزهري بصري، فذكر اسمه واسم أبيه وجده وجد أبيه، وذكر نسبته في النسب ونسبته في البلد، الزهري نسبة نسبية، والبصري نسبة وطنية، وأما غير التلميذ فإنه إذا أراد أن يوضح اسماً مهملاً، ويزيد شيئاً يوضحه فإنه لا يأتي به كما يريد بأن ينسبه، ويأتي بنسبه كما يريد، فإن ذلك قد يظن أنه من التلميذ، ولكن الطريقة التي عملها العلماء، وأخذ بها، وامتلأت بها كتب الحديث أنه عندما يريد أن يضيف شيئاً يقول: هو ابن فلان، أو يعني: ابن فلان، أو هو الفلاني، فيأتي بكلمة تفيد بأن الإضافة ليست من التلميذ، وإنما هي ممن دون التلميذ، وأما التلميذ فلا يحتاج أن يقول: فلان هو ابن فلان، بل ينسبه كما يريد؛ لأن الكلام كلامه، ولكن الذي يحتاج إلى أن يقول: هو ابن فلان دون التلميذ، ويريد أن يوضح هذا الشخص الذي أهمله التلميذ؛ لأن المهمل هو اتفاق الأسماء، أو الأسماء وأسماء الآباء، وعدم تمييز الأشخاص، فيكون مشترك يحتمل هذا ويحتمل هذا، مثل سفيان، يحتمل ابن عيينة، ويحتمل الثوري، وحماد يحتمل حماد بن زيد أو حماد بن سلمة، فكلمة (هو) يستعملها من دون التلميذ، وأما التلميذ فهو ينسب كما يريد كما فعل النسائي هنا.

وعبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة البصري الزهري صدوق، خرج حديثه مسلم، وأصحاب السنن الأربعة؛ وقد نسبه النسائي هنا حتى وصل إلى الصحابي، الذي هو المسور بن مخرمة.

و المسور، ومخرمة كلاهما من الصحابة، وهنا ذكر المسور، ولكنه ما ذكر مخرمة.

[ ومحمد بن منصور ].

محمد بن منصور شخصان: الطوسي، والجواز المكي، وقد عرفنا فيما مضى أن الأقرب وأن الأرجح أن يكون هو محمد بن منصور الجواز المكي ؛ لأن سفيان بن عيينة مكي، وهو مكي، وعندما يكون الأمر دائراً بين شخصين يرجح من له به اختصاص، إما من حيث الوطن، أو من حيث الملازمة، وكثرة الرواية عن ذلك الشيخ.

ومحمد بن منصور الجواز مكي، فهذا أقرب وأظهر؛ لأن عدم التمييز يكون أحياناً لشهرته، وعدم الحاجة إليه، وقد جاء في بعض المواضع أنه ينسبه ويقول: المكي، كما سبق أن مر بنا، محمد بن منصور المكي، ولكنه ما جاء ذكر محمد بن منصور الطوسي منسوباً، ولكن الغالب أنه يحمل على محمد بن منصور الجواز المكي، ومحمد بن منصور الجواز المكي ثقة، خرج حديثه النسائي وحده.

[ قالا: حدثنا سفيان ].

وهو ابن عيينة، وسفيان بن عيينة ثقة، إمام، حجة، حديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

[ قلت لـ: عمرو ].

سفيان يقول: قلت لـعمرو، وعمرو هو ابن دينار، وهو مكي، وهو ثقة، ثبت، خرج حديثه أصحاب الكتب الستة، فـسفيان بن عيينة مكي، وعمرو بن دينار مكي، ومحمد بن منصور الجواز مكي، فهؤلاء ثلاثة مكيون من أهل مكة.

قال سفيان : قلت لـعمرو : أسمعت جابراً يقول.

وجابر هو الصحابي راوي الحديث، وقد مر ذكره قريباً.

تشبيك الأصابع في المسجد

شرح حديث عبد الله بن مسعود في تشبيك الأصابع في المسجد

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ تشبيك الأصابع في المسجد.

أخبرنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا عيسى بن يونس حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن الأسود قال: ( دخلت أنا وعلقمة على عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فقال لنا: أصلى هؤلاء؟ قلنا: لا، قال: قوموا فصلوا، فذهبنا لنقوم خلفه، فجعل أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فصلى بغير أذان ولا إقامة، فجعل إذا ركع شبك بين أصابعه، وجعلها بين ركبتيه، وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ) ].

وهنا أورد النسائي: تشبيك الأصابع في المسجد، ولكنه أورد تحته حديثاً منسوخاً لا يحتج بما جاء فيه التشبيك والتطبيق؛ الذي هو جعل اليدين بين الفخذين، أو بين الركبتين في حال الركوع، فإن هذا منسوخ، وثبت نسخه في أحاديث، وقد ذكر النسائي النسخ في أحاديث ستأتي في سننه في كتابه هذا السنن.

أورد هذا الحديث، أعني: حديث: أن الأسود قال: دخلت أنا، وعلقمة على عبد الله بن مسعود، فقال: أصلى هؤلاء؟ فقلنا: لا، قال: قوموا فصلوا، فتقدم، وأرادوا أن يصفوا وراءه، فجعل واحداً عن يمينه وواحداً عن شماله، ثم شبك بين أصابعه، يعني: عندما أراد أن يركع، وجعلهما بين ركبتيه، أو بين فخذيه، وهذا هو التطبيق، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل.

ومحل الشاهد من إيراد الحديث ذكر التشبيك فيه، وإضافته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا العمل الذي ذكره قد نسخ، وثبت نسخه في أحاديث عند النسائي وعند غيره، ويسمى التطبيق، وهو وضع اليدين متلاصقة، أو مع التشبيك بينهما، ووضعهما بين الفخذين أو بين الركبتين في حال الركوع، فإن ذلك نسخ، وأمر الناس بأن يجعلوا أيديهم على ركبهم، فهذا هو الحكم الناسخ، وهذا الذي جاء في الحديث هو الحكم المنسوخ، ويحمل ما جاء عن عبد الله بن مسعود على أنه لم يبلغه الناسخ الذي هو وضع اليدين على الركبتين.

ولكن الحديث الذي فيه تشبيك الأصابع في المسجد، أو يصلح شاهداً للترجمة حديث ذي اليدين، الحديث المعروف بحديث ذي اليدين، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما صلى بالناس الظهر أو العصر، فصلى ركعتين ثم سلم، ثم قام إلى خشبة معروضة في المسجد فشبك بين أصابعه، واستند عليها، فقال له هذا الرجل الذي هو ذو اليدين : ( يا رسول الله! أقصرت الصلاة أم نسيت؟ قال: لم أنس ولم تقصر، قال: بل نسيت، فالتفتَ إلى الناس وقال: أكما يقول ذو اليدين ؟ قالوا: نعم، فقام وصلى الركعتين الباقيتين )، فالحديث فيه التشبيك، وهو ثابت، وهو الذي يدل على التشبيك، ولكنه جاء بعد الصلاة، وجاء في بعض الأحاديث النهي عن التشبيك بين الأصابع قبل الصلاة.

فالحاصل: أن الحديث الذي معنا يدل على التشبيك، ولكنه منسوخ، والناسخ له عند النسائي، وعند غيره، وهو وضع الأيدي على الركب، فيكون الحديث لا حجة فيه، أو هذا الاستدلال لا وجه له؛ لأنه منسوخ، فلم يبق له عمل.

ثم في الحديث: أنه جعلهما عن يمينه وعن شماله، وقد قال بعض العلماء: إن المكان كان ضيقاً، ولكن يشكل عليه أنهم كانوا أرادوا أن يصفوا خلفه، أي: معناه أن فيه مجال، فلعل ذلك مثل التطبيق منسوخ، وأن هذا كان في أول الأمر، ثم بعد ذلك جاء بيان الحكم، وهو أنه إذا زاد على الواحد فإن المأمومين يكونون وراءه، ولا يكونون عن يمينه ولا عن شماله، فالأقرب أن يكون مثل التطبيق، وأن هذا كان متقدماً كما كان التطبيق متقدماً.

تراجم رجال إسناد حديث عبدالله بن مسعود في تشبيك الأصابع في المسجد

قوله: [ أخبرنا إسحاق بن إبراهيم ].

إسحاق بن إبراهيم، هو ابن مخلد بن راهويه المشهور، المحدث، الفقيه، الذي وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وهو وصف رفيع لم يظفر به إلا عدد قليل من المحدثين، وهو محدث، فقيه، حديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه فإنه لم يخرج له شيئاً.

[أخبرنا عيسى بن يونس ].

هو عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، وجده أبو إسحاق السبيعي، وهو ثقة، مأمون، خرج حديثه أصحاب الكتب الستة.

[ حدثنا الأعمش ].

وهو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي، وهو ثقة، خرج حديثه أصحاب الكتب الستة، وهو مشهور بلقبه، ويأتي ذكره باسمه، وذكره بلقبه، وقد جاء في هذا الإسناد بـالأعمش، وفي الإسناد الذي يليه جاء بـسليمان، وسليمان هو الأعمش، أي أنه جاء في إسناد باسمه، وفي إسناد بلقبه.

ومعرفة ألقاب المحدثين هي نوع من أنواع علوم الحديث، ولها أهمية، وتظهر أهميتها بحيث لا يظن الشخص الواحد شخصين إذا ذكر مرة باسمه ومرة بلقبه، فالذي لا يعرف أن هذا اسم وهذا لقب لشخص واحد يظن أن هذا شخص وهذا شخص، أي: إذا كان سليمان موجود في إسناد كما في الإسناد الذي بعد هذا، والأعمش في إسناد كما في هذا الإسناد، يظن أن سليمان غير الأعمش، وأن الأعمش غير سليمان، ولكن الذي يعرف أن الأعمش لقب لـسليمان لا يلتبس عليه الأمر، فلا يظن الشخص الواحد شخصين، بل يعرف أن هذا شخص واحد ذكر مرة باسمه ومرة بلقبه.

وقد أوصلها ابن الصلاح إلى فوق الستين، وزاد عليه غيره، وهذا نوعٌ من أنواع هذه العلوم، وهذه العلوم -التي هي علوم الحديث- نوع من أنواع علوم الحديث. وهو ثقة مدلس، خرج حديثه أصحاب الكتب الستة.

[ عن إبراهيم ].

وإبراهيم هو ابن يزيد بن قيس النخعي الكوفي ، وهو ثقة، محدث، فقيه، معروف بالحديث، وبالفقه، ويأتي ذكره كثيراً في كتب الفقه، فإذا قيل: إبراهيم في عد الفقهاء يحمل على إبراهيم النخعي .

وقد ذكر ابن القيم في كتاب زاد المعاد في هدي خير العباد عندما جاء عند ذكر الذباب إذا وقع في الإناء، وأن الإنسان يغمسه، ثم يزيله، ويشرب الماء، قال: استدل به بعض العلماء على أن ما لا نفس له سائلة لا ينجس الماء إذا مات فيه، ووجه الاستدلال أن الماء قد يكون حاراً، وإذا وقع الذباب، وغمس فيه فيترتب عليه الموت، فيكون الذباب مات في ماء حار، والذباب لا نفس له سائلة، أي: ليس له دم؛ لأن الدم يقال له: نفس، فيقال: ما لا نفس له سائلة لا ينجس الماء إذا مات فيه.

قال ابن القيم : وأول من عرف عنه في الإسلام أنه عبر بهذه العبارة فقال: (ما لا نفس له سائلة): إبراهيم النخعي ، وعنه تلقاها الفقهاء من بعده، فهو أول من عبر بهذه العبارة عن مثل الجراد، والذباب، وغير ذلك من الحيوانات التي ليس فيها دم، فإن موتها في الشيء لا يؤثر، وإبراهيم النخعي خرج حديثه أصحاب الكتب الستة.

[ عن الأسود ].

والأسود خال إبراهيم، وهو الأسود بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي، وهو ثقة، مخضرم، فقيه، خرج حديثه أصحاب الكتب الستة، وهو من المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية، والإسلام، ولم يروا النبي صلى الله عليه وسلم.

[قال: دخلت أنا وعلقمة ].

علقمة هو ابن قيس بن عبد الله النخعي الكوفي ، وهو ثقة، فقيه، عابد، خرج حديثه أصحاب الكتب الستة، وهو ليس من رجال الإسناد هنا، وإنما ذكره الأسود ، قال: دخلت أنا وعلقمة على ابن مسعود ، فهو ليس من رجال الإسناد، ولكن الإسناد الذي بعده هو من رجاله؛ لأن إبراهيم يقول: عن علقمة، والأسود معناه: أنه يروي عنهما، فيكون علقمة في الإسناد الثاني من رجال الإسناد، وأما في هذا الإسناد الأول فهو ليس من رجاله، وإنما الذي يسند الحديث هو الأسود ، ويحكي أنه كان معه علقمة عندما فعل، وأن ابن مسعود فعل هذا الذي ذكره.

و عبد الله بن مسعود الهذلي هو أحد فقهاء الصحابة، وأحد علماء الصحابة رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وليس هو من العبادلة الأربعة المشهورين؛ لأنه متقدم الوفاة عن العبادلة الأربعة الذين هم من صغار الصحابة، وقد عده بعضهم أنه من العبادلة الأربعة، ولكن الصحيح والمشهور أن المراد بهم أربعة من صغار الصحابة، وهم: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير.

فـعبد الله بن مسعود ليس معهم؛ لأنه متقدم الوفاة؛ لأن وفاته سنة (32هـ)، وأما أولئك فكانوا بعد الستين، أي: تأخرت وفاتهم، واستفاد الناس منهم، رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.

طريق أخرى لحديث عبدالله بن مسعود في تشبيك الأصابع في المسجد وتراجم رجال إسنادها

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا النضر أخبرنا شعبة عن سليمان سمعت إبراهيم عن علقمة والأسود عن عبد الله فذكر نحوه ].

وهنا أورد النسائي الحديث بطريق أخرى من طريق إسحاق بن إبراهيم .

قوله: [ أخبرنا النضر ].

النضر هو ابن شميل ، وهو ثقة، خرج حديثه أصحاب الكتب الستة.

[ أخبرنا شعبة ].

هو شعبة بن الحجاج ، وهو الذي وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

[ عن سليمان ].

سليمان ، هو الأعمش ، فهنا ذكر باسمه، وفي الإسناد الذي قبله بلقبه، وهو سليمان بن مهران الكاهلي.

[ سمعت إبراهيم عن علقمة والأسود ].

في الإسناد الأول الأعمش عنعن، وهنا صرح بالسماع من إبراهيم ، والأعمش مدلس كما عرفنا، وقد صرح بالسماع في الطريق الثانية.

وفي الطريق الثانية إبراهيم يروي عن علقمة، والأسود ، فـعلقمة هو من رجال الإسناد في الطريق الثانية، وليس من رجال الإسناد في الطريق الأولى.

[ عن عبد الله ].

أي: علقمة والأسود يرويان عن ابن مسعود ، فيكون الحديث من روايتهما جميعاً، ولكن في الطريق الأولى من رواية الأسود وحده.

[ قال: فذكر نحوه ].

كلمة نحوه ومثله، إذا جاءت (مثله)، معناه، أن اللفظ مطابق للمتن، فالمتن مطابق للمتن، اللفظ مثل اللفظ، هذه كلمة مثله.

وأما إذا قيل: نحوه، فهو مقارب له، أي: بالمعنى وليس مطابقاً باللفظ، مثل كلمة مثله؛ لأن قول: نحوه، يشعر بالقرب، وليس بالمماثلة، بخلاف مثله، فإنه يدل بلفظه على المماثلة، فهذا هو الفرق بين مثله ونحوه إذا جاء ذكرهما في مثل هذا الموضع، حيث يُذكر حديث بلفظه دون إسناده، ومتنه، ثم يذكر الحديث بإسناد آخر، ويحال على اللفظ المتقدم بكلمة (نحوه)، فهي تختلف عن كلمة (مثله).

الاستلقاء في المسجد

شرح حديث عبدالله بن زيد: (أنه رأى رسول الله مستلقياً في المسجد واضعاً إحدى رجليه على الأخرى)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ الاستلقاء في المسجد.

أخبرنا قتيبة عن مالك عن ابن شهاب عن عباد بن تميم عن عمه رضي الله عنه: ( أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مستلقياً في المسجد؛ واضعاً إحدى رجليه على الأخرى ) ].

هنا أورد النسائي حديث عبد الله بن زيد بن عاصم المازني رضي الله تعالى عنه (أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مستلقياً في المسجد واضعاً إحدى رجليه على الأخرى).

والترجمة التي عقدها النسائي هي الاستلقاء في المسجد، أي: أن ذلك سائغ وجائز، وقد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين ذلك عبد الله بن زيد بن عاصم المازني رضي الله عنه حيث قال: (أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مستلقياً في المسجد)، أي: على قفاه مستلقياً واضعاً إحدى رجليه على الأخرى، وهو يدل على جواز الاستلقاء، ووضع إحدى الرجلين على الأخرى في حال الاستلقاء، ولكن هذا الوضع إذا كانت الرجلان ممدودتين فالأمر ليس فيه إشكال، ولكن لو كانت إحدى الرجلين منصوبة ثم وضع الأخرى عليها فإن هذا يشترط فيه أن لا يكون معه انكشاف العورة، والحديث يحتمل الأمرين؛ لأن وضع الرجل على الأخرى يحتمل أن تكون ممدودتين، ويحتمل أن تكون إحداهما منصوبة والأخرى عليها، ولكن الحالة الأولى الأمر فيها واضح من ناحية ستر العورة؛ لأن كون الرجلين ممدودتين، وواحدة فوق الثانية لا يؤثر شيئاً، مثلما لو كانت ممدودتين جميعاً، ولكن الإشكال فيما لو نصب إحداهما ووضع الثانية عليها فإن هذا قد يكون فيه انكشاف للعورة، فإذا أمن ذلك فمحتمل الوضع أن يكون هذا، وأن يكون هذا، وكل يطلق عليه أنه وضع إحدى الرجلين على الأخرى.

تراجم رجال إسناد حديث عبدالله بن زيد: (أنه رأى رسول الله مستلقياً في المسجد واضعاً إحدى رجليه على الأخرى)

قوله: [ أخبرنا قتيبة ].

قتيبة ، وهو ابن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني ، وهو ثقة، خرج حديثه أصحاب الكتب الستة.

[ عن مالك ].

هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة، المحدث، الفقيه، أحد الأئمة الأربعة المشهورين الذين لهم مذاهب عني بها ودونت، وصار لهم أصحاب عنوا بجمع أقوالهم ومذاهبهم، واشتهرت بسبب ذلك.

وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

[ عن ابن شهاب ].

وهو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب ، وهو مشهور بنسبته الزهري ، وكذلك نسبته إلى جده شهاب ، فيقال: ابن شهاب ، ويقال: الزهري ، وهو ثقة، إمام، جليل، محدث، فقيه، من أوعية العلم، خرج حديثه أصحاب الكتب الستة.

[ عن عباد بن تميم ].

هو عباد بن تميم المازني ، وهو ثقة، خرج حديثه أصحاب الكتب الستة.

[ عن عمه ].

عمه هو عبد الله بن زيد بن عاصم المازني ، وهو صحابي مشهور، خرج حديثه أصحاب الكتب الستة، وهو عمه لأبيه ؛ لأن هذا عباد بن تميم بن غزية المازني ، وأما هذا الصحابي عبد الله بن زيد فهو عمه لأبيه، يعني: عم عباد لأبيه؛ لأن تميم وعبد الله أخوان لأم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح سنن النسائي - كتاب المساجد - (باب النهي عن إنشاد الضالة في المسجد) إلى (باب الاستلقاء في المسجد) للشيخ : عبد المحسن العباد

https://audio.islamweb.net