إسلام ويب

إن الخاص من الأحكام الشرعية الوضعية ينقسم إلى: خاص متصل؛ كالاستثناء والتقييد بالشرط والتقييد بالصفة. وخاص منفصل وهو ما يتعلق بالحس، أو العقل، أو الإجماع، أو قول الصحابي، أو القياس... إلخ. وأبرز هذه الأقسام المخصص بالاسثتناء، والاستثناء لا بد أن تتوافر فيه

دخول النساء في الخطاب العام

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المؤلف رحمه الله: [ والخاص يقابل العام، والتخصيص تمييز بعض الجملة، وهو ينقسم إلى: متصل ومنفصل، فالمتصل: الاستثناء, والتقييد بالشرط, والتقييد بالصفة. والاستثناء إخراج ما لولاه لدخل في الكلام، وإنما يصح بشرط أن يبقى من المستثنى منه شيء.

ومن شرطه: أن يكون متصلاً بالكلام، ويجوز تقديم الاستثناء على المستثنى منه، ويجوز الاستثناء من الجنس ومن غيره].

تقدم لنا العام وذكرنا تعريفه وأنه في اللغة: الشامل، وأما في الاصطلاح فهو: اللفظ المستغرق لجميع أفراده بلا حصر.

ثم بعد ذلك تكلمنا أن العام له صيغ تخصه وصيغ لا تخصه، ثم بعد ذلك تكلمنا عن صيغ العام، ثم بعد ذلك تكلمنا عن أقسام العام، ثم ذكرنا أن العام حجة مطلقاً سواء كان عاماً محفوظاً لم يدخله تخصيص، أو كان عاماً غير محفوظ قد دخله التخصيص.

لكن بقي من المسائل المتعلقة بالعام مسألتان:

المسألة الأولى: دخول النساء في الخطاب العام، فنقول: هذا لا يخلو من ثلاثة أمور:

الأمر الأول: الخطاب العام الذي يشمل الرجال والنساء، فهذا يدخلن فيه بالاتفاق، ومن أمثلة ذلك: قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج:1]، فقوله: (يا أيها الناس) هذا يشمل الرجال والنساء.

الأمر الثاني: ما يختص بالرجال، فهذا لا يدخل فيه النساء بالاتفاق، مثل: لفظ (رجل) أو لفظ (ذكر)، فهذا لا يدخل فيه النساء، وإن كانت القاعدة أن ما ثبت في حق الرجال ثبت في حق النساء إلا لدليل، لكن من حيث دخول النساء في هذا الخطاب العام هل يدخلن أو لا يدخلن؟ نقول: لا يدخلن، لكن عندنا قاعدة وهي: أن ما ثبت في حق الرجال ثبت في حق النساء والعكس، إلا لدليل.

الأمر الثالث: لفظ الجموع المذكرة المضمرة والظاهرة، مثل قول الله عز وجل: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [الأعراف:31]. فقوله: (كلوا واشربوا) هذا من الجموع المذكرة، وقول الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [آل عمران:102] هذا أيضاً من الجموع المذكرة، فهل يدخل في ذلك النساء أو لا يدخلن؟ هذا موضع خلاف على رأيين، وإذا قلنا: بأنهن لا يدخلن فالقاعدة -كما سبق- أن ما ثبت في حق الرجال ثبت في حق النساء إلا لدليل، فأصبح عندنا قسمان متفق عليهما، وقسم مختلف فيه.

أما القسمان المتفق عليهما فهما:

الأول: الشامل للذكور والنساء، مثل (يا أيها الناس) هذا شامل.

والثاني: ما دل على اختصاص الرجال به مثل: لفظ رجل هذا لا يدخل فيه النساء.

أما القسم المختلف فيه فهو: ألفاظ الجموع المذكرة الظاهرة والمضمرة، فهذا اختلف فيه الأصوليون.

كذلك الأرقاء هل هم داخلون في الخطاب العام أو ليسوا داخلين؟ هذا موضع خلاف، والصحيح دخولهم في ذلك، وكونهم تسقط عنهم بعض التكاليف المالية أو البدنية فلا يلزم من ذلك أنهم لا يدخلون، ونظير ذلك المريض فهو يدخل في الخطاب العام، والمسافر يدخل في الخطاب العام، والمرأة الحائض تدخل في الخطاب العام، ومع ذلك سقطت عنهم بعض التكاليف.

الخاص

قال رحمه الله: (والخاص يقابل العام).

تعريف الخاص

الخاص في اللغة هو: ما يدل على الانفراد وقطع الاشتراك.

وأما في الاصطلاح فهو: اللفظ الدال على محصور.

فقولنا: (على محصور) هذا يخرج به العام؛ لأن العام هو اللفظ المستغرق لجميع أفراده بلا حصر.

وقولنا: (اللفظ) تقدم الكلام عليه، فالخاص هو: اللفظ الدال على محصور، مثل: أسماء العدد؛ مائة وألف، هذا لفظ دال محصور، ومثل: اسم العلم؛ زيد وعمرو، هذا لفظ دال على محصور، ومثل: اسم الإشارة: هذا مجتهد، هذا لفظ دال على محصور.

تعريف التخصيص

قال: (والتخصيص تمييز بعض الجملة).

هكذا عرف المؤلف رحمه الله التخصيص بأنه: تمييز بعض الجملة، وقوله: (الجملة) الضمير هنا يعود على العام، يعني: إفراد بعض أفراد العام بحكم يخالف العام وذلك لدليل.

وهذا التعريف الذي عرف به المؤلف رحمه الله بقوله: (تمييز بعض الجملة) أي: تخصيص بعض الجملة.

وقوله: (بعض) يخرج به الكل، وهذا لا يسمى تخصيصاً وإنما يسمى نسخاً، و(بعض الجملة) هذا يعود إلى جملة العام، يعني: تخصيص بعض أفراد العام بحكم يخالف العام، والأحسن أن يقال في تعريف الخاص: هو قصر العام على بعض أفراده بدليل يدل على ذلك.

حكم الخاص

حكمه كحكم العام بالإجماع على أنه جائز، يعني: يجوز أن يخصص بعض أفراد العام بحكم مستقل لدليل، فشرط التخصيص وجود الدليل؛ لأن الأصل في القاعدة: أن العام يبقى على عمومه إلا لدليل يدل على قصر بعض أفراده بحكم مخالف.

وأيضاً: يشترط أن يكون الحكم مخالفاً للحكم العام، أما إذا كان موافقاً فإنه لا يدل على التخصيص، وتقدم لنا قريباً حديث أبي سعيد : ( لا صلاة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس )، وحديث ابن عمر : ( لا تتحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها ). فهنا النهي ( لا صلاة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس ) يشمل النهي من بعد صلاة الصبح إلى أن تطلع الشمس، فنهى عن الوقتين: ما بعد الصبح وما بعد الطلوع حتى الارتفاع، ( ولا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغيب الشمس )، نهى عن الصلاة بعد صلاة العصر وعنها حال الغروب حتى يكتمل الغروب، أما حديث ابن عمر : ( لا تتحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها )، فهنا خصص النبي عليه الصلاة بذكر بعض أفراد العام.

فحديث أبي سعيد شمل أربعة أفراد، وحديث ابن عمر شمل فردين فقط، فهل هذا من باب التخصيص أو ليس من باب التخصيص؟ نقول: هذا ليس من باب التخصيص؛ لأنه ذكر بعض أفراد العام بحكم يوافق العام، نهى عن الصلاة في طلوع الشمس حال الطلوع وحال الغروب، ونهى عن الصلاة أيضاً.

ففي حديث أبي سعيد نهى عن الصلاة في أربعة أوقات، وفي حديث ابن عمر نهى عن الصلاة في وقتين، فنقول: بأن هذا ليس من التخصيص، فشرط التخصيص أن يكون الحكم مخالفاً، أما إن كان موافقاً فهذا ليس من التخصيص، وإنما ذكره الشارع لبيان أهميته، أو لتأكيد الأمر فيه.

مثال آخر: قال: أوقفت هذا البيت على طلبة العلم، ثم بعد ذلك قال: أوقفت هذا البيت على طلبة العلم في المسجد الفلاني، هل هذا يدل على التخصيص أو لا يدل على التخصيص؟ نقول: هذا لا يدل على التخصيص؛ لأنه لما قال: أوقفت هذا البيت على طلبة العلم هذا عام، وقوله: على طلبة المسجد الفلاني هذا خاص، فالحكم هنا أن هذا لا يقتضي التخصيص؛ لأن الحكم موافق، فما دام أنه موافق فلا يقتضي التخصيص، لكن يدل على تأكيد طلبة العلم في المسجد الفلاني فنبدأ بهم، فإن فضل شيء في ذلك الوقت نصرفه على بقية طلبة العلم، أما إن كان مخالفاً فإنه يقتضي التخصيص، مثال ذلك: قول الله عز وجل: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]. فهذا يشمل كل الأولاد الذكور والإناث، المسلم والكافر؛ لأن في قوله: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء:11] عموم نوعه مضاف إلى معرفة، وقلنا: بأن المضاف سواء كان جمعاً أو مفرداً إذا كان مضافاً إلى معرفة فإنه يقتضي العموم، فيشمل في الآية كل الأولاد الذكور والإناث، المسلم والكافر. ثم جاء قول النبي عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: ( لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم ). فالحكم هنا مخالف, فنقول: بأنه يقتضي التخصيص، ما دام أن الحكم هنا مخالف.

وهذه القاعدة يستفاد منها في ألفاظ الموصين والموقفين، ويستفاد منها عند الاستدلال، فأنت تنظر في العموم وتنظر في الحكم الوارد هل هو موافق أو ليس موافقاً؟ فإن كان موافقاً قلت: هذا لا يقتضي التخصيص، وإن كان مخالفاً سلمت بأنه يقتضي التخصيص.

أقسام التخصيص

قال رحمه الله: (وهو ينقسم إلى متصل ومنفصل).

التخصيص ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: تخصيص متصل، والمتصل هو: الذي لا يستقل بنفسه.

والقسم الثاني: المنفصل، والمنفصل هو: الذي يستقل بنفسه.

والمؤلف رحمه الله تكلم على التخصيص المتصل، أما المنفصل فلم يتكلم عليه، ويضرب الأصوليون أمثلة للتخصيص المنفصل، مثل: التخصيص بالحس، والتخصيص بالعقل، والتخصيص بالإجماع، والتخصيص بقول الصحابي إذا كان له حكم الرفع، والتخصيص بالقياس، والتخصيص بالمفهوم، والتخصيص بالنص، فهذه مخصصات منفصلة، ومن أمثلتها قول الله عز وجل: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل:23] فقوله: (كل شيء) من ألفاظ العموم، ونقول: خصصه الحس، فالحس يدل على أن هناك أشياء لكن لم تؤت بعض هذه الأشياء.

وأيضاً: قول الله عز وجل: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [الأحقاف:25] فقوله: (تدمر كل شيء) هنا الحس خصص أنها لم تدمر كل الأشياء فلم تدمر السماء، ولم تدمر الجبال... إلى آخره، وبعض الأصوليين يقولون: بأن هذا ليس من قبيل التخصيص، وإنما هو عام أريد به الخاص، كما تقدم لنا في أقسام العام، كما في قول الله عز وجل: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6]. وكما في قول الله عز وجل: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [آل عمران:173].

والتخصيص بالعقل قالوا: من أمثلته: قول الله عز وجل: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر:62]، والعقل دل على أن الله سبحانه وتعالى لم يخلق صفاته، وبعض الأصوليين يعارض ذلك فيقول: هذا ليس من العام المخصص بالعقل، وإنما هو عام أريد به الخاص، كما تقدم في قول الله عز وجل: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء:11]، وقوله عليه الصلاة والسلام: ( لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم ).

المهم أن نفهم أن المخصص المنفصل هو: الذي يستقل بنفسه، وأما المخصص المتصل فهو: الذي لا يستقل بنفسه، بل يكون العام والخاص في نص واحد.

ومن أمثلة ذلك: قول الله عز وجل في الحديث القدسي: ( كل عمل ابن آدم له إلا الصوم ) فهنا خص الصوم، فـ(كل) هذه من ألفاظ العموم، فالله عز وجل خص منها الصوم.

وأيضاً: قول الله عز وجل: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97] فقوله: (على الناس) الألف واللام استغراقية، يعني: يشمل كل الناس أو يستغرق كل الناس، وقوله: (حج البيت) خصصه بقوله: (من استطاع إليه سبيلاً).

التخصيص بالاستثناء

قال رحمه الله: (فالمتصل: الاستثناء والتقييد بالشرط والتقييد بالصفة).

شرع المؤلف في بيان المخصصات المتصلة، وأول هذه المخصصات: الاستثناء، فقال: (الاستثناء، والاستثناء: إخراج ما لولاه لدخل في الكلام، وإنما يصح بشرط أن يبقى من المستثنى منه شيء، ومن شرطه: أن يكون متصلاً بالكلام، ويجوز تقديم الاستثناء على المستثنى منه، ويجوز الاستثناء من الجنس ومن غيره).

تعريف الاستثناء لغة واصطلاحاً

الاستثناء في اللغة: مأخوذ من الثني وهو: العطف، ومنه قولهم: ثنيت الحبل، أي: عطفت بعضه على بعض، ويطلق على الصرف، تقول: ثنيته عن كذا، أي: صرفته عنه.

وأما في الاصطلاح فعرفه المؤلف رحمه الله بقوله: (إخراج ما لولاه لدخل في الكلام) يضاف على ذلك بأن يقال: بإلا أو إحدى أخواتها.

وقوله: (إخراج ما لولاه لدخل في الكلام) قوله: (لولاه) الضمير هنا يعود على الإخراج، أي: لولا أن ذلك الإخراج موجود (لدخل في الكلام)، أي: لدخل المخرج في حكم الكلام السابق.

وقولنا: (بإلا أو إحدى أخواتها)؛ لكي يخرج المخصصات الأخرى، كالتخصيص بالصفة فإنها لا تكون بإلا أو إحدى أخواتها، التخصيص بالشرط لا يكون بإلا أو إحدى أخواتها.

شروط وقوع الاستثناء مخصصاً

الاستثناء لكي يكون مخصصاً لا بد له من شروط:

الشرط الأول: النية، هل يشترط أن ينوي المستثنى قبل تمام الاستثناء أو لا يشترط؟ المشهور من المذهب أنه لا بد أن ينوي قبل تمام المستثنى منه، فإن لم ينو فإنه لا يصح التخصيص، مثال ذلك: قال لزوجته: أنت طالق ثلاثاً وما نوى الاستثناء، فقال له أبوه: قل: إلا واحدة، فقال: إلا واحدة. فالحكم هنا لا يصح؛ لأنه لا بد أن ينوي قبل أن يقول: ثلاثاً.

ومثل ذلك أيضاً: أوقفت بيوتي، فهذا عام، كل البيوت مضاف إلى معرفة، فقيل له: إلا واحداً، فقال: إلا بيتاً. فنقول هنا: لا يصح؛ لأنه لم ينو. وهذا الرأي الأول.

والرأي الثاني: أن هذا ليس بشرط؛ ويدل لذلك حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في تحريم النبي عليه الصلاة والسلام مكة، وأن النبي عليه الصلاة والسلام لما ذكر تحريم مكة: ( وأنه لا يعضد شوكها، ولا يختلى خلاها، فقال العباس : يا رسول الله! إلا الإذخر؟ ) فالنبي عليه الصلاة والسلام في ظاهر الحديث لم ينو.

وحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: ( أن سليمان عليه السلام قال: لأطوفن الليلة على مائة امرأة تلد كل منها غلاماً يقاتل في سبيل الله، فقال الملك: قل: إن شاء الله. قال النبي عليه الصلاة والسلام: لو قال: إن شاء الله لكان دركاً لحاجته ). فظاهر الحديث أنه لو نوى الاستثناء فإن ذلك يصح.

الشرط الثاني: ألا يكون الاستثناء أكثر من النصف، وهذا عليه كثير من الأصوليين أنه إن كان الاستثناء أكثر من النصف فلا يصح، وعلى هذا يكون الاستثناء هذا له ثلاث حالات:

الحالة الأولى: أن يستثني الكل من الكل فهذا الاستثناء باطل، والتخصيص غير صحيح، مثاله: قال: زوجتي طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً. فنقول: هنا الاستثناء باطل؛ لأن الأصل في كلام المكلف إعماله دون إهماله، وهذه قاعدة، وقد حكي الاتفاق على ذلك، أو مثلاً: قال في الإقرار: عليه ألف ريال ثم قال: إلا ألف ريال، فهذا باطل استثناؤه.

الحالة الثانية: أن يستثني النصف فأكثر، مثل من قال: زوجتي طالق ثلاثاً إلا ثنتين، فالمشهور في المذهب: أنه لا يصح، ويبقى عليه ثلاث طلقات، فلا يصح أن يستثني أكثر من النصف. وهذا الرأي الأول.

والرأي الثاني: أن هذا صحيح، وأنه لا بأس به؛ لأنه جاء الاستثناء في القرآن وكلام العرب أكثر من النصف في الصفة، وكذلك في العدد, ومن ذلك قول الله عز وجل: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ [الحجر:42]، فقوله: (إلا من اتبعك من الغاوين) أن الأكثر هم الغاوون؛ لقول الله عز وجل: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103] .

وقوله تعالى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116]، وهذا القول هو الصحيح, أنه يصح أن يستثني النصف أو أكثر من النصف.

الحالة الثالثة: أن يستثني أقل من النصف فهذا حكمه صحيح بالاتفاق، مثل لو قال: له علي ألف ريال إلا مائتين فإنه يصح، أو قال: زوجتي طالق إلا طلقة واحدة، نقول: بأن هذا صحيح.

الشرط الثالث: اتصال الكلام، أي: أن يتصل المستثنى بالمستثنى منه حقيقةً أو حكماً، وهذا ما عليه جمهور الأصوليين، وقولنا حقيقة: مثل أن يقول: له علي ألف ريال إلا مائتين، أو مثلاً يقول: رقيقي أحرار إلا زيد، فهذا نقول بأنه حقيقة. وحكماً: أن يكون هناك فاصل من عطاس أو سعال أو تثاؤب ونحو ذلك، مثل أن يقول: زوجتي طالق ثلاثاً ثم يحصل له عطاس أو تثاؤب ونحو ذلك، فيقول: إلا واحدة. وهذا الرأي الأول.

الرأي الثاني: وهو المشهور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه يصح الاستثناء بالمشيئة ولو لسنة، وورد عن سعيد بن جبير وغيره: أنه يصح الاستثناء ولو لأربعة أشهر، لكن الصحيح أن هذا الكلام فيه نظر، ولو قلنا بهذا ما كان هناك حنث في الأيمان، ولا تقع الإقرارات صحيحة، ولا يكون هناك طلاق ولا عتاق، فيؤدي إلى إبطال العقود والأيمان وغير ذلك؛ لأنه لو قال: والله لأذهبن، ثم بعد ذلك لم يذهب، فبدلاً من أن يحلف يقول: إن شاء الله؛ لأن من استثنى لم يحنث، فيقول: إن شاء الله وينتهي، فهم استدلوا بظاهر الآية: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24]. وأيضاً: قول الملك لسليمان عليه الصلاة والسلام: ( قل: إن شاء الله ) لكن هذا ليس ظاهراً.

الرأي الثالث: أنه يصح الاستثناء ما دام أن الكلام واحد حتى وإن لم يحصل اتصال.

والصحيح: أنه إذا لم يكن هناك فاصل طويل عرفاً والكلام لا يزال واحداً فإنه يصح الاستثناء؛ ويدل لذلك حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.

الشرط الرابع: أن يكون الاستثناء والمستثنى منه صادرين من متكلم واحد، فلا يصح أن يكون المستثنى منه صادراً من متكلم، والاستثناء من متكلم آخر، فلو أنه قال: بعتك هذه السيارات، فقال أبوه: إلا واحدة، أو قال: وهبتك هذه السيارات، فقال أبوه: إلا واحدة، فهذا لا يصح؛ ودليله قول الملك لـسليمان عليه الصلاة والسلام: قل, ولو كان يصح لقاله الملك.

الشرط الخامس: أن يستثني باللفظ، وهذا فيما يتعلق بالعدد فلا يصح الاستثناء في القلب، أما المعدود فيصح أن يستثني بالقلب، فمثلاً لو قال: زوجتي طالق ثلاثاً ونوى إلا واحدة، فلا يصح ذلك، لكن بالنسبة للمعدود يصح؛ لأنه في اللغة العربية يأتي العام ويراد به الخاص، فمثلاً: لو قال: زوجاتي طوالق ونوى إلا اثنتين، فنقول: هذا صحيح؛ لأن العام يأتي في اللغة العربية ويراد به الخاص.

أو قال: وهبتك سياراتي أو بيوتي أوقاف، ونوى إلا بيت واحد، أو نوى إلا سيارة أو نحو ذلك، فنقول: بأن هذا صحيح في المعدود، لكن قال العلماء رحمهم الله: بشرط ألا يصرح في العدد، يعني: لو قال: زوجاتي الأربع طوالق ونوى إلا واحدة، قالوا: لا يصح، كما لو قال في العدد: زوجتي طالق ثلاثاً ونوى إلا واحدة. فقالوا: بأن هذا يصح بشرط ألا يصرح بالعدد.

الشرط السادس: أن يكون الاستثناء من جنس المستثنى منه، وهذا ذهب إليه بعض الأصوليين. وهو الرأي الأول.

والرأي الثاني: أن هذا ليس بشرط، سواء كان من جنس المستثنى منه، أو لم يكن من جنس المستثنى منه، فمثلاً: لو قال: له علي ألف ريال إلا ثوباً، هل نقول: يصح هذا الاستثناء أو لا يصح؟ فإن قلنا: بأنه لا يشترط أن يكون الاستثناء من جنس المستثنى منه صح، ونلزمه بألف ريال إلا قيمة الثوب، وإذا قلنا: أنه يشترط أن يكون الاستثناء من جنس المستثنى منه فيلزمه ألف ريال، وأما الثوب فإنه لا يلزمه؛ لأنه ليس من جنس المستثنى منه.

والصحيح: أنه لا يشترط؛ وهذا ذهب إليه المؤلف، قال المؤلف رحمه الله: (ومن شرطه: أن يكون متصلاً بالكلام، ويجوز تقديم الاستثناء على المستثنى منه، ويجوز الاستثناء من الجنس وغيره) فهذا القول ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله هو الصحيح؛ ودليله قول الله عز وجل: لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلامًا [مريم:62]، فلا شك أن السلام ليس من جنس اللغو.

وأيضاً: من أدلته قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29] .

وخلاصة الرأي الثاني: أن هذا ليس بشرط، وهذا القول هو الصحيح، وعلى هذا لو قال: وقفت بيوتي إلا مائة ألف، نقول: يصح. ولو قال: وهبتك سياراتي إلا خمسة آلاف ريال، نقول: بأن هذا صحيح.

قال المؤلف: (ويجوز تقديم الاستثناء على المستثنى منه). ليس بشرط أن يكون الاستثناء متأخراً عن المستثنى منه؛ ودليل ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير ).

ومثاله أيضاً لو قال: إلا واحدة أنت طالق ثلاثاً. أو: إلا سيارةً وهبتك كل سياراتي، أو قال مثلاً: إلا ألفاً له علي عشرة آلاف، وهكذا نقول: بأن هذا صحيح؛ لوروده في السنة.

الاستثناء بعد الجمل المتعاطفة بالواو

بقي علينا المسألة الأخيرة مما يتعلق بالتخصيص، وهي: إذا تعقب الاستثناء جملاً متعاطفة بالواو، هل هو راجع إلى الجميع، أو راجع إلى الجملة الأخيرة؟ نقول: هذا لا يخلو من أمرين:

الأمر الأول: أن تكون هناك قرائن تدل على رجوعه إلى الجميع، فهذا نقول: بأنه راجع إلى الجميع بلا إشكال، أو تكون هناك قرائن تدل على رجوعه إلى الجملة الأخيرة.

باختصار: بأنه راجع إلى الجملة الأخيرة، وبالاختصار: إذا كان هناك دليل أو قرينة تدل على رجوعه إما إلى الجميع أو إلى الجملة الأخيرة، فالأمر في ذلك ظاهر.

مثال ذلك: قول الله عز وجل: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا [النساء:92]، ففي قوله: (إلا أن يصدقوا) هل نقول: بأنه راجع إلى الجميع أو راجع إلى الدية؟ عندنا دليل على أنه حتى لو تنازل عن الدية، فالكفارة هذه حق الله عز وجل لا يمكن أن يتنازل عنه، فإذا كان هناك دليل يدل على الرجوع إلى الجملة الأخيرة أو الجمل كلها فالأمر ظاهر، لكن إذا لم يكن هناك دليل فالجمهور على أنه يعود إلى الجمل كلها.

وعند الحنفية: لا يعود إلا إلى الجملة الأخيرة، ومن أمثلة ذلك: قول الله عز وجل: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا [النور:4-5]، فقوله: (إلا الذين تابوا) هل هو راجع إلى الفسق، يعني: إذا تاب يرتفع عنه وصف الفسق، أو نقول: بأنه راجع إلى الفسق وقبول الشهادة؟

وقوله: (فاجلدوهم ثمانين جلدة) التوبة لا تسقط حق المخلوق، فنجلده ثمانين جلدة، لكن هل التوبة ترفع عنه وصف الفسق وعدم قبول الشهادة، أو نقول: لا ترفع عنه وصف الفسق فقط؟ فالحنفية يقولون: لا يعود إلا إلى الجملة الأخيرة فقط.

والأمر الثاني: أنه يعود إلى الجملة الأخيرة وإلى غيرها من الجمل، فلو قال: وقفت سياراتي وبيوتي وأقمشتي إلا واحداً، فهل نقول: يرجع إلى الجميع أو نقول: يرجع إلى الجملة الأخيرة؟

فالراجح هو: رأي جمهور أهل العلم أنه يعود إلى الجميع؛ لأن الواو تقتضي العطف والجمع، فكأن المستثنى منه كالشيء الواحد.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح متن الورقات [11] للشيخ : خالد بن علي المشيقح

https://audio.islamweb.net