إسلام ويب

إن من أهم أسباب حفظ الجوارح وخاصة منها الفروج صدق مراقبة الله عز وجل وحذر عقابه سبحانه وتعالى، فإن المسلم متى ما استشعر نظر الله إليه ومراقبته له واطلاعه عليه في جميع أحواله زجره ذلك كله عن إتيان المحارم وعن ركوب الفواحش والموبقات، فسلم عليه عرضه ودينه.

مراقبة الله وأثرها في حفظ الجوارح عموماً والفروج خصوصاً

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الصادقين المفلحين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك الله وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك الله وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فلازلنا نتدارس الطرق التي ينبغي أن يحصن بها أهل الإيمان أنفسهم من الشيطان، وقلت: هذه الطرق على كثرتها وتعددها تنقسم إلى طريقين اثنين:

الأول: ينبغي أن نحصن أنفسنا منه وأن نحذره، والأمر الثاني: ينبغي أن نحصن أنفسنا به وأن نفعله.

الأمر الأول كما تقدم معنا يدور على سبعة أمور، والثاني يدور على ثمانية أمور، وكنا نتدارس الأمر الأول، وكان في الحسبان كما ذكرت أن ننتهي من آخر أمور الأمر الأول في الموعظة الماضية، لكن امتد معنا البحث إلى جزئية نتدارسها في هذه الموعظة بعون الله وتوفيقه.

والأمور السبعة التي في الأمر الأول كما تقدم سردها مراراً هي:

أولها: حفظ الخطرات، وثانيها: حفظ اللحظات، وثالثها: حفظ اللفظات، ورابعها: حفظ الخطوات، وخامسها: حفظ السمع الذي هو آلة المسموعات، وسادسها: حفظ البطن التي هي منبع الشهوات، وسابعها: حفظ الفرج الذي هو أيضاً منبع الآفات والزلات نسأل الله العافية من كل دنس.

تقدم معنا أنه يراد بحفظ الفرج أمران: حفظ العورة ستراً واستعمالاً، فلا نكشفها ولا نستعملها فيما حرم الله عز وجل، وتقدم معنا أن الاستعمال له صور متعددة فينبغي أن نصون فروجنا عن الزنا واللواط ووطء المرأة في دبرها والسحاق بين النساء والمباشرة في ما دون السبيلين والاستمناء وفعل الفاحشة مع البهائم ووطء المرأة في قبلها حال حيضها، والأمر التاسع ما يصلح أن يراه كل من الزوجين من صاحبه، ثم ختمتها بأمر عاشر ألا وهو عورة كل من الذكور والإناث.

وبعد أن تدارسنا ما يتعلق بعورة الصنفين تفصيلاً وتدليلاً ذكرت أيضاً تسع مسائل وبدأنا بالعاشرة وهي التي سنتدارسها في هذه الموعظة.

أولها: ما يحل للزوج أن ينظره من زوجته، وثانيها كما تقدم معنا: ما يحل للمحارم أن ينظروه من المرأة، وثالثها: ما يحل للأجنبي أن يراه من المرأة، ورابعها: ما يحل للمرأة أن تراه من المرأة، وخامسها: ما يحل للمرأة أن تراه من الرجل الأجنبي، وسادسها: ما يحل للمرأة أن تراه من محارمها من الرجال، والمسألة السابعة التي تدارسناها وهي طويلة في موضوع عورة الأمة في بداية الموعظة المتقدمة، هذه سبع مسائل، والثامنة: في ما يتعلق بنظر غير أولي الإربة من الرجال، والتاسعة: في نظر الطفل إلى النساء، والعاشرة هي التي سنتدارسها: في حكم النظر إلى الأمرد.

إخوتي الكرام! كما هي العادة في بداية الموعظة نتدارس مقدمة تدور حول موضوعنا، وهذه المقدمات الماضية كانت تدور فيما يتعلق بحفظ الفرج ومنزلة حفظه، وما يتعلق بسرد بعض القصص عن سلفنا رضوان الله عليهم أجمعين في ذلك، أما هذه المقدمة فلها شأن آخر، تقدم معنا أن غالب ما يقع فيه الإخلال بهذا الأمر السابع نحو الفرج ما يقع سراً استعمالاً أو نظراً، الإنسان ينظر ولا نستطيع أن نعلم هل نظر أم لا؟ خائنة الأعين، وهكذا يستعمل الفرج ولا نعلم، بخلاف الكلام وشرب الخمر كما تقدم معنا فتلك معاصٍ ظاهرة وهذه باطنة، إذا كان الأمر كذلك فحقيقة ينبغي أن نختم هذه الموعظة بمقدمة تنفعنا نحو هذا الأمر ألا وهو مراقبة ربنا سبحانه وتعالى.

فهذ المعصية التي تتعلق بالفرج كما قلت نظراً واستعمالاً، في الغالب لا تظهر للناس، لكن لا تخفى على رب الناس الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، فينبغي أن نراقب الله في جميع أحوالنا، وأفضل الطاعات مراقبة من لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماوات في جميع الأوقات سبحانه وتعالى، فهذا خلق المراقبة، وهو درجة الإحسان في الإسلام.

المراقبة: أن نراقب الله في جميع أحوالنا كأننا نراه، فإذا لم نصل إلى هذا فلا بد من استحضار واستشعار أنه يرانا في جميع أحوالنا.

قال الإمام ابن القيم عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في مدارج السالكين في الجزء الثاني صفحة خمس وستين في بيان معنى مراقبة العبد لربه، قال: المراقبة هي دوام علم العبد وتيقنه باطلاع الله على ظاهره وباطنه. أن تعلم دائماً، وأن تتيقن جازماً في جميع أحوالك بأن الله مطلع على ظاهرك وعلى باطنك سبحانه وتعالى، وهذا المعنى للمراقبة ينبغي أن نستحضره في جميع أحوالنا.

معنى المراقبة في القرآن الكريم

هذا المعنى ما خلت منه ورقة من ورقات المصحف الشريف كما ذكر ذلك شيخنا عليه رحمة الله في أول تفسير سورة نبي الله هود في الجزء الثالث صفحة عشرة، يقول: لا تخلو ورقة من المصحف الكريم إلا وجدت فيها آية بهذا المعنى. يعني أن الله يعلم سرنا وجهرنا، علانيتنا وسرنا، وجميع أحوالنا، مطلع علينا.

قال الله جل وعلا: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16]، وقال جل وعلا: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المجادلة:7]، وقال جل وعلا: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ [غافر:18]، يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19].

ويقول الله جل وعلا في أول سورة النساء: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، فراقب الله فهو يراقبك في جميع الأحوال سبحانه وتعالى.

وهذا المعنى الذي لا تخلو منه ورقة من ورقات المصحف الشريف، هو أعظم واعظ وأبلغ زاجر أنزله الله من السماء إلى الأرض، إعلاماً منه لعباده بأنه يعلم جميع أحوالهم، ما أسروه وما أعلنوه، ووجه ذلك كما قرر أئمتنا أنه لو قدر أن إنساناً أخذ إلى حضرة ومجلس أمير ظالم سفاك للدماء يبطش لأدنى الأسباب، أخذ هذا لمجلسه للمباحثة معه في قضية من القضايا، والسياف واقف والسيف بيده، واستدعي هذا الإنسان، وبدأ الأمير يكلمه فيما اتهم به، لو برز في هذا الوقت بعض محارم الأمير من بناته وأخواته، هل ينظر هذا المتهم في حضرة الأمير إلى حريم الأمير؟! ولو بدت منه نظرة لطارت رقبته، لكنه مشغول عن النظر، والله جل وعلا أقوى من عباده سبحانه وتعالى، وهو أعلم بما في نفوسهم، فاستحي منه يا عبد الله، إذا كنت تخاف من بطش الأمير فتغض عن محارمه إذا كنت في حضرته، فما حرمه الله علينا ينبغي أن نغض الطرف عنه، فالله أعظم عقوبة من عباده، وحرم علينا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وهو عليم بذات الصدور.

معنى المراقبة في السنة النبوية

ومراقبة الرحمن على الدوام هي درجة الإحسان التي ينبغي أن يتصف بها أهل الإيمان، كما أشار إلى ذلك نبينا عليه الصلاة والسلام في الحديث الطويل الذي يسمى بأم السنة كما نعته بذلك الإمام أبو العباس القرطبي في كتابه المفهم في شرح صحيح مسلم ، وهو المعروف بحديث جبريل الطويل على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم السلام.

والحديث في صحيح مسلم وسنن الترمذي وأبى داود من رواية سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وهو في المسند وصحيح البخاري من رواية سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، وهو في سنن النسائي وابن ماجه من رواية سيدنا عمر وسيدنا أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين، وروى الحديث عن سيدنا أنس وسيدنا عبد الله بن عباس وسيدنا عبد الله بن عمر وسيدنا ابن عامر أو أبي عامر أو أبي مالك وسيدنا جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنهم أجمعين.

انظروا هذه الروايات في مجمع الزوائد في الروايات المتأخرة في الجزء الأول صفحة ثمان وثلاثين إلى الصفحة واحدة وأربعين، والرواية الأخيرة رواية جرير رواها الإمام الآجري في كتاب الشريعة، فهو من رواية عدة من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ومن رواية عمر وأبي هريرة وأنس وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وابن عامر أو أبي عامر أو أبي مالك ومن رواية جرير رضي الله عنهم أجمعين، وفيه سؤال جبريل لنبينا الجليل على نبينا وأنبياء الله وملائكته صلوات الله وسلامه عن الإسلام والإيمان؟ ثم قال له: ما الإحسان؟ قال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإنك لم تكن تراه فإنه يراك)، درجة المراقبة ودرجة الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، كأنك تتراءى الحق سبحانه وتعالى، وهذا كان سلفنا يلاحظونه في نفوسهم ويعبرون عنه بألسنتهم.

مواقف يظهر فيها أثر المراقبة لله عز وجل

مراقبة ابن عمر لربه في الطواف

روى الإمام ابن سعد في الطبقات في الجزء الرابع صفحة سبع وستين ومائة، والأثر في الحلية في الجزء الأول صفحة تسع وثلاثمائة، وانظروه في السير في الجزء الثالث صفحة سبع وثلاثين ومائتين وفي الجزء الرابع صفحة اثنتين وأربعمائة عن العبد الصالح التابعي الجليل عروة بن الزبير رضي الله عنهم أجمعين قال: لقيت أبا عبد الرحمن عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه في الطواف، فتقدمت إليه، فلما صرت بجواره قلت: أبا عبد الرحمن ألا تزوجني سودة؟ وهما يطوفان، قال: فنظر إلي ولم يكلمني، فقلت.. القائل عروة رضي الله عنه وأرضاه: لو رضي بي لأجابني، فانتهينا من الطواف وتفرقنا، قال: ثم ذهب عبد الله بن عمر رضي الله عنه إلى المدينة المنورة على نبينا صلوات الله وسلامه قبلي، فلما انتهيت أنا أيضاً من نسكي ذهبت إلى المدينة فقلت: أسلم على أبي عبد الرحمن وأقوم بحقه، فذهبت وسلمت عليه، فلما سلمت عليه قال: لا زلت على رغبتك في سودة؟ فقلت: أنا أحرص ما كنت عليها قبل، الآن عندي حرص عليها أشد مما كان سابقاً، فقال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: كلمتني في الطواف ونحن نتخايل الله بين أعيننا -ونحن نتراءى الله بأعيننا، كأننا ننظر إليه، كأننا نتراءاه، وأنت تكلمني في الطواف، وإسناد الحديث ثابت- فما أجبتك، فنحن في وقت مراقبة لله واستحضار وخشوع وسكينة، نطوف حول البيت العتيق، وأنت تريد أن أزوجك في ذلك الوقت يعني أجل البحث في هذه القضية بعد الطواف، فعقد له في نفس المجلس قبل أن يذهب عروة إلى بيته رضي الله عنهم أجمعين.

وقد كان الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه كثيراً ما ينشد كما في إتحاف السادة المتقين في الجزء العاشر صفحة ثمان وتسعين، قيل: هذه الأبيات للإمام الشافعي، وقيل لغيره رضي الله عنه وأرضاه:

إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقلخلوت ولكن قل علي رقيب

ولا تحسبن الله يغفل ساعةولا أن ما تخفيه عنه يغيب

ألم تر أن اليوم أسرع ذاهبوأن غداً للناظرين قريب

لابد من استحضار هذا المعنى، كأننا نرى الله في جميع شؤون حياتنا، فإذا نزلنا عن هذه الرتبة فلا أقل من أن نعلم أن الله مطلع على جميع أحوالنا، ولذلك لما قال رجل للإمام أبي القاسم الجنيد بن محمد القواريري رضي الله عنه وأرضاه، قال: بم أستعين على غض البصر؟ قال: بعلمك أن نظر الله إليك أسبق من نظرك إلى المنظور إليه. إذا علمت أن نظر الله إليك لا ينقطع، وأن نظره إليك أسبق من نظرك إلى من ستنظر إليه فستستحي من الله وتغض طرفك، إذا علمت أنه يراك، فكما تقدم معنا أنه إذا كان الإنسان في حضرة الأمير الجبار والسيوف مصلتة يغض طرفه لو خرجت نساء عاريات، فالله جل وعلا أقوى بطشاً وقوة من الأمير، وعنده نار السعير، وينبغي أن نستحي منه فهو ربنا الجليل سبحانه وتعالى.

قصة امرأة شهقت خشية لله فماتت

ذكر الإمام ابن الجوزي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في كتابه ذم الهوى في صفحة سبع وسبعين ومائتين، والقصة نقلها الإمام ابن القيم في كتابه روضة المحبين صفحة ست وستين وأربعمائة، حاصلها أن امرأة من العابدات القانتات الجميلات المصونات كانت في بلاد الكوفة، وكانت تخطب من قبل الخطاب فتمتنع من الزواج، وحتماً هذا تقصير منها، لكن لعلها رأت أن هذا أصلح لها، وما أعرضت عن هذه السنة امتهاناً لها، والإنسان أدرى بشئون نفسه، فعلقها بعض الأثرياء الأغنياء، فاحتال عليها، فاكترى هذا الإنسان ثلاثمائة راحلة وقال للناس: من أراد أن يسجل الحج عندي بثمن بخس من العباد والمساكين الذين ليس عندهم أجرة الحج بكاملها، فسآخذ منه أجرة رمزية طلباً للثواب، وهو يريد أن تحج هذه العابدة القانتة، وأرسل إليها من النساء من يرغبها في الحج، فسجلت في هذه الحملة، ونساء كثر تريد أن تترخص من أجل حجة الفريضة مع النساء بلا محرم، فلما جاوزوا مراحل ومراحل، والجيش مستريح في الليل، جاء إليها عندما علم بمكانها وقال: لا بد من الإجابة، إن شئت راضية، وإن شئت مكرهة، يعني: لا سلامة في هذه الليلة، فقالت: ويحك! نحن في طريقنا إلى الحج، استحي من الله، قال: لا بد، أنا ما جئت رغبة في الحج، ولا عملت ما عملت طلباً للثواب، لا أريد فقط إلا أنت، هذا العمل كله من أجلك، فانظري في نفسك، قالت: نخشى أن يكون بعض الحجاج مستيقظاً يفضحنا، جئنا للحج نزني، قال: كلهم ناموا، قالت: اذهب فتأكد، فذهب وقال: كلهم ناموا ولا يوجد أحد عينه تتحرك، قالت: هل نام رب العالمين؟! وشهقت شهقة فماتت من خشية الله عز وجل، هل نام رب العالمين سبحانه وتعالى، فرجع المسكين يولول يقول: يا ويحي قتلت نفساً أرادت أن تحج، وما حصلت شهوتي!

حقيقة هل نام رب العالمين؟! يعني: أنت تراقب نظر العباد ونظر رب العباد لا تأبه به، ولا تستحي منه؟! لذلك إذا أرخى الإنسان ستره وفعل الفاحشة ناداه رب العالمين: أجعلتني أهون الناظرين إليك، استحييت من العباد، وما استحييت ممن لا تخفى عليه خافية سبحانه وتعالى؟!

قصة رجل ذكر بمراقبة رب الكوكب له فانزجر عن الفاحشة

إخوتي الكرام! هذا المعنى ينبغي أن نستحضره في جميع أحوالنا، ينقل الإمام الغزالي في الإحياء أيضاً في الجزء الرابع صفحة خمس وثمانين وثلاثمائة، والقصة أيضاً في ذم الهوى في صفحة اثنتين وسبعين ومائتين، وفي روضة المحبين صفحة خمس وتسعين وثلاثمائة، وذكرها الإمام المناوي في فيض القدير في الجزء الأول صفحة واحدة وخمسين وخمسمائة، خلاصتها أن أعرابياً خرج في ليلة مقمرة، فرأى امرأة كالعلم، أي: كالجبل، يراد امرأة طويلة جميلة لها شأن بارز تلفت النظر في سواد الليل، فاقترب منها وراودها وطلب منها ما حرم الله على عباده، فقالت: ويحك! أما لك زاجر من عقل إن لم يكن لك ناه من دين، إذا ما نهاك دينك عن معصية الله، ما عندك عقل يردعك عن الفاحشة، وما تستحي أن تعتدي على أعراض العباد؟! فقال: وممن أستحي، ولا يرانا إلا الكواكب، ولا يوجد أحد في هذه البادية، فممن أستحي؟! فقالت: أين مكوكبها؟ أين ربها سبحانه وتعالى؟ فانزجر هذا الإنسان وانصرف.

حقيقة لا بد من استحضار خلق المراقبة في جميع أحوالنا، وأن نعلم أنه معنا أينما كنا، فبذلك يكرمنا ربنا ويعزنا في هذه الحياة، ويغدق علينا نعمه بعد الممات في نعيم الجنات.

قصة في مراقبة البشر بعضهم لبعض

يذكر الإمام القشيري في كتابه الرسالة صفحة تسعين ومائة، والقصة نقلها عنه أيضاً الإمام الزبيدي في إتحاف السادة المتقين في الجزء العاشر صفحة تسع وتسعين، خلاصتها أن بعض الأمراء في الزمن القديم كان يكرم بعض أعوانه من حراسه وحجابه إكراماً زائداً، وكان في خلقته دمامة، فكأنه حسده أصحابه وقالوا للأمير: لم تميز هذا علينا؟ خلقته دوننا، وبعد ذلك نحن وهو في رتبة واحدة، بل لعلنا أعلى منه رتبة، قال: أريكم وضعه ووضعكم معي؟! انظروا إلى عاقبة المراقبة إذا كان البشر يكرم بشراً عندما يراقب حاله، فكيف سيكون حالنا مع الله، وسيكرمنا الله من باب أولى إذا راقبناه.

فخرج هذا الأمير مع أعوانه، فنظر وهو يمشي إلى جبل عليه ثلج، نظرة فقط، فهذا الذي مع الأمير ركب خيله وأسرع إلى جهة الجبل فقال لهم: أين ذهب صاحبكم؟ قالوا: لا ندري، فعاد بعد قليل ومعه شيء من الثلج، قال له الأمير: من أمرك بهذا؟ قال: أيها الأمير! أنت نظرت ناحية الجبل، والعقل لا ينظر عبثاً، وفي الجبل لا يوجد إلا ثلج، فكأن نفسك اشتهته، فأنا لما نظرت إليه عرفت المراد وراقبت نظرك، أنا أراقب أحوالك، أفهم ما تريد من حركاتك ومن إشاراتك، فقال لهم: انظروا لحاله كيف يراقب، وبالمراقبة يتصرف، وأنتم عندما توجه إليكم الأوامر والعبارات وأطلب منكم شيئاً تتثاقلون، وأما هذا فينظر إلى اللحظات.

وحقيقة كان سلفنا يغرسون دائماً في نفوس وأذهان أولادهم والطلبة: الله ناظري، الله شاهدي، الله معي سبحانه وتعالى، لا بد من أن نراقب ربنا سبحانه وتعالى في جميع أحوالنا.

كيفية تحصيل السعادة

إخوتي الكرام! يراد منا أمران لا سعادة للإنسان بدونهما:

الأمر الأول: أن تكون المتابعة على ظاهرنا، ظاهرنا علم وسنة نقتدي بنبينا عليه الصلاة والسلام، وأن تكون المراقبة في باطننا، نراقب الله في سرنا، ونعمر ظاهرنا بسنة نبينا عليه الصلاة والسلام، العلم والمتابعة على الظاهر، والإخلاص والمراقبة في الباطن، بدون هذين الأمرين لا سعادة للإنسان في هذه الحياة، فإن الحياة جعلها الله مطية لرضوانه سبحانه وتعالى، فلا ينبغي أن ندنسها بالخطيئات، فإذا فعلنا فسنندم حين لا ينفع الندم.

ويحك! يا ابن آدم إذا عصيت الله وخالفته، وزعمت أنه لا يراك فقد كفرت، وإذا عصيت الله وخالفته وقلت: إنه يراك فقد اجترأت على عمل أمر عظيم، حيث لم تبال بأحكم الحاكمين ورب العالمين سبحانه وتعالى، فأنت بين أمرين أحلاهما مر، إن قلت: لا يراك كفرت، فهو الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وإن قلت: إنه يراك وبارزته بالمحاربة، فليس بعد حماقتك حماقة!

وأما بالنسبة لستر الفرج، وستر العورة، واستعمالها، فيجب عدم النظر إلى عورة الغير، وعدم استعمال العورة فيما حرم الله علينا، مَن حفظ فيما مضى فليتق الله فيما بقي، وليعتصم بالله اللطيف القوي، إذا حفظت فيما مضى فما فرطت، ولا خنت في نظرة ولا في كشف ولا في استعمال فاحمد ذا العزة والجلال، وسله أن يلطف بك، وأن يثبتك في المستقبل، ومن وقع منه زلل فيما مضى فليتب إلى الله عز وجل فرحمته واسعة.

إن تغفر اللهم تغفر جماوأي عبد لك ما ألما

وحقيقة الوصف الثاني هو وصفنا، وقل أن يخلو إنسان من نظرة خائنة، أو استعمال لا يحل له، نسأل الله أن يرزقنا حلاوة الإيمان، وأن يجعل خير أيامنا يوم لقائه إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، ولذلك ينبغي أن نتوب إلى الله عز وجل سبحانه وتعالى، وهذا الأمر الثاني على وجه الخصوص قل أن يسلم منه أحد إلا إذا تداركته عناية خاصة، ورعاية تامة من الله عز وجل، والمعصوم من عصمه الله.

سلامة يحيى بن زكريا من الهم بالخطايا وفعلها

ورد في الآثار بأنه ما سلم من الهم بالخطايا وفعلها إلا عبد صالح قانت جعله الله حصوراً، وهو نبي الله يحيى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، قال الله جل وعلا: فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران:37-39] .

إخوتي الكرام! السيد هو الذي يفوق قومه في خصال الخير كما ذكر ذلك الإمام النووي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في شرح صحيح مسلم في الجزء الخامس عشر صفحة سبع وثلاثين، وقال الإمام القرطبي في تفسيره في الجزء الرابع صفحة ست وسبعين: السيد هو الذي ساد قومه وانتهوا إلى قوله. وهذا العبد الصالح نبي الله يحيى على نبينا وعليه الصلاة والسلام وصفه الله بأنه سيد وحصور، وهو نبي من الصالحين.

معنى قوله تعالى: (سيداً وحصوراً)

السيادة ما قال الرازي في تفسيره في الجزء السابع صفحة سبع وثلاثين: هي قدرته على تعليم أتباعه وتأديبهم؛ لما فيه من خصال الخير يعلمهم ويرعاهم ويؤدبهم.

وأما الصفة الثانية وهي أنه حصور فلا بد منها لتدل على أنه يتعفف عن أموالهم وأعراضهم، ويمنع نفسه من الاعتداء عليهم، وبهذا يسود، وأما إذا علم وأدب، ثم هو بعد ذلك يرتع في أموالهم وأعراضهم، ولا يعف عن حرماتهم، فأي علم وتأديب سيحصل منه نحو رعيته وقومه وأتباعه.

لفظ (الحصور) من الحصر بمعنى الحبس، حصر يحصر من باب نصر ينصر حصراً إذا منع نفسه، الحصر هو المنع، ويقال للبخيل: حصور كما يقال للأمير: حصور؛ لأن كلاً منهما محجوب، ذاك حجب خيره وهو البخيل، وهذا حجب شخصه وهو الأمير، فهذا مختفٍ متوارٍ، وذاك ماله لا يخرج ولا يساعد به عباد الله، وحصور أيضاً: إذا حصر نفسه ومنعها من الشهوات المحرمة، فالحصر الحبس والمنع، ومنه قول الله جل وعلا في سورة الإسراء: وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا [الإسراء:8] ، أي: محبساً يحبسون فيه ولا يخرجون منه، يحصرون في ذلك المكان.

الحصور فعول، إما أن يكون بمعنى فاعل أو بمعنى مفعول، فإذا كان بمعنى فاعل فالمعنى أنه حصر نفسه عن الشهوات ومنعها من المنكرات والزلات بتوفيق رب الأرض والسماوات.

ما ورد من أحاديث في فضل يحيى بن زكريا

روى الإمام البزار في مسنده والطبراني في معجمه الكبير كما في المجمع في الجزء الثامن صفحة تسع ومائتين، وفي إسناد الأثر علي بن زيد بن جدعان، تقدم معنا حاله مراراً، روى له البخاري في الأدب المفرد ومسلم لكن مقروناً في صحيحه وأهل السنن الأربعة، وتوفي سنة واحدة وثلاثين ومائة رضي الله عنه وأرضاه، قال الهيثمي فيه: ضعفه الجمهور وبقية رجاله ثقات، وقال في مكان آخر في الجزء العاشر صفحة اثنتين وتسعين وثلاثمائة: علي بن زيد بن جدعان وثق، وانظروا ترجمته الطيبة في السير في الجزء الخامس صفحة سبع ومائتين، قال: ولد أعمى، وكان من أوعية العلم، كقتادة بن دعامة رضي الله عنهم أجمعين وقتادة أيضاً ولد أعمى، وكان من أوعية العلم على تشيع يسير فيه، وسوء حفظ يغضه عن درجة الإتقان، أي: ينزله عن درجة كمال الضبط وتمامه، وقال في الميزان في الجزء الثالث صفحة سبع وعشرين ومائة: اختلفوا فيه، وقد وثقه الإمام الترمذي فقال عنه: صدوق، فالترمذي يرى أن حديثه في درجة الحسن، وبقية رجال الإسناد ثقات.

ولفظ الحديث عن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كنا في حلقة في المسجد نتذاكر فضائل الأنبياء على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه أيهم أفضل؟ فذكرنا نبي الله نوحاً على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه وطول عبادته، فقد امتاز على غيره بعمر طويل عبد فيه الله الجليل سبحانه وتعالى، وذكرنا إبراهيم وأنه خليل الرحمن سبحانه وتعالى، وذكرنا موسى وأنه مكلم من قبل الله، وذكرنا نبي الله عيسى، ذكرنا أولي العزم، بالإضافة إلى نبينا عليه الصلاة والسلام، وهؤلاء خيار الأنبياء، وأفضلهم الخليلان، وأفضلهما نبينا عليه الصلاة والسلام.

ذكروا هؤلاء فخرج عليهم النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (ما تذكرون بينكم؟)، فقلنا: يا رسول الله عليه الصلاة والسلام! نتذاكر فضائل الأنبياء أيهم أفضل؟ ثم عاودوا عليه فقالوا: ذكرنا نبي الله نوحا عليه الصلاة والسلام وطول عبادته، وإبراهيم وخلته، وموسى وتكليم الله له، ونبي الله عيسى كلمة الله وروحه، وذكرناك يا رسول الله على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (فمن فضلتم؟)، يعني ذكرتم خمسة، فمن فضلتموه من هؤلاء؟ قلنا: فضلناك يا رسول الله عليه الصلاة والسلام، ثم ذكروا عللاً في تفضيل نبينا عليه الصلاة والسلام وهم مصيبون، قالوا: بعثك الله كافة للناس بشيراً ونذيراً، وهذا لم يحصل لمن قبلك، هذه خصوصية، وغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، وجعلك خاتم الأنبياء والمرسلين، وهذا لم يحصل لمن قبلك، فقال عليه الصلاة والسلام: (ما ينبغي لأحد أن يكون خيراً من يحيى بن زكريا)، على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، قالوا: ولم يا رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ والمزية بهذه الخصلة لا تقتضي الأفضلية المطلقة، قالوا: ولم؟ قال: ألم تسمعوا إلى قول الله جل وعلا في سورة مريم: يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا * وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا * وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا [مريم:14-15]، فأعطاه الله الحكم وهو صغير في سن التمييز وليس المراهقة ومن باب أولى ليس الاحتلام، إذا قيل له من قبل الصبيان: هلم لنلعب يا يحيى، يقول: ما للعب خلقنا، وآتيناه الحكم صبياً وهو صغير، أعطاه الله الحكم والرشد والوعي والحكمة، وتلا عليهم الآية التي معنا في سورة آل عمران: مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران:39].

ثم قال لهم نبينا عليه الصلاة والسلام: (إن نبي الله يحيى على نبينا وعليه الصلاة والسلام لم يعمل سيئة قط، ولم يهم بها)، قبل النبوة وبعد النبوة وفي جميع أحواله، ومن يصل إلى هذه المرتبة فهنيئاً له فهذه عناية خاصة، وبعد ذلك فمن عداه يقع في الخطيئات في جميع الأوقات، نسأل الله حسن الخاتمة بفضله ورحمته.

أوجه الجمع بين أفضلية نبينا على سائر الخلق وما جاء في فضل غيره من الأنبياء

إخوتي الكرام! ما يتعلق بأمر التفضيل سيأتينا بحثه في مباحث النبوة التي سنستأنفها بعون الله عما قريب، وكل ما هو آت قريب، نبينا عليه الصلاة والسلام لا شك أنه أفضل خلق الرحمن، وأفضل النبيين والمرسلين على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، وما ورد من نصوص تشعر بعدم تفضيله على غيره، أو تفضيل بعض الأنبياء عليه، أجاب أئمتنا عن ذلك بعدة أجوبة معتبرة أذكرها إيجازاً، وإذا جاء المبحث معنا أفصلها بأدلة معتبرة إن شاء الله.

أولها: إن نبينا عليه الصلاة والسلام قال ما قال قبل أن يعلمه الله بأنه أفضل الخليقة وخير البرية، وعليه إذا علم مكانة نبي يقول بتفضيله ويفضله على نفسه على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، فلما أعلم أنه خير خلق الله انتهى الأمر.

الجواب الثاني: قال هذا من باب التواضع والأدب مع الأنبياء واحترامهم، ومن باب هضم النفس واحتقارها عليه صلوات الله وسلامه.

الجواب الثالث: المنهي عنه تفضيل نبينا عليه الصلاة والسلام على غيره تفضيلاً يؤدي إلى تنقيص الغير أو يشعر بذلك، وأما إذا فضل دون أن يكون هناك تنقيص فلا حرج.

الجواب الرابع: المنهي عنه التفضيل الذي يؤدي إلى خصومة، كأن يقول أهل الكتاب: نبينا خير من نبيكم، ونحن نقول: نبينا خير من نبيكم، فنصل بعد ذلك إلى خصومات يسبون نبينا ونسب نبيهم من باب الحماقة والجاهلية، فهذا تفضيل يؤدي إلى خصومة فينبغي أن نقف عنه.

الجواب الخامس: التفضيل المنهي عنه بين الأنبياء في نفس النبوة، فهي إيحاء من الله لعباده، وأما التفضيل ففي الخصائص، تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [البقرة:253] ليس في نفس النبوة، مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ [البقرة:253] هذه خصائص، هذا اختصه بالخلة، وهذا بالرؤيا، وهذا بالتكليم، أما نفس النبوة فلا تفضيل فيها، كما نتساوى نحن في البشرية، فلا تفضيل في نفس البشرية، (كلكم لآدم وآدم من تراب)، نتفاضل بعد ذلك بالخصائص، وهؤلاء كذلك على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله سلامه.

الجواب السادس: المنهي عنه التفضيل بالرأي، وأما إذا وقف الإنسان على أثر فإن له أن يتكلم، فهؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين كانوا يتكلمون على حسب آرائهم ويستعرضون الفضائل ويقولون، فلا بد من إرجاع هذا إلى من لا ينطق عن الهوى نبينا خير الورى عليه الصلاة والسلام.

الجواب السابع: المنهي عنه التفضيل بصورة تجمع جميع الفضائل في المفضل على غيره، فنقول: هذا هو الأفضل، أي: كل الفضائل اجتمعت فيه وغيره ليس فيه فضيلة، هذا لا يصح، نعم هذا أفضل بلا شك، لكن بعد ذلك هناك فضائل، وهناك خصوصيات تكون في المفضول لا تكون في الفاضل، هذا لا بد منه، وواقع الأمر كذلك، وأئمتنا قرروا هذا بقولهم بكثرة: المزية لا تقتضى الأفضلية، فمثلاً نبي الله عيسى عليه السلام اختصه الله بأن ولد من غير أب، فهذه فضيلة ومزية ومعجزة كبيرة أعطاها الله لهذا النبي الكريم عليه السلام، وآدم اختصه الله بأنه لم يخلقه لا من أب ولا من أم.

انظروا هذه الأجوبة في شرح الإمام النووي على صحيح مسلم في الجزء الخامس عشر صفحة سبع وثلاثين، وفي فتح الباري في الجزء السابع صفحة ست وأربعين وأربعمائة واثنتين وخمسين وأربعمائة من نفس الجزء.

إذاً نبي الله يحيى لم يعمل سيئة ولم يهم بها، وهذه مزية له، ونبينا عليه الصلاة والسلام خير البرية وقبل أن يوحى إليه عندما حل الإزار من أجل أن يساعد في بناء الكعبة، نودي من خلفه: شد عليك إزارك عليه صلوات الله وسلامه، فلنبي الله يحيى ميزة في هذا الأمر على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، وعلى من عداه.

إخوتي الكرام! ما وقع من نبينا عليه الصلاة والسلام وجرى له قبل بعثته الشريفة عليه صلوات الله وسلامه من رفع إزاره عند مشاركته في بناء الكعبة المشرفة ثابت في المسند والصحيحين من رواية سيدنا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، ورواه البيهقي وأبو نعيم كلاهما في دلائل النبوة، كما رواه الإمام أبو نعيم في كتابه معرفة الصحابة، ورواه الطبراني في معجمه الكبير، والطبري في تهذيب الآثار من رواية سيدنا عبد الله بن عباس عن أبيه عن نبينا خير الناس على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، فالحديث رواه الإمام عبد الرزاق في مصنفه والطبراني في معجمه الكبير والحاكم في المستدرك والبيهقي في دلائل النبوة من رواية أبي الطفيل رضي الله عنهم وأرضاهم.

ولفظ حديث سيدنا جابر رضي الله عنهما قال: ( لما بنيت الكعبة المشرفة ذهب النبي صلى الله عليه وسلم وعمه العباس رضي الله عنه ينقلان حجارة، فقال سيدنا العباس رضي الله عنه لابن أخيه نبينا عليه الصلاة والسلام: اجعل إزارك على عاتقك )، والعاتق هو: ما بين المنكب والعنق، ( اجعل إزارك على عاتقك من الحجارة )، أي: ليقيك من الحجارة ومن ثقلها عندما تحملها على عاتقك، ففعل نبينا صلى الله عليه وسلم ذلك، أي: حل إزاره ووضعه على عاتقه، فخر إلى الأرض، وفي رواية: ( فسقط مغشياً عليه عليه صلوات الله وسلامه، وطمحت عيناه إلى السماء )، يعني ارتفعت ( ثم قام فقال: إزاري! إزاري! )، فشد عليه إزاره، فما رؤي بعد ذلك اليوم عرياناً.

انظروا روايات الحديث، وانظروا كلام الأئمة عليه في شرح صحيح مسلم للإمام النووي في الجزء الثالث صفحة ثلاث وثلاثين، وفي الفتح في الجزء الثالث صفحة تسع وثلاثين وأربعمائة، وفي الجزء السابع صفحة خمس وأربعين ومائة، وانظروا دلائل النبوة للإمام البيهقي في الجزء الثاني صفحة خمس وخمسين.

وثبت في مسند الإمام أحمد ومسند أبي يعلى ومسند البزار كما في المجمع في المكان المتقدم، قال الهيثمي : وفي الإسناد علي بن زيد بن جدعان ، ضعفه الجمهور، وزاد هنا: ضعفه الجمهور وقد وثق.

والحديث رواه ابن خزيمة والدارقطني أيضاً كما في قصص الأنبياء للإمام ابن كثير عليه رحمات ربنا الجليل صفحة تسع وأربعين وخمسمائة، ورواه الإمام الثعلبي في كتابه عرائس المجالس أيضاً صفحة ست وثلاثين وثلاثمائة، وعليه هو في المسند ومسند أبي يعلى والبزار والدارقطني وابن خزيمة ورواه الثعلبي.

ولفظ الحديث من رواية سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أحد من ولد آدم إلا وقد أخطأ أو هم ليس يحيى بن زكريا)، لا أخطأ ولا هم، زاد البزار في مسنده: (فإنه لم يهم بها ولم يعملها)، وروى الإمام البزار بسند رجاله ثقات كما في المجمع في المكان المتقدم عن سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ينبغي لأحد أن يقول: أنا خير من يحيى بن زكريا، ما هم بخطيئة، أحسبه قال: ولا عملها)، فإذا ما هم فلن يعمل من باب أولى؛ لأن العمل لا يكون إلا بعد الهم.

من معاني الحصور أنه من منع نفسه من الشهوات والمنكرات

المعنى الأول للفظ حصور فعول بمعنى فاعل، فحصر نفسه، أي: منعها من الشهوات والمنكرات والمخالفات، وهو أظهر القولين في تفسير الآية وهو الذي ذهب إليه الجمهور، فقالوا في تعليل ذلك: إن اللفظ خرج مخرج الثناء والمدح، وذلك يكون على الفعل المكتسب دون الفعل الجبلي في الغالب، يعني: لو كان حصوراً بمعنى لا شهوة له يشتهي فيها ما حرم الله عليه، فلا يكون في ذلك مدح، إنما المدح هنا أنه عنده ما عند غيره لكنه زم نفسه بزمام التقوى، ومن الله عليه بالحكمة وهو صبي فصان نفسه من كل عمل رديء منذ أن ولد إلى أن قبض عليه السلام، هذه هي الميزة؛ لأنه خرج مخرج المدح، فإذاً: هو الذي ضبط نفسه بتوفيق الله، ولا يسلم أحد من مخالفة إلا إذا صاحبته عناية خاصة ورعاية تامة كما حصل لنبي الله يحيى عليه السلام.

التعليل الثاني في ترجيحه أن حصوراً فعول بمعنى فاعل، قال الإمام القرطبي : تأتي هذه الصفة بصيغة الفاعلية، بصيغة الفاعل، وهو الذي يكثر منه حصر النفس ومنعها كالأكول الشروب: كثير الأكل والشرب، فالحصور كثير الحصر والمراقبة والضبط لنفسه، يراقب نفسه في جميع أحوالها.

وعلة ثالثة ترجح هذا ذكرها الخطيب الشربيني في السراج المنير، قال: هذا الوصف أنه هو الذي حصر نفسه، ومنعها مما حرم الله عليه أبعد من إلحاق الآفة بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فيقال: خلق ممسوحاً أو عنيناً لا شهوة له، ولا يشتهي النساء، من أجل هذا ما هم ولا تطلع.

فهذه علل ثلاث ترجح القول الأول وهو الذي رجحه جمهور المفسرين، منهم الإمام الرازي في تفسيره في الجزء السابع صفحة سبع وثلاثين، والقرطبي في الجزء الرابع صفحة ثمان وسبعين، وابن كثير في الجزء الأول صفحة واحدة وستين وثلاثمائة، ونقل كلاماً بديعاً عن القاضي عياض رحمه الله في تقرير هذا القول وأقره، انظروه في تفسيره، ومنهم الخطيب الشربيني في السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير في الجزء الأول صفحة ثلاث عشرة ومائتين، ومنهم الإمام الألوسي في روح المعاني في الجزء الثالث صفحة ثمان وأربعين ومائة، بل سيأتينا أن الإمام الألوسي انفرد بإعادة القول الثاني إلى هذا القول كما ستسمعون إن شاء الله، فجعل القولين قولاً واحداً.

من معاني الحصور أنه من لم يفعل شيئاً من الفواحش لعدم تطلعه إلى ذلك

القول الثاني في بيان معنى الحصور: أنه ما فعل شيئاً من الفواحش ولا المنكرات لعدم تأتي ذلك منه وصلاحيته له، نفسه لا تشتهي ما حرم الله عليه، فلا يتطلع إلى النساء، وما خلق له شهوة يميل بها إلى النساء، ولذلك ما هم ولا فعل، فإذاً: هو حصور بمعنى محصور حصره الله فمنعه من هذه الشهوة، فطهر قلبه، وصارت فيه عفة وحصانة لا يتطلع إلى ما عند النساء، ولا يهم ولا يخطر شيء بباله.

قيل: لعنت فيه، وقيل: لصغر العضو، وقيل: لأنه لا يخرج ماء وإن كان يتأتى منه الوطء والمباشرة، وقيل غيره.

وكل هذه الأقوال تحتاج إلى سند، وإن نقل بعضها عن سلفنا الصالح فهو مأخوذ عن أهل الكتاب، فلا بد من أخذ هذا من نبينا عليه الصلاة والسلام الذي لا ينطق عن الهوى.

هذا المعنى الثاني ورد في الأثر ما يدل عليه في الجملة، لكن الإمام الألوسي أعاده إلى القول الأول على فرض ثبوته فاستمعوا له.

روى الإمام الطبراني في معجمه الأوسط كما في المجمع في المكان المتقدم في الجزء الثامن صفحة تسع ومائتين، والأثر رواه ابن أبي شيبة في مصنفه والإمام أحمد في الزهد، وابن أبي حاتم في تفسيره، وابن عساكر في تاريخه كما في الدر المنثور في الجزء الثاني صفحة اثنتين وعشرين، ورواه الإمام الثعلبي في عرائس المجالس في قصص الأنبياء في صفحة سبع وثلاثين وثلاثمائة، وفي إسناد الأثر حجاج بن سليمان الرعيني أبو الأزهر ، قال عنه الهيثمي في المجمع: وثقه ابن حبان وغيره، وضعفه أبو زرعة وغيره، وبقية رجاله ثقات، فهو مختلف في توثيقه.

انظروا اللسان الجزء الثاني صفحة سبع وسبعين ومائة ومعه الميزان نقل الحافظان الذهبي وبعده ابن حجر رضي الله عنهم أجمعين نقلاً عن ابن عدي أنه قبله، ووثقه كما فعل ابن حبان ، وأورد له الإمام ابن عدي هذا الحديث في ترجمته، وهو موجود في اللسان نقلاً عن ابن عدي رحمه الله.

ولفظ الحديث عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه، عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: (كل بني آدم يلقى الله عز وجل يوم القيامة بذنب)، كل واحد سيلقاه مذنباً مخطئاً، هم أو فعل، وقد يعذبه الله إن شاء أو يرحمه، فهذا الأمر إليه: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] ، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إلا يحيى بن زكريا فإنه كان سيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين)، وأهوى نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام إلى قذاة من الأرض، يعني قشة وعودة صغيرة وتبنة فأخذها بيده الشريفة عليه الصلاة والسلام وقال: (كان ذكره مثل هذه)، أي: كان ذكره مثل هذه القذاة، يعني ما عنده شهوة، من أجل هذا ما هم ولا فعل ولا تطلع إلى ما عند النساء نحو هذا الأمر الذي ينبغي أن نضبط أنفسنا عنده، ومن حفظ في الماضي فليتق الله في المستقبل، ومن فرط فرحمة الله واسعة فليتب إلى الله.

وهذا المعنى منقول عن عدد من السلف الطيبين من صحابة وتابعين رضي الله عنهم أجمعين، فلعل هذه الآثار أن تشهد لهذا الحديث المرفوع فيصبح في درجة القبول إن شاء الله، انظروا هذه الآثار في تفسير الطبري في الجزء السادس صفحة سبع وسبعين وثلاثمائة، ورواه الإمام ابن المنذر في تفسيره، وهكذا ابن أبي حاتم وابن عساكر في تاريخه عن سعيد بن المسيب رحمه الله عن ابن العاص ، يحتمل أنه عبد الله بن عمرو ، ويحتمل عمرو بن العاص ، الابن أو الأب، قال الإمام ابن كثير في تفسيره: رواه ابن أبي حاتم على الشك، عبد الله بن عمرو بن العاص أو عمرو بن العاص ، وفي رواية ابن المنذر عن الأب، والحديث سيأتينا هل هو مرفوع أو موقوف، ورواه الطبري أيضاً على الشك، لكن في رواية الطبري رواية مرفوعة ورواية موقوفة، ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره عن الأب عمرو بن العاص لكنه موقوف، قال ابن كثير : وهو أصح إسناداً.

إذاً سعيد بن المسيب عن ابن العاص ، عمرو أو عبد الله الأب أو الابن، وعن سعيد بن المسيب عن عمرو مرفوعاً فقط في رواية ابن المنذر ، سعيد بن المسيب عن ابن العاص ، عبد الله أو عمرو موقوفاً دون أن يكون مرفوعاً.

والطبري في إحدى روايتيه: سعيد بن المسيب عن عمرو بن العاص، الرواية الرابعة معنا موقوفة وليست مرفوعة، قال الإمام ابن كثير: هذه أصح إسناداً، وأن هذا من كلام عمرو بن العاص رضي الله عنهم أجمعين، وكيفما كان الأمر، سواء كان موقوفاً أو مرفوعاً، فلفظ الحديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام إذا كان مرفوعاً، وقلت: روي مرفوعاً، ورجح الإمام ابن كثير الوقف: (ما من عبد يلقى الله عز وجل إلا ذا ذنب إلا يحيى بن زكريا فإن الله قال فيه: وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران:39]، ثم رفع النبي عليه الصلاة والسلام شيئاً من الأرض، قشة أو تبنة أو عودة صغيرة وقال: ما كان معه إلا مثل هذه)، وفي رواية: (لم يكن معه إلا مثل هدبة الثوب)، يعني طرف الثوب إذا ثناه الإنسان، والأثر كما قلت: اختلف في رفعه وفي وقفه، وهل هو عن عبد الله بن عمرو أو عن عمرو رضي الله عنهم أجمعين؟ رجح الإمام ابن كثير في تفسيره الوقف على عمرو بن العاص ، وهكذا في كتابه قصص الأنبياء صفحة خمسين وخمسمائة رجح الرواية الموقوفة عن عمرو ، فقال: كونه موقوفاً أصح من رفعه، وهكذا فعل الإمام السيوطي فقال: الرواية الموقوفة أصح إسناداً.

وسواءً كانت مرفوعة أو موقوفة فهي تشهد للرواية المتقدمة من رواية سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه.

وهناك روايات متعددة عن السلف من صحابة وتابعين فيها هذا المعنى انظروها في تفسير الطبري في الجزء السادس صفحة سبع وسبعين وثلاثمائة، وفي الدر المنثور في الجزء الثاني صفحة اثنتين وعشرين، وفي زاد المسير في الجزء الأول صفحة ثلاث وثمانين وثلاثمائة، الإمام الألوسي رحمه الله رد هذا التفسير الثاني إلى القول الأول فقال: على تقدير صحة الأثر فهو من باب التمثيل والإشارة إلى عدم انتفاعه بما عنده، أي: لمجاهدته نفسه حتى صار عضوه كأنه هدبة ثوب، أو كأنه قشة وليس بعضو بشري يشعر ويتحرك، كما تقدم معنا في أثر سيدنا عبادة بن الصامت رضي الله عنه عندما مات صاحبه ولا سمع له ولا بصر، قال: يخشى أن يحركه الشيطان إذا اقترب من امرأة وخلابها فيتحرك. وهذا أماته فلا حركة فيه من صغره، أما بالنسبة لعبادة رضي الله عنه فتقدم معنا في الموعظة الماضية أن ذاك لكبر سنه، لا يقوم إلا رفداً ولا يأكل إلا ما يورق، وصاحبه مات، ولا سمع له ولا بصر، ويخشى أن يحركه الشيطان إذا اقترب من امرأة وخلا بها.

أما هذا النبي المبارك على نبينا وعليه الصلاة والسلام فأعطاه الله الحكم صبياً فجاهد نفسه وزمها بزمام التقوى، فصار عضوه كمثل هدبة الثوب، أو كالعودة، فالإمام الألوسي يقول: على فرض صحة الأثر، ليس المراد أنه ممسوح أو لا شهوة عنده، إنما هذه الشهوة كأنها ذهبت وانطفأت من أجل تعلق قلبه بربه فلا يعلم ما عند النساء ولا يتطلع إليهن، هذا كلام الألوسي لا يمكن، على تقدير صحة الأثر وأنه من باب التمثيل والإشارة إلى عدم انتفاعه بما عنده، لعدم ميله إلى النكاح؛ لأنه في شغل شاغل عنه، وعلى هذا التفسير أنه حصر نفسه ولم يتطلع إلى النساء استدل السادة الشافعية رضي الله عنهم أجمعين بأن التخلي عن النكاح أفضل من فعله لمن لا يشتهيه ولا يتطلع إليه، عندنا قبل هذه حالتان، وقد تقدم معنا البحث في أحوال النكاح ضمن مباحث النبوة.

الحالة الأولى: إن تاقت نفسه إليه وخشي من الوقوع في المحذور فرض عليه ووجب.

الحالة الثانية: إن تاقت نفسه إليه ولم يخش من الوقوع في المحذور فهو سنة مؤكدة باتفاق المذاهب الأربعة.

أقوال أهل العلم في حكم النكاح في حق من لا تتوق إليه نفسه

الحالة الثالثة وهي التي فيها الخلاف: لم تتق نفسه إليه.. لا يشتهي .. لا يتطلع إليه، وعنده أهبته: مؤنة النكاح، نفسه لا تتطلع إليه، ومن باب أولى لا يخشى من الوقوع في المحظور، إما طبيعة الشهوة قليلة، وإما اشتغالاً بعلم وجهاد ودعوة إلى رب العباد، الناس لهم أحوال، فاختلف أئمتنا الأربعة على قولين اثنين في هذه المسألة.

فالحنفية والحنابلة قالوا: يستحب له في هذه الحالة أن يتزوج، وهو أفضل من التخلي للعبادة وطلب العلم ونشره وسائر الطاعات، وأما الشافعية فخالفوا في هذه فانتبهوا إلى قيد الحالة التي ترك النكاح فيها أولى عند الشافعية، فهو لا يشتهيه ولا يتطلع إليه، تمر عنده المرأة وهي والبقرة سواء، وحقيقة نقول: لو جاهدت نفسك وتزوجت لكان أفضل، ليأتي ذرية تعبد رب البرية، الشافعي رضي الله عنه يقول: بما أن الله كفاك مؤنة الشهوة وثورتها، فلو تفرغت للعبادة فهو أفضل لك، فإن قيل: ستتعطل الحياة؟ يقال: هذا وهم وخيال؛ لأن الشهوات تستعر في نفوس المخلوقات، نحن نتكلم على من هذا حاله وهذا واحد من ألف أو مائة ألف أو من مليون. وبشر الحافي من هذا الصنف، والإمام النووي من هذا الصنف، والإمام ابن تيمية من هذا الصنف، وهذا التأويل لا بد منه، فإذا جئت إلى بعض أئمة الإسلام فقل: هؤلاء يوجد اعتبار شرعي عندهم، فتفرغوا لما هو أنفع من طلب علم ونشر دعوة وقتال في سبيل الله.

وقال السادة الشافعية فيمن لم يتخلّ للعبادة كما قرر ذلك الإمام النووي رضي الله عنه وأرضاه، فقال: فإن لم يتخل للعبادة في هذه الحالة فالنكاح في حقه أفضل؛ لأنه بطال لا فائدة منه لا في دين ولا في دنيا، قال: أنا لا أشتهي وعندي المؤنة، لكن لن أتفرغ لعبادة ولا لصيام ولا لذكر ولا لحفظ القرآن ولا لطلب علم طلباً للراحة، فنقول: النكاح في حقك أفضل؛ لأنك الآن ما نفعت الأمة ولا نفعت نفسك.

وقال السادة المالكية: ترك النكاح في هذه الحالة أفضل إلا إذا نوى بالزواج إعفاف فقيرة وصونها، وصون مسلمة وسترها، فهذا أفضل. واستدل الإمام الرازي في تفسيره عند هذه الآية بهذه الآية على مذهب السادة الشافعية، فنبي الله يحيى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه لم يرد أنه تزوج، وإن ورد في أخبار أهل الكتاب أنه تزوج ولم يعاشر ولم يباشر، يعني من أجل أن يكرم سنة النكاح، والعلم عند الله، وأئمتنا عندما يستعرضون قول الله جل وعلا في تفسير قول الله: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً [الرعد:38]، يقولون: لا يعترض على هذا بحال نبيين الأول: نبي الله عيسى عليه السلام فلم يتزوج، وقالوا: سينزل في آخر الزمان ويتزوج ويولد له كما ورد في الآثار، ونبي الله يحيى قالوا على القول الثاني في حصور: ما يشتهي النساء، ولا يتطلع إليهن، وليس عنده شهوة نحوهن، وإنما تزوج لإقامة السنة، لكن ما تأتى منه الوطء لإخراج ذرية تعبد رب البرية.

وهذا من جملة أدلة الشافعية على أن ترك النكاح من أجل التخلي للعبادة أفضل من فعله، في هذه الحالة لا مطلقاً، ونسبة الأقوال إلى من قال بها، وتحديد مصادرها تقدم ضمن مباحث النبوة عند معاملة نبينا لأمهاتنا أزواجه على نبينا وعليهن وعلى آل بيته وصحبه صلوات الله وسلامه.

وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [61] للشيخ : عبد الرحيم الطحان

https://audio.islamweb.net