إسلام ويب

الصائل يدفع بالأسهل فالأسهل، وإن لم يمكن دفعه إلا بقتله فعل ولا دية له، ويحرم على المسلم أن يقتل نفسه، بل هذا من كبائر الذنوب وعظائم الأمور التي تؤدي بصاحبها إلى الخلود في النار وعدم الخروج منها إلا بمشيئة الله ورحمته.

شرح حديث: (يعض أحدكم أخاه..)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ عن عمران بن حصين رضي الله عنه: ( أن رجلاً عض يد رجل فنزع يده من فيه، فوقعت ثنيتاه، فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل، لا دية لك ).

وعن الحسن بن أبي الحسن البصري قال: حدثنا جندب في هذا المسجد وما نسينا منه حديثاً، وما نخشى أن يكون جندب كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح فجزع، فأخذ سكيناً فحز بها يده، فما رقأ عنه الدم حتى مات، قال الله عز وجل: عبدي بادرني بنفسه فحرمت عليه الجنة ) ].

الشرح:

تقدم لنا قصة المرأتين اللتين اقتتلتا، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن دية جنينها الغرة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها، وذكرنا أن العاقلة تتحمل الدية في قتل الخطأ وشبه العمد، والعاقلة هم عصبة القاتل، وسموا بذلك لأنهم يعقلون، أي: يمنعون القاتل من أن يعتدي عليه أحد، فالعاقلة هم عصبة القاتل، والعصبة هم عصبة النسب، وعصبة الولد، القريب والبعيد، الحاضر والغائب، عصبة النسب الأصول وإن علوا، والفروع وإن نزلوا، الأب وأبوه وإن علا، والابن وابنه وإن نزل، والإخوة وبنوهم، والأعمام وبنوهم، هؤلاء العاقلة يحملون الدية.

ويدخل فيهم عمود النسب، الأصول والفروع، خلافاً للشافعي رحمه الله.

وكيف تقسم الدية؟ العصبة بالنسب، ثم بعد ذلك العصبة بالسبب، المعتق وأصوله وفروعه وحواشيه، عصبة بالسبب، القاضي يقسم الدية على العاقلة، الأقرب فالأقرب، والأغنى فالأغنى، كل ما اجتمع فيه القرب والغنى حمله أكثر وهكذا، المهم أنه يجزئ الدية عليهم، ويبدأ بالقريبين والأغنياء، وإذا لم يكن هناك عصبة بالنسب فإنه يصار إلى العصبة بالسبب كما ذكرنا، المعتق إذا كان هذا القاتل قد أعتق، كذلك أيضاً أصوله وفروعه، المعتق وأصوله وفروعه وحواشيه هؤلاء عصبة بالسبب يتحملون أيضاً، ربما أن العاقلة بالنسب تكون موجودة أو تكون فقيرة، عندها ننتقل إلى العاقلة بالسبب ويحملون الدية، كما سبق.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: ( عن عمران بن حصين رضي الله عنه: (أن رجلاً عض يد رجل فنزع يده من فيه، فوقعت ثنيتاه -والثنيتان هي السنان الأماميتان- فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل، لا دية لك ) ).

الفحل هو الذكر من الإبل.

وهذا الحديث فيه دفع الصائل وأن الصائل يدفع بالأسهل فالأسهل، وإذا لم يندفع إلا بجرحه أو بقطع طرف منه، أو لو انتقل إلى القتل فإنه لا شيء فيه، ويدل لذلك حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: ( أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! أرأيت إن جاء رجل يريد أن يأخذ مالي. قال: لا تعطه، قال: أرأيت إن قاتلني، قال: قاتله، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار. قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت في الجنة ) رواه مسلم .

فهنا أذن النبي صلى الله عليه وسلم في مقاتلته، فهذا الرجل لما عض أخاه يريد أن يدفعه، لكن يدفعه بالأسهل فالأسهل، وإذا لم يندفع إلا بأن تسقط ثناياه، فلا شيء فيه، وهنا لم يندفع إلا أنه أخرج يده وسقطت ثناياه، فهذا في حكم الصائل.

وهذا الحديث يستفاد منه قاعدة فقهية، وهي: أن ما ترتب على المأذون غير مضمون، وهذا الرجل قد أذن له أن يخلص نفسه من العض، فترتب على ذلك أن تسقط ثنيتاه، هذا العاقل، فما ترتب على المأذون فهو غير مضمون.

شرح حديث: (كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح..)

قال المؤلف رحمه الله تعالى: عن الحسن بن أبي الحسن البصري قال: حدثنا جندب في هذا المسجد وما نسينا منه حديثاً، وما نخشى أن يكون جندب كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح، فجزع ).

يعني: أن هذا الرجل أصابه الجزع، والجزع التسخط وعدم الصبر.

( فأخذ سكيناً فحز بها يده، فما رقأ منه الدم حتى مات ).

(حز يده) يعني: قطعها، فمارقأ الدم، يعني: ما انقطع الدم حتى مات.

قال الله عز وجل: ( عبدي! بادرني بنفسه فحرمت عليه الجنة ).

في هذا الحديث: أنه يحرم على المسلم أن يقتل نفسه، وأن هذا من كبائر الذنوب؛ لأن الشارع رتب عليه عقوبة خاصة، وهي أن الجنة محرمة عليه، (حرمت عليه الجنة) يعني: منعته من الجنة، وهذه لا شك أنها عقوبة شديدة لا تكون إلا على ذنب كبير.

وفي هذا أيضاً: تحريم التسخط والجزع، وكما تقدم لنا في باب الجنائز مراتب المسلم عند المصيبة: الصبر، والتسخط، والرضا، والشكر.

ومذهب أهل السنة والجماعة في مرتكب كبائر الذنوب أنه فاسق بكبيرته مؤمن بإيمانه، فلا يحكم له بالخروج من الإسلام كما هو مذهب الخوارج والمعتزلة (مذهب الوعيدية)، وهذا الحديث مما يتمسك به الخوارج والمعتزلة، لكنهم ينظرون إلى النصوص بعين الأعور، أما أهل السنة والجماعة فهم ينظرون إلى النصوص بعينين سليمتين، المرجئة في جانب، والخوارج في جانب آخر، المرجئة يأخذون بأحاديث الرجاء، ويقولون: يكفي في الإيمان معرفة القلب فقط، والخوارج الوعيدية يقولون: صاحب الكبيرة خالد مخلد في النار، ويخرجونه من الإسلام، والمعتزلة يقولون: هو في منزلة بين المنزلتين، ويتفقون على أنه في الآخرة خالد مخلد في النار.

لكن إذا أخذنا بمثل هذا الحديث وحديث الرجاء وجمعنا بينهما نقول كما هو مذهب أهل السنة والجماعة: هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وأنه لا يخرج من الإسلام لهذا العمل، بل يغسل ويصلى عليه ويكفن ويقبر في مقابر المسلمين، ويدعى له بالرحمة.. إلى آخره.

وكيف الجواب عن قوله: (حرمت عليه الجنة)؟ نقول: دخول الجنة ينقسم إلى قسمين: مطلق ومقيد.

مطلق: أن يدخل الجنة ابتداءً دون أن يكون هناك عذاب.

ومقيد: أن يمنع من دخول الجنة ابتداءً.

فالمقصود هنا أنه يمنع من دخول الجنة ابتداءً، ثم بعد ذلك يكون مصيره إلى الجنة؛ لأنه مات على التوحيد.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح عمدة الأحكام - كتاب القصاص [6] للشيخ : خالد بن علي المشيقح

https://audio.islamweb.net