إسلام ويب

للقياس أربعة أركان وهي: الأصل والفرع والعلة والحكم. وله شروط لا بد من توافرها منها: أن يكون الأصل ثابتاً بنص أو إجماع، وأن يتفق الخصمان على الأصل، ووجود العلة في الأصل والفرع، والعلة: هي الوصف الجامع بين الأصل والفرع المناسب لتشريع الحكم. وتثبت العلة بعدة

أركان القياس

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

أركان القياس أربعة:

الركن الأول: الأصل؛ وهو المقيس عليه: وهي الحادثة التي جاء الشارع بحكمها إما بالنص أو بالإجماع.

الركن الثاني: الفرع؛ وهو المقيس: وهي الحادثة التي لم يأت لها حكم.

الركن الثالث: الحكم: وهو الأمر المقصود إلحاق الفرع بالأصل فيه.

الركن الرابع: العلة: وهي المعنى المشترك بين الأصل والفرع المقتضي إثبات حكم الأصل في الفرع.

شروط القياس

قال المؤلف رحمه الله: [ومن شرط الفرع: أن يكون مناسباً للأصل، ومن شرط الأصل: أن يكون ثابتاً بدليل متفق عليه بين الخصمين، ومن شرط العلة أن تطرد في معلولاتها؛ فلا تنتقض لفظاً ولا معنى. ومن شرط الحكم: أن يكون مثل العلة في النفي والإثبات، والعلة: هي الجالبة للحكم، والحكم: هو المجلوب للعلة].

لكي يثبت القياس ويكون صحيحاً يشترط له شروط:

الشرط الأول: أن يكون حكم الأصل حكماً شرعياً عملياً ثابتاً بالنص أو الإجماع، فقولنا: (حكم شرعي) هذا يخرج اللغوي والعقلي، وقولنا: (عملي) هذا يخرج العقدي كما تقدم، وقولنا: (ثابتاً بالنص والإجماع) فلابد أن يكون حكم الأصل ثابتاً بالنص والإجماع، فإن كان حكم الأصل ثابتاً بالقياس فلا يصح القياس عليها.

فمثلاً الأرز قلنا: يجري فيه الربا قياساً على البر، ولكن إن قلنا: يجري الربا في الذرة قياساً على الأرز فهذا لا يصح؛ لأن حكم الأصل ثبت في القياس، ولذلك نقول: لا يصح، ولا بد أن يكون حكم الأصل ثبت بالنص أو الإجماع.

الشرط الثاني: أنه لا بد أن يتفق الخصمان على الأصل، ولا يشترط في ذلك الإجماع، بل لا بد أن يتفق الخصمان على الأصل، فإذا كان هناك من ينازع في الأصل فالخصم ينازع في الأصل فإنه لا يصح القياس، فمثلاً جلد الميتة على المذهب نجس ولا يطهر بالدبغ، قالوا: كجلد الكلب، وهناك من لا يسلم أن جلد الكلب نجس مثلاً عند الحنفية أن جلد الكلب ليس نجساً، فيقول: أصلاً أنا ما أسلم بأن جلد الكلب نجس، فلا بد أن يتفق الخصمان على الأصل المقيس عليه، ولا يشترط اتفاق الجميع، بل لا بد من اتفاق الخصمين.

الشرط الثالث: أن يكون حكم الأصل ثابتاً ليس منسوخاً، وأن يكون ثبوته بدليل يغلب على الظن صحته.

الشرط الرابع: أن يكون حكم الأصل معقولاً لتأدية الحكم، فما لا يعقل لا يصح القياس عليه، مثل عدد الركعات فلا ندري ما العلة؛ لأن عدد الركعات العلة فيها تعبدية وليست معقولة، ومثل عدد طواف السعي العلة فيه تعبدية وليست معقولة، ومثل ولوغ الكلب في الإناء قال العلماء رحمهم الله: العلة فيه تعبدية وليست معقولة، ومثل أمر النائم إذا قام من نوم الليل, هل هو ناقض الوضوء؟ على المذهب العلة تعبدية وليست معقولة، فقولهم: تعبدي هذا لا يقاس عليها، فإذا رأيت عندهم تعبدي فهذا يعني أنه لا يقاس عليه.

الشرط الخامس: أن توجد العلة بالفرع بتمامها، وهذا قياس الأولى أو المساواة، أو يغلب على الظن وجودها في الفرع.

الشرط السادس: ألا يكون حكم الفرع منصوصاً عليه بنص يخالف الأصل، وإن كان منصوصاً عليه بنص يوافق الأصل فيجوز القياس؛ لتكثير الأدلة، يعني: إذا كان الفرع منصوصاً عليه بنص يخالف الأصل فهذا لا يصح القياس، ولكن إذا كان منصوصاً عليه بنص يوافق الأصل فيصح القياس هنا تكثيراً للأدلة.

الشرط السابع: أن يكون الحكمان متساويين؛ يعني: حكم الفرع يكون مساوياً لحكم الأصل، فلا يقاس واجب على مندوب وبالعكس.

الشرط الثامن: أن تكون العلة متعدية وليست قاصرة، فإذا كانت العلة قاصرة فإنه لا يصح التعليل بها.

الشرط التاسع: أن تكون العلة ثابتة بمسلك من مسالك العلة، وهي: الإجماع، والنص، والاستنباط، وتنقيح المناط إلى... آخر ما سيأتي بيانه إن شاء الله.

الشرط العاشر: ألا تخالف نصاً ولا إجماعاً إذا كانت مستنبطة، فالعلة يشترط فيها ألا تخالف نصاً أو إجماعاً، فالقياسي إذا خالف النص فإنه يسمى فاسد الاعتبار.

الشرط الحادي عشر: أن تكون وصفاً مناسباً لترتب الحكم، فالوصف غير المناسب كالوصف الطردي لا يصح أن يكون علةً؛ مثل الطول فهذا وصف طردي، أو مثلاً حرمت الخمر لكونها خمرة فهذا وصف طردي، لا يصح هذا؛ لأنه ليس وصفاً مناسباً لإثبات الحكم، وهذا الشرط تقدم أن القياس يكون في الأحكام العملية الشرعية وليس في العقائد إذا كان هذا سيؤدي إلى البدعة.

وهذه الشروط أشار المؤلف رحمه الله إلى شيء منها بقوله: (ومن شرط الفرع أن يكون مناسباً للأصل)، فالمناسبة تكون بالعلة، وكما تقدم لنا أن تكون العلة وصفاً مناسباً يصح لترتب الحكم عليها، فقوله هنا: (من شرط الفرع أن يكون مناسباً للأصل) المناسبة تكون في العلة، فذكرنا من الشروط أنه يشترط في العلة أن تكون وصفاً مناسباً يصح ترتب الحكم عليه؛ مثل قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( لا يقضي القاضي وهو غضبان )، فالعلة التشويش؛ أي تشويش الفكر والذهن، وهذا نقول: بأنه وصف مناسب، يصح ترتب الحكم عليه، فنقول: لا يقضي أيضاً وهو حاقن، أو لا يقضي وهو جائع ونحو ذلك، ما دام أنه يصح لترتب الحكم عليه.

وقوله: (ومن شرط الأصل: أن يكون ثابتاً بدليل متفق عليه بين الخصمين).

وهذا تقدم أنه لا يشترط إجماع الأمة، وإنما يشترط أن يكون الأصل ثابتاً بدليل متفق عليه بين الخصمين.

وقوله: (ومن شرط العلة: أن تطرد في معلولاتها، فلا تنتقض لفظاً ولا معنىً) بمعنى: أنه كلما وجدت العلة في صورة من الصور وجد معها الحكم، فمثلاً: الإسكار علة في تحريم الخمر، فكلما وجد الإسكار في شيء وجد الحكم، ومثل ذلك أيضاً علة الكيل أو الوزن، فكلما وجد الكيل في شيء وجد الحكم وهكذا.

والمراد بقوله: (ومعلولاتها) أي: الأحكام المعللة بها، كتحريم الربا في البر معلل بالكيل، أو بالكيل والطعم، تحريم الربا في الذهب معلل بالوزن، أو معلل بالثمنية.

وقوله: (فلا تنتقض لفظاً ولا معنىً) يعني: الانتقاض هو أن يوجد صورة من الصور ولا يوجد معها الحكم، فإذا وجد صورة من الصور ولا يوجد معها الحكم, فهل هذا من القوادح التي تبطل القياس مطلقاً، أو نقول: بأن في المسألة تفصيلاً؟

هذا فيه رأيان:

الرأي الأول: وهو ظاهر كلام المؤلف رحمه الله: أن هذا من قوادح القياس؛ يعني أن توجد صورة من الصور وينتفي معها الحكم.

والرأي الثاني: أنه من القوادح إلا إذا كان هناك مانع منع من ترتب الحكم فلا يكون هذا من القوادح التي تبطل القياس؛ فمثلاً القتل العمد موجب للقصاص، فالعلة هي إيجاب القصاص، والعلة هي كون القتل عمداً، والقتل العمد موجب للقصاص، فانتفت العلة في قتل الأب لابنه، فالأب إذا قتل ابنه تنتفي معه العلة، فهل نقول: بأنه لما انتفت لم يترتب الحكم في هذه الصورة وهل نقول: بأن هذا مبطل للقياس أو نقول: بأن العلة تخلفت لمانع وهو الأبوة؛ لأنها مانعة من ترتيب الحكم؟

الصحيح في ذلك أن القياس صحيح هنا، وأنه كلما وجد العمد بالعدوان نقول: وجد موجبه وهو القصاص، وأما هنا فتخلفت العلة بمانع وهو الأبوة، فهي مانعة من تأثير العلة في الحكم، وإذا كان هناك مانع فهنا نقول: لا يلزم من ذلك أن يكون القياس باطلاً.

وقال المؤلف رحمه الله أيضاً: (ومن شرط الحكم أن يكون مثل العلة في النفي والإثبات).

تقدم أن ذكرنا أنه يشترط من شروط القياس: أن يتساوى الحكمان: الفرع والأصل، وهنا قال المؤلف: (من شرط الحكم أن يكون مثل العلة في النفي والإثبات)، فيكون الحكم تابعاً للعلة نفياً وإثباتاً، فإذا وجدت العلة وجد الحكم، وإذا انتفت العلة انتفى الحكم، مثلاً: الإسكار هو علة الخمر، فإذا وجد الإسكار وجد الحكم، وإذا انتفى الإسكار انتفى الحكم.

العلة وأحكامها

ثم قال: (العلة هي الجالبة للحكم).

سبق أن ذكرنا تعريف العلة، وعرفها المؤلف رحمه الله بقوله: (العلة هي الجالبة للحكم) ومعنى ذلك أن الشارع جعلها جالبةً للحكم، فإذا وجدت العلة عدي حكم الأصل إلى الفرع.

ثم قال: (والحكم هو المجلوب للعلة).

هذا أيضاً تعريف للركن الرابع أو الثالث من أركان القياس، فيقول: الحكم هو المجلوب للعلة، يعني أن الحكم هو ما جلبته العلة واقتضت من تحريم أو تحليل أو صحة أو فساد إلى آخره.

بقي علينا مسألة مهمة وهي تتعلق بالعلة وطرق إثبات العلة، ومسائل إثبات العلة تعرض لها المؤلف رحمه الله.

تعريف العلة لغة واصطلاحاً

فنقول: العلة لغة: هي المرض. وأما في الاصطلاح: فهي الوصف الجامع بين الأصل والفرع المناسب لتشريع الحكم، وتسمى العلة بالمناط وهذا تجده كثيراً في كتب أصول الفقه، وتسمى أيضاً بالمؤثر، وتسمى أيضاً بالمظنة والمستدعي والجامع والسبب والمقتضي، فهذه كلها من تسميات العلة.

الأوصاف التي تعلل بها

واعلم أن الأوصاف التي يعلل يعني تكون علة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: وصف يعلم أنه مناسب لبناء الحكم عليه، فهذا وصف صحيح يصح القياس عليه، مثل الإسكار في الخمر، فهذا وصف مناسب يصح لبناء الحكم عليه، فنقول: يحرم النبيذ لعلة الإسكار.

القسم الثاني: وصف يعلم أنه غير مناسب لبناء الحكم عليه لعدم التفات الشارع إليه، وهذا في الأوصاف الطردية، مثل الطول والقصر والسمن واللون من سواد وبياض وغير ذلك, فهذا لا يصح التعليل به، والقياس به باطل.

القسم الثالث: وصف متردد بين القسمين بين كونه مناسباً وبين كونه عدم مناسب وهذا يسمى بالشبه، وتقدم لنا قياس الشبه وهو أن يكون متردداً بين أصلين، فهو من حيث لم تتحقق فيه المناسبة يشبه الطردي، يعني كونه لم يتحقق فيه الوصف المناسب فهذا يشبه الوصف الطردي، ومن حيث أنه لم يتحقق فيه انتفاء المناسبة أيضاً فهذا يشبه الوصف النسبي، فالوصف الشبهي متردد بين أمرين: بين الوصف الطردي، والوصف النسبي.

وتقدم لنا أن القياس الشبهي هذا كثير عند الفقهاء رحمهم الله وخصوصاً الحنابلة يكثرون منه جداً، والشافعية يكثرون منه؛ لأنه حجة، وتقدم أيضاً أن المحققين من فقهاء الحنفية يرون أنه ليس بحجةٍ.

فالآن تبين لنا علة نعلم أنها مناسبة فهذه يصح التعليل بها، أما علة نعلم أنها ليست مناسبة فهذه لا يصح التعليل بها، وأما علة مترددة بين الأمرين فهذه جمهور الشافعية والحنابلة يرون أنها حجة، والرأي الثاني: أنها ليست حجة، وهذا عند الحنفية.

مسالك إثبات العلة

ولكي تثبت العلة فهناك مسالك:

المسلك الأول: النص، يعني: إذا نص الشارع عليها.

والنص منه ما هو صريح في العلة، ومنه ما ليس بصريح في العلة وهو ما يسمى بالإيماء، فأما الصريح في العلة مثل: قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إنما جعل الاستئذان من أجل البصر )، فعلل النبي عليه الصلاة والسلام الاستئذان من أجل البصر، ومنه ما ليس بصريح وهو ما يسمى بالإيماء وهو التنبيه على العلة، وهذا له صور، من صور ذلك: أن يقترن بالحكم وصف على وجه لكان ذكره لا فائدة له، يعني: إذا اقترن بالحكم وصف لو قلنا: بعدم اعتباره لكان ذلك أبعد عن الفصاحة ولا فائدة منه، وإذا قلنا باعتباره كان ذلك أقرب إلى الفصاحة.

ومن صورها: أن يذكر عقب الحكم وصف بالفاء، ومثال ذلك: قول الله عز وجل: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ [البقرة:222]، فهنا ذكر الحكم عقب وصف بالفاء، قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ [البقرة:222].

وكذلك أيضاً من صوره: أن يذكر الحكم مقروناً بوصف مناسب، مثل قول الله عز وجل: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ [الانفطار:13]، هذا بالنسبة لمسلك النص.

المسلك الثاني: الإجماع على أن العلة في كذا هي العلة في كذا، فمثلاً العلماء رحمهم الله أجمعوا على أن العلة في الحجر على الصغير هي الصغر فهذه علة، فعلة الولاية على الصغير هي كونه صغيراً، فإذا بلغ انتفت العلة.

المسلك الثالث: الاستنباط، والاستنباط هذا تحته أقسام:

القسم الأول: السبر والتقسيم، فالتقسيم: هو حصر الأوصاف المحتملة للتعليل، فيقال: العلة في كذا إما كذا وإما كذا فهذا حصر.

السبر: هو اختيار الوصف الصالح للتعليل؛ أي: يختار المجتهد الوصف الصالح للتعليل. فالتقسيم تقول: العلة كذا أو كذا، والسبر بعد أن تظهر العلل تقوم باختيار الوصف المناسب للتعليل، فالسبر مبني على هذين الأمرين، فالتقسيم حصر الأوصاف، والسبر اختيار الوصف الصالح وإبطال الباطل، مثال ذلك قول الله عز وجل: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35]، فالتقسيم إما أنهم خلقوا أنفسهم، أو خلقهم الله عز وجل، أو خلقوا بغير خالق، أو خلقهم أحد غير الله عز وجل، هذا يسمى تقسيم، والآن تحتاج إلى السبر فتنظر بين الأوصاف الصالحة والأوصاف غير الصالحة، وتبطل ما كان باطلاً وتثبت ما كان صحيحاً.

القسم الثاني: الدوران الوجودي، ويسمى أيضاً بالدوران، والمراد به: اقتران حكم بوصف ما وجوداً وعدماً، فهذا دليل على أنه علته، يعني: كونه يقترن وصف بحكم ما وجوداً وعدماً؛ يوجد بوجوده وينتفي بانتفائه فهذا دليل على أنه علته، ولا يكتفى بوجوده في الوجود فقط، بل لا بد أن يكون يوجد بوجوده وينتفي بانتفائه، فلا يكتفي اقترانه في الوجود فقط أو في العدم فقط.

القسم الثالث: المناسبة والإخالة، والإخالة يعني: أنه يظن أن هذا الوصف مناسب، والمراد به: أن يكون الحكم مقترناً بوصف يصلح لبناء الحكم عليه، فيجعل هذا الوصف علةً لهذا الحكم.

وهذا كما تقدم لنا مثل الإسكار علة في تحريم الخمر، قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( كل مسكر خمر )، فالخمر هنا الآن اقترن بوصف يصلح لبناء الحكم عليه، فنقول: يجعل هذا الوصف علةً لهذا الحكم.

المسلك الرابع: تنقيح المناط، والتنقيح في اللغة: التشذيب والتهذيب، والمناط -كما تقدم- أنه من أسباب العلة. وتعريف تنقيح المناط في الاصطلاح: أن ينص الشارع عن الحكم ويضيفه إلى وصف، ويقترن به أوصاف أخرى، يعني أن الشارع ينص على الحكم ويضيفه إلى وصف ويقترن بهذا الوصف أوصاف أخرى لا مدخل لها في الإضافة، فيقوم المجتهد بحذف ما لا يصلح، فمثلاً في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه في قصة المجامع امرأته في نهار رمضان أنه ( جاء أعرابي ينتف شعره، ويلطم خده، ويقول: هلكت، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي في نهار رمضان، قال: أعتق رقبة ) إلى آخره، فهنا عدة أوصاف: كونه أعرابي فهذا وصف، وكونه يلطم خده وينتف شعره فهذا وصف أيضاً، وكونه جامع في نهار رمضان فهذا وصف آخر، وكون الجماع الآن صار للمكلف فهذا وصف، فكونه أعرابي هل يصح بناء العلة عليه أو لا يصح؟ فهذا نقول: بأنه لا يصح التعليل به كونه أعرابي، كونه أيضاً يلطم خده وينتف شعره نقول: هذا لا يصح بناء الحكم عليه، وكونه جامع في نهار رمضان فهذا وصف يصح بناء الحكم عليه، وكونه في رمضان أيضاً يصح، وكونه أفسد صوماً محترماً فهذا لا يصح؛ لأنك لو قلت: يصح لأدى ذلك إلى أنك توجب الكفارة في غير رمضان، فهذا لا بد أن المجتهد ينظر في العلل وينقح المناط، وهذا يسمى تنقيح المناط، والأصل عندنا أن ما جاء من العلل فالأصل إثباتها ولا يجوز حذفها إلا بدليل، فمثلاً نحذف الأعرابي؛ لأن الأصل تساوي الأحكام، وكونه ينتف شعره ويلطم خده فالأصل أن هذا لا اعتبار له في الشارع حتى لو لم يأت؛ لعلمنا أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يغير في الحكم شيء، وهكذا.

وقوله: ( في نهار رمضان ) فهذا يصح تعليل الحكم به، فهذا ما يسمى بتنقيح المناط، وبعض الأصوليين لا يفرق بين تنقيح المناط وبين ما يسمى بالسبر والتقسيم، وبعض الأصوليين فرق بينهما، فجعل كل منهما مستقلاً، فقال: بأن السبر والتقسيم إذا كانت العلة مستنبطة، أما تنقيح المناط فهو إذا كانت العلة جاءت في النص، فهي جاءت في النص ومحصورة، أما بالنسبة للسبر والتقسيم فهي لم تأت بالنص وإنما يستنبطها المجتهد، فيستنبط عللاً ثم بعد ذلك يقوم بسبر هذه العلل، أما بالنسبة لتنقيح المناط فقالوا: بأنه خاص فيما كان منصوصاً عليه.

وقبل أن ننتهي من المسلك الرابع هناك مسألة وهي أن تجد في عبارة الأصوليين قولهم تنقيح المناط وتحقيق المناط وتخريج المناط فما الفرق بينها؟ أما تنقيح المناط فسبق أن ذكرنا حكمه.

وأما تحقيق المناط: فهو أن المجتهد يتحقق من وجود العلة في الفرع، فيتحقق من وجود علة الأصل في الفرع الملحق.

وأما بالنسبة لتخريج المناط: فهو أن ينص الشارع على حكم في محل ولا يتعرض لعلته لا صراحةً ولا إيماءً، فيقوم المجتهد باستنباط علة حكم الأصل.

والمسلك الأخير هو: الوصف الشبهي، وهذا تقدم الكلام عليه. والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح متن الورقات [23] للشيخ : خالد بن علي المشيقح

https://audio.islamweb.net