إسلام ويب

إن شريعة الإسلام جاءت بالتيسير ورفع الحرج، ومما جاءت به التيمم بالصعيد الطيب من تراب ونحوه مما علا الأرض، وكيفية التيمم الضرب بالكفين على الصعيد الطاهر ومسح الوجه ثم ظاهر الكفين لمن كان محدثاً حدثاً أصغر أو أكبر، ولابد من الترتيب والموالاة كالوضوء، ويبطل

شروط التيمم

قال المصنف رحمه الله: [ويجب التيمم بتراب طهور غير محترق له غبار، وفروضه مسح وجهه ويديه إلى كوعيه، وكذا الترتيب والموالاة في حدث أصغر، وتشترط النية لما تيمم له من حدث أو غيره، فإن نوى أحدها لم يجزئه عن الآخر، وإن نوى نفلاً أو أطلق لم يصل به فرضاً، وإن نواه صلى كل وقته فروضاً ونوافل، ويبطل التيمم بخروج الوقت، وبمبطلات الوضوء، وبوجود الماء ولو في الصلاة لا بعدها، والتيمم آخر الوقت لراجي الماء أولى، وصفته أن ينوي ثم يسمي، ويضرب التراب بيديه مفرجتي الأصابع، يمسح وجهه بباطنهما، وكفيه براحتيه، ويخلل أصابعه].

تقدم لنا في الدروس السابقة ما يتعلق بتعريف التيمم، وذكرنا أن التيمم من خصائص هذه الأمة، وهل التيمم مبيح أو رافع، وما يترتب على ذلك من خلاف، وأن الصواب في هذه المسألة: أن التيمم رافع للحدث، كما يرفع الماء، إلا أن الفرق بين الماء وبين التراب: أن الماء يرفع الحدث رفعاً مطلقاً، وأما التراب فإنه يرفع إلى وجود الماء.

ثم بعد ذلك قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ويجب التيمم بتراب طهور).

أن يكون بتراب

قول المؤلف رحمه الله تعالى: (يجب التيمم بتراب) أي: فلا يصح التيمم بشيء آخر من صعيد الأرض غير التراب، فلا يصح أن يتيمم على صخر، ولا رمل، ولا غير ذلك من أجزاء الأرض، لا بد أن يتيمم بالتراب، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وكذلك أيضاً هو قول الشافعي ، واستدلوا على ذلك بحديث حذيفة وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( جعلت لنا الأرض كلها مسجداً وطهوراً، وتربتها طهوراً )، رواه مسلم .

والرأي الثاني في المسألة: أنه يصح التيمم بكل ما تصاعد على وجه الأرض، فكل ما كان من جنس الأرض فإنه يصح التيمم عليه، فيصح التيمم بالتراب، وعلى الرمل، وعلى الصخور والحجارة ونحو ذلك، ودليل ذلك قول الله عز وجل: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء:43] ، فقوله: (صعيداً) يشمل كل ما يتصاعد على وجه الأرض، وهذا رأي أبي حنيفة ومالك رحمهما الله، وهو الصواب، ويدل له أيضاً ما ثبت في الصحيحين (أن النبي صلى الله عليه وسلم تيمم على الجدار)، والجدار من جنس الأرض.

كذلك أيضاً قول الله عز وجل: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء:43] ، هذا يدل لما ذهب إليه أبو حنيفة ومالك من أن كل ما تصاعد على وجه الأرض يصح التيمم عليه، وهذا أيضاً هو الذي يناسب الرخصة؛ لأن التيمم شرع توسعة على هذه الأمة، وخصت به هذه الأمة، والله عز وجل لما ذكر التيمم قال: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ [المائدة:6] ، فدل ذلك على أن التيمم قصد به رفع الحرج، فلا يشدد فيه.

طهارة التراب

قال المؤلف رحمه الله: (طهور).

يشترط في هذا التراب أن يكون طهوراً، وعلى هذا لا يصح التيمم على تراب نجس، ولا على تراب طاهر، ونأخذ من هذا أنهم يقسمون التراب كما يقسمون الماء؛ لأن التراب بدل عن الماء، فيقسمون التراب إلى ثلاثة أقسام: تراب طهور، وتراب طاهر، وتراب نجس، فالذي يصح التيمم عليه هو التراب الطهور، أما التراب الطاهر فإنه لا يصح التيمم عليه.

وما هو التراب الطاهر؟

التراب الطاهر: هو التراب المستعمل في طهارة واجبة، مثال ذلك: ضربت على الأرض ثم بعد ذلك مسحت وجهك وكفيك، هذا التراب المتساقط مستعمل في طهارة واجبة، فما يصح التيمم عليه لو تجمع، يعني: التراب المتساقط من وجهك ويديك تراب طاهر لا يصح التيمم عليه، كما تقدم لنا في الماء؛ أن الإنسان إذا توضأ فغسل الغسلة الأولى، وتجمع من هذه الغسلة شيء من الماء، فهذا الماء استعمل في طهارة واجبة، وانقلب إلى كونه طاهراً فلا يصح أن تتوضأ به مرةً أخرى، فكذلك أيضاً يقول لك المؤلف رحمه الله تعالى: الطاهر هو المستعمل في طهارة واجبة لا يصح به التيمم.

ولو أنه ضرب ضربتين -كما سيأتينا إن شاء الله أنهم يقولون: بأن الضربتين مباحتان- المتساقط من الضربة الأولى يكون طاهراً، والمتساقط من الضربة الثانية يكون طهوراً؛ لأنه لم يستعمل في طهارة واجبة، إنما المستعمل في الطهارة الواجبة هو الضربة الأولى، أما الضربة الثانية فليست واجبة، وأما التراب النجس فهو الذي أصابه نجاسة.

ولو كان عنده إناء وهذا الإناء فيه تراب، ثم ضرب عليه وتيمم، هل هذا التراب في الإناء يكون مستعملاً في طهارة واجبة أو ليس مستعملاً في طهارة واجبة؟

يقولون هذا ليس مستعملاً في طهارة واجبة؛ لأنه كان عندك إناء ثم ضربت عليه ومسحت وجهك وكفيك، فهذا يقولون: بمنزلة الوضوء من الحوض، كما أنك تتوضأ من الحوض فكذلك أيضاً تتيمم على هذا التراب، فلا يكون طاهراً وإنما هو طهور.

فتلخص لنا: أن التراب الطاهر هو المستعمل في طهارة واجبة أي: المتساقط، أما إذا ضربت على هذا الإناء وتيممت فإن هذا بمنزلة الوضوء والاغتراف من الحوض وهذا لا يضر.

وأما التراب النجس فهو التراب الذي أصابته نجاسة من بول أو دم مسفوح ونحو ذلك، وهذا لا يصح التيمم عليه، والصواب في ذلك: أن البدل له حكم المبدل، وكما تقدم لنا أن الماء ينقسم إلى قسمين: طهور ونجس، فكذلك أيضاً نقول: بالنسبة للتراب نقول: بأنه ينقسم إلى قسمين: طهور ونجس.

ألا يكون التراب محترقاً

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (غير محترق).

فاشترط المؤلف رحمه الله أن يكون تراباً.

والشرط الثاني: أن يكون طهوراً.

والشرط الثالث قال: (غير محترق)، وعلى هذا إذا كان هذا التراب محترقاً فإنه لا يصح التيمم به، فعندك مثلاً: الإسمنت، هو من جنس الأرض لكنه محترق لا يصح التيمم به، وكذلك الآجر محترق، وهو ما عمل من الطين وشوي بالنار فصار فخاراً، لا يصح التيمم عليه.

والصواب في هذه المسألة: أن التيمم على كل ما تصاعد على وجه الأرض سواء كان محترقاً أو غير محترق، كما ذكرنا أن الله سبحانه وتعالى قال: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء:43] ، وهذا يشمل المحترق وغير المحترق، وعلى هذا إذا كان عندنا شيء من جنس الأرض وهو محترق فإنه يصح أن تتيمم عليه كالفخار ونحو ذلك.

أن يكون للتراب غبار

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (له غبار).

الشرط الرابع: أن يكون له غبار، وعلى هذا فالتراب إذا لم يكن له غبار فإنه لا يصح التيمم به، واستدلوا على ذلك بقول الله سبحانه وتعالى: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [المائدة:6]، وقالوا: (من) للتبعيض، مما يدل ذلك على اشتراط وجود الغبار.

والرأي الثالث رأي مالك وأبي حنيفة : أنه لا يشترط أن يكون له غبار، حتى لو تيمم على صخرة مغسولة فإنه يصح؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [المائدة:6]، فهذا يشمل كل ما صعد على وجه الأرض، و(من) الصحيح أنها ليست للتبعيض، وإنما هي لابتداء الغائب، كما لو قلت: سافرت من مكة إلى المدينة، يعني: أن السفر مبتدأ من مكة، فكذلك أيضاً التيمم مبتدأ من الصعيد، فالمسح مبتدأ من الصعيد، فالصواب في ذلك أنه لا يشترط أن يكون له غبار كما هو قول أبي حنيفة ومالك خلافاً لمذهب أحمد والشافعي .

أقسام ما يتيمم به

الخلاصة في ما يتيمم به ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: أن يكون من جنس الأرض، فهذا لا نشترط أن يكون له غبار، فيصح أن تتيمم على الرمل وعلى التراب، ويصح أيضاً على الرخام؛ لأنه من جنس الأرض، ويصح أن تتيمم على الصخر وعلى الجبل، وعلى الجدار من الطين؛ لأن الطين من جنس الأرض، وكذلك إذا كان من الإسمنت وليس عليه طلاء فيصح أن تتيمم عليه؛ لأن الإسمنت من جنس الأرض، كذلك يصح أن تتيمم على البلاط؛ لأن البلاط من جنس الأرض، فكل ما كان من جنس الأرض يصح أن تتيمم عليه سواء كان من تراب أو رمل أو صخر أو حجر أو جداراً من إسمنت أو جداراً من طين ونحو ذلك.

القسم الثاني: ألا يكون من جنس الأرض، كما لو تيمم على الفرش، أو تيمم على طاولة الخشب، أو تيمم على الشجر ونحو ذلك، فهنا نقول: لا بد أن يكون هناك غبار؛ لأن التيمم يكون على هذا الغبار الذي هو من جنس الأرض، فإذا كان ليس من جنس الأرض كالفرش والطاولة، وكذلك الشجر ونحو ذلك، هنا نقول: لا بد أن يكون عليه غبار؛ لأن التيمم يكون بهذا الغبار الذي هو من جنس الأرض.

أركان التيمم

مسح الوجه واليدين

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وفروضه مسح وجهه).

فروض التيمم أي: أركان التيمم.

الركن الأول: مسح الوجه، بالإجماع أن مسح الوجه لا بد منه في التيمم، ودليل ذلك القرآن والسنة كما في قول الله عز وجل: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [المائدة:6]، وكما في حديث عمار رضي الله تعالى عنه، وهل يجب أن يمسح الشعر أو لا يجب؟

سبق أن تكلمنا عليه، وذكرنا أن تطهير الشعر فيما تقدم ينقسم إلى ثلاثة أقسام.

قال: (ويديه إلى كوعيه).

هذا الركن الثاني، وهذا أيضاً دل له القرآن والسنة، أما القرآن فقول الله عز وجل: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [المائدة:6].

وأما السنة فكما في حديث عمار رضي الله تعالى عنه في الصحيحين ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح ظاهر كفيه ووجهه ).

وقول المؤلف رحمه الله تعالى: (إلى كوعيه) هذا هو المشهور من المذهب، وعند أبي حنيفة والشافعي : أنه يتيمم إلى المرفقين؛ لأن هذا ثابت عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما بإسناد صحيح على سبيل الوجوب، وعند مالك : يتيمم إلى المرفقين على سبيل الاستحباب.

والصواب في هذه المسألة ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله وهو المشهور من المذهب: أنه يتيمم إلى الكوعين؛ لما تقدم من حديث عمار رضي الله تعالى عنه، وأما ما ورد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فهو مخالف لما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم.

الترتيب والموالاة

قال رحمه الله: (وكذا الترتيب).

الركن الثالث: الترتيب، ويعني: الترتيب بين الوجه وبين اليدين، فيبدأ أولاً بمسح الوجه، ثم بعد ذلك يمسح يديه، يرتب بينهما، لكن المؤلف رحمه الله اقتصر على وجوب الترتيب، وأنه ركن في الحدث الأصغر دون الحدث الأكبر، فيقول المؤلف رحمه الله: لا بد من الترتيب، لكن المؤلف خصه -كما سيأتينا- بالحدث الأصغر.

والرأي الثاني رأي الإمام مالك رحمه الله: أن الترتيب سنة.

والصواب في ذلك: أن الترتيب كما تقدم لنا أنه من أركان الوضوء، فكذلك يكون من أركان التيمم، وسبق أن ذكرنا قاعدة: وهي أن كل عبادة مركبة من أجزاء لا بد فيها من أمرين: الترتيب، والموالاة؛ لكي تكون موافقةً لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، فالصواب: أن الترتيب لا بد منه.

قال المؤلف رحمه الله: (والموالاة).

أيضاً يقول المؤلف رحمه الله تعالى: إن الموالاة بين مسح الوجه واليدين ركن من أركان التيمم، وهو الركن الرابع، فلا يفصل بين مسح اليدين ومسح الوجه بفاصل طويل بحيث لو كان الوجه مغسولاً لجف في زمن معتاد، فالموالاة هنا كالموالاة في الوضوء، والموالاة في الوضوء عنها قالوا: ألا يؤخر غسل العضو الثاني حتى ينشف الذي قبله بزمن معتاد، فلا يؤخر مسح اليدين حتى ينشف الوجه لو كان مغسولاً بزمن معتاد، وسبق أن الصواب في الموالاة أنه لا بد منها في الوضوء، لكن ضابط الفاصل الذي يخل بالموالاة مرجعه إلى العرف، فإن كان الفاصل قصيراً عرفاً فإن هذا مغتفر، وإن كان طويلاً عرفاً فإنه غير مغتفر، وذكرنا رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو عن الإمام مالك أنه إذا أخل بالموالاة لعذر فإنه لا يضر، وكذلك لو أخل في الموالاة في التيمم بين مسح الوجه واليدين فإنه لا يضر، كذلك أيضاً الترتيب يسقطه العذر، فإذا حصل عذر لإسقاطه فإن هذا لا يضر.

قال المؤلف رحمه الله: (في حدثٍ أصغر).

يقول المؤلف رحمه الله: إن الترتيب والموالاة كل منهما ركن للحدث الأصغر، أما الحدث الأكبر كما لو تيمم -مثلاً- عن جنابة فإن الترتيب ليس ركناً، فلو بدأ باليدين قبل وجهه، أو مسح الوجه وأخر مسح اليدين فإن هذا لا يضر، ولماذا ليسا ركنين؟

يقولون: البدل له حكم المبدل، وفي الحدث الأكبر البدن كعضو واحد، فلو بدأت الغسل برجليك ولم تبدأ برأسك فالغسل صحيح، وما أحد يقول: بأن الغسل باطل، فكذلك إذا تيمم لا يشترط الترتيب، وليس ركناً، والبدل له حكم المبدل، ومثله الموالاة، فلو غسلت نصف بدنك في الساعة السابعة ثم أكملته في الساعة التاسعة يقولون: بأن هذا مجزئ؛ لأن البدن كالعضو الواحد فيجزئ، أما بالنسبة للموالاة في الوضوء فلا إشكال أنه لا بد منها، لكن الترتيب في الغسل يسقط، ولا يلزم من سقوطه في الغسل أن يسقط في التيمم؛ لأن البدن في الغسل كالعضو الواحد، أما في التيمم فعندنا عضوان.

فالخلاصة في ذلك: أن الترتيب والموالاة ركن في الوضوء، وكذلك أيضاً في التيمم، وأما في الغسل فالموالاة ركن دون الترتيب، فالأقسام ثلاثة، وسبق أن ذكرنا بأن كلاً من الترتيب والموالاة يسقط بالعذر، وهذا لا فرق فيه بين الوضوء والغسل والتيمم.

نية التيمم

حكم نية التيمم

قال رحمه الله تعالى: (وتشترط النية لما تيمم له من حدث أو غيره، فإن نوى أحدها لم يجزئه عن الآخر).

يقول لك المؤلف رحمه الله: (تشترط النية)؛ لحديث عمر المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ).

وقوله رحمه الله: (لما يتيمم له) يعني: تشترط النية للعبادة التي يتيمم لها، فقد يتيمم لعبادة واجبة، وقد يتيمم لعبادة مستحبة، قد يتيمم لصلاة، وقد يتيمم لطواف، وقد يتيمم لقراءة أو لمس المصحف، أو نحو ذلك.

قوله رحمه الله: (من حدث أو غيره) كذلك أيضاً تشترط النية لما يتيمم عنه من الحدث.

وغير الحدث كالنجاسة التي تكون على بدنه، وسبق أن ذكرنا أنهم يرون التيمم عن النجاسة على البدن، وأما إذا كانت النجاسة على الثوب فلا يتيمم عنه، وإذا كانت على البقعة التي يصلى عليها فلا يتيمم عنه، لكن إذا كانت على البدن فيرون أنه يتيمم عنه، والصواب -كما ذكرنا- أن النجاسة لا يتيمم عنها، وهذا قول جمهور أهل العلم، بل النجاسة تخفف على حسب الاستطاعة، وأما التيمم عنها فإنه لا يتيمم عن النجاسة؛ لأن الشرع لم يرد بالتيمم عن النجاسة وإنما ورد بالتيمم عن الحدث.

صور نية التيمم عن الحدث

والتيمم عن الحدث له صور:

الصورة الأولى: أن ينوي الحدثين، يعني بتيممه الحدث الأكبر والأصغر، ولنفرض أن هذا الرجل وجب عليه حدثٌ أصغر وأكبر فنقول: إذا نوى بتيممه رفع الحدثين فنقول: بأنه يجزئه.

الصورة الثانية: أن ينوي بتيممه الحدث الأكبر، فهل يجزئه عن الحدث الأصغر أو لا يجزئه؟

قال لك المؤلف رحمه الله تعالى: (لم يجزئه عن الآخر).

والصواب في ذلك -كما تقدم لنا في الوضوء والغسل-: أنه إذا اغتسل فإنه يرتفع الحدث الأصغر، فكذلك إذا نوى التيمم عن الحدث الأكبر فإنه يرتفع أيضاً الحدث الأصغر.

الصورة الثالثة: أن ينوي التيمم عن الحدث الأصغر فهل يجزئه عن الأكبر أو لا؟

المؤلف رحمه الله يقول: لا يجزئه عن الأكبر، ولو قيل: بأنه يجزئه صح ذلك؛ لأن الصورة واحدة، يعني صورة التيمم عن الوضوء، وكيفية التيمم عن الغسل واحدة، فيظهر -والله أعلم- بأنه إذا تيمم عن الحدث الأصغر فإنه يرتفع الأكبر.

أثر نية التيمم في التمييز بين العباد

ثم شرع المؤلف فيما يتيمم له من العبادات، فقال: (وإن نوى نفلاً أو أطلق لم يصل به فرضاً، وإن نواه) يعني: نوى الفرض (صلى كل وقته فروضاً ونوافل).

هذه المسألة مبنية على مسألة تقدمت وهي التيمم هل هو رافع أو مبيح؟ فهم يرون أن التيمم مبيح، وأنه طهارة ضرورة، وعلى هذا إذا نوى عبادةً بتيممه فإنه يستبيح العبادة ومثلها ودونها، أما أعلى منها فإنه لا يستبيحها، وعلى هذا فهم يرتبون العبادات كما يلي: أعلى شيء فرض العين، ثم النذر، ثم بعد ذلك فرض الكفاية، ثم بعد ذلك صلاة النافلة، ثم بعد ذلك طواف النافلة، ثم بعد ذلك مس المصحف، ثم قراءة القرآن، ثم اللبث في المسجد.

وعلى هذا لو تيمم لصلاة العيد، -وهي فرض كفاية- ثم تذكر أنه ما صلى الفجر فهل يصلي بهذا التيمم صلاة الفجر أو لا؟

لا يصلي؛ لأنه يستبيح به فرض الكفاية وفرض العين أعلى منه، ولكن لو تيمم لصلاة العيد ثم حضرت جنازة فهل يصلي على الجنازة أو لا يصلي نقول: يصلي؛ لأن كلاً منهما فرض كفاية متساوية، ولو تيمم لصلاة العيد، فهل يصلي صلاة الضحى أو لا يصلي الضحى؟ نقول: يصلي الضحى؛ لأن صلاة الضحى أقل، وهذا -كما ذكرنا- يبنونه على ما تقدم من أن التيمم هل هو رافع أو مبيح؟ والصواب في ذلك ما ذهب إليه أبو حنيفة رحمه الله تعالى من أن التيمم رافع، وعلى هذا إذا تيمم لعبادة من العبادات صلى بهذا التيمم ما شاء من الفروض والنوافل.

مبطلات التيمم

قال رحمه الله: (ويبطل التيمم بخروج الوقت).

أيضاً هذا متفرع على ما سبق هل التيمم رافع أو مبيح؟ قال لك: (ويبطل التيمم بخروج الوقت) يعني: يرون أن التيمم يبطل بخروج الوقت، وكذلك أيضاً يبطل بدخوله، وعلى هذا إذا تيمم لصلاة المغرب ثم غاب الشفق الأحمر ودخل وقت صلاة العشاء فلا بد أن يعيد التيمم مرةً أخرى، وهذا مبني على أن التيمم مبيح، وإذا قلنا: بأن التيمم رافع كالماء فإن طهارة الماء لا تبطل بخروج الوقت ولا بدخوله، فكذلك أيضاً نقول: التيمم طهارته لا تبطل بدخول الوقت ولا خروجه، والبدل له حكم المبدل.

قال رحمه الله: (وبمبطلات الوضوء).

يعني: يبطل التيمم بمبطلات الوضوء، وهذا بالإجماع، كما أن الوضوء يبطل بالريح، وبالبول، وبالغائط، فكذلك أيضاً التيمم يبطل بها؛ لأن البدل له حكم المبدل، فإذا كان الوضوء -وهو الأصل- يبطل بهذه المبطلات فالتيمم -وهو بدله- من باب أولى، فالمبطل الأول: دخول الوقت وخروجه، وهذا قلنا: فيه نظر، والمبطل الثاني من مبطلات التيمم مبطلات الوضوء.

قال رحمه الله: (وبوجود الماء ولو في الصلاة).

المبطل الثالث من مبطلات الوضوء: وجود الماء، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته )، هذا يدلك على أنه إذا وجد الماء فإنه يبطل التيمم، والله سبحانه وتعالى يقول: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً [المائدة:6] ، فدل ذلك على أن التيمم مشروع عند وجود الماء.

قال رحمه الله: (ولو في الصلاة).

يعني رجل بحث عن الماء فما وجد، ثم تيمم وشرع يصلي، فجاء الماء فهل تبطل صلاته ببطلان تيممه أو نقول: بأنه يمضي في صلاته؟

المؤلف رحمه الله يقول: تبطل صلاته؛ لما تقدم من حديث أبي ذر : ( فإذا وجد الماء فليتق الله، وليمسه بشرته )، وهذا رأي أبي حنيفة أيضاً.

والرأي الثاني رأي مالك والشافعي : أنه يمضي في الصلاة؛ لأنه مأذون له في الصلاة ما دام أنه لم يجد الماء، وما يترتب على المأذون غير مضمون.

والأقرب في هذا أن يقال: إن صلى ركعة ثم وجد الماء فإنه يمضي؛ لأنه أدرك الصلاة، كما في حديث أبي هريرة في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أدرك ركعةً من الصلاة فقد أدرك الصلاة )، فنقول: إن صلى ركعة ثم جاء الماء فإنه يمضي، أما إن جاء الماء قبل أن يصلي ركعةً فليتق الله وليمسه بشرته.

وقت التيمم

قال المؤلف رحمه الله: (والتيمم آخر الوقت لراجي الماء أولى).

يعني: إذا دخل الوقت وأنت ليس عندك ماء فلك أن تتيمم وتصلي جوازاً، لكن هل الأفضل أن تؤخر علك تجد ماء، أو الأفضل أن تبادر بالتيمم للصلاة؟ نقول: من حيث الجواز لك أن تتيمم وتصلي، لكن لا بد أن نفرق بين مسألة الجواز ومسألة الأفضلية، وهذا له ثلاث صور:

الصورة الأولى: أن يغلب على ظنه أنه يجد الماء في آخر الوقت، يعني الآن ما عنده ماء، ويغلب على ظنه أنه بعد ساعة -مثلاً- سيأتي الماء، فنقول: الأفضل أن يؤخر، إذا كان يغلب على ظنه، ومن باب أولى إذا كان يعلم أن الماء سيأتي فنقول: الأفضل أن تؤخر لورود ذلك عن علي رضي الله تعالى عنه، ما لم يترتب على هذا التأخير ترك واجب كجماعة ونحو ذلك فنقول حينئذٍ: بادر في الصلاة.

الصورة الثانية: أن يغلب على ظنه -ومن باب أولى أن يعلم- أنه لن يجد الماء في آخر الوقت، فنقول: الأفضل أن تبادر وتصلي الصلاة في أول وقتها؛ لكي تدرك الفضيلة أول الوقت.

الصورة الثالثة: أن يتساوى عنده الأمران: يحتمل أن الماء يوجد في آخر الوقت، ويحتمل أنه لا يوجد، المذهب يقول: الأفضل أن يؤخر، والصواب في ذلك أن الأفضل أن يبادر إدراكاً لفضيلة أول الوقت.

صفة التيمم

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وصفته أن ينوي ثم يسمي ويضرب..).

النية والتسمية

قوله: (صفته) يعني: كيفيته، ولما ذكر المؤلف رحمه الله أركان التيمم، وشروطه إلى أن ذكر مبطلات التيمم.

قال رحمه الله: (صفته أن ينوي).

أي: لا بد من النية كما تقدم، وتقدم دليلها.

قال: (ثم يسمي) أيضاً تقدم الكلام على التسمية فلا حاجة إلى إعادته، وسبق أن بينا أن المذهب يقولون: بأن التسمية واجبة مع الذكر في الوضوء والغسل والتيمم؛ لأنه بدل عنه.

ضرب التراب

قال المؤلف رحمه الله: (ويضرب التراب).

قوله: (التراب) لأنهم يشترطون التراب، والصواب أن يقول: ويضرب الصعيد؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [المائدة:6] .

قال رحمه الله: (بيديه مفرجتي الأصابع).

أما قوله: (بيديه) فكما دل له حديث عمار رضي الله تعالى عنه، قال: (مفرجتي الأصابع) ظاهر حديث عمار رضي الله تعالى عنه أنه لا يشترط التفريج هذا، وكما ذكرنا التيمم ليس فيه طهارة حسية، وإنما طهارته معنوية، فسواء فرج أو لم يفرج، وكونه يدخل التراب أو الغبار هذا ليس فيه طهارة، فالتيمم -كما ذكرنا- رخصة، فلا يثقل فيه ولا يشدد، إذاً قوله: (مفرجتي الأصابع) هذا فيه نظر.

مسح الوجه والكفين

قال رحمه الله: (يمسح وجهه بباطنهما، وكفيه براحتيه).

يعني: تضرب على التراب ثم تمسح وجهك بباطن الأصابع، ويبقى الكفان بدون أن تمسح بهما؛ لأنك إذا مسحت بها فالتراب الذي عليهما سوف يكون مستعملاً، فينقلب من كونه طهوراً إلى كونه طاهراً، فأنت تضرب ضربة واحدة وتمسح بباطن أصابعك الوجه، ثم الراحتين للكفين، هكذا على المذهب، والصواب: أنك تضرب ضربة واحدة وتمسح وجهك وكفيك، هذه كيفية التيمم، وكما الشعر لا يجب تطهيره في التيمم، هذا هو الصواب في كيفية التيمم والتي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، واختارها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، أما كلام المؤلف رحمه الله فهو مبني على أن التراب ينقسم إلى طهور وطاهر.

تخليل الأًصابع

قال رحمه الله: (ويخلل أصابعه).

يقول رحمه الله: يخلل أصابعه ليصل التراب إليهما، وهذا التخليل أيضاً فيه نظر، والصواب أنه لا حاجة إلى التخليل؛ لأنه لم يرد، وكما ذكرنا أن التيمم شرع لرفع الحرج، وأن طهارته طهارة معنوية، فالتخليل هذا ليس عليه دليل.

عدد ضربات التيمم

هنا مسألة وهي: هل يتيمم بضربة واحدة أو بضربتين؟

المشهور من المذهب، وكذلك أيضاً قول الإمام مالك رحمه الله: أنه تكفي ضربة واحدة، لكن عند المالكية تسن الثانية، وعند الحنابلة الثانية مباحة، وعند أبي حنيفة والشافعي : لا بد من ضربتين.

أما بالنسبة لمن قال: يكفي ضربة واحدة فاستدلوا بحديث عمار رضي الله تعالى عنه إذ ليس فيه إلا ضربة واحدة، وأما من قال: إنه لا بد من ضربتين فاستدلوا على ذلك بحديث جابر : ( التيمم ضربة للوجه، وضربة لليدين ) وهذا الحديث ضعيف رواه الدارقطني وورد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما.

والصواب في هذه المسألة: أن التيمم يكتفى فيه بضربة واحدة، كما في حديث عمار ، وأما حديث جابر فكما ذكرنا هو ضعيف، وأما ما ورد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فنقول: هذا موقوف على ابن عمر وقد خالف المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

التيمم خوفاً من فوات العبادة

المسألة الثانية: هل يتيمم إذا خاف فوات العبادة أو لا؟

مثلاً: إنسان يصلي الجمعة وسبقه الحدث، لو ذهب ليتوضأ انتهى الإمام من الصلاة، والجمعة لا تقضى على هيئتها وإنما تقضى ظهراً، فهل نقول: يتيمم على الجدار، أو البلاط ويصلي مع الناس؟ أو نقول: تذهب وتتوضأ ولو فاتك الجمعة؟ ومثل ذلك أيضاً: صلاة العيدين خاصة إن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: صلاة العيدين لا تقضى إذا فاتت؛ لأنها مشروعة على هذا الوجه مع الإمام، فهل التيمم لخوف فوات العبادة مشروع أو ليس مشروعاً؟ هذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله تعالى.

والصواب في هذه المسألة ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه يتيمم إذا خاف فوات العبادة، ويدل لذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم، أتى الجدار وتيمم عليه ثم رد السلام؛ لأن الذكر يشرع أن يكون على طهارة، ولو أنه لم يتيمم لفاتت هذه الصفة في هذه العبادة، وهو كون هذه العبادة على طهارة.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح زاد المستقنع - كتاب الطهارة [13] للشيخ : خالد بن علي المشيقح

https://audio.islamweb.net