إسلام ويب

الملائكة خلق من خلق الله جل جلاله، وهم خلق عظيم يمتلكون من القوة ما لا يمتلكه غيرهم من سائر المخلوقات، ومع ذلك فهم مربوبون مقهورون خاضعون ذليلون لله عز وجل، حتى إنه إذا أراد الله أن يوحي بالأمر، وتكلم ضربت الملائكة بأجنحتها خضوعاً لقوله وخروا له سجداً، فإ

تفسير قوله تعالى: (حتى إذا فزع عن قلوبهم ..)

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب قول الله تعالى: حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23].

في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك، حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق، وهو العلي الكبير. فيسمعها مسترق السمع، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض -وصفه سفيان بكفه، فحرفها وبدد بين أصابعه- فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا كذا وكذا؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء ).

وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي أخذت السماوات منه رجفة أو قال: رعدة شديدة خوفاً من الله عز وجل، فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا أو خروا سجداً، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، ثم يمر جبريل على الملائكة، كلما مر بسماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول جبريل: قال الحق وهو العلي الكبير، فيقولون كلهم مثلما قال جبريل، فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل ) ].

قال رحمه الله تعالى: (باب قول الله تعالى: حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23]).

مناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد: أن فيه بيان حال الملائكة عليهم السلام الذين هم من أقوى من عبد من دون الله عز وجل، فإذا كان هذا حالهم خوفاً من الله وخشية ورهبة فكيف يدعون مع الله عز وجل؟ ففي هذا رد على جميع المشركين الذين يدعون مع الله عز وجل من هو أقل من الملائكة، كالذين يدعون الأضرحة والأولياء والغائبين... إلى آخره وهم أقل من الملائكة، إذا كان هذا هو حال الملائكة في خوفهم وخشيتهم ورهبتهم لله سبحانه وتعالى، وهم أقوى من عبد من دون الله عز وجل فكيف يدعون مع الله وهم يخافون الله ويخشونه ويرهبونه؟ ففي هذا رد على من عبد دون الله عز وجل ممن هو أقل من الملائكة.

قال رحمه الله: حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ [سبأ:23]. يعني: أزيل الفزع عن قلوب الملائكة عليهم السلام من الغشية التي تصيبهم عند سماعهم كلام الله عز وجل بالوحي المنزل على جبريل أو بالوحي إلى جبريل.

قَالُوا [سبأ:23]. أي: قال بعضهم لبعض.

مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ [سبأ:23]. أي: قالوا: قال الله القول الحق.

وَهُوَ الْعَلِيُّ [سبأ:23]. الله عز وجل له علو الذات وعلو القدر وعلو القهر، وعلو الله عز وجل قسمان: علو الصفات، بمعنى: أن الله سبحانه وتعالى موصوف بصفات الكمال التي لا تسبق بعدم ولا يلحقها نقص بأي وجه من الوجوه، وكذلك موصوف بعلو الذات.

وهو الْكَبِيرُ [سبأ:23]، أي: الذي لا أكبر ولا أعظم منه سبحانه وتعالى.

الشاهد من هذه الآية على ما أراده المؤلف رحمه الله من هذا الباب: أن فيه الرد على جميع المشركين الذين يعبدون مع الله عز وجل غيره، فإذا كان هذا هو حال الملائكة عليهم السلام وكيف يحصل لهم عند سماعهم الوحي، لما يصيبهم من الغشية عند سماعهم كلام الله بالوحي إلى جبريل عليه السلام ما أصابهم من الخوف والفزع والخشية، فغيرهم من باب أولى ممن لا يدانيهم في القوة ولا يساويهم في الصفات.

وفي هذا الرد على من يعبد من دون الله عز وجل من لا يساوي الملائكة في الصفات ولا في القوة، فهذا من باب أولى بطلان عبادته من دون الله عز وجل، إذا بطلت عبادة الملائكة لما يلحقهم من الخوف والفزع والغشية فغيرهم من باب أولى.

شرح حديث: (إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة...)

قال رحمه الله تعالى: (وفي الصحيح) أي: في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا قضى الله الأمر ). يعني: تكلم الله بالأمر.

( في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً ) من الخضوع، وروي بضم أوله وسكون ثانية: (خُضْعاناً) أي: خاضعين. ( لقوله كأنه سلسلة على صفوان ) (لقوله) يعني: لقول الله عز وجل. (كأنه) أي: الصوت المسموع (صفوان) الصفوان: هو الحجر الأملس.

( ينفذهم ذلك ). أي: يخلص هذا القول ويمضي في الملائكة.

( ويبلغ منهم كل مبلغ، حتى إذا فزع عن قلوبهم ). يعني: أزيل الفزع والغشية عن قلوب الملائكة، أزيلت هذه الغشية التي أصابتهم بعد سماعهم لكلام الله عز وجل لما أوحى إلى جبريل.

( قالوا ) يعني: قال بعضهم لبعض: ( ماذا قال ربكم؟ ). استبشاراً. ( قالوا: الحق ). قال الله القول الحق، وقول الله الحق: الصدق في الأخبار، والعدل في الأوامر.

( وهو العلي الكبير ). تقدم علو الله عز وجل، له علو الذات، علو القهر، علو القدر.

( الكبير ) الذي لا أعظم ولا أكبر منه سبحانه وتعالى.

قال: ( فيسمعها ) يعني: هذه الكلمة التي أوحى الله بها إلى جبريل عليه السلام.

( مسترق السمع ) يعني: المختطف لكلام الملائكة من الشياطين.

( وصفه سفيان ) سفيان بن عيينة رحمه الله من كبار الأئمة، توفي سنة ثمان وتسعين ومائة للهجرة، إمام ثقة من أهل الحديث.

وقوله: ( وصفه سفيان ) يعني: وصف ركوب الشياطين بعضهم فوق بعض حتى يصلوا إلى حيث يسمعون تحدث الملائكة بالأمر الذي يقضيه الله عز وجل، والله سبحانه وتعالى أعطى هؤلاء الشياطين هذه القوة على أن يصلوا إلى أن يستمعوا إلى الملائكة وهم يتحدثون بالكلمة التي أوحى الله عز وجل بها إلى جبريل عليه السلام.

قال: ( وصفه سفيان بكفه فحرفها ) يعني: أمالها.

( وبدد بين أصابعه ) يعني: فرقها، حرفها: أمالها، وبدد بين أصابعه: فرقها.

قال: ( فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ). الشياطين يتراكبون ثم يلقيها إلى من تحته.

قال: ( حتى يلقيها على لسان الساحر ) الساحر الذي يتعاطى السحر، وسيأتينا باب مستقل في السحر ومباحث السحر، والسحر: هو عبارة عن قراءات ورقى وطلاسم يتوصل بها الساحر إلى التأثير على بدن المسحور وعقله وإرادته. وهل السحر كفر أو ليس كفراً؟

ينقسم إلى قسمين، كما جاء عن الشافعي رحمه الله أنه يقال لنا: صف لنا سحرك. فما كان بواسطة الشياطين فهذا كفر، وما كان عن طريق الأدوية والعقاقير فهذا كبيرة من كبائر الذنوب.

وعلى كل حال -كما سيأتينا إن شاء الله- عقوبة الساحر القتل في كل حال؛ لعظيم فساده؛ ولأن هذا هو الوارد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، سيأتينا ما يتعلق بإتيان السحرة وأقسامهم ومتى يكون شركاً أكبر ومتى يكون كفراً أصغر.. إلى آخره.

قال: ( على لسان الساحر أو الكاهن ) الكاهن: هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل ويدعي معرفة الأسرار.

( فربما أدركه الشهاب ) يعني: أدرك المستمع الشهاب، والشهاب: هو الذي يرمى به قبل إلقائها، والشهاب هذا ليس الكوكب، الكوكب شيء عظيم، والشهاب جزء من الكوكب، وإلا فإن الشهاب يعني: النجم، وهذا شيء عظيم.

قال: ( قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه ) ألقاها لمن بعده قبل أن يدركه الشهاب.

قال: ( فيكذب معها مائة كذبة ) هذا ليس على سبيل الحصر، وإنما هو على سبيل التمثيل، يعني: أنه يكذب معها كذبات كثيرة.

قال: ( فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا كذا وكذا؟ ) يعني: الكاهن الآن يكذب هذه الكذبات ويصدق الكاهن بكلمة واحدة، بسبب كلمة واحدة يصدق، وكلمات كثيرة مع أنه كذب فيها لا يكذب، وهذا يدل على ضعف الإيمان.

قال: ( قال لنا يوم كذا وكذا كذا وكذا؟ فيصدق بتلك الكلمة ) يعني: يصدق الساحر أو الكاهن بتلك الكلمة ( التي سمعت من السماء ).

وجه الشاهد من هذا الحديث كما تقدم في الآية، فإن الله سبحانه وتعالى ذكر حال الملائكة حينما يسمعون كلام الله عز وجل حينما يوحي إلى جبريل بالأمر من عنده سبحانه وتعالى فتصيبهم الغشية، فإذا كان هذا في حال الملائكة وغيرهم لا يدانيهم ولا يساويهم في الصفات ولا في القوة، ففي هذا إبطال عبادة الملائكة لما يصيبهم من الفزع والخوف والخشية من الله سبحانه وتعالى، وإبطال من دونه من باب أولى، يعني: إبطال عبادة من دونهم من باب أولى، كالقبور والأضرحة ونحو ذلك.

وهذا الاستراق كان قبل البعثة، أما بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يتمكن الشياطين من استراق الوحي، وإنما هذا كان قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد البعثة انقطع ذلك؛ لئلا يختلط الوحي بكذب الدجلة السحرة والكهنة.

شرح حديث: (إذا أراد الله أن يوحي بالأمر...)

قال رحمه الله: وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. النواس بن سمعان صحابي جليل. رضي الله تعالى عنه.

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر ). الوحي: هو كلام الله عز وجل المنزل على نبي من أنبيائه.

( بالأمر ) يعني: واحد الأمور، الأمر واحد الأمور.

قال: ( تكلم بالوحي أخذت السماوات منه رجفة ) يعني: أصاب السماوات رجفة، يعني: ارتجفت واضطربت.

قال: ( أو قال: رعدة شديدة خوفاً من الله ) أو: هذه للشك، شك من الراوي: هل قال النبي صلى الله عليه وسلم رجفة أو قال: رعدة شديدة خوفاً من الله عز وجل.

قال: ( فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا ) يعني: أصابهم الغشي.

قال: ( أو خروا سجداً خوفاً من الله ) رعدة شديدة خوفاً من الله عز وجل.

( فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا أو خروا سجداً، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد ) يعني: بما أراده الله عز وجل.

قال: ( ثم يمر جبريل على الملائكة، كلما مر بسماء سأله ملائكتها ) ملائكة هذه السماء.

( ماذا قال ربنا يا جبريل؟! فيقول جبريل: قال الحق ) قول الحق، تقدم.

قال: ( وهو العلي الكبير، فيقولون كلهم مثلما قال جبريل، فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل ). أمره الله عز وجل من السماء والأرض.

الشاهد من هذا الحديث: أن هذا الحديث فيه عظمة الله عز وجل، وما يحصل في السماوات عندما يتكلم الله عز وجل بالوحي من الرجفة والاضطراب، وكذلك ما يحصل لأهل السماء من الغشي والخرور سجداً لله عز جل تعظيماً لله عز وجل وخوفاً منه، فإذا كان هذا حال الملائكة رضي الله تعالى عنهم دلت على بطلان عبادتهم من دون الله عز وجل، وعلى بطلان عبادة من دونهم من لا يساويهم في الصفات والقوة.

وأيضاً: أن المنفرد بالعبادة هو الله سبحانه وتعالى؛ لأنه هو الذي يستحق أن يخاف منه هذا الخوف العظيم، وأن يخشى هذه الخشية، إذا كان كذلك فدل ذلك على أنه هو المستحق أن يفرد بالعبادة دون من سواه.

والله أعلم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح كتاب التوحيد [20] للشيخ : خالد بن علي المشيقح

https://audio.islamweb.net