إسلام ويب

علم الفرائض علم جليل، وردت بشأنه أحاديث منها أنه نصف العلم، فاختلف الأئمة في معنى هذا الحديث على عدة أقوال، أرجحها أنه من حيث الثواب، ولهذا اعتنى به السلف أئمة وعلماء، هذا وقد اختلف العلماء في تقديم الحق المتعلق بتركة الميت على قولين.

تابع فضل علم الفرائض

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعن من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين! اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

إخوتي الكرام! بعد أن انتهينا من تعريف علم الفرائض تدارسنا في آخر الدرس الماضي شيئاً مما يتعلق بفضل علم الفرائض وقلت: نتدارس هذا بعون الله جل وعلا في أول الدرس الآتي يعني: في هذا الدرس، ثم ننتقل إلى الحقوق المتعلقة بالميت.

علم الفرائض قلت: علم جليل حثنا على تعلمه نبينا عليه الصلاة والسلام، وقد كان يحرص عليه سلفنا الكرام، فيتدارسونه ويتذاكرون به ويتحدثون في مسائله.

وتقدم معنا حديث النبي عليه الصلاة والسلام أن علم الفرائض يعدل نصف العلم، وهو علم سريع النسيان وهو أول ما يفقد في هذه الأمة المباركة المرحومة.

والحديث الذي تقدم معنا قلت: إنه في سنن ابن ماجه ، وسنن الترمذي ، ورواه الحاكم في المستدرك ، والبيهقي والدارقطني في السنن، والإمام الواحدي في كتاب الوسيط وقلت: إن الحديث في طرقه ضعف لكن الطرق تتقوى ببعضها؛ ولذلك نص عددٌ من أئمتنا على تحسين الحديث بل على تصحيحه، ومنهم: الإمام السيوطي عليه رحمة الله، ولفظ الحديث كما تقدم معنا من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تعلموا الفرائض وعلموها، فإنه -أي: هذا العلم- نصف العلم، وإنه ينسى، وهو أول شيء ينزع من أمتي).

معاني كون علم الفرائض يعدل نصف العلم

أيها الإخوة: كنا عند جملة قول النبي عليه الصلاة والسلام: (فإنه -يعني: علم الفرائض- نصف العلم) وقلت: كون علم الفرائض يعدل نصف العلم لأئمتنا في بيان هذه الجملة المباركة عدة أقوال تحمل عدة معاني:

المعنى الأول: يعدل نصف العلم من حيث الثواب

أولها: نصف العلم من حيث الثواب، فيعطي الله ثواباً عظيماً وأجراً جزيلاً لمن تعلم علم الفرائض بحيث يعدل أجر علم الفرائض أجور سائر العلوم الأخرى، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

فالعلوم كلها نصف من حيث الثواب والأجر، وعلم الفرائض نصف من حيث الثواب والأجر، فمن تعلم علم الفرائض كمن تعلم سائر العلوم بالنسبة للثواب والأجر، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، وليس في هذا -كما يفهم بعض الناس- تزهيداً عن تلك العلوم وعدم ترغيب فيها، إنما هذا فقط ترغيب في تحصيل علم الفرائض ،كما أن سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن وليس معنى هذا أن الإنسان يقرؤها ويهجر القرآن، لكن يعتني بها أكثر من غيرها، وهنا علم الفرائض يحصله وحتماً يحصل العلوم الأخرى، لكن له أجرٌ كبير لو حصل هذا العلم، لو قلنا مثلاً علماً من العلوم علم التفسير دون الفرائض، علم الحديث دون الفرائض، علم الفقه دون الفرائض لكان أجره أقل بكثير مما لو حصَّل علم الفرائض وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، كما أن الإنسان إذا صلى في بيت الله الحرام تضاعف صلاته إلى مائة ألف ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

وهنا كذلك: علم الفرائض يعتبر نصف العلم من حيث الثواب والأجر، فالعلوم الأخرى كلها نصف وعلم الفرائض نصف فإنه نصف العلم من حيث الثواب.

المعنى الثاني: يعدل نصف العلم باعتبار حالتي الإنسان: الحياة والموت

المعنى الثاني: وهو معتبر أيضاً وقال به عددٌ من أئمتنا الكرام: أن علم الفرائض نصف العلم باعتبار أن للإنسان حالتين: حالة حياة، وحالة موت، فما يتعلق بحياته نصف العلم، وما يتعلق بموته نصف العلم، والعلم الذي يتعلق بموت الإنسان هو علم الفرائض أو علم الميراث، فصار علم الفرائض نصف العلم بهذا الاعتبار، فهو يتعلق بإحدى حالتي الإنسان حياة وموتاً، فما يتعلق بحياتك يكون نصف العلم وما يتعلق بمماتك يكون نصف العلم، والأحكام التي تتعلق بموتك تؤخذ من علم الفرائض فهي نصف العلم بهذا الاعتبار.

المعنى الثالث: المراد بنصف العلم الجزء والبعض

المعنى الثالث: وذهب إليه عددٌ من أئمتنا منهم شيخ الإسلام الإمام ابن الصلاح قال: المراد من النصف: الجزء والبعض والقسم دون النصف المساوي للنصف الثاني، وعليه فإنه نصف العلم، أي: قسمٌ من العلم.. جانبٌ من العلم، جزء من العلم ولا يعني أنه يعدل العلوم الأخرى. وهذا تأويل معتبرٌ أيضاً.

المعنى الرابع: نصف العلم لأنه يبتلى به كل الناس

المعنى الرابع: حكاه الحافظ في الفتح في كتاب الفرائض عن الإمام ابن عيينة في فتح الباري (2/5) عن أبي محمد سفيان بن عيينة قال: إنه نصف العلم؛ لأنه يبتلى به كل الناس. وقوله: يبتلى به كل الناس، لعله يقصد والعلم عند الله: أن الناس سيموتون ويطرأ عليهم الموت، وإذا كان كذلك فكل الناس سيحتاجون إلى علم الفرائض كل الناس يحتاجون إليه، وعليه فهذا القول الرابع يمكن أن يعود إلى القول الثاني أن الإنسان له حالتان. وهذا تحليل من عندي وليس هو تحليل من قبل قائله ولا من قبل ناقله الحافظ .

إذاً: كل الناس سيموتون، فهم بحاجة إليه فرجع القول الرابع إلى القول الثاني: بأن للإنسان حالتان.

ويمكن أن يقال والعلم عند الله أيضاً: أن هذا العلم يبتلى به كل الناس أي: يحتاجه كل الناس، وبعض العلوم لا يحتاجها كثيرٌ من الناس، أما هذا لابد من الاحتياج إليه من قبل كل أحد، أما بعض العلوم لو لم يتعلمها الإنسان لا يحتاجها، فعلم الزكاة مثلاً إذا كان الإنسان فقيراً لا يجب عليه أن يتعلم أحكام الزكاة، وأما هذا، فسيتعرض له فيموت هو أو أحد أقربائه فلابد من معرفة حكم الله في هؤلاء الموتى، كيف توزع تركتهم وأموالهم، وكيف يجهزون وعلى من تجهيزهم. هذا كله يتعلق به علم الفرائض.

المعنى الخامس: أنه مبني على النصوص ولا يدخله الاجتهاد

المعنى الخامس: قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن علم الفرائض نصف العلم) قالوا: الأدلة التي تؤخذ منها الأحكام تنقسم إلى قسمين: نصوص، وقياس، وأما الإجماع فهو دليل بُني على نصٍ في الأصل، وأما القياس فاجتهاد ألحقنا ما لا نص فيه بما فيه نص، وعلم الفرائض هذا من العلوم التي تبنى على النصوص فلا دخل للاجتهاد فيها فهو نصف العلم. أي: علم مبني على الأثر والنقل والنص ولم يبن على الاجتهاد والاستنباط، وسيأتينا إن شاء الله في علم الفرائض. يعني: الزوج له حالتان في الفرائض لا يخرج عنهما على الإطلاق: نصف، أو ربع، ليس هناك اجتهاد ولا اختلاف في هذه القضية، نصف إذا لم يكن هناك فرع وارث، وربع إذا كان هناك فرعٌ وارث، وهذه القضية لا اختلاف فيها، فهي ليست كمسألة الجهر بالبسملة في الصلاة، وهل نجهر أو لا، والخلافات ومآخذ ذلك والترجيح، هنا ليس كذلك فالنصوص قطعية.

إذاً: علم الفرائض بُني على نصوصٍ سمعية لا على اجتهادات نظرية ولا دخل للاجتهاد فيه، وعليه فهو نصف العلم من حيث أنه بُني على أدلة معينة وهي الأدلة النقلية لا الأدلة الاجتهادية النظرية، والعلم عند الله جل وعلا.

المعنى السادس

المعنى السادس -وهو آخر الأقوال- في تعليل كون علم الفرائض يعدل نصف العلم؛ أن أسباب الملك تنقسم إلى قسمين: قسم اختياري، وقسم قهري. فأما الاختياري فهو ما تملك رده كالبيع، والهبة. هذا تملك باختيارك وإذا اشتريت لك أن ترد بخيار عيب.. بخيار شرط، أو عن طريق الإقالة، والهبة لك أن تتملكها ثم تعيدها، هذا يقال له: تملك اختياري.

وهناك تملك إجباري لا تملك أن ترده على من أخذته منه وهو ما يكون عن طريق الإرث، فهنا تملك قهري إجباري جاءك من مورثك لا تملك أن ترده إليه فهو قد مات، وهذا صار لك، ثم أنت تتصدق به أو تتملكه لنفسك هذا أمرٌ آخر، لكن أنت ملكته، فلا تملك أن ترده إلى صاحبه، إذا جاءك إرث وهذا الإرث فيه شيء من النقص أو العيب فلا تملك رده على صاحبه، ولو قدر أنك لو ملكت عن طريق الإرث شيئاً من الحيوانات فيها آفة فيها عور فيها عمى فيها ما فيها، فإنك لا تملك أن تردها على صاحبها وتقول: أنا آخذ الثلاثين شاة نصيبي وينبغي أن تكون سليمة، لا، هذا نصيبك كنصيب الورثة الآخرين، بخلاف الشراء لو اشتريت ثم بانت آفة فلك أن ترده بخيار العيب.. بخيار الشرط.. بغير ذلك، أما هنا فأنت لا تتملك ذلك سواءٌ كان سليماً أو سقيماً بحالة حسنة أو بحالة رديئة، فأنت تتملك ولا خيار لك فيه.

إذاً: أسباب التملك على قسمين: تملك اختياري، وتملك قهري إجباري اضطراري.

والتملك القهري لا تملك الرد فيه، وتأخذه كيفما كان حاله، والتملك الاختياري: ما يتم عن طريق البيع والهبة وغير ذلك، ولك أن تتملك ولك أن ترد وألا تتملك، وهنا علم الفرائض يعتبر نصف العلم من حيث أسباب التملك، فهو يحصل فيه تملك قهري إجباري اضطراري لا خيار لك فيه، فهو نصف العلم بهذا الاعتبار، وهذا رجحه صاحب العذب الفائض في شرح منظومة الفرائض عليهم جميعاً رحمة الله.

وعلى كل حال فالأقوال كلها فيما يظهر والعلم عند الله معتبرة، وأظهر الأقوال فيما يظهر والعلم عند الله: أن علم الفرائض نصف العلم من حيث الثواب والأجر، فمن تعلمه يعطيه الله هذا الأجر؛ ترغيباً لنا في تعلم علم الفرائض، وهذا فيما يظهر والعلم عند الله هو الذي يفهم من إطلاق قول النبي عليه الصلاة والسلام: (فإنه نصف العلم) يعني: تعلموه فلكم أجر العلوم الأخرى بكاملها إذا حصلتم علم الفرائض فهو في كفة والعلوم الأخرى في كفة.

وجه وأسباب نسيان علم الفرائض

(وإنه ينسى وهو أول شيءٍ ينزع من أمتي)، أما أن علم الفرائض ينسى، فينسى لموت حملته والعلماء الذين يتقنونه كما ثبت هذا في المسند، والصحيحين، وسنن الترمذي، وابن ماجه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبقِ عالماً) وفي رواية: (حتى إذا لم يَبَقَ عالمٌ اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا).

يعني: إذا كان الإنسان لا يتقن العلم وخاصة علم الفرائض، وجاء ليتكلم في الميراث ويستفتى ويفتي فيضل ويضل.

إذاً: هذا العلم ينسى، ولعل السبب في نسيانه هو موت العلماء الذين يتقنونه، ثم أمرٌ آخر وهو حياة عامة جاهلية يعيش الناس فيها فلا يحتكم فيها إلى شريعة الله جل وعلا.

وانظروا الآن لأولادنا ونشئنا يعلمونهم الرياضيات المعقدة التي يسمونها حديثة وهي في الحقيقة خبيثة، يعلمونهم الإنجليزي واللغة الفرنسية بمعدل ثمان محاضرات أو أكثر في الأسبوع، فهل يوجد في ثانوية من ثانويات العالم تعليم الفرائض؟ لا. لم وهي فيها تنشيط لذهن الإنسان كالرياضيات وأكثر، هذا عدا عن كونها علماً شرعياً يتقرب به الإنسان إلى الله جل وعلا؟ لم الرياضيات المعقدة يتعلمونها وبعد ذلك هذه الفرائض التي شرعها الله في كتابه لا نعلمها لنشئنا ليتحدثوا بها ولتغرس أحكام الشرع في نفوسهم؟ لماذا؟

إذاً: أنظمة جاهلية خيمت على العالم فشغلوا بها وأعرضوا عن دراسة الفرائض.

والآن في كثيرٍ من البلاد -ونسأل الله حسن الخاتمة- ليس أعرضوا عن تعلمها فقط، بل عن العمل بها، فسوي بين الذكر والأنثى كما سيأتينا في القسمة الهمجية التي يعيش الناس عليها في هذه الجاهلية الحديثة أو الجاهلية القديمة، سوي بين الذكر والأنثى في الجاهلية الحديثة كما حرمت الأنثى من الميراث في الجاهلية القديمة، وكل هذا شطط وانحراف عن شريعة الله المطهرة.

إذاً: ينسى علم الفرائض بموت العلماء وعندما تصبح الحياة جاهلية ويعرض الناس عن الشريعة الإسلامية فلا يتعلمون الفرائض ولا يعملون بها.

الأحاديث الواردة في الحث على تعلم الفرائض

الأحاديث في الحث على تعلم علم الفرائض وترغيب الناس في ذلك كثيرة وفيرة منها الحديث الذي مر معنا: (تعلموا الفرائض فإنه نصف العلم) وسبق بيانه، وهو الحديث الأول من رواية أبي هريرة .

الحديث الثاني: رواه الإمام أحمد في المسند، والحاكم في المستدرك، ورواه البيهقي في السنن والواحدي في الوسيط أيضاً، ورواه الإمام النسائي في السنن الكبرى، والإمام الترمذي في كتاب الفرائض باب: ما جاء في تعليم الفرائض، ورجال إسناد الحديث موثقون كما قال الحافظ في الفتح.

وهذه الرواية من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (تعلموا الفرائض وعلموها، فإني امرؤٌ مقبوض، وإن العلم سيرفع حتى يختلف الاثنان في الفريضة فلا يجدان من يقضي بينهما).

وقوله: (في الفريضة) تحتمل أمرين اثنين:

أولهما: في الفريضة المقدرة في كتاب الله وهي الفرائض، وهذا ما فهمه أئمتنا من هذا الحديث، وقد أورده الترمذي في كتاب الفرائض باب ما جاء في تعيين الفرائض، ويمكن أن يكون اللفظ ما هو أعم من ذلك، فتدخل الفرائض في ذلك العموم دخولاً أولياً حتى يختلف الاثنان في الفريضة في أي فريضة فرضها الله، يعني: في فريضة الصلاة.. في فريضة الزكاة.. في فريضة الحج.. فيما فرضه الله.. في فريضة الحجاب على النساء يختلفان، فلا يجدان من يحكم بينهما ببينة ويقين، والناس تتكلم على حسب الظنون والأوهام، فإذا كان المراد من الفريضة ما هو أعم من الفرائض، فهذا العام يدخل فيه الفرائض من بابٍ أولى. يعني: إذا كان الناس سيختلفون في حكم الحجاب ولا يجدون من يدلي ببينة في هذه القضية ويأتي ببينة فمن بابٍ أولى سيختلفون في الإرث، فهذه فريضة وتلك فريضة، لكن أئمتنا فهموا من الفرائض خصوص علم الميراث والعلم عند الله جل وعلا. الحديث الثالث: ما رواه الدارقطني في سننه من رواية أبي سعيد الخدري وفيه شيء من الضعف ويشهد له ما تقدم وفيه عطية العوفي وهو ضعيف كما قال الحافظ في الفتح، ولفظ الحديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام: (تعلموا الفرائض وعلموها الناس) والحديث أيضاً رواه الطبراني في الأوسط من رواية أبي بكرة رضي الله عنهم أجمعين.

إذاً: هؤلاء أربعة من الصحابة رووا حديث تعلم علم الفرائض: أبو هريرة ، وابن مسعود ، وأبو سعيد ، وأبو بكرة رضي الله عنهم أجمعين، والحديث لا ينزل عن درجة الحسن بل صححه عددٌ من أئمتنا منهم الإمام السيوطي .

وهناك حديث خامس ورد في بيان منزلة علم الفرائض رواه أبو داود وابن ماجه في السنن، ورواه الحاكم في المستدرك عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (العلم ثلاثة وما سوى ذلك فهو فضل) يعني: نافلة وزائدة (آية محكمة، أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة) العلم الحقيقي ثلاثة: آية محكمة. أي: وليست منسوخة، ثابتة يجب العمل بها، وأي علم أعلى من هذا العلم، وسنة قائمة: أي: ثابتةٌ صحيحة عمل بها المسلمون وليست أيضاً منسوخة، أو فريضة عادلة.

فقوله: (فريضة عادلة) يحتمل أمرين اثنين:

الأول: الفريضة العادلة: هي قسم الميراث، وهي علم الفرائض، وسميت عادلة لأن السهام والأنصباء مذكورة في القرآن والسنة، فهي عادلةٌ. أي: عدل حق مأخوذة من كتاب الله ومن سنة رسوله عليه الصلاة والسلام، سهام أنصباء، نصيب مقدر لهؤلاء الورثة لا دخل فيه للاجتهاد، فهي فريضة عادلة.

والمعنى الثاني للفريضة العادلة: قيل: المراد من الفريضة العادلة هنا: فريضة تعدل ما أخذ من الكتاب والسنة بالحكم عن طريق القياس السليم السديد. وعليه؛ فالحديث يدل على صحة القياس ومشروعيته وجوازه واعتباره.

(العلم ثلاثة: آية محكمة، وسنة قائمة) أي: نصوص شرعية، ثم شيء آخر (أو فريضة عادلة) وهو القياس على النص الشرعي من كتابٍ أو سنة، بحيث تكون هذه الفريضة عادلة مأخوذة مبنية على الآية المحكمة وعلى السنة القائمة.

والإمام ابن ماجه أدخل هذا في كتاب الفرائض، مما يدل على أنه يقصد بذلك الفريضة بمعنى: الفرائض وعلم المواريث، كالحديث المتقدم هناك في سنن الترمذي باب ما جاء في تعليم الفرائض من حديث ابن مسعود ، وهنا فهموا من الفرائض أنه علم الميراث وأنها عادلة. أي: الأنصباء والسهام منصوص عليها مقدرة في كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام.

فهذه خمسة أحاديث وقلت: لا يخلو طريقٍ منها من وجود كلام فيه، لكن بعضها يعضد بعضاً؛ ولذلك صحح الحديث عددٍ من أئمتنا الكرام.

عناية السلف بعلم الفرائض

بوب الإمام البخاري عليه رحمة الله في كتاب الفرائض باباً يشير به إلى هذه الآثار التي ليست على شرطه، فقال: باب تعليم الفرائض، وبما أن الأحاديث المتقدمة ليست على شرط البخاري فأورد آثاراً في هذا الباب تدل على هذه الترجمة التي فهمت من الأحاديث السابقة: (تعلموا الفرائض وعلموها الناس) باب تعليم الفرائض، ثم علق الإمام البخاري أثراً عن عقبة بن عامر -وهو من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين- فقال: وقال عقبة بن عامر : تعلموا قبل الظان، كأنه يقصد: تعلموا الفرائض قبل من يأتي يتكلم في هذا العلم بالظن والوهم، فهذا علم لا دخل فيه للاجتهاد ولا للرأي.

قال الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله في الفتح: وإنما استدل الإمام البخاري بهذا الأثر على تعلم الفرائض واستدل به على هذه الترجمة مع أن الكلام في الظن في كل علم لا يجوز، ينبغي أن يكون بناءً على أدلة شرعية معتبرة، قال: لأنها هي أدخل -أي: علم الفرائض- في ذلك من غيرها. يعني: إذا كان لا يجوز أن تتكلم بالظن في أي علم من العلوم، فمن بابٍ أولى في علم الفرائض الذي مبناه على السماع والنقل، فالغالب على علم الفرائض التعبد ولا وجه للرأي والاجتهاد، لا رأي ولا اجتهاد وهي أمورٌ وردت في الكتاب والسنة نقف عندها ولا نتجاوزها، (تعلموا قبل الظان).

وفي سنن الدارمي عن عمر رضي الله عنه موقوفاً أنه قال: (من قرأ القرآن فليتعلم الفرائض)، والأثر رواه الدارمي أيضاً والحاكم في المستدرك والبيهقي عن ابن مسعود رضي الله عنه باللفظ المتقدم مع زيادة عليه: (من قرأ القرآن فليتعلم الفرائض، فإذا لقيه أعرابي فقال له: يا مهاجر! -أي: أنت من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام من المهاجرين- أتقرأ القرآن؟ فإذا قال: نعم أقرأ يقول له: أتفرض -أي: أتعرف علم الفرائض؟- فإن قال: نعم كان زيادة خير -فرائض مع قرآن- وإن قال: لا، قال: فما فضلك علي) يعني: أنت من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام من المهاجرين، تقرأ القرآن وأنا أقرأ القرآن وأنت تفرض؟ تقول: لا، فيقول: فما فضلك عليَّ؟ إذاً: لم ما تعلمت علم الفرائض؟ هذا في أثر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في سنن الدارمي والحاكم والبيهقي وغير ذلك، وقد كان سلفنا يعتنون بتعلم علم الفرائض بحيث بلغ من ابن عباس رضي الله عنه أنه كان يقيد مولاه عكرمة ويضع القيد في يديه ورجليه من أجل تعلم علم الفرائض، وهذا موجودٌ في صحيح البخاري في كتاب الخصومات، وبوب عليه البخاري باباً يشير به إلى هذا، فقال: باب التوثق ممن تخشى معرته، يوثقه من أجل أنه يخشى من معرته أي: من فساده وعبثه؛ لئلا يلعب ويقف ويتقن علم الفرائض.

يقول البخاري : وقيَّد ابن عباس عكرمة على تعلم القرآن والسنن والفرائض، وهي الثلاثة التي أشار إليها نبينا عليه الصلاة والسلام: (العلم ثلاثة وما سوى ذلك فهو فضل: آية محكمة، سنة قائمة، فريضة عادلة).

وهنا كان ابن عباس رضي الله عنه يقيد ويوثق مولاه عكرمة خشية معرته أي: فساده ولعبه وعبثه، فهذا ولدٌ، وهو مولى قد لا ينتبه لنفسه، ولا يقدر الأمور حق قدرها، فلابد -إذاً- من تقييده حتى يتعلم القرآن والسنن والفرائض وهذا في صحيح البخاري في (5/75) من شرح الحافظ ابن حجر .

قال الحافظ في الفتح: وهذا الأثر الذي أورده البخاري معلقاً عن ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين وصله ابن سعد في الطبقات ووصله أيضاً أبو نعيم في الحلية، وعكرمة هو مولى ابن عباس توفي سنة (104هـ)، حديثه مخرج في الكتب الستة، قال عنه الحافظ في التقريب: ثقة ثبت، عالم بالتفسير ثقة، وما ثبتت عنه بدعة، رمي بأنه يرى رأي الخوارج لكنه ليس بصحيح فلم يثبت عنه ذلك، وما ثبت أن ابن عمر كذبه رضي الله عنهم أجمعين.

وقد بلغ من اعتناء سلفنا بهذا العلم أنه كان تعهد بالإمرة والولاية لمن يتقن علم الفرائض مع كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، فثبت في صحيح مسلم ومسند الإمام الدارمي عن عامر بن واثلة وهو أبو الطفيل آخر الصحابة موتاً، ولد بعد موقعة أحد رضي الله عنه وأرضاه وتوفي سنة (110هـ) في مكة المكرمة.

عن أبي الطفيل عامر بن واثلة قال: لقي عمر بن الخطاب نافع بن عبد الحارث بعسفان -مكان بين مكة والمدينة المنورة- وكان عمر قد استعمل نافع بن عبد الحارث على أهل مكة أي: أميراً فقابله بعسفان، فقال الخليفة الراشد لأميره: من استعملت على أهل الوادي؟ يعني: من جعلت عليهم أميراً بعدك؟ فقال: استخلفت عليهم ابن أبزى . وهو صحابي صغير كان في عهد عمر رجلاً واسمه عبد الرحمن بن أبزى .

فقال عمر : ومن ابن أبزى ؟ يعني عمر رضي الله عنه: لا نعرف شأنه ومكانته وليس له شهرة. من ابن أبزى ؟ فقال: يا أمير المؤمنين! مولى من موالينا أي: كان عبداً رقيقاً ثم أعتق، وجعلته خليفة عني ونائباً عني وأميراً على أهل مكة.

فقال عمر : سبحان الله! واستخلفت على أهل الوادي مولى؟ أي: استخلفت على هؤلاء العرب الذي كان عندهم ما عندهم من الحمية عمدت إلى مولى وجعلته أميراً عليهم؟ فقال: يا أمير المؤمنين! إنه قارئ لكتاب الله، عالم بالفرائض، قاضٍ. أي: ماذا تريد أكثر من هذا؟ فهو يقرأ القرآن، ويفرض، ويقضي، ماذا تريد في الأمير أكثر من هذا؟

فقال عمر : أما إذ قلت ذاك فقد قال نبيكم صلى الله عليه وسلم: (إن الله يرفع بهذا القرآن أقواماً ويضع به آخرين) مولى يصبح أميراً على مكة؟ سبحان ربي العظيم! وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [الزخرف:44].

إذاً: جعل من الصفات التي أهلته للإمرة أنه يتقن علم الفرائض، وقد كان عمر رضي الله عنه يكتب إلى أمصار المسلمين كما في مستدرك الحاكم وسنن البيهقي فيقول: إذا تحدثتم فتحدثوا بالفرائض، وإذا لهوتم فالهوا بالرمي.

إذا تحدثتم فتحدثوا بالفرائض. أي: إذا جلستم لأجل محادثة ومناظرة ومباحثة فعلم الفرائض ليكن هو المسيطر على حديثكم، وإذا أردتم أن تشتغلوا باللهو والترفيه فعليكم بالرمي والرماية وتعلمها استعداداً للحرب، فيلهون بالرمي ويتحدثون بالفرائض.

والرمي وإن كان لهواً لكن فيه أجر كبير لما فيه من استعداد الإنسان للجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى، ولذلك أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة، والحديث في المسند والسنن الأربع، ورواه الحاكم في المستدرك، والبيهقي في السنن، وإسناده صحيح عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفرٍ الجنة: صانعه يحتسب في صنعته الخير) صنع هذا السهم، صنع هذه الرصاصة، هذا المسدس، ضع هذا السلاح (والرامي به) الذي يرمي به في سبيل الله، (ومنْبله) ومنبّله أي: الذي يناول السهم للرامي من أجل أن يرمي، أو الذي يجمع السهام بعد الرمي ويعطيها للرامي ليرمي بها مرة ثانية، يقال له: مُنبل. أي: هو مسئول عن النبل يقدمها إلى من يرمي بها، هؤلاء الثلاثة يدخلون الجنة بسهم اشترك فيه هؤلاء الثلاثة فلهم هذا الأجر، فإذا أرادت الأمة أن تلهوا فلتلهوا بالرمي وبما يعود عليها بمنفعة في دينها ودنياها، لا بلعب كرة وشناعة هي سواد وجه لهم في الدنيا وفي الآخرة، قطعة جلد منفوخة بهواء صارت من أسباب البطولة في هذه الأيام، وتباً لهذه البطولة، وبؤساً لهذه البطولة، قطعة جلد منفوخة بين حديدتين هذه بطولة؟!

وبلغت حقارة الأمم أنه لا تخلو صحيفة من صحف العالم إلا وتكتب عن هذه القضية، وكأنها أعظم حدثٍ في العالم وصارت بطولات.

من متى كان اللعاب بطلاً؟ أنا أريد أن أعلم الَّلعاب متى صار بطلاً؟ في هذا العصر المنحرف الضائع، أمة ضائعة يلعب ويقولون له بطل، يكشف عن سوءته يقولون له: بطل.

أريد أن أعرف.. متى صار بطلاً؟

وبعد ذلك لو أردته في مجال الرماية وأمر الحرب الذي يفيد الأمة إذا به أجبن الناس، لكنه لاعب كرة، وهكذا شغلت الأمة بهذا.

إذاً: الأمة إذا لهت فلتله بالرمي، وإذا تحدثت فلتتحدث بالفرائض.

وهذا الجيل السافل إن تحدث فيتحدث بالغناء وقلة الحياء، وإذا لعب فليس عنده إلا الكرة التي صارت تماثيل وعكف الناس عليها من دون الله الجليل، وحقيقة يحق لنا أن نقول لهم: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ [الأنبياء:52] عكف عليها وضيعت الفرائض من أجلها، وبعد ذلك أعطي لمن يلعب ما لا يعطى أيضاً لأكبر وظيفة، أحياناً تعطى مكافأة للاعب مليون ريال، عدا الجوائز الثمينة، سبحان الله! لاعب يقدر بمليون وسله بعد ذلك عن الفرائض أو عن علم الرماية تجده لا يعلم شيئاً.

إذاً: الأمة تلهوا بالرمي وتتحدث بالفرائض، وحقيقة الرمي ضيعه الجيل في هذه الأيام وكأن هذا يراد لهذا الجيل ليضيع وليكتمل له الضياع، فشغل بالكرة وترك الرماية، وقد جاء في الحديث: (من رمى بسهم واحد في سبيل الله فله عدل محرر) أي: كأنه أعتق رقبة عندما يرمي بسهم واحد، كل سهم ترميه في سبيل الله كأنك تعتق رقبة في سبيل الله، والحديث ثابتٌ في المسند وسنن أبي داود والترمذي وابن ماجه ورواه الحاكم وابن حبان أيضاً وليس من رواية عقبة بن عامر ولكن من رواية أبي نجيح عمرو بن عبسة رضي الله عنه، والحديث صحيح: (من رمى بسهم في سبيل الله فهو عدل محرر) أي: يعدل إعتاق عبد في سبيل الله، (ومن علم الرمي ثم تركه فليس منا) كما ثبت هذا في صحيح مسلم عن عقبة بن عامر عن نبينا صلى الله عليه وسلم.

إذاً: إخوتي الكرام! علم الفرائض له شأن جليل، أمرنا نبينا عليه الصلاة والسلام بتعلمه، وأخبرنا أنه يعدل نصف العلم للاعتبارات المتقدمة التي ذكرتها.

أسس وأصول علم الفرائض

قبل أن ننتقل إلى بيان الحقوق المتعلقة بالتركة أحب أن أنبه إلى أمر موجز مختصر يتعلق بمنزلة علم الفرائض ومكانتها، ثم أنتقل إلى بيان الحقوق المتعلقة بالتركة إن شاء الله، فعلم الفرائض الذي مبناه على الأثر والنقل والنص من كتابٍ وسنة، علمٌ وضع في موضعه، وأعطى الله فيه كل ذي حقٍ حقه، فقام هذا العلم على ثلاثة أصول وأسس سليمة سديدة:

الأساس الأول: أن مال الميت يدفع إلى قرابته

أولها: شاء الله تعالى -وهو بعباده عليم- أن يعطي المال لقرابات الميت، وهذا ما دل عليه النقل الصحيح وهو الذي يقتضيه العقل الصريح: إنسان مات، من أولى الناس بماله؟ قرابته: وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ [الأنفال:75] وفي هذا ردٌ على النظام الشيوعي الغوي الردي الذي يستولي على المال لتحوزه الدولة، هذا إن ترك شيئاً فهي في الأصل ما تركت له شيئاً يملكه، لكن إذا مات وقدر أن يوفر قليلاً من المال فكله ملك للدولة، وهذا خلاف الفطرة عدا عن كونه يضاد الشرع، فهو خلاف ما فطر الله عليه العباد، وهذا يجعل الناس في شقاء وفي بلاء مالي فيؤخذ إلى الخزانة العامة وإلى بيت المال ولا ينتفع به ولدي ولا ابنتي ولا أمي ولا أختي، هذا خلاف الفطرة، ولذلك يؤدي بعد ذلك إلى الكسل في هذه الحياة، وإلى عدم جمع المال، والأمة بعد ذلك تتأخر.

الاتحاد السوفيتي كان يصدر القمح إلى العالم، وبدأ اليوم يستورد القمح ويموتون جوعاً، حقيقة هذا هو نتيجة الشيوعية! عندما تقول لهذا الإنسان: لا تملك شيئاً، وإذا عندك شيء ادخرته من هنا وهنا ومت يؤخذ منك إلى الدولة، فسيقول: لا داعي للعمل ولا للجد ولا للاجتهاد، أملأ بطني بأي شيء كان، وعندما أشتغل في هذه الوظائف العامة لا أنتج ولا أجد ولا أجتهد، وهذا هو الواقع فإنه لن يعطى مكافأة تناسب جهده، فهذه مضيعة، فشاء الله أن يجعل المال للقرابة: وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا [الأحزاب:6]، القريب أولى بقريبة، وهذا ما تقتضيه الفطرة وهو الحق الذي لا خلاف فيه. هذا الأساس الأول: المال يأخذه القرابات.

الأساس الثاني: عدم تخصيص صنف من القرابات بالإرث إذا استوت قرابتهم

الأساس الثاني: تخصيص صنف من القرابات بالإرث دون صنف إذا استووا في قرابتهم إلى الميت ظلم، ومضيعة للصنف الذي حرم سواء كان ابناً أو بنتاً، أباً أو أماً، وأخاً أو أختاً استووا في القرابة إلى الميت، لا تأتي تورث الابن وتمنع البنت، تورث الأب وتمنع الأم هذا ظلم أيضاً، ولذلك لابد من أن يرث القرابات بمختلف أصنافهم إذا تساوت قراباتهم، فإذا ورثت القريب في هذه الدرجة تورث أيضاً القريبة في هذه الدرجة، ولذلك قال الله جل وعلا: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا [النساء:7].

وهذا فيه ردٍ على الجاهلية القديمة قبل الإسلام حيث كانوا لا يورثون إلا الذكور الكبار، فلا يورثون إلا من وثب على ظهور الخيل، وطعن بالرمح وضارب بالسيف وأحرز الغنيمة، فأكبر الإخوة يأخذ الميراث والأولاد الصغار لا يأخذون، والمرأة لا تأخذ درهماً واحداً، فهي تورث فكيف سترث: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا [النساء:19] يعني: هي كانت تورث ليس أنها لا ترث فقط، يعني: ليتها سلمت -كما يقال- بريشها فما ورّثوها، لكنهم إذا مات زوجها ورِثوها واقتسموها كما يريدون، يأتي الأولاد الكبار والقرابات ويجتمعون وكل من ألقى عليها ثوباً ووصل ثوبه إليها قبل ثوب صاحبه صارت ملكاً له بدون اختيارها.

إذاً: لابد من أن يرث القرابات ذكوراً أو إناثاً، وهذا رد على الجاهلية القديمة ورد على الجاهلية الحديثة في بعض البلاد الغربية؛ لأن التوريث فيها بين الزوجين فقط، فالزوجة ترث الزوج والزوج يرث الزوجة ولا يصرف المال لغير الزوجين. طيب لم إذا مات للرجل زوجته تأخذ كل ماله، وإذا ماتت الزوجة يأخذ كل مالها والأولاد والإخوة والآباء والأمهات كل هؤلاء ليس لهم شيء؟ هذا كله جاهلية قديمة وجاهلية حديثة، هذا يصادم الفطرة ويخالف الشرع، فالمال للقرابات، وبما أنهم قرابات ينبغي أن يأخذوا من هذا المال على حسب قربهم من الميت، فإذا وجد الابن لا يرثه ابن الابن؛ لأن هذا الابن هو الآن في الدرجة الأولى، ثم هذا الابن سيأخذ فينتفع به بما يأخذه أبناؤه، أما ابن الابن فلا يرث مع الابن، أما أنه ابن وابن وابن وبنت فتأتي تورث الابن الكبير وتمنع الصغيرين وتمنع البنت فهذا هو الظلم، ووضع للشيء في غير موضعه، وشريعة الله تتنزه عن هذا، ولذلك يختم الله آيات الفرائض بما يشير إلى العلم والحكمة، يقول جل وعلا: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:11] فختمت بالعلم والحكمة وهي وضع الشيء في موضعه.

الأساس الثالث: إعطاء كل قريب ما يناسب قربه ودرجته وحاله

الأساس الثالث الذي قام عليه الإرث في الشريعة الإسلامية: إعطاء كل قريب ما يناسب مكانته وقربه ودرجته وحاله، فالتسوية بين الأقرباء في الإرث سفهٌ، فالابن أحوج إلى المال من البنت، وهو أنفع للميت من البنت، فيستحيل في شرع الحكيم الخبير أن نسوي بين الذكر والأنثى؛ لأن الغنم بالغرم، ابن وبنت، للذكر مثل حظ الأنثيين، كيف هذا؟

نقول: هذا ما تقتضيه العقول الصريحة والذي دلت عليه النقول الصحيحة، هذان قريبان في درجة واحدة سيرثان لابد لكن كل واحدٍ سيرث ما يناسب حاله بمقدار نفعه للميت الذي مات، والابن نفعه أكثر حتماً وجزماً.

الأمر الثاني: أن الابن أحوج إلى المال من البنت، فالبنت إن كانت عند أبيها نفقتها على أبيها، وإن تزوجت نفقتها على زوجها، وإن طلقت رجعت نفقتها إلى أبيها، فما عندها مدخرٌ في جيبها لا تصرف منه ريالاً واحداً، وهي مكفية المؤنة والنفقة أينما كانت في شريعة الله، ومن العار أن يطلب الرجل أياً كان نفقة من الأنثى سواءٌ كان زوجاً أو أباً، إنما نحن ننفق عليها وهي بعد ذلك ما عندها تدخره وتتزين به، وأما الرجل الذكر فهو مكلف بالإنفاق على نفسه بل وعلى غيره، ولذلك يقول الرجال:

لا يألف الدرهم المضروب صرتنالكن يمر عليها وهو منطلقُ

وأما تلك فتأخذ الدنانير والدراهم وتعقد عليها، ليس صرة بل ألف صرة، وهذه في زاوية وهذه في زاوية، وأحياناً يمر عليها لعله عشرون سنة وما فتحت تلك الصرة، وبعض العملات التي هي معدنية ترى عليها أثر الصدى عند المرأة من كثرة ادخارها، وهذا لا يوجد عند الرجل، لا تستقر الدراهم في جيبه، بل تراها تتحرك، وأحياناً يأتي ليس عنده شيء، فهل يسوى بين هذا وتلك؟ قطعاً لا، فالغنم بالغرم. من الذي يتحمل نفقة الأب؟ الابن، من الذي يقوم بدفع الدية في حق قتل الخطأ؟ العصبات. كل هذا البنات عنه بمعزل.

من الذي يقوم بالنفقة على نفسه وعلى غيره؟ الذكر. إذاً: كيف نعطي البنت مثله؟

البنت لها حظ من مال أبيها، لكن لا يصل إلى حظ الابن، وهذا شرع الله الذي لا محاباة في شرعه لأحدٍ من خلقه فهم خلقه وعياله سبحانه وتعالى، لكن هذا من باب المصلحة لعباده، فليس من باب تفضيل الذكر على الأنثى؛ وليس كما في القوانين الوضعية، يأتي ذكور ويشرعون فيجعلون للذكر ما ليس للأنثى، وتأتي النساء يشرعن ويجعلن للنساء ما ليس للذكور! ليس كذلك، هذا شرع السيد الخالق الرب الرؤوف الرحيم سبحانه وتعالى، أرحم بنا من أنفسنا، وقال: هذه أمتي وهذا عبدي وأنا أعلم ما يصلح خلقي، هذا له ضعف هذه، الغنم بالغرم كما أنه يغرم ينبغي أن يغنم، ثم بعد ذلك هو بحاجة إلى هذا المال أكثر من تلك، ونفعه للميت مستمر في جميع أحواله ما دام حياً هذا الولد وعليه ينبغي أن يأخذ أكثر من أخته: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11].

هذه الأسس الثلاثة التي قام عليها الإرث وهي باختصار:

أولها: المال للقرابات.

ثانيها: كل قريب ينبغي أن يرث صغر أو كبر، كان ذكراً أو أنثى، بشرط أن يكون هؤلاء القرابات في درجة واحدة، فلا تورث الأخ وتحرم الأخت، ولا تورث الابن وتحرم البنت، ولا تورث الكبير وتحرم الصغير ما داموا في درجة واحدة وقربة واحدة من الميت.

الأمر الثالث: بما أننا نورث جميع القرابات عندما تستوي درجتهم فينبغي أن نضع الشيء في موضعه، وهذا شرع الحكيم العليم، فالذكر يمتاز عن الأنثى في موضوع الإرث فله ضعفها.

هذه أسسٌ ثلاثة قام عليها شرع الله جل وعلا في الإرث وهي ما سنتدارس تفصيلها إن شاء الله، وقد كان سلفنا يتحدثون به في مجالسهم.

اهتمام السلف بعلم المواريث

قبل أن أنتقل أيضاً إلى بيان الحقوق المتعلقة بالميت إذا مات وهي خمسة، أحب أن أختم هذا الكلام بقصة طريفة، تقرر ما سبق وهي: أن سلفنا يتحدثون بعلم الميراث ويبحثون في شأنه.

يذكر الإمام الذهبي عليه رحمة الله في تاريخ الإسلام، والأثر يرويه ابن عساكر في تاريخ دمشق عن الإمام محمد بن شهاب الزهري أنه عندما دخل على عبد الملك بن مروان الخليفة في زمانه عليهم جميعاً رحمة الله، قال عبد الملك لـمحمد بن شهاب : أتقرأ القرآن؟ قال: نعم. قال: اقرأ من مكان كذا ومن مكان كذا.

خليفة لكنه قارئ تالٍ يمتحن المشايخ في قراءة القرآن.

فقرأ. قال: أحسنت. قال: أتفرض؟ أي: تتقن الفرائض أم لا؟ إذا كنت لا تتقن الفرائض فلا يصلح أن يعول عليك في أمرٍ من الأمور، فكيف بعد ذلك ستكون قاضياً ومسئولاً أو تعظ الأمة وتوجههم وأنت ليس عندك علم عن علم الفرائض.

أتفرض؟ قلت: نعم. قال: ما تقول في رجل مات وترك زوجة وأبويه؟ قال محمد بن شهاب : للزوجة الربع، قال: أحسنت، وللأب الباقي وهو النصف، وللأم الربع. قال: أصبت الفرض وأخطأت اللفظ، التوزيع صحيح، الزوجة لها الربع، والأم لها الربع، والأب له نصف الأربعة، اثنان، فالتوزيع صحيح لكن أخطأت اللفظ أنت، ينبغي أن تقول: الأم لها ثلث الباقي، وهذه في المسألتين العمريتين:

وإن يكن زوجٌ وأمٌ وأبٌفثلث الباقي لها مرتبُ

وهكذا مع زوجةٍ فصاعدافلا تكن عن العلوم قاعداً

فإذا مات وترك زوجةً وأماً وأباً، الزوجة لها الربع لعدم الفرع الوارث، كما قال الله جل وعلا: فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:12] وسيأتينا إن شاء الله عند أصحاب الفروض، فلها الربع، ومعنا ثلاثة سهام من أربعة: فالأم لها ثلث الباقي في هاتين المسألتين كما سيأتينا إن شاء الله في المسألتين العمريتين.

الباقي كم؟ ثلاثة وثلثها واحد، والأب عصبة؛ لأنه ليس له فرض لعدم وجود الفرع الوارث، فقال: الأم لها الربع، والزوجة لها الربع والباقي للأب. قال: أصبت الفرض وأخطأت اللفظ، قل لها ثلث الباقي ولا تقل لها الربع.

هذا هو الخليفة! سبحان ربي العظيم! يصحح للعلماء ويقول: توزيعك صحيح لكن التعبير عنه غلط، فلا تقل: لها الربع، الأم ليس لها الربع في كتاب الله، إنما لها الثلث أو السدس، ثلث كل المال أو ثلث الباقي، وهذه قضية تبحث كما سيأتينا إن شاء الله، لكن الأم ليس لها غير هذين الفرضين: إما ثلث وإما سدس فقط، فأنت كيف تقول ربع؟ قل: لها ثلث الباقي لأن لها ثلث ما ورثه الأبوان سواءٌ ثلث كل المال أو ثلث الباقي، فإذا مات وترك أماً وأباً، الأم لها ثلث كل المال، والأب له الباقي، فالمسألة من ثلاثة، وهنا مات وترك زوجةً وأماً وأباً، الزوجة لها الربع نعطيها فرضها ونخرجها من المسألة، وبقي ثلاثة: واحد للأم واثنان للأب. يعني: للأم ثلث ما ورثه الأبوان سواءٌ في حالة الانفراد أو في حالة وجود أحد الزوجين، فلا تقل لها الربع هذا خطأ فلا يوجد ربع وإن كان حقيقته هو الربع، لكن هذا خطأ في اللفظ.

فهكذا كان أئمتنا، يأتي عالم المسلمين عند الخليفة يريد أن يبحث عن علمه وعن مكانته، فيسأله عن القرآن ثم ينتقل إلى الفرائض، فانظر لهذا الشأن وهذه الرفعة وهذه الحياة الطيبة التي كان يعيش فيها سلفنا، هذا حال الخليفة وهذا حال العلماء وطلبة العلم، يتحدثون بالقرآن وبالفرائض ويسأل بعضهم بعضاً ويصحح الخليفة لطلبة العلم وللعلماء فسبحان ربي العظيم!

الحقوق المتعلقة بالميت

إخوتي الكرام! ننتقل إلى مبحث جديد وهو الحقوق المتعلقة بالميت:

إذا مات ميت تتعلق به خمسة حقوق لابد من القيام بها، وهذه الحقوق الخمسة تنقسم إلى ثلاثة حقوق رئيسية:

أولها: حقٌ للميت وهو: تجهيزه من غسل وكفن وحفر قبر ودفن مع الصلاة والدعاء وغير ذلك. هذا حقٌ للميت.

الحق الثاني: حقٌ على الميت، والحق الذي على الميت له قسمان: حقٌ عليه يتعلق بعين تركته. والثاني: حقٌ عليه يتعلق بذمته ورقبته وليس بعين التركة.

وسأشرح إن شاء الله الحقوق الخمسة ونأخذها واحداً واحداً، ولكن هذا من باب الضابط لها.

الحق الثالث: حقٌ لا للميت ولا عليه، وهو أيضاً نوعان: أولهما: اختياري وهو: الوصية. والثاني: اضطراري: وهو الإرث. والإرث توزيع المال.

هذه خمسة حقوق: مؤن التجهيز، حق يتعلق بعين التركة، وحق يتعلق بالذمة، والوصية، والإرث.

أقوال العلماء في تقديم الحق المتعلق بالتركة على مؤن التجهيز

هذه الحقوق الخمسة بأي شيء نبدأ منها؟

عند الجمهور وهم الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة ، والشافعي ، ومالك ، نبدأ بالحق المتعلق بعين التركة، فيقدم على سائر الحقوق الحق المتعلق بعين التركة؛ لخروجه من ملك الميت قبل موته وحسماً للخصومات والمنازعات أولاً، هذا أول شيء نفعله عند الأئمة الثلاثة.

مثال هذا: لو قدرنا أن الميت مات وكان قد رهن شيئاً، أو أن العين التي عند الميت ليست له، الميت مات وعنده عين لا يملكها ويتعلق بها حق الغير، فكيف يصنع بها؟

لو قدرنا أن الميت مات وقد استقرض من إنسان مثلاً ألف ريال، وأعطاه رهناً كتباً بمقدار ألف ريال، أو سلعة بمقدار ألف ريال، وذلك قبض هذه العين مقابل الدين فالحق هنا يتعلق بأي شيء؟ بعين التركة.. بهذه العين ولا يتعلق بذمته؛ لأن هذا عنده وثيقة لحفظ ماله وهي هذا الرهن، فإذا مات الميت جاء أناس يطالبونه بديونهم وجاء هذا يطالب بالدين الذي له فقال: أنا لي عليه ألف وله عندي عين مرهونة بألف وقيمتها تقدر بألف فإذاً أنا أبيعها وآخذ الألف. هذا دينه يقدم على الديون المتعلقة بالذمة بدون رهن، ويتقدم هذا على مؤن التجهيز كلها؛ لأن هذه العين التي يملكها الميت هي في الحقيقة خارجة من ملكه قبل موته، وهو إذا دفع فكاكها وهي الألف أخذها وإلا فالراهن يتملكها ولا يعطيها إياه؛ لأن الرهن عقد وثيقة.

أنت جئت لتستقرض من إنسان ألف ريال فقال: أعطني سلعة بألف ريال، متاعاً بألف ريال، شيئاً بألف ريال يكون ضماناً وخذ ألف ريال. فمثلاً: أعطيته سلعة بألف ريال، كسلاح أو كتب أو أمتعة بقيمة ألف ريال، فوضع يده عليها، ثم بعد مات ذلك الميت الذي استقرض، فهنا الدين تعلق بعين التركة ولم يتعلق بالذمة لأن الدائن أخذ مقابل دينه شيئاً بحيث هذا إذا عجز عن الوفاء والسداد في حال حياته يبيع ما عنده، وبعد مماته يتملك ما عنده، فهذه السلعة التي بمقدار الألف لا تعتبر تركة فلا نجهزه منها، ولا يأتي أهل الديون الأخرى يأخذون شيئاً منها، فيقدم حق هذا على غيره، لأن هذا قلنا خرج من ملكه قبل موته، وحسماً للخصومات والمنازعات، فذلك يقول: هذه العين عندي، كيف أعطيكم إياها من أجل تجهزوا الميت بكفن وحفر قبر أو شراء قبر؟ كيف هذا وهذا حقي؟ أنا ما أعطيته الألف إلا بعد أن استوثقت، أنا لو لم أكن واثقاً بأن هذه العين ستبقى عندي لما أعطيته ولما أقرضته، وأما أنتم فستأخذون هذه العين مني من أجل تجهيزه أو قضاء ديونه الأخرى، وهذا ضياع لحقي، وأنا ما أقرضته قرضاً مطلقاً مرسلاً في ذمته، بل هو قرض مقابل شيء أضمن به استيفاء حقي. هذا يقال له: حقٌ متعلق بعين التركة، كالشيء المرهون كما قلنا مقابل شيء أخذه هو في حال حياته، فهذا الشيء المرهون خرج عن ملك صاحبه.. عن ملك الميت إلا إذا دفع الشيء الذي جعل هذا الرهن مقابل له وهو الألف أو أكثر على حسب المبلغ الذي أخذ، وغالب ظني الصورة واضحة وهي تقع بكثرة.

ولو أن إنساناً مات وعنده عقار أو سيارة أو كذا، وهي عند آخر، فلو لم يكن دين مقابل رهن لأخذناها منه. يعني: لو أنا عندي سيارة وأنت استعرتها مني وأنا لا أملك والآن أنت الذي استعرت، وأنا مت وليس عندي ما أجهز به قيمة القبر فأنا إذا مت وسيارتي عندك إعارة وليست رهناً، فيحتاج ورثتي إلى شراء قبر للتجهيز وأنا ما خلفت مالاً وليس عندي إلا السيارة، فيأتون ويقولون: هات السيارة التي عندك؟ أما عندما تكون رهناً ليس من حق الورثة أن يطالبوا، هذا الذي أقصد، فحقك يقدم ولا يجوز للورثة أن يأتوا إلى هذا الذي قبض هذه العين مقابل فلوسه وقرضه ويقولون: هاتها لنجهز الميت منها. تقول: لا أعطيكم، هذا عند الأئمة الثلاثة، والإمام أحمد خالف وقال: نأخذها منه ونجهزه.

الإمام أحمد يقول: تقدم مؤن تجهيز الميت على كل حق، وعليه: لو مات وعنده عين مرهونة نأخذ هذه العين من المرتهن ونجهز الميت منها، فإن فضل شيء رددناه عليه وقدمناه على غيره. لم؟ قال: قياساً على المفلس في الحياة، فالإنسان إذا كان عليه دين وهو مفلس وليس عنده سدادها، هل يكلف القضاء ببيع ثيابه؟ لا، فالإمام أحمد عليه رحمة الله يقول: تجهيز الميت من كفن ودفن وما يستلزمه هذا يعتبر كلباس الحي، فمؤن التجهيز عنده تقدم على الحق المتعلق بعين التركة، لأن سترة الميت واجبة بعد موته كسترة الإنسان في حياته، فكما أن ثيابه لا تؤخذ منه من أجل قضاء دينه لا يجوز أن نمنعه من الكفن والقبر من أجل دينه.

إخوتي الكرام! بعض الإخوة قد يستغرب من هذا ويقول: الكفن ثمنه عشرون ريالاً والقبر مجاناً، فأقول له: لا تنظر إلى بلاد الإسلام وما فيها من خيرات ونور، لكن القبر في فرنسا ثمنه عشرة آلاف دولار، يدفن الميت بعشرة آلاف دولار، وعندما ينقل الميت يدفع عنه ثمن التذكرة مضاعفاً. يعني: مؤن تجهيز كبيرة.

وفي إندونيسيا بلد الفقر -كما يقال- والقهر الميت يدفع ضريبة ما دام مدفوناً، وأنا ما رأيت هذا إلا هناك، عليه ضريبة كل سنة يدفعها ورثته عنه، يعني: إذا أردوا أن يتركوه في القبر، فكل سنة عليه ضريبة، وإذا قالوا للحكومة: لا نريد الميت ولا القبر.. اعملوا به ما شئتم تسقط الضريبة عنهم، لكن ما دام هذا الميت في هذا القبر وما فتح فكل سنة عليه ضريبة، سبحان ربي العظيم! والميت هناك ما يبلى بسنة واحدة لأنها بلاد باردة فعلى الأقل لازم يبقى أربع سنين أو خمس ليتحلل، فأنت لا يمكن بنهاية السنة تقول: لا أدفع ضريبة، وإلا ميتك يفتح ويلقى موتى فوقه وهو على حالته. يعني: لازم ندفع ضريبة خمس سنين ثم بعد ذلك يقول: خلاص، يكفيه.

فالمسألة كما قلت لكم ليس كما يتصوره بعض الناس فيقول: مؤن التجهيز تبحث؟ الميت سيكفن بعشرة ريال من الخام والملابس البيضاء ونسأل الله حسن الخاتمة، والقبر مجاناً وأنتم تبحثون عن مؤن التجهيز؟ فقد تقع صور كالصور التي ذكرتها.

وخلاصة الكلام إخوتي الكرام: الحق المتعلق بعين التركة كما لو رهن الميت عيناً مقابل قرض أخذه، فعند الجمهور الحق المتعلق بعين التركة يقدم، على مؤن التجهيز، وذكرت دليلهم وتعليلهم، وعند الإمام أحمد الحق المتعلق بمؤن التجهيز يقدم على سائر الحقوق قياساً على سترة الميت في حياته، كما أن سترته في حياته واجبة ولا ننزع عنه ثيابه من أجل قضاء دينه، فسترته أيضاً بعد موته واجبة فنكفنه وندفع أجرة الحفر والقبر مما تركه وإن كان تعلق حقٌ بعين ما تركه.

بقية المبحث أرجئه إن شاء الله إلى أول الدرس الآتي بإذن الله.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , فقه المواريث - حقوق تتعلق بالميت للشيخ : عبد الرحيم الطحان

https://audio.islamweb.net