إسلام ويب

لقد كان الإمام أبو حنيفة رحمه الله حليماً واسع الصدر، ذا عفو وصفح وإحسان إلى الناس، خاصة الفقراء منهم وطلاب العلم، صاحب أمانة وورع عن الشبهات، عفيفاً مبتعداً عما في أيدي الناس، ولذلك فقد تفجرت الحكمة على لسانه فقال كلاماً بديعاً محكماً بليغاً، وقد عُرض عليه القضاء في عهد الدولتين الأموية والعباسية فكان يمتنع لورعه وتقواه، حتى أصابه بسبب ذلك بلاء وامتحان، فضُرب وسُجن حتى مات في السجن مسموماً أيام أبي جعفر المنصور، فرحمه الله ورضي عنه.

حلم أبي حنيفة وعفوه وصفحه وإحسانه إلى الناس ورحمته بهم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد:

ففي هذا الدرس سنتناول حلم أبي حنيفة وسعة صدره، وعفوه، وصفحه، وإحسانه، ورحمته لعباد الله وخلقه، استمعوا لبعض الأخبار التي رُويت في ترجمة إمام الأبرار سيدنا أبي حنيفة رضي الله عنه وأرضاه:

روى الإمام الصالحي في عقود الجمان، صفحة سبع وثمانين ومائتين، والأثر في الخيرات الحسان صفحة ثمانين، ورواه الذهبي في الجزء الذي ألفه في ترجمة سيدنا أبي حنيفة وصاحبيه، في صفحة خمس وعشرين، وهو في غير ذلك من الكتب، عن العبد الصالح يزيد بن هارون وتقدم معنا حاله، وأن حديثه في الكتب الستة, توفي سنة ست ومائتين، وهو إمام صالح ثقة مبارك. قال: ما رأيت أحلم من أبي حنيفة . حليم صدر واسع، لا يغضب، ولا يتأثر، ولا يمتعض، ولا يعاقب، ولا يطيش، رضي الله عنه وأرضاه، قال: له فضل دين، وورع، وحفظ لسان، وإقبال على نفسه.

استمع لحلمه ولورعه ولوقوفه عند حده وصفحه عن خلق الله:

كلمه مرة بعض الناس، فأغلظ هذا المتكلم مع سيدنا أبي حنيفة في الكلام، بحيث اشتط كحال السفهاء على الدوام، فقال لسيدنا أبي حنيفة رضي الله عنه وأرضاه يا كافر يا زنديق! فأطرق أبو حنيفة رضي الله عنه وأرضاه رأسه، ثم قال: غفر الله لك، الله يعلم مني خلاف ما تقول، أنت جهلت عليَّ وهو يعلم مني خلاف ما تقول، أنا مؤمن بالله سبحانه وتعالى، وأنت تقول: كافر زنديق! يغفر الله لك.

وكان رضي الله عنه وأرضاه يقول: ما جازيت أحداً بسوء، ولا لعنت شيئاً، ولا ظلمت مسلماً ولا معاهِداً -أو معاهَداً-، ولا غششت أحداً ولا خدعته.

هذا حال هذا العبد الصالح، إنها صلة قوية برب البرية، وإحسان بعد ذلك إلى الرعية.

ولذلك كان أئمتنا يعرفون هذا فيه، وإذا جرى من بعض الناس تطاول على هذا الإمام في غيبته يزجرونه ويذكرونه بحال هذا الإمام، وبالصفات التي ينبغي أن نقدره من أجلها رضي الله عنه وأرضاه.

روى الإمام الذهبي في الجزء الذي ألفه في ترجمة سيدنا أبي حنيفة وصاحبيه، في صفحة سبع عشرة: أن رجلاً ذكر سيدنا أبا حنيفة رضي الله عنه وأرضاه أمام سفيان بن عيينة رضي الله عنهم أجمعين فانتقصه، وحط من قدره، وغض من شأنه، فصاح فيه أبو محمد سفيان بن عيينة : مه!! -انتبه واسكت- كان أبو حنيفة أكثر الناس صلاة، وأشدهم ورعاً، وأحفظهم للسانه، وأعظمهم أمانة، وأحسنهم مروءة.

فهل مثل هذا تقع في عرضه وتتكلم عليه؟ أما تستحي من الله؟! يعبد الله ويحسن إلى عباد الله، وأنت بعد ذلك تتطاول على هذا الولي من أولياء الله! إخوتي الكرام! كما قلت: صلة قوية بالله، وإحسان إلى عباد الله.

أمانة أبي حنيفة وتورعه عن الشبهات

انظروا لإحسانه إلى خلق الله وعباد الله وإلى نفعه لهم: روى الإمام ابن حجر في الخيرات الحسان، صفحة ثلاث وثمانين، والأدق من الرواة قال: قال الحافظ ابن حجر في الخيرات الحسان: تواتر أن أبا حنيفة رضي الله عنه وأرضاه كان يتجر في الخز -في الملابس والثياب- وكان مسعوداً محظوظاً في التجارة، يُبارك له في رزقه كما بُورك له في علمه، والخيرات مفتوحة عليه من جميع الجهات رضي الله عنه وأرضاه، وكان له دكان في الكوفة، وله شركاء يسافرون ويتاجرون، انظروا لبعض الأخبار في تجارته وأمانته وورعه ونفعه وإحسانه:

الخبر الأول: يرويه الإمام الصيمري وهو من شيوخ الخطيب البغدادي، في صفحة أربع وثلاثين، وعنه يروي الخبر الخطيب في تاريخ بغداد، والذهبي في الجزء الذي أشرت إليه صفحة إحدى وأربعين، والسيوطي في تبييض الصحيفة في مناقب سيدنا أبي حنيفة ، والأثر في غير ذلك من الكتب: أن سيدنا أبا حنيفة رضي الله عنه وأرضاه كان له شريك يعمل في دكانه، وهو حفص بن عبد الرحمن، هذا كان شريكاً لسيدنا أبي حنيفة النعمان، توفي سنة تسع وتسعين ومائة، وهو من أبناء الثمانين، عاش بعد سيدنا أبي حنيفة تسعاً وأربعين سنة، ولما توفي سيدنا أبو حنيفة كان عمره في حدود إحدى وثلاثين سنة، شاب في أول حياته، يعمل في دكان سيدنا أبي حنيفة شريكاً مضارباً، المال من أبي حنيفة، وهذا يعمل مضاربة في دكانه.

روى له النسائي في سننه، وروى له أبو داود في كتاب القدر، قال الحافظ ابن حجر في ترجمته في التقريب: حفص بن عبد الرحمن الفقيه، ولي قضاء نيسابور، صدوق عابد، بعد وفاة سيدنا أبي حنيفة صار قاضياً، حقيقة الذي سيعمل مع سيدنا أبي حنيفة ويجالسه سيتفقه ويحصل خير الدنيا والآخرة، فبعد وفاة أبي حنيفة أصبح هذا التاجر قاضياً، وقاضياً في أي عصر؟ لا ينبغي أن نزن ذلك الوقت بهذا الوقت، إنه عسر أئمة الإسلام، عصر الرواية، عصر الفقه، فقد توفي سنة تسع وتسعين ومائة، أي أنه ما دخل القرن الثالث، وهذا أزهى عصور الإسلام، يكون فيه شريك أبي حنيفة قاضياً، فكم رفعة درجة الإمام وقدر الإمام رضي الله عنه وأرضاه، إذا كان أجيره صار قاضياً فكيف حال الإمام؟

ولذلك سيأتينا في ختام ترجمة سيدنا أبي حنيفة عندما عرض عليه أبو جعفر القضاء وما قبل، اعتبر أبو جعفر هذه أكبر إهانة؛ لأن هذا أكبر علماء الأمة الإسلامية، فمن أجل ضمان ولايته للخلافة العباسية، وأنه يقرها، ينبغي أن يسند إليه الإشراف على القضاة، فامتنع، وذلك دليل على أنك لا توافقني، وأنك ترتاب نحو بعض تصرفاتنا، وحقيقة أبو جعفر وغيره دخلوا في كثير من أمور الظلم كما سيأتينا، وأبو حنيفة لا يريد أن يشارك في هذا رضي الله عنه وأرضاه، دينه أغلى عليه من كل شيء، فـأبو جعفر اعتبر هذه منقصة في حقه، فبعد أن عمل به ما عمل، سقاه السم، وقتله في السجن، وسيئولون إلى رب العالمين ليوفي كلاً بما عمل.

فتلميذه وشريكه يصبح قاضياً، ويخرج له الإمام النسائي في السنن وأبو داود في كتاب القدر، وهو صدوق عابد، بعد أن ولي قضاء نيسابور جلس فترة ثم استقال وندم، وقال: إمامي ما قبل القضاء، وأنا بعد ذلك آخذ القضاء، لو كان أبو حنيفة حياً لما راق له ذلك، فاستقال وتركه.

حفص بن عبد الرحمن كان يعمل في الدكان، وسيدنا أبو حنيفة رضي الله عنه وأرضاه هو الذي يجهز له الأمتعة والملابس، وهذا يبيع، ذاك يجهز في بيته في المستودع وهذا يبيع، فمرة أحضر الملابس إلى الدكان وقال له: فيها ثوبان فيهما عيب، فلا تبعهما إلا بعد بيان هذا العيب، هذا مثلاً مائة ثوب من الخز فيها ثوبان فيهما عيب، فذاك لا من باب الغش والتدليس فأحياناً يذهل الإنسان، بتقدير الله بيعت جميع الملابس وما فطن لهذين الثوبين ووجود العيب فيهما لبيانه، فبعد أن باع تذكر وقال لأبي حنيفة: بعت الثوبين ونسيت، وما أعلم من الذي اشتراهما، الثياب كلها بيعت، وما بقي شيء، ولا أعرف من الذي اشترى الثوبين، فماذا ترى؟

قال: نتصدق بجميع الثمن، كل هذه السلعة من أولها لآخرها لا نأخذ من ثمنها، ولا يدخل مالنا درهم فيه شبهة, فهو هنا لم يتصدق بثمن الثوبين، بل تصدق بجميع السلعة من أولها لآخرها، كم ثمنها؟ سبعون ألف درهم، قال: كلها صدقة والله سوف يعوضنا.

يا إخوتي الكرام! هذا الورع، وهذه العبادة، وهذه الأمانة، وهذه الديانة، يا إخوتي! ينبغي أن نعرف قدر أئمتنا، ولعلكم لا يخفى عليكم المشاكل التي تقع بيننا, يختصم اثنان في هذه الأيام حول طباعة كتب حديث نبينا عليه الصلاة والسلام فيقول: لي حق تأليفها، أنت سرقت الكتب، وأنت بعت، يقول: نحتكم للشرع، يقول الشيخ المحدث: لا, نحتكم إلى المحكمة المدنية! الله أكبر! تتاجرون بحديث نبينا خير البرية عليه الصلاة والسلام، ثم لا تحتكمون إلى الشريعة الإسلامية، ثم بعد ذلك سلفية!! الله أكبر على هذا العصر الذي نعيش فيه وعلى أحوالنا.

والله الذي لا إله إلا هو لو قيل للشيطان: تصبح مكاننا، لقال: لا، لعلكم أشطن مني في هذه الأيام، ثم بعد ذلك سلفية، والتزام، وهذيان لا مثيل له في هذه الأيام! هذه أحوالنا.

يا إخوتي! هذه النماذج التي كان عليها أئمتنا ينبغي أن تذكر وأن تعطر بها المجالس، يبيع بالتدليس من غير قصد، كان بإمكانه أن يخرج قيمة الثوبين فقط، أو قيمة النقص الذي في الثوبين، ويقول: هذا نتحلل منه، ولنفرض أن ثمن الثوب عشرة دراهم وفيه عيب بمقدار درهمين، إذاً: أخرج أربعة دراهم من الثوبين وخلاص، أما السلعة بكاملها فهذه أحوال أولياء الله.

والآن كما قلت: حقوق كتب وتأليف، وخصومة، وبعد ذلك كل واحد يتكلم على الآخر بكلام لا يمكن أن يصدر من السكران، والاحتكام إلى المحاكم المدنية، نقول: نحكِّم بعض أهل الخير في مسألتنا، فيقول: لا، المحكمة الوضعية تحكم بيننا، هذه أحوالنا في هذه الأيام إخوتي الكرام، وانظروا لهذا الإمام المبارك رضي الله عنه وأرضاه في هذه القصة.

قصة ثانية يرويها الصيمري أيضاً رضي الله عنه وأرضاه، صفحة تسع وثلاثين، والذهبي في صفحة اثنتين وأربعين: أنه جاءت امرأة تبيع ثوباً، فنشرت الثوب أمام أبي حنيفة رضي الله عنه وأرضاه، عرضته عليه لأجل أن يشتريه، فقال: بكم تبيعينه؟ قالت: بمائة درهم، قال: يا أمة الله! إنه يسوى أكثر من ذلك، زيدي. فقالت: بمائتين، قال: يسوى أكثر من ذلك، قالت: بثلاثمائة، قال: يسوى أكثر من ذلك، قالت: بأربعمائة، قال: يسوى أكثر من ذلك، قالت: كم؟ قال: ثوبك يسوى خمسمائة درهم، هذه قيمته، تبيعينه بهذا السعر أنا أشتريه منكِ، من مائة إلى خمسمائة!!

يا إخوتي الكرام! هذه هي الأمانة، وهذه هي الديانة، وهذا حال أئمتنا رضي الله عنهم وأرضاهم.

إحسان أبي حنيفة إلى الناس ونفقته على طلاب العلم وعلى الفقراء

جاءت إليه امرأة أخرى فقالت: يا أبا حنيفة ! إني امرأة مسكينة، ما لها معين مقطوعة، وأريد أن تعطيني ثوباً برأس المال، لا تربح عليَّ اعتبرها مساعدة.. يا أمة الله ليس هو مساعدة هو سوف يعطيك ثيابه التي يلبسها من باب المساعدة، فخففي على نفسك، قالت: أعطني برأس المال، قال: كما تريدين، فنشر لها الثوب الذي تريده وكان من أجمل الثياب، قالت: كم قيمته؟ قال: أربعة دراهم، قالت: أنت تهزأ بي وأنت أبو حنيفة تسخر بي! قال: يا أمة الله! لا أسخر منك، إنما أنا اشتريت هذا مع ثياب بمبلغ كذا، ثم بعت تلك الثياب بما تيسر، وما بقي من رأس المال إلا أربعة دراهم فقط، يعني تلك بعتها وربحت فيها، بقي لأصل إلى رأس المال أربعة دراهم، فهذا الثوب الآن ادفعي أربعة دراهم حتى نصل إلى رأس المال، فتكون الثياب كلها هذا الثوب وما قبله برأس المال، خذيه بأربعة دراهم ثم بيعيه بعد ذلك بما تريدينه.

كان رضي الله عنه جميع غلة التجارة ينفقها على طلبة العلم، يقول: لا تشكروا إلا الله، هو الذي أطعمكم، فهذا مال الله ونتاجر به والرزق من الله، لا تظنوا أن هذا لي منة فيه عليكم، هذا مال أُرسل الأجراء والشركاء يتاجروا فتأتي الأرباح توزع عليكم.

لما حفظ ابنه حماد سورة الفاتحة على مَن يعلمه وكان صغيراً في أول عمره، أعطى معلمه خمسمائة درهم, ذاك ما يأخذها ولا في خمسة أشهر، حفظه سورة الفاتحة فقط، وقد ثبت في ترجمته في سائر الكتب التي ترجمته قوله: خذوا لهذا الأدب واستمعوا له، ولعله ما كان يفعل بها إلا قلة قليلة من أئمة الإسلام الكبار.

ثبت في ترجمته رضي الله عنه: أنه ما اشترى لأهله شيئاً إلا تصدق بمثله، صدقة تطوع، لا يشتري لأهله شيئاً، أي نفقة ينفقها على أهله يتصدق بمثلها، من طعام من ثياب من من أي شيء يجلب إلى البيت، وما لبس ثوباً إلا كسى شيوخ العلم كما لبس رضي الله عنه وأرضاه، وما أكل شيئاً هو إلا تصدق أيضاً بمقداره، ما يأكل يتصدق بمثله، وما يجلب لأهله يتصدق بمثله، وما لبس يفعل أيضاً مع الشيوخ كذلك، هذا حاله رضي الله عنه وأرضاه.

إخوتي الكرام! تدل هذه القصص على نفس متعلقة بالله، وأن هذه الدنيا من أولها لآخرها ما تسوى قشرة بصلة، ينبغي أن نعرف قدر أئمتنا رضي الله عنهم وأرضاهم.

عفة أبي حنيفة وعدم تطلعه إلى مال غيره

وأما فيما يتعلق بعفته وعدم تطلعه إلى مال غيره، فحدث ولا حرج, يذكر الإمام الصيمري في أخبار سيدنا أبي حنيفة وأصحابه، صفحة ثلاث وستين، والأثر في الانتقاء صفحة تسع وستين ومائة: أن أبا جعفر المنصور أمر بعشرة آلاف درهم لأبي حنيفة مكافأة وصلة كما كان يفعل الأمراء مع العلماء، فأُخبر أبو حنيفة رضي الله عنه أنه جائزة ومكافأة وعطية عشرة آلاف درهم ستأتيك في هذا اليوم، حُدد له يوم، يعني يوم كذا ستوزع العطايا، ففي اليوم الذي ستأتي فيه الصلة صلى الفجر وتقنع بثوبه وجلس في حجرته يذكر الله، فجاء رسول الحسن بن قحطبة وهو أمير الأمراء، وقائد الجيوش لـأبي جعفر المنصور، توفي سنة واحد وثمانين ومائة، وهو الذي يقسم المال ويوزع الصلات بأمر أبي جعفر، فجاء رسول الحسن بن قحطبة، وقال: أين أبو حنيفة؟ قالوا: أبو حنيفة متدثر بكسائه منذ أن صلى الفجر لا يكلم أحداً منا، قال: ما الحيلة؟ معي صلة من أمير المؤمنين، قالوا: إنه لا يكلم أحداً هذه عادته لا يكلم أحداً.. لو جاء الخليفة بنفسه لا يكلمه.

قال: الأمر سهل، هذه توضع جائزة له، إذا انتهى من خلوته من هذه الحالة التي هو فيها يأخذها، فتركها، فلما ذهب وتأكد أبو حنيفة من ذهابه رضي الله عنه وأرضاه، كلمهم، فقالوا له: أحضرها رسول الحسن بن قحطبة، فقال: لولده حماد : ضعها في زاوية البيت يا بني، ثم لما توفي أبو حنيفة رضي الله عنه كتب كتاباً وقال لولده: خذها إلى الحسن بن قحطبة، وقل: هذه الأمانة التي أحضرتها لوالدي حفظها عنده وما طلبتها، وأبو حنيفة قد توفي فخذ أمانتك، فأتى حماد بهذه الأمانة إلى الحسن بن قحطبة، وهو توفي كما قلت سنة واحدة وثمانين ومائة، بعد سيدنا أبي حنيفة بفترة، فجاء حماد بهذا المال، فقال: هذا ليس بأمانة، هذا أُعطي صلة لأبيك ومكافأة من بيت المال عطية، لا دخل لنا فيه وليس لنا منة فيه، هذا من بيت مال المسلمين، وهذا شيخ مسلم، قال: والدي توفي، وهذه الأمانة وأنا رددتها، الابن كأبيه، لا يأخذ منها شيئاً، فبكى الحسن بن قحطبة، وقال: رحمة الله على أبيك، كان شحيحاً على دينه، يشح لكن في دينه لا في دنياه، كان شحيحاً على دينه رضي الله عنه وأرضاه.

إخوتي الكرام! عشرة آلاف درهم، وهي التي تسمى في اللغة: بالبَدْرَة، إذا كان المال عشرة آلاف درهم يقال له: بدرة, قال: خذ هذه البدرة بعد موتي واذهب بها إلى الحسن بن قحطبة، وقل له: هذه أمانتك، فقال: رحمة الله على أبيك كان شحيحاً على دينه.

الحسن بن قحطبة إخوتي الكرام له مزايا ومناقب في حرب الروم، دوخهم وأذلهم، وكان الروم يسمونه تنيناً، وهذا تنين المسلمين، وهو الحية العظيمة والثعبان الكبير، وكما قلت كان قائد الجيوش لـأبي جعفر في الفتوحات الإسلامية.

من كلام أبي حنيفة وحكمه ووصاياه

إخوتي الكرام! لما تقدم من صفات في سيدنا أبي حنيفة رضي الله عنه وأرضاه، أنطق الله لسانه بالحكمة، وثبت قلبه، ورزقه العلم والفهم والصواب والسداد، أذكر خبرين أو ثلاثة في ذلك، ثم أختم بعد ذلك بوفاة سيدنا أبي حنيفة رضي الله عنه وأرضاه، وسبب وفاته أنه عرض القضاء عليه فأباه، فتسبب له ذلك بحصول الوفاة رحمة الله ورضوانه عليه.

قوله: إن لم يكن العلماء أولياء لله فليس لله ولي

من أقواله التي أذكرها الآن في آخر هذه الموعظة، وقد أترك شيئاً منها لأول الموعظة الآتية، هي يسيرة لا تأخذ دقائق، لأصل بها بعد ذلك لترجمة سيدنا الإمام مالك رضي الله عنهم وأرضاهم.

كان هذا العبد الصالح يقول، كما في التبيان في آداب حملة القرآن، صفحة إحدى وعشرين، والأثر في الخيرات الحسان وعقود الجمان: إن لم يكن العلماء أولياء الله فليس لله ولي. وهذا الكلام مأثور أيضاً عن الإمام الشافعي رضي الله عنهم وأرضاهم.

وأي علماء الذين نعتهم هذا العالم المبارك رضي الله عنه وأرضاه؟ وأما بعد ذلك أكثر منافقي هذه الأمة قراؤها، هذا موضوع آخر، إنما العلماء الذين هذا نعتهم: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، إن لم يكن العلماء أولياء الله فليس لله ولي.

قوله: من قال فيَّ شيئاً ليس فيَّ وهو من أهل الجهل فهو في حل ..

ومن كلامه المحكم رضي الله عنه وأرضاه، كما في مناقب أبي حنيفة وأصحابه للإمام الصيمري صفحة ثلاث وأربعين، وانتبهوا لهذا الكلام ولتعليله ولا ينافي ما تقدم من حلمه وصفحه وسعة صدره رضي الله عنه وأرضاه، قال: من قال في شيئاً ليس في وهو من أهل الجهل فهو في حِل. أي: إذا كان من الجاهلين.. من العامة.. من الدهماء وقال فيَّ ما ليس فيَّ من الكلام الباطل، فهو في حل سامحه الله في الدنيا والآخرة وغفر له، قال: ومن قال في ما ليس في من أهل العلم فهو في حرج؛ لأن غيبة العلماء تبقى شيناً بعد موتهم. فهذا ما يسلم لأن كلامه سينقل على أنه عالم، سيدون في الكتب، سيوزع في الأشرطة، كما يحصل في هذه الأيام، فهذا يختلف، أما ذاك الجاهل مر في السوق وشتمك، تقول له: يغفر الله لك، الله يعلم مني خلاف ما تقول، وانتهت الكلمة وزالت، ما سطرت في الكتب، أما العالم الذي تكلم على سيدنا أبي حنيفة وعلى غيره وبهته فهو يختلف، وهذا -كما قلت- لا ينافي ما تقدم من حلمه وصفحه، وهذا فيه ردع عن التمادي بالباطل؛ لأن هذه السيئة ستتناقلها الأجيال، ولهذا قال: من قال في ما ليس في وهو من أهل العلم فهو في حرج؛ لأن غيبة العلماء تبقى شيناً بعد موتهم. عندما يغتاب العالم ويتكلم بالسوء هذا يبقى ويدون ويسطر ويتناقله الناس، ولذلك من تكلم عليَّ من أهل العلم بسوء فوقع في عرضي وبهتني وافترى عليَّ فهو في حرج، وسنقف معه أمام الواحد الأحد الصمد سبحانه وتعالى.

وكما قلت: هذا لا ينافي الحلم والصفح وسعة الصدر، بل هو من باب وضع الشيء في موضعه، لئلا يتمادى الناس في الضلال، ولئلا توسع رقعة الكلام الباطل، فطالب العلم والعالم عندما يتكلم يُتناقل الكلام، وهذا هو السداد والرشاد الذي يقوله هذا الإمام المبارك رضي الله عنه وأرضاه.

وقد قال هذا الكلام لأجل أن يفطم طلبة العلم من الوقوع في أعراض العلماء، فكلام طالب العلم يقيد ويسجل ويُتناقل، ولذلك إذا بَهت عالم وتكلم عليه بما ليس فيه، فحاله ليس كحال الجاهل الذي قال كلمة عابرة ذهبت أدراج الرياح، فقد قال الإمام هذه المقولة من أجل تحذير طلبة العلم من الوقوع في أعراض العلماء، فلحومهم مسمومة، وعادة الله في هتك منتقصيهم معلومة، ومن أطلق لسانه في العلماء بالسب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب.

إخوتي الكرام! إمام مبارك رضي الله عنه وأرضاه أنطق الله لسانه بالحكمة، كيف لا وقد قال في حقه العبد الصالح علي بن عاصم الواسطي، وهو صدوق يخطئ أحياناً، توفي سنة إحدى ومائتين للهجرة عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، كان من العلماء الربانيين القانتين، يقول: لو وُزن عقل أبي حنيفة النعمان رضي الله عنهم أجمعين بعقول نصف أهل الأرض لرجح عقله عليهم.

يقول هذا -إخوتي الكرام- من باب بيان قدر هذا الإمام المبارك الهمام رضي الله عنهم وأرضاهم، فقد كان ذا عقل زكي ذكي.

قوله: تركت المعاصي مروءة فصارت ديانة

كان يقول الإمام أبو حنيفة كما في عقود الجمان في ترجمة سيدنا أبي حنيفة النعمان للإمام الصالحي صفحة ثلاث وثلاثمائة وفي غير ذلك من كتب التراجم، كان يقول هذا الإمام المبارك: تركت المعاصي والذنوب مروءة فصارت ديانة. وهذا كلام حقيقة مَن يعي حقيقة الطاعة وحقيقة المعصية، ترك المعاصي مروءة؛ لأن فعل المعاصي، والذنوب عيوب تخدش مروءة الإنسان وتسقط مروءته قبل أن تزيل ديانته، إن المعاصي عيوب في الإنسان، ولا تليق بالإنسان الذي يحترم نفسه، ويعظم ربه سبحانه، فالزنا كما أخبر ربنا فاحشة: إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء:32]، والخمر أم الخبائث، وهكذا سائر الموبقات والقاذورات، لو لم ترد الشريعة بتحريمها لكان صاحب المروءة يتنزه عنها، يقول: أنا إمام، أنا إنسان لي قدر أكرمني الله بالعقل، هذه الذنوب لا تليق بكرامة الإنسان، فتركتها تعففاً عنها وصيانة لمروءتي وحفاظاً على إنسانيتي، لكن من ترك الذنوب من أجل المحافظة على إنسانيته ومروءته، فمن باب أولى سيتركها خشية لربه، فقال: هذه المروءة التي حملتني على ترك الذنوب، بعد ذلك صار هذا في سجية بحيث لا أقع في شيء من مخالفة علام الغيوب سبحانه وتعالى، تركت الذنوب مروءة فصارت ديانة، وحقيقة إن الله تعالى ما حرم علينا ما حرم من الخبائث إلا لأنه ينافي مروءة الإنسان، كما أنه ينافي عبودية الإنسان لذي الجلال والإكرام.

كلامه العظيم لأبي جعفر المنصور حين طلب منه مجالسته

ومن كلامه المحكم كما في عقود الجمان صفحة ست وثلاثمائة وغير ذلك من كتب التراجم: قال له أبو جعفر المنصور: يا أبا حنيفة ! رضي الله عنه وأرضاه، لمَ لا تغشانا كما يغشانا غيرك؟ يأتون إلى مجالسنا ويصيبون من الخيرات التي عندنا؟ قال: وكيف أغشى أبوابك، إن قربتني فتنتني، وإن أقصيتني أحزنتني، يعني: إذا أجلستني في المجلس في المؤخرة وبدأت تحتقرني وتتطاول لما لك من ملك وسلطان تحزنني وتحقرني أمام الناس، وإذا قربتني ازدادت الفتنة، قال: ولا أرجوك، وما عندي شيء أخافك عليه، لا أؤمل منك منفعة ولا أخشى منك مضرة، وإنما يغشاك من يخشاك، وأما أنا فلا أخشاك ولا غيرك، وإنما يغشاك من يخشى منك، أو يريد لُعاعة من الدنيا، هذا الذي يقترب منك، وأما أنا فما لي بك حاجة، إن قربتني فتنتني، وإن أقصيتني أحزنتني، ولا أرجوك، وما عندي شيء أخافك عليه، ويغشاك من يخشاك، فعندك بدلي جم غفير، فلمَ تريد مجالستي؟

حقيقة هذا هو الكلام المحكم الذي يخرج من القلب الطاهر الحكيم، وتقدم معنا إخوتي الكرام كلام سيدنا سعيد بن المسيب رضي الله عنه وأرضاه: الذباب على العذِرة أجمل من قارئ على باب أمير، وإذا رأيت العالم يغشى أبواب السلاطين فاعلم أنه لص، وإذا رأيت العالم يغشى أبواب السلاطين فاتهمه على الدين.

فسيدنا أبو حنيفة رضي الله عنه لا يعقل أن يغشى باب أبي جعفر، ولا يخفى عليكم حال السلاطين المتقدمين، فهم على ما فيهم من جور وظلم، وما سلم أحد من ذلك بعد الخلافة الراشدة إلا ما رحم ربك وقليل ما هم، ما سلم، لكن مع ذلك فيهم دين عظيم، وخشية من رب العالمين، وحكم بهذا الشرع القويم، مع ما فيهم من ظلم، لكن هم على خير كبير، ومع ذلك يبتعد أئمتنا رضوان الله عنهم عن مجالسة السلاطين والأمراء.

قوله: إذا قعدت امرأة وقامت فلا تقعد في ذلك المكان حتى يبرد

ومن كلامه أيضاً كما في عقود الجمان وغيره، قال: إذا قعدت امرأة في مكان وقامت، فإياك أن تقعد في ذلك المكان حتى يبرد. هذا من كلام سيدنا أبي حنيفة النعمان، امرأة قعدت في مجلس، جاءت لتسأل عالماً سؤالاً، ثم قامت فلا تجلس مكانها مباشرة؛ لأنها عند جلوسها أصبح المكان فيه دفء، حتى لو جلس رجل أو امرأة أو بهيمة في مكان يصبح فيه دفء، والمكان مجرد فيه برودة، فلا تجلس مكان المرأة إذا جلست حتى يبرد ذلك المكان؛ من أجل ألا يخطر ببالك شيء من وساوس الشيطان.

وهذا الكلام الذي يقوله هذا الإمام الهمام أبو حنيفة النعمان رضي الله عنه وأرضاه مأثور -إخوتي الكرام- عن نبينا عليه الصلاة والسلام، وسبحان من أنطقه بالحكمة! فقد روى الإمام الدارقطني في كتاب الأفراد عن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (جاءت امرأة إلى نبينا عليه الصلاة والسلام فكلمته في حاجة، فلما قامت جاء بعض الصحابة ليجلس مكانها ليسأل نبينا عليه الصلاة والسلام، فقال: لا تجلس حتى يبرد هذا المكان)، اصبر فترة من أجل أن يزول الأثر.

والحديث -إخوتي الكرام- كما قلت رواه الإمام الدارقطني في كتابه الأفراد، والإمام ابن الجوزي على عادته في التشدد أورد هذا الحديث في كتاب الموضوعات في الجزء الثاني صفحة خمس وخمسين ومائتين، وزعم رضي الله عنه وأرضاه أنه موضوع، مع أنه ليس في إسناد الحديث من تُكلم فيه إلا شعيب بن مبشر الكلبي، قال الإمام ابن حبان كما في كتاب المجروحين والضعفاء في الجزء الأول صفحة ثلاث وستين وثلاثمائة: ينفرد عن الثقات بما يخالفه الأثبات، فلما وُجد هذا منه استحق الترك، ولا يحتج بحديثه.

هذا ما قاله الإمام ابن حبان فيه، ولكن نوزع في ذلك، وهو من الرواة عن سيدنا الإمام أبي عمرو الأوزاعي رضي الله عنهم أجمعين، فـالذهبي في المغني في الضعفاء يقول: إنه صُليح، وفي الميزان يقول: إنه حسن الحديث، شعيب بن مبشر، انظروا المغني الجزء الأول صفحة ثلاث وتسعين ومائتين، والميزان الجزء الثاني صفحة سبع وسبعين ومائتين.

ولذلك تعقب السيوطي في اللآلئ المصنوعة في الجزء الثاني صفحة تسع وخمسين ومائة، وابن عراق الكناني في تنزيه الشريعة في الجزء الثاني صفحة أربع ومائتين، تعقبا الإمام ابن الجوزي في حكمه على الحديث بالوضع وقالوا: إن شعيب بن مبشر لا يصل حديثه إلى درجة الترك، ومن باب أولى إلى درجة الوضع، فهو حسن الحديث كما قال الإمام الذهبي في الميزان، ونقلا كلام الذهبي في الميزان، وكما قلت أنه قال في المغني: إنه صليح، فقالا: إنه حسن الحديث، فكيف يُحكم على الحديث بعدم الصحة والوضع لوجود هذا فقط في إسناده وهو شعيب بن مبشر؟

والحديث إخوتي الكرام! ذكره الإمام ابن حجر في اللسان في ترجمته، والذهبي لم يورد هذا الحديث، إنما أورد له حديثاً آخر، وذكر كلام ابن حبان وقال: إن شعيب بن مبشر حسن الحديث، ولم يذكر هذا الحديث، والإمام ابن حجر قال: له حديث آخر، وهو هذا الحديث، حديث سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، (أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى الرجل أن يجلس مكان المرأة حتى يبرد موضعها)، هذا جلوس، فكيف بمصاحبة ومصافحة ومحادثة ومخالطة؟! نسأل الله أن يلهمنا رشدنا بفضله ورحمته إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

حكمته وذكاؤه في مسألة في الفرائض

ختام الكلام على حكمته: جاءته امرأة وقالت: يا أبا حنيفة! مات أخي وترك ستمائة دينار، وما أُعطيت إلا ديناراً واحداً من تركته. هو الآن سيحصي الورثة في ذهنه، ويبين كم تستحقين، مات أخوها وترك ستمائة دينار، فأُعطيت ديناراً واحداً، فسأل أبو حنيفة رضي الله عنه وأرضاه: مَن قضى بذلك؟ ليعلم هل القاضي متمكن حتى يخرج لها المسألة، ويبين لها الورثة، وأنها لا تستحق إلا هذا، أو أنه من القضاة الآخرين، قالت: داود بن نصير الطائي الخواص ، وهو من تلاميذ أبي حنيفة النعمان ، توفي سنة ستين، وقيل: خمس وستين بعد المائة، وحديثه في سنن النسائي، الإمام الصالح العابد من الأولياء كما قال الإمام الذهبي، قال أئمتنا: ما خلف في الكوفة بعده مثله، وكان سيدنا عبد الله بن المبارك رضي الله عنه وأرضاه يقول: هل يُراد من العلم إلا ما عليه داود، كما قال الإمام أحمد: هل يراد من العلم إلا ما عليه معروف الكرخي.

وتقدم معنا عندما كان في مجلس سيدنا أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه وأرضاه، فكان يتكلم وبعد ذلك زاد، فمد يده على بعض أصحابه يلوح أنه يهدده، فقال له: يا داود! طال لسانك وطالت يدك، فجلس سنة كاملة لا يتكلم في مجلس سيدنا أبي حنيفة النعمان، ثم صار من العباد الأولياء الأتقياء، مع أنه من المحدثين الكبار والفقهاء الأبرار رضي الله عنهم وأرضاهم.

قال لها: مَن قضى لكم بذلك؟ قالت: داود بن نصير الطائي، قال: يا أمة الله! لعل أخاك ترك أماً وزوجة وبنتين واثني عشر أخاً وأنتِ؟ قالت: نعم ما ترك إلا هذا، صدقت، قال: يا أمة الله! إن كان كذلك فليس لك إلا دينار من الستمائة.

ووجه ذلك إخوتي كما هو معروف في الفرائض: البنتان لهما ثلثان، والأم لها السدس، والزوجة لها الثمن، والإخوة عصبة للذكر مثل حظ الأنثيين، ستكون المسألة من أربعة وعشرين لوجود السدس مع الثمن، تعطى البنتان الثلثين، ستة عشر سهماً، والأم السدس أربعة سهام، فهذه عشرون سهماً من أربعة وعشرين، وتعطى الزوجة ثلاثة، صارت السهام ثلاثة وعشرين سهماً من أربعة وعشرين، بقي سهم واحد، ويأخذه اثنا عشر أخاً وأخت، وهو لا ينقسم عليهم وعدد رءوسهم خمسة وعشرون؛ لأن للذكر مثل حظ الأنثيين، فنضرب خمسة وعشرين في أربعة وعشرين، فيكون الناتج ستمائة، ستمائة على ستمائة منقسمة، فيصير كل أخ له ديناران، والأخت لها دينار واحد، وأولئك كل واحد نصيبه يضرب في خمسة وعشرين، قال: ليس لكِ إلا ذلك، إذا كان داود تلميذي قضى في هذه القضية، وقسم هذه المسألة، فهذه قسمة سوية، ليس لك إلا دينار.

سبحان من علمه العلم، وأعطاه الحكمة، بحيث يستحضر الورثة، ويوزع بعد ذلك التركة عليهم، ويقسم ويصحح ويوزع في سؤال ارتجالي شفوي دون أن يمسك ورقة وقلماً، ويعلم ربي لما قرأتها ما استطعت أن أضبطها إلا بعد أن كتبتها، كتبت الورثة وقسمت التركة، وأخذت ما أخذت حتى وصلت إلى قضاء سيدنا أبي حنيفة النعمان، وهو يجيبها هكذا كما يقال: على الطائر.

إخوتي الكرام! هذا هو العلم، وهذه هي الحكمة، وهذا هو الفهم، وهؤلاء أولياء الله، وهؤلاء هم عباد الله، نسأل الله أن يرزقنا اتباعهم بفضله ورحمته، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

حرص الولاة أيام الدولتين الأموية والعباسية على تولية أبي حنيفة للقضاء

إخوتي الكرام! سأختم ترجمته بعد عبادته وديانته، بوفاته وانتقاله إلى رحمة ربه نسأل الله أن يرحمه، وأن يجعل قبره نوراً، وأن يملأ قلبه بهجة وسروراً، وأن يجزيه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وأن يجمعنا معه في جنات النعيم مع نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

إخوتي الكرام! هذا الأمر الذي سأذكره ينبغي أن ننتبه له، ونعلم ما فيه من دلالات كثيرة لا أريد أن أستعرضها كلها، إنما أشير إلى بعضها إلى دلالتين فقط سبب موت سيدنا أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه وأرضاه، السبب علمه وفقهه وعبادته ومنزلته رضي الله عنه وأرضاه، هذا عاد عليه بالضرر العاجل، لكن الدنيا دار البلاء، وأشد الناس فيها بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل.

امتناع أبي حنيفة عن ولاية القضاء في عهد الدولة الأموية وما أصابه بسبب ذلك

في آخر الخلافة الأموية استُدعى من قِبل يزيد بن عمر بن هبيرة ليلي القضاء، ومع القضاء يكون معه الخَتْم الذي يُوقع به عن الخليفة، الختم العام معه، وهو قاضي القضاة في الدولة الأموية في الخلافة الإسلامية الأموية، فامتنع، فحلف يزيد بن عمر بن هبيرة أن يلي أبو حنيفة القضاء، فحلف وقال: لا أَلِي القضاء مهما كان الأمر، فهدده، فقال: والله إن عقوبتك أسهل وأخف من مقامع من حديد عند الله المجيد، مهما بطشتني فهو أسهل منه من المقامع التي يحصلها أهل النار في النار، وكأنه يرى ولا شك في ذلك أن بني أمية فمن بعدهم دخلوا في جور وظلم، وإذا شارك معهم فسيناله نصيب من هذا الظلم.

وكنت أشرت مراراً إلى أن صنف القضاة يعتبرون عندنا في شريعة رب الأرض والسماوات من فصيلة الحكام، ولذلك يحشرون مع الأمراء، والقاضي يأتي كما يأتي الأمير ويداه مغلولتان إلى عنقه ورقبته، فإن عدل فكه عدله وإلا أوبقه ظلمه وجوره، وأما العلماء هؤلاء ورثة الأنبياء على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، فلهم شأن آخر، يحشرون مع إمامهم صلى الله عليه وسلم يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ [الإسراء:71]، ولذلك هذه الآية كم كان يفرح بها أهل الحديث، فحقيقة لهم نسبة خاصة، ومن باب أولى الفقهاء فلهم مشاركة في الحديث كالمحدثين وزيادة، وهو الفقه والفهم في الحديث.

فـأبو حنيفة امتنع، فهدده، قال: ضربك أسهل وأيسر من المقامع من الحديد التي تكون في النار، ثم قال له: ماذا ستفعل بي؟ قال: سأقتلك، ليس الضرب، قال: إنها موتة واحدة، يعني إذا قتلتني سيكون موت ولا يوجد إلا هذه الموتة في هذه الحياة، موتة واحدة افعل ما شئت.. وانظروا لجبروت الأمراء، أنت ستوليه القضاء لديانته وعلمه وصلاحه ومكانته، وإذا امتنع ستضربه، إذاً أنت تريده أن يكون عميلاً، وإلا إذا كان لأجل ديانة وإكرام فلا ينبغي أن يضرب، تقول: أنا عرضت عليك من باب أنك أعلى أفراد الأمة، فهذا منصبك، وإذا ما أردت، نفوض أمرنا إلى الله، ونعين من هو دونك، لكن انظروا: فقام الأمير يزيد ، وسوطه ليس كسوط الذي يضرب به الزاني وشارب الخمر، بل معه عصا كبيرة، فضرب سيدنا أبا حنيفة رضي الله عنه وأرضاه على رأسه عشرة أسواط، والزاني لا يضرب على رأسه، نُهينا عن ضرب الزاني وشارب الخمر على الرأس؛ لأن الرأس من المقاتل، قد تقتله بسوط واحد، والسوط الذي يضرب به الزاني كالخنصر، وأما هذه فهي عصا يضربه على رأسه، فاشتد الأمر على سيدنا أبي حنيفة النعمان، وقال: يا أيها الأمير! لمَ تستحل دمي وأنا أقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام؟! اذكر وقوفك بين يدي الله، فأنت في ذلك المكان أذل مني بين يديك.

وكما قلت: مع جبروتهم وظلمهم كان عندهم ديانة، ما وصلوا لدرجة الكفر نسأل الله العافية، كان عندهم دين يردعهم، فلما ذُكِّر بالله رمى العصا من يده وترك ضرب سيدنا أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه وأرضاه، وما ولي القضاء في عهد الدولة الأموية.

عندما آلت الخلافة لبني العباس بذل يزيد بن عمر بن هبيرة ما بذل في قتالهم، فأسروه، وطريقة الأسر كانت عن طريق تأمين أبي جعفر له، أنه يستسلم وهو آمن على دمه وأمواله، وسيكون له شأن، فاستسلم، فأخذه أبو جعفر وقتله صبراً، (بشر القاتل بالقتل ولو بعد حين)، أخذه أبو جعفر بعد أن أمنه وقتله صبراً، وكان ذلك سنة اثنتين وثلاثين ومائة، لأنه في سنة ثلاثين ومائة زالت الخلافة الإسلامية الأموية في هذا الحدود، وقتل الصبر أن يحبس الإنسان ثم يقتل، فلا يقتل في معركة ولا في قتال، بل يحبس ثم يقتل، فأمنه ثم قبض عليه ثم قتله، أعطاه العهد ثم بطش به.

وحقيقة إخوتي الكرام! من يضرب هذا الإمام الهمام يسلط عليه من يضربه ويهينه ويقطع رقبته، وقد أفضوا إلى رب العالمين، وهنيئاً للمظلوم وتباً للظالم.

امتناع الإمام أبي حنيفة عن ولاية القضاء في عهد الدولة العباسية وموته مسموماً بسبب ذلك

فبعد أن آلت الخلافة إلى بني العباس عرض أبو جعفر المنصور القضاء مرة ثانية على سيدنا أبي حنيفة النعمان، وأبو جعفر أبو جعفر ! يقول عنه الذهبي في السير في ترجمته في الجزء السابع صفحة ثلاث وثمانين: فيه ظلم وقوة نفس، ظلم وبطش، وسيفه يسبق لسانه، مع جرأة وصلابة وتفانٍ، يعني في الغزوات والفتوح، لكن من ناحية الحكم عنده ظلم لا مثيل له، الكبير والصغير عنده كذبابة، وإراقة دم المسلم إذا جاء بما يتعلق بأمر الحكم أيسر عليه من شم الهواء، أبو جعفر يسبق سيفه لسانه، فاستدعى سيدنا أبا حنيفة رضي الله عنه وأرضاه ليوليه القضاء، فامتنع.

وطريقة الاستدعاء كانت في منتهي الأعجوبة والغرابة، وتدل على فِراسة عظيمة لسيدنا أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه وأرضاه، فقد استدعى أربعة هم شيوخ المسلمين في ذلك الوقت، أولهم: سيدنا أبو حنيفة، وثانيهم: سفيان الثوري، وثالثهم: مسعر بن كدام، والرابع: شريك بن عبد الله، استدعاهم ليوليهم القضاء، كل واحد في جهة، فلما استدعى هؤلاء وجاء كل مبعوث إلى كل واحد منهم ليحمل إلى أبي جعفر ليأخذ صك التولية، قال أبو حنيفة رضي الله عنه وأرضاه: أنا أتفرس بكم فراسة، قالوا: تفرس، قال: أما أنا فأمتنع وأضرب وأهان، هذا الذي أتوقعه، وأما شريك فسيلي القضاء، وأما مسعر فسيتجانن، يجنن نفسه ويعمل نفسه أنه مخبول، ويعفيه أبو جعفر، وأما الثوري فسيهرب، نحن الآن نمشي وسترون فراستي، وبالفعل هم يؤخذون من الكوفة إلى بغداد مدينة السلام التي بناها أبو جعفر، أُخذوا إلى بغداد، ولما وصلوا إلى شاطئ الفرات، كان سفيان الثوري وراء السفينة، فقال لمن معه يقوده: انتظر هنا أريد أن أقضي حاجتي، ثم ذهب إلى السفينة، وقال لهم: هنا أناس يريدون أن يقطعوا رقبتي، فإذا لم تسعفوني عليكم ظلم، كأنكم قتلتموني، فقالوا: ادخل في السفينة، ومشت السفينة ونجا.

وقوله: يريدون قتلي، تأوله بحديث: (من جُعل قاضياً بين الناس فقد ذبح بغير سكين)، والحديث ثابت عن نبينا الأمين على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه في المسند والسنن الأربعة إلا سنن النسائي، ورواه الدارقطني والبيهقي في السنن الكبرى والحاكم في المستدرك وصححه وأقره عليه الذهبي ، من رواية سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من جُعل قاضياً بين الناس فقد ذبح بغير سكين)، ذبح معنوي، لكنه أشنع من الذبح بالسكين، فـسفيان الثوري هرب، فلما رآه المكلف به هرب أيضاً؛ لأنه لو ذهب إلى أبي جعفر سيقطع رقبته، فذهب الشرطي والقاضي.

بقي ثلاثة أخذوا إلى أبي جعفر، فأول ما عرض الأمر على سيدنا أبي حنيفة النعمان، قال: سأوليك قضاء مدينتي -مدينة السلام التي هو فيها- أعلى منصب في القضاء رئيس القضاة، قال: لا أصلح للقضاء يا أمير المؤمنين، أنا لا أجد نفسي مأموناً عند الرضا، فكيف ستوليني القضاء؟! وكيف سأؤتمن عند الغضب؟! لا أَلِي القضاء ولا أصلح له، يرغبه يرهبه يتهدده، قال: لا أصلح، فقال له في النهاية: كذبت، قال: لقد حكمت على نفسك يا أمير المؤمنين! إن كنتُ صادقاً فقد أخبرتك أنني لا أَلِي القضاء ولا أصلح، وإن كنتُ كاذباً كما تقول فكيف ستولي القضاء كذاباً؟! فغضب أبو جعفر وأمر بسجنه وضربه عشرة أيام كل يوم عشرة أسواط، وما أُفرج عن سيدنا أبي حنيفة النعمان، فقد مات في السجن مسموماً، وله أجر الشهادة عند الله كما ذكر ذلك أئمتنا، بذلك ختم الذهبي ترجمته في السير، قال: مات شهيداً مسقياً في سجن أبي جعفر، دس له السم في شرابه، فشرب ومات رضي الله عنه وأرضاه، وبعد أن قتله أبو جعفر جاء وصلى عليه، كما يقال: يقتله ويمشي في جنازته ويدعو على قاتله! هذا هو أبو حنيفة.

ثم تقدم مسعر بن كدام الذي كان يسميه شعبة كما تقدم معنا: المصحف، فقال: كيف حالك يا أمير المؤمنين؟! كيف حال دوابك؟! كيف الدجاج عندك؟! كيف حال البط؟! وبدأ يقول هذا الكلام الذي لا يجري إلا من المجانين، فقال: أخرجوه عني، أخرجوا هذا المجنون، فسلم مسعر بن كدام كما قال سيدنا أبو حنيفة النعمان.

ثم تقدم شريك فقال: أنا كبير في العمر، ولا أصلح، قال: بلى تصلح، قال: يا أمير المؤمنين! في ضعف، قال: نصنع الفالوذج تقويك والحلوى، ونقدم لك ما تريد، فقال: أنا إذا حكمت لا أميز، سأحكم على الصادر والوارد، قال: احكم ولو على ولدي، لابد من أن تلي، فولاه قضاء الكوفة، ومسعر أراد أن يوليه البصرة فما استطاع، وأبو حنيفة كان سيوليه قضاء مدينة السلام التي هي بغداد، فعوقب بما عوقب به رضي الله عنه وأرضاه.

منزلة أبي حنيفة وعلو قدره أيام الدولتين

إخوتي الكرام! امتناع سيدنا أبي حنيفة يمتنع عن القضاء له دِلالات كثيرة أبرزها دلالتان:

الدلالة الأولى: حرص الخلافتين الأموية والعباسية على تولية سيدنا أبي حنيفة رئاسة القضاء في الدولتين هذا له دلالة واضحة على أنه أعلى العلماء قطعاً وجزماً، وإلا ما الداعي للحرص عليه إذا كان صعلوكاً لا قيمة له؟! إذاً كل من الدولتين تريد أن تكسب رضا المسلمين بتولية هذا الإمام العظيم في ذلك الحين، ولذلك عندما امتنع كل من الخلافتين رأت أن هذا فيه إهانة لها، عندما يمتنع هذا الإمام، وكأنه لا يرتضي حالهما، هذه الدلالة لابد من فهمها ووعيها، وبيان منزلة سيدنا أبي حنيفة في ذلك العصر، وهذه المكانة ينبغي أن نعلمها، فليس لمكانة نسب، فقد تقدم معنا أن أصله من الفرس رضي الله عنه وأرضاه، ولا لعشيرة، فلا يوجد له مكانة دنيوية، إنما مكانة دينية، هذا له وزن عند طلبة العلم، وتقدم معنا أنه أخذ العلم عن أربعة آلاف، وأخذ عنه تلاميذ لا يحصون، فمثل هذا لابد من ضمه إلى الجهة المسئولة من أجل أن يقال: أعلم العلماء، وفقيه الفقهاء يلي القضاء، فالأحوال إذاً سديدة رشيدة، هذه الدلالة الأولى.

بعد الأئمة عن الحكام والمناصب

الدلالة الثانية: إخوتي الكرام! حقيقة هذا الأمر يدل على بُعد سيدنا أبي حنيفة، وهكذا الفقهاء الأربعة، بعدهم عن جهاز الحكم، وأن فقههم تم على حسب الأصول الشرعية لا على حسب الأوضاع السياسية، ولا دخل للسياسة في فقه أئمتنا، لا من قريب ولا من بعيد، وإلا إذا كان هناك شيء من المداهنة والليونة فإمام المذهب سوف يلي القضاء، وعندنا ثلاثة من الفقهاء الأربعة عُذبوا عذاباً أليماً، أولهم ضُرب عشرة أسواط، ثم ضُرب مائة سوط، ثم قتل مسموماً، والثاني سيدنا مالك كما سيأتينا، ضُرب حتى انخلعت يده، فما استطاع أن يعقد يمينه على شماله في الصلاة، وكان يصلي مرسلاً، هذا الضرب من قِبل جعفر بن سليمان أمير المدينة من قِبل أبي جعفر المنصور كما سيأتينا، ومع الضرب لطخ وجهه بالسواد، وأُركب على الحمار في الجهة المقلوبة، وجهه إلى مؤخرة الحمار، ويطاف به في مدينة نبينا المختار على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، هذا الإمام الثاني، والإمام الرابع سيدنا الإمام أحمد، قاسى في المحنة ما قاسى كما سيأتينا، والإمام الثالث الإمام الشافعي، امتُحن فسلم من الضرب بفضل الإخلاص، لكنه امتحن وأتي به وهو مقيد من اليمن إلى هارون الرشيد، ولولا أن منَّ الله عليه بـمحمد بن الحسن وتعريف هارون بمنزلته لبطش به أيضاً.

إذاً: ثلاثة أئمة يعذبون عذاباً حسياً، وذاك يمتحن ثم يفك أسره، فأين موضوع السياسة والاتصال بالجهاز الحكومي؟! هذا إخوتي الكرام لابد من وعيه، هذا الفقه الذي استنبطه أئمتنا لا دخل فيه للحكام، لا من قريب ولا من بعيد، الإمام مالك يطاف به في شوارع المدينة كما سيأتينا، ويقول: أنا مالك بن أنس، من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فليعرفني، طلاق المكره غير واقع، والدولة عندما تأخذ الأيمان على البيعة بالطلاق، يقول: هذا إكراه، وطلاق المكره غير واقع، ونُهي عن التحديث بحديث عدم وقوع طلاق المكره، فحدث به على الملأ بعد أن نهوه عنه، وجاء النهي من قِبل أبي جعفر، حديث النبي عليه الصلاة والسلام تنهانا عن التحديث به! فاستشاط جعفر بن سليمان أمير مدينة النبي عليه الصلاة والسلام غضباً، وقال: ينهاك الخليفة عن التحديث بهذا الحديث وأنت تحدث! ثم يسود وجهه، ويجلد ويضرب، تمد يده ويضرب حتى تنخلع من الكتف رضي الله عنه وأرضاه، ثم مع هذا يقول: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فليعرفني.

يا إخوتي الكرام! هذا الآن هل يقول شيئاً من أجل هوى الحكام؟! نعيذ أئمتنا بالرحمن من هذا الهذيان الذي يشوشه عليهم أهل البهتان في هذا الزمان.

استمع ماذا يقول عبد المجيد سليم الذي توفي سنة أربع وسبعين وثلاثمائة بعد الألف من هجرة نبينا الأمين على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، ولي مشيخة الأزهر مرتين، واستمر في الإفتاء في بلاد مصر قرابة عشرين عاماً متتابعة، قال -وبئس ما قال-: إن مذاهب الفقهاء الأربعة بنيت على السياسة! عملك وعمل أمثالك بُني على السياسة، فهو كان وكيل لجنة الفضوليين، وهي لجنة التقريب بين السنة المهتدين والشيعة الضالين في مصر، هذه اللجنة التي أُلفت للتقريب بين أهل السنة والشيعة كان هو وكيلها، وذلك في عهد وزير المعارف علي باشا الذي كان رئيس لجنة التقريب بين أهل السنة والشيعة. وقد جُعلت شارات حراس الكليات آلهة الفراعنة، الشارات توضع في صدورهم.

ولذلك يقول الشيخ مصطفى صبري عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا: أنتم ستقربون بين السنة والشيعة، لقد وسعتم الإسلام حتى قاربتم بين مصر المسلمة ومصر الفرعونية، حتى آلهة الفراعنة ستوضع على الصدور، وأن الإسلام يحتمل هذا.

فانظر لهذا الضلال المبين، يقول: فقه المذاهب الأربعة بني على السياسة! كذب وزور وبهتان، فانتبهوا لهذا إخوتي الكرام، وإلا لو كان المقصود من هذه المذاهب والمراد منها وغايتها التقرب إلى الحكام فعلام يقتل سيدنا أبو حنيفة رضي الله عنه وأرضاه؟! وعلام يعذب الإمام مالك عذاباً أليماً؟! وهكذا الإمام أحمد رضوان الله عليهم أجمعين، وبعد أن أُفرج عن الإمام أحمد يأتي الخليفة المتوكل الذي أفرج عنه بعد أن عذبه من عذبه ممن قبله، يأتي إلى بيته ليزوره، فيخرج ولده عبد الله ويقول: أنت أعفيت أبي مما يكره، وزيارتك له مما يكره، فعد من حيث أتيت، ولا يقابله ولا على الباب، فهل هذا -إخوتي الكرام- بعد ذلك يطوع الفقه على حسب أهواء الحكام وآرائهم؟! علينا أن نتقي ربنا في أئمتنا رضوان الله عليهم أجمعين.

فما حصل لسيدنا أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه وأرضاه يدل كما قلت على دلالتين معتبرتين:

الدلالة الأولى: أنه أعلم أهل ذلك الوقت، وأفقه العلماء، وله شأن لا يصل إليه أحد، حتى حرصت الخلافتان على توليته رئاسة القضاء.

والدلالة الثانية: أن هذا الفقه بني على حسب الأدلة الشرعية، ولا دخل فيه للأهواء السياسية.

إخوتي الكرام! هذه ترجمة سيدنا أبي حنيفة رضي الله عنه وأرضاه، وانظروا ما يتعلق بفراسة سيدنا أبي حنيفة النعمان نحو هؤلاء القضاة الذين استدعاهم أبو جعفر، وصدقت فراسته فيهم، في الخيرات الحسان للإمام ابن حجر في صفحة اثنتين وستين وصفحة ثمان وثمانين، وترجمة سيدنا أبي حنيفة رضي الله عنه وأرضاه لعلنا تدارسناها في أربع مواعظ أو خمس، وهي تحتمل أضعاف ذلك، لكن كما قلت: نتدارس ترجمة موجزة نعرف بها قدر أئمتنا الذين سنتدارس فقههم رضي الله عنهم وأرضاهم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , مقدمة في الفقه - عبادة سيدنا أبي حنيفة [2] للشيخ : عبد الرحيم الطحان

https://audio.islamweb.net