إسلام ويب

المواقيت قسمان: مكانية وزمانية، فمن أحرم قبل المواقيت المكانية فإحرامه صحيح، ومن أحرم قبل المواقيت الزمانية انعقد إحرامه عمرة لا حجاً على الصحيح. وأشهر الحج هي: شوال وذو القعدة وذو الحجة. ومن أراد الإحرام استحب له: الغسل والتنظف والتطيب على الجسد دون المل

الإحرام قبل الميقات

قد تقدم لنا شيء من أحكام المواقيت، فذكرنا تعريف الميقات في اللغة والاصطلاح، وذكرنا أن المواقيت تنقسم إلى قسمين: مواقيت مكانية ومواقيت زمانية، وبينا المواقيت المكانية، وذكرنا دليل هذه المواقيت، والإحرام منها، أي: كيف الإحرام منها.

ثم قال المؤلف رحمه الله في أحكام الإحرام من المواقيت: [والأفضل ألا يحرم قبل الميقات] وهذا ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: الإحرام قبل الميقات المكاني، والقسم الثاني: الإحرام قبل الميقات الزماني.

الإحرام قبل الميقات المكاني

فالقسم الأول: أن يحرم قبل الميقات المكاني، ففيه حكمان: الحكم الأول: الحكم التكليفي، والحكم الثاني: الحكم الوضعي.

أما ما يتعلق بالحكم التكليفي، يعني: هل يأثم أو لا يأثم؟ فهذا موضع خلاف، فذهب بعض العلماء إلى أنه محرم ولا يجوز أن يحرم قبل الميقات المكاني.

والرأي الثاني: أنه مكروه، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله، والأقرب في هذا أنه محرم ولا يجوز؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يحرم إلا من الميقات، وقال: ( خذوا عني مناسككم ).

وأيضاً أن عمران بن حصين رضي الله عنه أحرم من البصرة فبلغ ذلك عمر رضي الله تعالى عنه فغضب، وقال: لا يتسامع الناس أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرم من البصرة، وأنكر عثمان رضي الله تعالى عنه على رجلٍ أحرم من خراسان.

وأما ما يتعلق بالحكم الوضعي: فهل ينعقد إحرامه أو لا ينعقد؟

نقول: إن إحرامه ينعقد؛ لأن الله عز وجل قال: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197]. فهذا رجلٌ فرض الحج في زمنه فينعقد.

فأصبح عندنا الحكم التكليفي أنه محرم ولا يجوز -وهذا هو الصواب- والحكم الوضعي أنه ينعقد إحرامه.

الإحرام قبل الميقات الزماني

أما الإحرام قبل الميقات الزماني: فالميقات الزماني للحج يبدأ بدخول شهر شوال كما سيبينه المؤلف رحمه الله، فلو أنه أحرم قبل شوال بالحج.. كمن أحرم في رمضان -مثلاً- للحج، فنقول:

من حيث الحكم التكليفي أن هذا محرم ولا يجوز؛ لأن هذا عمل ليس عليه أمر الله ولا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم، لكن هل ينعقد إحرامه أو لا ينعقد إحرامه؟ هذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله.

فالرأي الأول: أن إحرامه لا ينعقد، وهذا قول الظاهرية؛ لأن هذا العمل ليس عليه أمر الله ولا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم.

والرأي الثاني: أنه ينعقد حجاً، وهذا رأي أكثر أهل العلم رحمهم الله.

والرأي الثالث: أنه ينعقد عمرة، وهذا قول الشافعية، وهذا القول هو أصوب الأقوال؛ فنقول: إذا أحرم قبل أشهر الحج فإن إحرامه ينعقد عمرةً، ويدل على أنه لا ينعقد حجاً أن الله عز وجل قال: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ [البقرة:197] فدل ذلك على أن فرض الحج إنما يكون في أشهره، وأيضاً ما ورد عن جابر رضي الله تعالى عنه أنه قال: ( من السنة ألا يحرم بالحج إلا في أشهره )، وأيضاً ورد عن ابن عباس أنه قال: ( لا يصلح أن يحرم بالحج إلا في أشهره ) فدل ذلك على أنه لا ينعقد حجاً لكن ينعقد عمرةً؛ لأن العمرة حج أصغر، فإذا لم ينعقد الحج الأكبر لعدم زمنه فإنه ينعقد الحج الأصغر وهو العمرة لوجود زمنه.

وكذلك أيضاً من قال بأنه ينعقد حجاً -وقلنا بأنه قال به أكثر أهل العلم- استدلوا على ذلك بقول الله عز وجل: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189] فقوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ) دل على أن كل الأهلة مواقيت للناس، والأهلة طوال العام، والله عز وجل قال: (قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ). وأجاب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن هذا فقال: لو قلنا بأن الأهلة كلها مواقيت للناس لم يكن للتوقيت بها فائدة؛ لأنه إنما يكون للتوقيت بها فائدة إذا كانت هذه الأهلة تختلف، فتارةً تكون ميقاتاً، وتارةً لا تكون ميقاتاً، أما إذا كانت كل الأهلة طوال العام وقتاً للإحرام فما أصبح للهلال فائدة، فخروجه وعدم خروجه سواء.

لكن تكون الأهلة مواقيت للناس إذا كان يترتب على هذا الهلال حكم شرعي، أي أنه يحرم أو لا يحرم، أما إذا كان خروج كل هلال يحرم معه لم يكن هناك فائدة.

فتلخص لنا أن الإحرام قبل الميقات الزماني فيه آراء للعلماء:

الرأي الأول: أنه لا ينعقد.

والرأي الثاني: أنه ينعقد عمرة، وهذا مذهب الشافعية، وقلنا بأن هذا هو أرجح الأقوال.

والرأي الثالث: أنه ينعقد حجاً أكبر، وهذا قول أكثر أهل العلم رحمهم الله، وذكرنا دليل كل قول.

أشهر الحج

ثم قال المؤلف رحمه الله: [وأشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة].

بداية أشهر الحج تبدأ من شوال وهذا باتفاق العلماء رحمهم الله، لكن بالنسبة لنهايتها هذا موضع خلاف:

الرأي الأول: الإمام مالك رحمه الله يرى أن أشهر الحج ثلاثة: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة كاملاً.

والرأي الثاني: وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أن أشهر الحج شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة.

والرأي الثالث: وهو قول الشافعي رحمه الله أن أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وتسعة أيام من ذي الحجة، أي: يحسب يوم عرفة من أشهر الحج، وتستمر أشهر الحج عنده إلى طلوع الفجر من يوم النحر، أي: عشر ليال من ذي الحجة وتسعة أيام من ذي الحجة.

ولكلٍ منهم دليل:

أما رأي مالك رحمه الله فهو ظاهر الآية: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197] وأقل الجمع ثلاثة: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، وكذلك أيضاً ورد عن عمر رضي الله تعالى عنه: أن أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، وكذلك أيضاً ورد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وورد أيضاً عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، فهو وارد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم.

وأما بالنسبة للحنابلة الذين قالوا بأنه شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة.. عشرة أيام أي: تنتهي بغروب الشمس من يوم النحر أي من اليوم العاشر، واستدلوا على ذلك بأنه وارد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما معلقاً بصيغة الجزم في صحيح البخاري .

ورأي الشافعي رحمه الله أن أشهر الحج تنتهي بطلوع الفجر من يوم النحر، واستدل بحديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الحج عرفة ) وعرفة ينتهي وقت الوقوف به بطلوع الفجر من اليوم العاشر.

وأرجح الأقوال وأصوبها في هذه المسألة: ما ذهب إليه الإمام مالك رحمه الله تعالى، وأن أشهر الحج شوال، وذو القعدة، وذو الحجة كاملاً، وهذا أصوب الأقوال لظاهر القرآن، وأما آثار الصحابة رضي الله تعالى عنهم فهي مختلفة.

الإحرام وآدابه

قال المؤلف رحمه الله: [باب الإحرام].

تعريف الإحرام لغة واصطلاحاً

الإحرام في اللغة: هو نية الدخول في التحريم؛ لأن الناسك بإحرامه يحرم على نفسه ما كان مباحاً له قبل الإحرام من الطيب ولبس المخيط وتغطية الرأس ونحو ذلك.

وأما في الاصطلاح: فهو نية الدخول في النسك، لا نية أن يحج ويعتمر؛ لأن نية الحج والعمرة -أي: الإنساك- هذه موجودة من حين الخروج من بلده، لكن المراد بالإحرام هو نية الدخول في النسك، أي: إذا أتى الميقات نوى أنه دخل في التحريم.

الاغتسال والتنظف والتطيب

والإحرام هذا له آداب وسنن ينبغي لمن أراد النسك أن يتحلى بها، من هذه الآداب قوله: [من أراد الإحرام استحب له أن يغتسل].

ويدل لذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أسماء بنت عميس لما ولدت في ميقات ذي الحليفة أن تستذفر بثوب وأن تغتسل وأن تحرم.. وهذا في صحيح مسلم ، وكذلك أيضاً أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر عائشة رضي الله تعالى عنها لما أرادت الإحرام بالحج وهي حائض أن تغتسل، وهذا أيضاً أخرجه مسلم ، وكذلك ورد في حديث زيد بن ثابت : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله واغتسل ).

وصفة الاغتسال كالاغتسال من الجنابة، وهناك غسل كامل وغسل مجزئ؛ فالغسل الكامل: أن يبدأ أولاً بالوضوء، وبعد أن ينتهي من الوضوء يغسل رأسه ثلاث مرات، ثم شقه الأيمن مرةً واحدة، ثم شقه الأيسر مرة واحدة، وهذا هو الغسل الكامل، وأما الغسل المجزئ: فهو أن يعم جميع بدنه بالماء مع المضمضة والاستنشاق.

قال رحمه الله: [ويتنظف].

هذا الأدب الثاني من آداب الإحرام: التنظف، فإذا قالوا: غسل وتنظف، فالمراد بالتنظف ما يتعلق بسنن الفطرة؛ بأن يقلم أظافره ويحلق عانته وينتف إبطه، ويقص شاربه، هذا هو المراد بالتنظف، والصحيح أن هذا ليس من سنن الإحرام؛ لأن هذا لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعل ذلك، وعلى هذا نقول بأن ما يتعلق بسنن الفطرة ليس من سنن الإحرام الخاصة، لكن هذه الأشياء يستحب للمسلم أن يتعاهدها إذا طالت، أي: إذا كانت هذه الأشياء طويلة.. فقد تكون أظافره طويلة، أو يكون شاربه طويلاً، أو عانته، فيستحب للإنسان أن يأخذها، ويكره أن يتركها فوق أربعين يوماً، ويحرم أن يتركها حتى تتفاحش فيكون فيه شبه من أهل الشرك ونحو ذلك.

فعلى هذا نقول: هذه الأشياء إن كانت طويلة فإنه يستحب للإنسان أن يأخذها، وإن لم تكن طويلة فإنها ليست من سنن الإحرام، حتى ولو أخذها إن كانت طويلة لا على أنها سنة من سنن الإحرام، لكن لأنها طويلة فينبغي للإنسان أن يأخذها.

قال رحمه الله: [ويتطيب].

هذا الأدب الثالث: يستحب أن يتطيب إذا أراد الإحرام، والتطيب الذي وردت به السنة يكون في الرأس وفي اللحية.. ففي الرأس كما في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: ( كنت أرى وبيص المسك في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم )، والوبيص هو البريق واللمعان، وكذلك أيضاً اللحية كما ورد ذلك في صحيح مسلم .

فنقول: إذا أراد أن يحرم فيستحب له أن يتطيب في رأسه وفي لحيته.

وأما بالنسبة لثياب الإحرام فإنه لا يطيبها، وفي حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي عليه الصلاة والسلام لما سئل: ما يلبس المحرم؟ ذكر ما لا يلبس فقال: ( ولا ثوباً مسه زعفران أو ورس ) ولهذا قال الإمام مالك رحمه الله بأنه يحرم أن يلبس ثوباً مسه الطيب.

فإذا طيب ثياب الإحرام ثم أحرم، فالمشهور عند الحنابلة رحمهم الله: أنه يستديم هذه الثياب حتى يخلعها، فإذا خلعها فليس له أن يلبسها مرةً أخرى حتى يغسل عنها الطيب، فلو فرضنا أن رجلاً قبل أن يحرم طيب ثياب الإحرام ثم أحرم وهي عليه، قالوا بأنه لا بأس أن يستديم لبس هذه الثياب بعد إحرامه حتى يخلع الثوب، فإذا خلع الثوب فإنه لا يلبسه حتى يغسل عنه الطيب.

التجرد من المخيط ولبس إزار ورداء أبيضين

قال رحمه الله: [ويتجرد عن المخيط].

هذا الأدب الرابع: إذا أراد أن يحرم يستحب له أن يتجرد عن المخيط، وعلى هذا لو أنه أحرم وعليه ثيابه، فنقول: بأن إحرامه صحيح لكنه خالف السنة؛ لأن السنة أن يكون متجرداً عن المخيط، لكن لو أحرم وعليه الثياب نقول بأن إحرامه صحيح ويلزمه أن يبادر بنزع الثياب عنه، فإن تركها ولم ينزعها مع التمكن ومضى فترة يمكنه أن ينزعها ولم ينزع وجبت عليه فدية، والسنة -كما ذكر المؤلف رحمه الله- أن يتجرد من المخيط ثم بعد ذلك يحرم؛ لما تقدم ذكره أن زيد بن ثابت روى: ( أن النبي عليه الصلاة والسلام تجرد لإهلاله واغتسل ).

قال رحمه الله: [ويلبس إزاراً ورداء أبيضين نظيفين].

أي: يحرم في إزار ورداء، ويدل لذلك حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يحرم أحدكم في إزارٍ ورداءٍ ونعلين ) وهذا أخرجه الإمام أحمد وابن الجارود وإسناده صحيح، وأيضاً ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فإن لم يجد إزاراً فليلبس السراويل ) كما ورد في الصحيحين، فدل ذلك على أن الإنسان يحرم بالإزار.

وأما قوله: (أبيضين) فهذا دليله قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( البسوا من ثيابكم البياض وكفنوا فيها موتاكم ) وعلى هذا لو أن إنساناً أحرم بإزار ورداء أخضرين أو أدهمين أو أصفرين هذا كله جائز، لكن يقول المؤلف رحمه الله: الأفضل أن يحرم في إزارٍ ورداءٍ أبيضين نظيفين؛ لقول الله عز وجل: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31].

صلاة ركعتين بعد لبس الإحرام

قال المؤلف رحمه الله: [ثم يصلي ركعتين ويحرم عقيبهما].

هذا الأدب الخامس: أن يصلي ركعتين ويحرم عقيب هاتين الركعتين. فلو قيل: ما هو الدليل على أنه يحرم عقب الركعتين؟

نقول: ( بأن النبي صلى الله عليه وسلم أهلَّ دبر صلاة الظهر )، كما في حديث أنس رضي الله تعالى عنه.

وأيضاً في حديث عمر قال صلى الله عليه وسلم: ( أتاني الليلة آتٍ من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرةً في حجة ) وهذا في الصحيح، فهذا دليل على أنه يحرم عقب صلاة الركعتين.

لكن هل للإحرام صلاة خاصة أو ليس له صلاة خاصة؟

أكثر أهل العلم على أن الإحرام له صلاة خاصة، أي: سنة خاصة تسمى بسنة الإحرام، وعلى هذا إذا أراد الإنسان أن يحرم فإنه يستحب له أن يصلي ركعتين على أنهما سنة الإحرام، ثم بعد ذلك يهل دبر هاتين الركعتين، هذا ما عليه أكثر أهل العلم، واستدلوا: ( بأن النبي عليه الصلاة والسلام أهل دبر صلاة الظهر )، وأيضاً تقدم حديث عمر رضي الله تعالى عنه. وهذا الرأي الأول.

والرأي الثاني: بأن الإحرام ليس له صلاة خاصة؛ لأن الصلاة التي أهل النبي صلى الله عليه وسلم دبرها هي صلاة فريضة، وهي صلاة الظهر، وهذا قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وابن القيم ، وهذا القول هو الصواب: أن الإحرام ليس له صلاة خاصة، وإنما يهل دبر صلاةٍ مشروعة، سواء كانت فريضةً أو نافلة، فإذا كان الوقت وقت فريضة أحرم بعد أن يصلي الفريضة أو نافلة مشروعة، مثلاً: إذا كان من عادته أن يصلي ركعتي الوضوء، أو إذا اغتسل يصلي ركعتي الوضوء ثم يهل دبرهما، أو ركعتي الضحى إذا كانت من عادته، أو الوتر أو غير ذلك، المهم أنه إذا كانت هناك صلاة مشروعة سواءً كانت فريضة أو نافلة.

نية الإحرام والتلفظ بها

قال المؤلف رحمه الله: [وهو أن ينوي الإحرام].

ويفهم من كلام المؤلف رحمه الله إلى أنه تكفي مجرد النية، أي: إذا نوى الدخول في النسك فإن هذا كافٍ، ولا حاجة إلى فعلٍ أو قول، وأن الإنسان ينعقد إحرامه بمجرد النية دون أن يكون هناك قولٌ أو فعل.

والرأي الثاني: وبه قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه لا بد من قولٍ أو فعل مع النية؛ القول، مثل: التلبية، والفعل، مثل: سوق الهدي. والصحيح في ذلك أنه لا حاجة لذلك، وأن الإحرام ينعقد بمجرد النية لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى ).

قال المؤلف رحمه الله: [ويستحب أن ينطق بما أحرم به].

هذا الأدب السادس من آداب الإحرام، يقول المؤلف رحمه الله: (يستحب أن ينطق بما أحرم به)، أي: يستحب أن ينطق بما أحرم به، فإذا أراد أن يحرم بالتمتع نطق وقال: اللهم إني أريد العمرة متمتعاً بها إلى الحج، وإن أراد الإفراد قال: اللهم إني أريد الحج.. وإن أراد القران قال: اللهم إني أريد الحج والعمرة. والصحيح في ذلك أنه لا يستحب أن ينطق بما أحرم به؛ لأن هذا لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولحديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنا من أهل بحج، ومنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحجٍ وعمرة)، وهذا في الصحيحين.

وأيضاً تقدم حديث عمر أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( أتاني الليلة آتٍ من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة ) .

وعلى هذا فالصحيح أنه لا حاجة أن يبين أنه يريد التمتع أو القران أو الإفراد.

ولكن كيف يهل؟ نقول: إن أراد التمتع فإنه يهل بالعمرة، فيقول: لبيك عمرةً لبيك.. لبيك اللهم لبيك، وإن أراد الإفراد فإنه يهل بالحج، ويقول: لبيك حجاً لبيك.. لبيك اللهم لبيك فقط، وإن أراد القران أهل بالعمرة والحج، أي: يقدم العمرة على الحج، فيقول: لبيك عمرةً وحجاً لبيك.. لبيك اللهم لبيك.. وهذا هو الصواب.

الاشتراط عند الإحرام

قال المؤلف رحمه الله: [ويشترط ويقول: اللهم إني أريد النسك الفلاني، فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني].

هذا الأدب السابع، ويفيد كلام المؤلف رحمه الله أن الاشتراط جائز؛ بل إنه مستحب، وهذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله، واستدلوا على ذلك بدليلين:

الدليل الأول: حديث ضباعة بنت الزبير أنها ( أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إني أريد الحج فكيف أقول؟ قال: لبيك اللهم لبيك ومحلي حيث حبستني ).

الدليل الثاني: حديث عائشة : ( أن النبي عليه الصلاة والسلام دخل على ضباعة وهي شاكية، فقالت: يا رسول الله! إني أريد الحج وأجدني شاكية، فقال: حجي واشترطي ).

والدليل الثاني: أنه ورد عن جمع من الصحابة رضي الله تعالى عنهم الاشتراط. وهذا الرأي الأول.

والرأي الثاني: أن الاشتراط لا يشرع إلا لمن كان خائفاً، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، واستدل بقصة ضباعة بنت الزبير، فـضباعة رضي الله تعالى عنها رخص لها النبي صلى الله عليه وسلم بالاشتراط لأنها خائفة، أما غير الخائف فإنه لا يشترط ولا ينفعه الاشتراط؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يشترط؛ فقد اعتمر أربع عمر، وحج حجة الوداع ومع ذلك لم يشترط.

والرأي الثالث: عدم مشروعية الاشتراط مطلقاً، وهذا قال به أبو حنيفة ، ودليله ما ورد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان ينكر الاشتراط، ويقول: حسبكم سنة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم أنه لم يشترط.

فالآراء في هذه المسألة ثلاثة: الأول: المشروعية مطلقاً، والثاني: عدم المشروعية مطلقاً، والثالث: المشروعية لمن كان خائفاً وهذا القول هو الصواب، والدليل له حديث ضباعة رضي الله تعالى عنها.

أنساك الحج

قال المؤلف رحمه الله: [وهو مخير بين التمتع والإفراد والقران].

أي: مخير بين هذه الأنساك الثلاثة، وأنساك الحج ثلاثة باتفاق الأئمة، والأئمة يتفقون على أن هذه الأنساك كلها جائزة، فمن أراد أن يتمتع فله ذلك، ومن أراد أن يقرن فله ذلك، ومن أراد أن يفرد فله ذلك، هذا ما عليه الأئمة الأربعة، ودليلهم كما تقدم حديث عائشة في الصحيحين قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنا من أهل بحج، ومنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحجٍ وعمرة. أهل بحج هذا هو الإفراد.. أو بعمرة هذا هو التمتع.. وبحج وعمرة هذا هو القران.

أفضل أنواع النسك

لكن اختلف العلماء رحمهم الله في الأفضل: أي الأنساك أفضل؟ قال المؤلف رحمه الله: [وأفضلها التمتع ثم الإفراد ثم القران].

وهذا المشهور من مذهب الحنابلة رحمهم الله؛ أن التمتع هو أفضل الأنساك، وعند أبي حنيفة الأفضل القران، وعند الإمام مالك والشافعي الأفضل هو الإفراد، ولكلٍ منهم دليل:

فأما من قال بأن الأفضل التمتع فاستدلوا بأن التمتع ذكره الله عز وجل في القرآن فقال: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196]، وأيضاً النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولأحللت معكم ) .

والذين قالوا بأن الأفضل القران استدلوا بأدلة منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم حج قارناً، وقد روى قران النبي صلى الله عليه وسلم ما يقرب من ستة عشر نفساً من الصحابة، ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله: لا أشك في أن النبي عليه الصلاة والسلام كان قارناً.

وأما من قالوا بأن الأفضل الإفراد فقد استدلوا بأن هذا هو الوارد عن الخلفاء الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان أربعة وعشرون عاماً يفردون الحج، وأيضاً لكي يعمر البيت، فالإنسان إذا خصص الحج بسفرة والعمرة بسفرة أدى ذلك إلى عمارة البيت.

والصواب أن يقال: الأفضل أن الإنسان يكون متمتعاً إلا في حالتين:

الحالة الأولى: إذا ساق الهدي، فإن ساق الهدي فالأفضل القران.

الحالة الثانية: إذا اعتمر قبل أشهر الحج وبقي في مكة حتى حج، مثلاً اعتمر في رمضان أو في شعبان، وبقي في مكة حتى حج، فإن الأفضل الإفراد.

فأصبح عندنا الأفضل التمتع إلا في حالتين:

الحالة الأولى: يكون القران فيها أفضل وهو ما إذا ساق الهدي.

والحالة الثانية: يكون الإفراد أفضل وهو ما إذا اعتمر قبل أشهر الحج ومكث في مكة حتى حج، فإن الأفضل الإفراد.

صورة التمتع والإفراد

قال المؤلف رحمه الله: [والتمتع: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويفرغ منها ثم يحرم بالحج في عامه].

هذه صورة التمتع: أن تحرم بالعمرة في أشهر الحج -وقد تقدم لنا أشهر الحج أنها تدخل بشوال- ويفرغ من العمرة، ثم يحرم بالحج في عامه.. وهذا هو التمتع، فإذا أحرم بالعمرة في أشهر الحج ولم يسافر إلى أهله؛ لأنه إذا سافر إلى أهله فإنه يبطل تمتعه، أي: لا يسافر بين العمرة وبين الحج إلى أهله، كما ورد ذلك عن عمر وابنه رضي الله تعالى عنهما.

وقوله: (أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويفرغ منها) فلا يدخل عليها الحج، فإن أدخل عليها الحج قبل أن يفرغ منها، فإنه لا يكون متمتعاً كما سيأتي.

وقوله: (ثم يحرم بالحج في عامه) هذه هي صورة التمتع.

قال رحمه الله: [والإفراد: أن يحرم بالحج وحده].

الإفراد أن يحرم بالحج وحده، وليس بشرط أن يحرم بالعمرة بعد الحج.. فلو أحرم بالعمرة بعد الحج فهذا ليس قيداً وليس شرطاً للإفراد.

القران وصوره

قال المؤلف رحمه الله: [والقران: أن يحرم بهما أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج، ولو أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة لم ينعقد إحرامه بالعمرة].

القران له ثلاث صور:

الصورة الأولى: قوله: (أن يحرم بهما) أي يحرم بالعمرة والحج جميعاً، والسنة أن يبدأ بذكر العمرة قبل الحج، فيقول: لبيك عمرة وحجةً.. لبيك اللهم لبيك، كما تقدم في حديث عمر رضي الله تعالى عنه.

الصورة الثانية: قوله: (أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج) كما في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، أحرمت بالعمرة ثم حاضت، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تحرم بالحج فتكون قارنة. وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أنه لا بأس للإنسان أن يحرم بالعمرة ثم يحرم بالحج مطلقاً، سواء كان لحاجة أو لغير حاجة، أي: سواء كان هناك حاجة تدعوه إلى ذلك أو لم يكن هناك حاجة. وهذا الرأي الأول.

وذهب بعض العلماء إلى أنه لا يدخل الحج على العمرة إلا إذا كان يحتاج، مثل حال عائشة ؛ فـعائشة أحرمت بالعمرة وحاضت، فلو قلنا: تنتظر ولا تحرم بالحج حتى تنتهي من العمرة فاتها الحج؛ لأن عائشة الآن لما أحرمت بالعمرة تريد أن تجلس مدة الحيض تقريباً ستة أيام أو سبعة.. وهنا يفوتها الحج، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تدخل الحج على العمرة.. هنا حاجة، فإذا كان الإنسان يحتاج إلى ذلك: امرأة حاضت، أو إنسان أحرم بالعمرة بعد ذلك حصل له عائق أو حادث أو غير ذلك، فلو قلنا بأنه لا يحرم بالحج حتى ينتهي من العمرة، فقد يطول عليه الحادث والتخلص منه ثم ينتهي من العمرة وقد فاته الحج، فهنا لا بأس أن يحرم بالحج ويدخل الحج على العمرة لكي يكون قارناً.

فالرأي الثاني: أنه لا يدخل الحج على العمرة إلا عند الحاجة، كما في حال عائشة ونحوها .

الصورة الثالثة: قوله: (ولو أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة) أي لو أحرم بالحج ثم لبى بالعمرة؛ لأن عندنا مسألتان:

المسألة الأولى: إنسان أحرم بالحج ثم بعد ذلك فسخ الحج إلى عمرة لكي يكون متمتعاً، فهو أحرم بالحج مفرداً، أو أحرم بالعمرة والحج قارناً، ثم فسخ إحرامه إلى التمتع، فنقول: هذا حكمه سنة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمر الصحابة بذلك، فالقارن إذا لم يسق الهدي وكذا المفرد يستحب لهما أن يفسخا إحرامهما إلى عمرة ليكونا متمتعين.

المسألة الثانية: ليست فسخاً، وإنما هي إدخال نسك على نسك.. فأحرم بالحج أو لبى بالحج: لبيك حجاً لبيك.. لبيك اللهم لبيك، ثم بعد ذلك أدخل عليه العمرة.. لبى بالعمرة، فقال: لبيك عمرةً لبيك.. لبيك اللهم لبيك، هل يصح هذا الإدخال ويكون قارناً أو لا يصح؟ هذا فيه رأيان:

الرأي الأول: أنه لا يصح، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (ولو أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة، لم ينعقد إحرامه بالعمرة) وهذا هو المشهور من المذهب.

والرأي الثاني رأي الحنفية: أن هذا الإدخال صحيح، لوروده عن علي رضي الله تعالى عنه، وعلى هذا تكون هذه هي الصورة الثالثة من صور القران: أن يحرم بالحج ثم يدخل عليه العمرة.. يلبي بالعمرة.

التلبية

قال المؤلف رحمه الله: [فإذا استوى على راحلته لبى فقال: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك].

هذا الأدب الثامن: أن يلبي إذا استوى على راحلته، وهذا قال به الإمام مالك رحمه الله؛ ودليل ذلك حديث جابر أنه قال: إن إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذي الحليفة حين استوت به راحلته. وهو في البخاري . وهذا الرأي الأول.

والرأي الثاني رأي الشافعي : أنه يشرع في التلبية إذا سار، سواء كان راكباً أو كان ماشياً على رجليه، فإذا بدأ بالمشي فإنه يبدأ بالتلبية، ودليل ذلك أيضاً حديث جابر أنه قال: ( أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحرم إذا توجهنا إلى منى )، وهذا أخرجه مسلم .

والرأي الثالث: رأي أحمد وأبي حنيفة أنه يبدأ الإحرام من بعد الفراغ من الصلاة، أي: بعد أن ينتهي الإنسان من صلاته يبدأ بالتلبية مباشرةً، وهذا دليله حديث ابن عباس أن النبي عليه السلام أهل دبر صلاة الظهر، وأيضاً تقدم حديث عمر في البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( أتاني الليلة آتٍ من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل: عمرةً في حجة ) فقال: صل وقل، فهذا يدل على أن الإهلال إنما هو دبر الصلاة.

وهكذا جمع ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، كما في مسند أحمد أن سعيد بن جبير سأل ابن عباس عن اختلاف الناس في إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة واحدة، فجمع ابن عباس بأن الناس كانوا يأتون أوزاعاً متفرقين، فسمعه أناس يهل دبر صلاة فأخذوا ذلك عنه، وسمعه أناس يهل لما استوت به راحلته فأخذوا ذلك عنه، وسمعه أناس يهل لما سار وعلا على البيداء فأخذوا ذلك عنه.

وقول المؤلف رحمه الله: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك) هذه تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي رواها ابن عمر رضي الله تعالى عنهما في الصحيحين، وقد ورد أيضاً من حديث أبي هريرة في مسند الإمام أحمد : ( لبيك إله الحق لبيك ) وهذا أخرجه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه ، وأيضاً ورد عن عمر رضي الله تعالى عنه: (لبيك مربوباً ومرهوباً إليك، ذا النعماء والفضل الحسن)، وورد أيضاً عن أنس : (لبيك حقاً حقاً تعبداً ورقاً)، فإذا أتى الإنسان بتلبية النبي صلى الله عليه وسلم أو بما ورد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فإن هذا جائز.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح عمدة الفقه - كتاب المناسك [3] للشيخ : خالد بن علي المشيقح

https://audio.islamweb.net