إسلام ويب

من أعظم الطاعات أن نصون آذاننا عن سماع الحرام، ومنه سماع حديث القوم دون إذنهم، وسماع المغنيات والنياحة والغيبة والنميمة، ومما يجب علينا حفظه البطن، وفي حفظها فوائد عظيمة؛ فحفظها سبب لدخول الجنة، وبحفظها يحصل الكمال، وبحفظها ترزق وصف الحياء على التمام.

التحذير من سماع حديث القوم دون إذنهم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الصالحين المصلحين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فكنا ذكرنا فيما سبق ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في حفظ السمع ومنه قوله: (ويل لأقماع القول) يعني: لا يصل الكلام إلى قلبه، ولا يتدبره، ولا يفقهه، ولا يعيه، بل مجرد سماع، فلا بد من أن نصون آذاننا عن سماع المحرم وأنه كما يحرم علينا أن نفعل الحرام، فيحرم علينا أن نستمع إلى الحرام، فإياك أن تباشر المعصية بنفسك، وإياك ثم إياك أن تشارك فيها باستماعك، فإذا كنت لا تغتاب ولا تفحش فلا تستمع إلى الغيبة ولا إلى الفحش، فإذا استمعت فأنت شريك الفاحش المغتاب، وأنت وهو في الإثم سواء، ولا تنم ولا تسمع النميمة، فلا تتكلم بالبذاءة ولا تسمع البذاءة، سماع المحرم حرام، كفعل الحرام، وقد أشار إلى ذلك نبينا عليه الصلاة والسلام.

ثبت في المسند، وصحيح البخاري ، في السنن الأربعة، إلا سنن ابن ماجه ، من رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من صور صورةً عذبه الله بها يوم القيامة حتى ينفخ فيها الروح وما هو بنافخ، ومن تحلم حلماً -أي: ادعى أنه رأى في منامه شيئاً افتراه واختلقه- كلف أن يعقد شعيرةً أو بين شعيرتين يوم القيامة)، حبة الشعير يقال: اعقدها على بعضها واجعل فيها عقدة، مع أنه لا يمكن له أن يجعل فيها عقدة فهي ليست بخيط فيها التواء وليونة حتى يجعل منها عقدة، أو حتى يعقد بين شعيرتين، حبتان من الشعير كيف يعقد بينهما؟! لا يمكن فسيبقى العذاب مستمراً عليه حتى يعقد شعيرة أو بين شعيرتين، وهذا إذا تحلم حلماً ولم ير شيئاً، إنما يقول: رأيت ورأيت ولم ير؛ لأنه هنا يكذب على الله عز وجل، ويقول: رأيت في منامي وأراني ربي، ولم ير، والثالث وهو محل الشاهد: (ومن استمع إلى حديث قوم يسرونه عنه صب في أذنيه الآنك يوم القيامة) وهو الرصاص الأسود المذاب.

إذاً: هنا ثلاثة أمور فانتبهوا لها:

الأمر الأول: من صور صورةً يكلف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح وما هو بنافخ، يعذب حتى ينفخ الروح في هذه الصورة.

فلفظ صورة مطلق، فكل ما يقال عنه: صورة مما له روح يدخل في هذا، سواء كما قال أئمتنا: الصورة التي لها ظل أو التي لا ظل لها، أو كانت مما يمتهن أو مما لا يمتهن، فالصور حرام بجميع جهاتها، أما ما بقي منها بعد ذلك وكانت مما يمتهن فيجوز أن تستعملها، ولا إثم عليك في استعمالها إما في بساط توطأ أو نحو ذلك، لكن مع ذلك كما قال النووي: يرخص في الاستعمال، ولا إثم في هذا الحال، لكن لا تدخل ملائكة الله الكرام هذا المكان الذي فيه صورة وإن كانت مستعملةً ممتهنة، أما التصوير فمحرم سواء كان لما فيه إكرام أو امتهان، وإذا صور الإنسان صورة يكلف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح، وما هو بنافخ، فهذا ينبغي أن نعيه في هذه الأيام، والصورة تشمل كل ما يقال عنه: صورة، سواء كانت من نحت، أو رسم باليد، أو التصوير الذي يسمى في هذه الأيام على تعبيرهم فوتوغرافياً، أو ما شاكله، هذا كله داخل تحت مسمى صورة، ولا داعي بعد ذلك للتلاعب بأن هذه الصورة ما رسمناها باليد، أو أن هذه كما يقولون: حبس ظل، أو هذه تثبيت ظل الإنسان، وليست بصورة حقيقية له، كل هذا من لغط القول، ومن باب الكلام الذي لا وزن له ولا اعتبار؛ لإخراج هذا الأمر المحرم عن التحريم بهذه التأويلات المنكرة.

إذاً: صورة ما له روح حرام علينا.

الأمر الثاني: لا يجوز للإنسان أن يدعي أنه رأى شيئاً ولم يره.

والأمر الثالث الذي هو محل الشاهد: أنه إذا استمع إلى حديث قوم يسرونه عنه، ولا يريدونه أن يستمع، وتجسس واستمع إليهم يصب في أذنيه الآنك يوم القيامة، فلا يجوز أن تسمع الحرام، وهذا السمع ينبغي أن تصونه عما حرم الله عليك سبحانه وتعالى.

والحديث من رواية عبد الله بن عباس ، رواه أحمد في المسند الجزء الثاني، صفحة أربع وخمسمائة من رواية أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: (ومن استمع إلى حديث قوم ولا يعجبهم أن يستمع حديثهم أذيب في أذنه الآنك يوم القيامة، ومن تحلم كاذباً دفع الله إليه شعيرةً حتى يعقد بين طرفيها وليس بعاقد).

التحذير من سماع المغنيات

الحرام لا ينبغي أن نسمعه، وقد حذرنا نبينا صلى الله عليه وسلم من استماعه، روى ابن عساكر في تاريخه، من طريق: ابن صصرى في أماليه وهو الحسن بن هبة الله بن محفوظ ، توفي سنة ست وثمانين وخمسمائة، وترجمته في السير في الجزء الحادي والعشرين، صفحة أربع وستين ومائتين، كان تلميذاً للحافظ ابن عساكر وتخرج به، وابن عساكر هو حافظ الدنيا في زمنه، وهو علي بن الحسن بن عساكر لا نظير له في زمانه كما قال الذهبي في السير في الجزء العشرين، صفحة خمس وخمسين وخمسمائة، وقد توفي سنة واحدة وسبعين وخمسمائة، يعني قبل تلميذه بخمس عشرة سنة.

والحديث رواه ابن عساكر في تاريخه، وابن صصرى في أماليه، كما في جمع الجوامع للسيوطي في الجزء الأول، صفحة ثلاث وعشرين وثمانمائة، وكما في كتاب كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع للحافظ ابن حجر الهيتمي بالتاء المثناة، وهو مطبوع في نهاية الزواجر عن اقتراف الكبائر في الجزء الثاني، صفحة سبعين ومائتين، ولفظ الحديث من رواية سيدنا أنس رضي الله عنه مرفوعاً إلى نبينا صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (من قعد إلى قينة يستمع منها صب الله في أذنيه الآنك يوم القيامة)، هناك استمع إلى حديث قوم يسرونه ولا يعجبهم أن يستمع حديثهم، صب الله في أذنيه الآنك يوم القيامة، وهنا استمع إلى منكر آخر إلى قينة أي: قعد إلى مغنية يستمع منها صب الله في أذنيه الآنك يوم القيامة.

ابن عساكر كما قال أئمتنا: كان حافظ الدنيا وإمامها في زمنه، ولما ذهب إلى بلاد العراق ليتلقى العلم عن شيخه أبي عبد الله محمد بن الفضل الفراوي ، في السير ضبطه بفتح الفاء الفَراوي وهو خطأ وغلط، والفراوي نسبة إلى فراوي وهي بلدة قريبة من خوارزم، لازمه ثلاثة أيام لا يفارقه فضجر أبو عبد الله محمد بن الفضل لكثرة ملازمة ابن عساكر له، وهم في اليوم الرابع أن يغلق الباب في وجهه، فرأى بعض تلاميذ أبي عبد الله محمد بن الفضل الفراوي النبي عليه الصلاة والسلام في المنام. وقال: أقرئ أبا عبد الله الفراوي السلام، وقل له: سيأتيك رجل من بلاد الشام أسمر اللون، يعني: بشرته تختلف عن بشرة أولئك، وأولئك يميلون إلى البياض، فإذا جاءك فاستوص به خيراً واعتن به فسيكون له شأن، وهو ابن عساكر ، فعلم أبو عبد الله الفراوي أن هذا بسبب تقصيره في حق ابن عساكر ، فكان إذا جاء ابن عساكر إليه يقوم له إجلالاً للنبي عليه الصلاة والسلام، فإذا قعد لم يتحرك حتى يتحرك ابن عساكر ، فإذا قام قام معه يشيعه إجلالاً لنبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.

والقينة هي المغنية، واستماع الغناء حرام، والغناء ضبطه وتعريفه هو: كلام موزون مقفى يشتمل على فحش وخناء بتكسر وتخنث وترقيق وتطريب، ولذلك يستحسن من المرأة، وما أقبح الغناء من الرجل، وكلما كان من امرأة كان ألذ، وهذا الغناء بهذا الوصف لا خلاف في تحريمه، وأما من يطلق الكلام من غير إيضاح فيقول: الغناء منه حلال، فيقال له: يا عبد الله بين لنا ما هو الغناء الحلال؟!

إن الغناء بهذا الضابط مجمع على تحريمه فاستماعه بقصد التلذذ به حرام ولا خلاف في ذلك.

أما أنواع الغناء الذي فيه وصف للحياة، ووصف للكرم، أو حث على المروءة، أو على الجهاد، أو غيرها من الأمور النافعة فهذا موضوع آخر، كما قال رجل للإمام أحمد رحمة الله: ما تقولون في الغناء؟ قال: مثل ماذا؟ قال: مثل قول القائل:

إذا ما قال لي ربيأما استحييت تعصيني

وتخفي الذنب عن خلقيوبالعصيان تأتيني

فجعل أحمد يده على لحيته وبدأ يردد هذين البيتين ويبكي.

هذا ليس كالغناء المحرم، الغناء المحرم ضابطه باختصار: ما يخرج في وسائل الإجرام، التي تسمى وسائل الإعلام في هذه الأيام، وحتى نبين المطلوب ولا نلف وندور فلا يقول بعد ذلك أحد: ما يخرج في وسائل الإعلام ليس بحرام، لقد أخبرني بعض إخواننا الكرام وهو في مدينة النبي عليه الصلاة والسلام، وحلف لي يميناً بالله قال لي مرةً: فتحت الإذاعة -الراديو- يقول: وأطغاني الشيطان حتى استمعت إلى أغنية فوالله ما ملكت نفسي حتى استمنيت في مجلسي، وهو من طلبة العلم، ومن الإخوة الصالحين لما سمع هذه الأغنية الماجنة التي تخرج في الإذاعات صار فيه ما صار، والغناء رقية الزنا، فما ملك نفسه حتى استمنى.

إخوتي الكرام! لا بد من وعي هذا، ولذلك قال مالك رضي الله عنه كما في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، صفحة ثمان عشرة ومائة، للخلاد، إن جلست على باب غريم لك وثبت عليه دين تطالبه به وهو يتحرج بأنه مريض، وحان موعد الوفاء ولا يفي، فتريد أن تراقبه حتى إذا خرج تمسكه ويدفع إليك حقك، فسمعت غناءً ملذات فلا تجلس؛ لأن هذا منكر وحرام، كيف تجلس بجوار البيت الذي تسمع منه الغناء، وهذا مع أنه جلس لمصلحة شرعية من أجل أخذ حقه لكن إذا سمعت هذه المعصية ففارق هذا المكان، وأمسك به في مكان آخر.

حرمة سماع النياحة

حذرنا نبينا عليه الصلاة والسلام من الاستماع إلى سائر المنكرات والآفات، منها ما روى أحمد في المسند، وأبو داود في السنن، من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم النائحة والمستمعة)، أي: التي تستمع للنياحة، وتحضر ذلك المجلس ولا تفارقه، وهذا تسخط على قدر الله جل وعلا، وهذا حرام، فالنائحة ملعونة، ومن تستمع إليها شاركتها في تلك اللعنة والإثم والمنكر.

والحديث من رواية محمد بن الحسن بن عطية العوفي عن أبيه الحسن عن جده عطية العوفي ، وثلاثتهم ضعاف من جهة حفظهم.

وعطية العوفي سيأتي معنا بكثرة، وأحياناً الترمذي يصحح الحديث من هذا الطريق بشواهده التي تشهد له.

حرمة سماع الغيبة والنميمة وفاحش القول

وهكذا نهى نبينا صلى الله عليه وسلم عن الغيبة، ونهى عن الاستماع إلى الغيبة.

روى الطبراني في معجمه الكبير، والأوسط، كما في المجمع في الجزء الأول، صفحة واحدة وتسعين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغيبة، وعن الاستماع إلى الغيبة، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النميمة، وعن الاستماع إلى النميمة).

قال الهيثمي في المجمع: في إسناده فرات بن السائب متروك، وفرات لم يخرج له أحد من أصحاب الكتب الستة، وقد ذكره الذهبي في المغني في الجزء الثاني، صفحة تسع وخمسمائة، وقال: قال عنه البخاري : منكر الحديث تركوه.

والحديث حكم عليه العراقي في تخريج أحاديث الإحياء بالضعف، وعزاه إلى معجم الطبراني الكبير في الجزء الثالث صفحة ثلاث وأربعين ومائة، قال: إسناده ضعيف، ومعناه صحيح ثابت، فالنهي عن الغيبة ثابت في أحاديث متواترة، بل هو منهي عنه في كلام الله جل وعلا: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا [الحجرات:12] ، وهكذا الاستماع إلى الغيبة منهي عنه، فالمستمع شريك للمغتاب كما سيأتينا.

والحديث إسناده ضعيف، ورواه الخطيب في تاريخ بغداد، كما في شرح الإحياء للزبيدي في الجزء السابع، صفحة ثلاث وأربعين وخمسمائة، ورواه الخطابي أيضاً كما في كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع في الجزء الثاني صفحة اثنتين وسبعين ومائتين.

إذاً: لا نغتاب، ولا نستمع الغيبة، ولا ننم، ولا نستمع النميمة، ولا نقول الفحش، ولا نستمع إليه.

ثبت في مسند أبي يعلى بسند صحيح، قال الهيثمي : رجاله رجال الصحيح غير حسان بن كريب وهو ثقة، روى له البخاري في الأدب المفرد، فهو من شرط الحافظ في التقريب، ترجمه وقال: مقبول، ثم قال: له إدراك، أي: إدراك لحياة النبي عليه الصلاة والسلام، أدركه وهو حي لكن لم يره، فليس له شرف الصحبة، قال: وهاجر في خلافة عمر رضي الله عنه إلى المدينة المنورة، وحكم عليه بأنه مقبول مع أن الهيثمي يقول عنه: ثقة، فيحتاج الأمر إلى تأمل؛ لأن له إدراكاً لحياة النبي عليه الصلاة والسلام، فله منزلة كبيرة، وهو من كبار التابعين رضي الله عنهم.

والأثر من رواية سيدنا علي رضي الله عنه وأرضاه موقوفاً عليه، أي أنه من كلامه، كان يقول: قائل الفاحشة والذي يسمع في الإثم سواء، والحديث إسناده صحيح.

إذاً: لا يجوز أن نقول فحشاً، ولا يجوز أن نستمع إليه، ولا يجوز أن نغتاب، ولا يجوز أن نستمع إلى الغيبة.

قال الغزالي في الإحياء في الجزء الثالث، صفحة ثلاث وأربعين ومائة: التصديق بالغيبة غيبة، والساكت شريك المغتاب، فأنت عندما تستمع للمغتاب وتقره فقد اغتبت أيضاً.

وفي شرح الإحياء للزبيدي في الجزء السابع، صفحة ثلاث وأربعين وخمسمائة قال: روى ابن أبي الدنيا في كتاب تحريم الغيبة وذمها، عن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان أنه قال لمولى له: نزه سمعك عن استماع الخنا، كما تنزه لسانك عن القول به، فإن المستمع شريك القائل.

إذاً: الأمر الخامس الذي ينبغي أن نضبطه ونحفظه هو حفظ السمع، أو حفظ آلة سماع الأصوات وهي الأذنان، هذه أمور خمسة ينبغي أن تضبط.

بقي معنا أمران: الأجوفان: السادس: البطن، فينبغي أن نضبطه، وألا يصل إليه إلا حلال، ومن أكل الحلال أطاع الله شاء أم أبى، ومن أكل الحرام عصى الله شاء أم أبى.

والسابع: وهو الفرج ينبغي أن نضبطه.

أهمية حفظ البطن وفوائده

أما الأمر السادس: ضبط البطن، فإذا مرض بطن الإنسان، وما انتبه لما يدخل إليه عشعش الشيطان في نفسه، فلا بد من أن نحصن أنفسنا من الشيطان عن طريق البعد عن أكل الحرام؛ لأن الإنسان إذا خاض في الحرام، وملأ بطنه بالحرام، يمسه ويتخبطه الشيطان، وعندها لا يجد حلاوةً لذكر الرحمن سبحانه وتعالى، ويقول: من أين أتاني هذا؟ يا عبد الله! جعلت جوفك جيفةً، ومكاناً ومرتعاً للشياطين، فلا تلم إلا نفسك، فالله طيب لا يقبل إلا طيباً.

الأكل من الطيبات من أسباب حفظ البطن

ثبت في مسند أحمد ، وصحيح مسلم ، وسنن الترمذي ، ورواه الدارمي في مسنده، والبيهقي في السنن الكبرى، والحديث صحيح، وهو من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون:51].

وقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة:172]. ثم ذكر نبينا عليه الصلاة والسلام الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، مطعمه حرام، وملبسه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام، يقول: يا رب.. يا رب، فأنى يستجاب لذلك)، والله أمر الرسل والمؤمنين بالأكل من الحلال، والطيب هو الحلال، ويكتمل طيبه بأمرين آخرين: إذا كان مشتهى وكان لذيذاً ورخيصاً، فإذا وجدت الأمور الثلاثة، كان طيباً واكتمل الحلال، وكان مما تستلذه النفس وتميل إليه، وأخف الأشياء على النفس ما اجتمع فيه هواها وطاعة مولاها، كالحلال الذي تستلذه النفس، ويكون رخيصاً، وهذا موجود كما ذكرت مراراً لكن قال بعض الإخوة: إنها لا تجتمع، قلت: بل هذا موجود لأعظم قوت وهو التمر، وهكذا في اللبن الذي هو غذاء الفطرة فهو لذيذ رخيص حلال، فإذا قارنته بالأطعمة المصنعة على تعبيرهم والحلويات المستوردة فلعل كثيراً من الحلويات بثمن عشر لترات من الحليب إن لم تكن أكثر، أو بثمن كيس كبير من التمر.

إذاً: الصفات ثلاث: حلال، لذيذ، رخيص.

الصفة الأولى فيه: الحل، كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ [المؤمنون:51] من الحلال، وتلذه أنفسكم، وحاولوا أن يكون رخيصاً لا كلفة في تحصيله، ولا غلاء في ثمنه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة:172] ، ثم ذكر حال الإنسان الذي يشقى في هذه الحياة وحاله كما قال رب الأرض والسموات: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ [الغاشية:1-3] ، عليها أثر المذلة والتعب، والخشوع والنصب، لكن تصلى بعد ذلك نار جهنم وبئس المصير، وهذا المسكين يطيل السفر ويجوب الدنيا، يأكل الحرام، ويشرب الحرام، ويتغذى بالحرام، ويلبس الحرام، ويرفع يديه إلى الرحمن يا رب! يا رب! أنى وكيف يستجاب لذلك! والله طيب لا يقبل إلا طيباً.

طلب الحلال من أسباب حفظ البطن

طلب الحلال واجب على الإنسان، ليحصن نفسه، وليتقرب إلى ربه جل وعلا، وقد أشار إلى ذلك نبينا صلى الله عليه وسلم.

روى الطبراني في معجمه الأوسط، قال المنذري : بسند حسن إن شاء الله تعالى، في الجزء الثاني، صفحة ست وأربعين وخمسمائة، وقد جزم بحسنه الهيثمي في المجمع في الجزء العاشر، صفحة واحدة وتسعين ومائتين، من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (طلب الحلال واجب على كل مسلم )، أي: لتحصن نفسك من الشيطان، ولتتقرب إلى الرحمن.

وروى الطبراني في معجمه الكبير، والبيهقي في السنن الكبرى، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (طلب الحلال فريضة بعد الفريضة)، يعني: كما أوجب الله علينا أن نؤمن به أوجب علينا أن نطلب الحلال لنتقرب به إليه سبحانه وتعالى، والحديث فيه ضعف، ففي الإسناد عباد بن كثير الثقفي ، قال الهيثمي في المجمع: متروك، وهكذا ضعف الحديث المنذري في الترغيب والترهيب في المكان المتقدم أيضاً.

و عباد بن كثير من رجال أبي داود وابن ماجه ، ورمز له ابن حجر في التقريب (د ق ) وقال: متروك كما قال الهيثمي شيخ الحافظ ابن حجر ، وزاد ابن حجر في التقريب قال: وقال أحمد : روى أحاديث كذب.

وترجمته في السير في الجزء السابع، صفحة سبع ومائة، ومن باب الأمانة العلمية فكما نقل في هذا الرجل تدليس وتضعيف نقل فيه توثيق، فقد روى عبد الرزاق في مصنفه، في الجزء العاشر، صفحة تسع وتسعين ومائتين، وهذه القصة تقدمت معنا في مبحث الفرائض، وهي من رواية أبي مطيع البلخي ، قال: أخرج عباد بن كثير من قبره بعد ثلاث سنين، لسبب يستدعي إخراجه إما سيل أو غيره، والمقصود أنه أخرج من القبر لسبب من الأسباب في ذلك الوقت، قال: فلم يتغير منه إلا شعرات في رأسه، وجسده كما كان عندما وضع قبل ثلاث سنين، قال أبو مطيع البلخي : فكنا نرى أن ذلك لصلاحه، وكان عباد بن كثير ثقة، وهذا كلام أبي مطيع البلخي في مصنف عبد الرزاق .

وأبو مطيع البلخي ولو كان ممن يعول عليه في الجرح والتعديل لعضضنا على كلامه بالنواجذ في هذه المسألة، لكنه مسكين جرى حوله كلام؛ والضعيف لا يقبل توثيقه؛ لأنه في الأصل حوله كلام، وأبو مطيع البلخي هو الحكم بن عبد الله البلخي توفي سنة تسع وتسعين بعد المائة، مائتين إلا واحدة، قال الذهبي في المغني في الجزء الأول، صفحة ثلاث وثمانين ومائة: تركوه، وكان من القضاة الصالحين على مذهب أبي حنيفة ، لكن جرى حوله كلام فيما يتعلق بأمر الإرجاء، فالمحدثون اشتدوا عليه بالقول -كما سأشير إلى ذلك- عن طريق الإرجاء، وكان من العلماء الربانيين القانتين على مذهب أبي حنيفة .

قال ابن حجر في اللسان في الجزء الثاني، صفحة أربع وثلاثين وثلاثمائة:

وكان عبد الله بن المبارك يعظمه ، ويبجله لدينه وعلمه، وكان قاضياً، ومن العلماء الربانيين.

قال العقيلي : كان مرجئاً صالحاً في حديثه. والعقيلي من أئمة الجرح والتعديل. فالإمام ابن المبارك أثنى عليه، لكن فيما يتعلق بدينه وعبادته وعلمه، وأما من ناحية التوثيق فلم يصدر حكماً فيه.

وأمر الإرجاء يسير مع أننا لا نرى ذلك القول ولا نقول به كما تقدم معنا في بحث الإرجاء، وقلت: إنه خلاف لفظي بينهم وبين جمهور أهل السنة، وهو الذي كان عليه إمام هذه الأمة وفقيه هذه الملة المباركة أبو حنيفة رضي الله عنه أن الإيمان اعتقاد وإقرار فقط، والعمل لا يدخل في تعريف الإيمان ولا من مسماه، لكن فعله ينفع وتركه يضر، ومن فعله كان تقياً، ومن تركه كان عاصياً شقياً، وهذا لا يختلف عن تعريف جمهور أهل السنة للإيمان ولا بمقدار شعرة إلا في اللفظ.

جمهور أهل السنة قالوا: الإيمان اعتقاد بالجنان، ونطق باللسان، وعمل بالأركان، فأدخلوا العمل في مسمى الإيمان، وقالوا: لو ترك الاعتقاد القلبي كفر، ولو ترك الإقرار اللساني كفر، كما هو عند أبي حنيفة ، ولو ترك العمل بجوارحه لم يكفر، إنما إذا فعله صار تقياً، وإذا تركه صار عاصياً شقياً.

إذاً: ما بقي بينهم إلا خلاف اللفظية، وهذا ليس بإرجاء أهل البدعة، فلا بد من تحقيق الأمر وتدقيقه.

وذكر الذهبي في كتابه العبر في أخبار من غبر، في الجزء الأول، صفحة ثمان وخمسين ومائتين، في حوادث سنة تسع وتسعين ومائة، في السنة التي توفي فيها أبو مطيع البلخي ، قائلاً: كان أماراً بالمعروف، نهاء عن المنكر، له في ذلك شأن عظيم.

وجرت له قصة في حياته خلاصتها:

أراد الخليفة في زمنه أن يعهد لولده بالخلافة وكان صبياً، وأرسل رسله إلى أمصار المسلمين لينادوا بعد صلاة الجمعة: بأن الخليفة بعد الخليفة الحي ابنه الصبي، وأن الله آتاه الحكم صبياً، ويقرأ هذا المنشور على الناس بعد صلاة الجمعة، ففي بلخ التي فيها القاضي أبو مطيع البلخي جاء الكتاب وجاء رجلان مبعوثان من قبل الخليفة ليقرأا الكتاب بعد صلاة الجمعة، فعرض الأمر على الأمير الوالي من قبل الخليفة فأقر، فعرضه على أبي مطيع البلخي ، فقال: هل وصل بنا الحال أننا من أجل نعيم الدنيا نكفر، قال: وماذا تعني؟ فقال: من قال عن صبي: إنه أوتي الحكم غير نبي الله يحيى فقد كفر، فكيف تجعلنا نتلاعب بكلام ربنا ونقول: صبي آتاه الله الحكم، وله شأن، واسمعوا له وأطيعوا وهو الخليفة، كيف تتلاعبون بكلام الله، فقال له الوالي الأمير: لا قدرة لي على التغيير، لكن إذا كنت لا تُريد قول هذا فلا أعترض عليك، فقل ما شئت، فأنت الخطيب، فخطب الجمعة وبكى على المنبر وقال: وصل الأمر بنا في تعظيم الدنيا حتى نكفر بربنا، من قال لأحد من الصبيان: إنه أوتي الحكم صبياً غير نبي الله يحيى فقد كفر، وضج المسجد بالبكاء، فخرج الرسولان هاربين وما استطاع واحد منهما أن يقرأ كتاب الخليفة والسلطان.

أبو مطيع البلخي اتفقوا على صلاحه، وأما ما قيل حوله من ناحية الإرجاء فهذا يحتاج إلى تحقيق، وعلى كل حال هذا الذي في ترجمته ورأيت أنه ليس من الأمانة أن أذكر ما قيل فيه من جرح، وأغض الطرف عما قيل فيه من تعديل.

على كل حال رجال حديث عبد الله بن مسعود فيه عباد بن كثير الثقفي ، جرى حوله ما تقدم من الكلام.

وقوله: (طلب الحلال واجب على كل مسلم) أي: فرض الله علينا أن نوحده، وهذا هو الفرض الأول وأول الواجبات، وفرض علينا أن نأكل الحلال بعد أن نوحد ذا العزة والجلال، هذا فرض وذاك فرض، فتطالب بتوحيد الله، كما تطالب بتحري الحلال في حياتك، المعنى صحيح ولا إشكال فيه، لكن الإسناد فيه عباد بن كثير الثقفي .

هذا الحديث الذي يقرر أن طلب الحلال فريضة على كل مسلم، يقول الغزالي في الإحياء في شرحه في الجزء الثاني، صفحة تسعين: ذكر بعض العلماء أنه يراد بهذا الحديث: (طلب الحلال فريضة على كل مسلم) الحديث الذي ورد: (طلب العلم فريضة على كل مسلم)، فيناظر ذلك الحديث هذا الحديث، أي: أن طلب علم الحلال والحرام فريضة من أجل أن يأخذ الإنسان الحلال، ويفعله، وأن يبتعد عن الحرام ويتركه.

قال الغزالي : وجعل -البعض من العلماء- المراد بالحديثين واحداً.

وحديث: (طلب العلم فريضة على كل مسلم) لا يزيد عن درجة الحسن وطرقه ضعيفة لكنها متعددة كثيرة، رواه ابن ماجه في سننه، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، والخطيب البغدادي في كتابه الفقيه والمتفقه، والبيهقي في شعب الإيمان، من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (طلب العلم فريضة على كل مسلم، ووضع العلم في غير أهله كمقلد الخنازير الدرة والياقوت والذهب)، يعني: تقلد الخنازير هذه الأحجار الكريمة، كوضع العلم في غير أهله فهذه إساءة.

والحديث كما قلت روي عن جم غفير، روي عن عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن مسعود ، وعلي رضي الله عنه، والحسين بن علي ، وأبي سعيد الخدري ، وأنس فهؤلاء سبعة رضي الله عنهم.

قال السخاوي في المقاصد الحسنة، صفحة خمس وسبعين ومائتين: قال المزي : سوقوا طرق الحديث تصل إلى درجة الحسن.

ونقل عن العراقي في تخريجه للإحياء أن بعض أئمة الحديث صحح بعض طرق هذا الحديث.

والكلام عليه في تنزيه الشريعة لـابن عراق في الجزء الأول صفحة ثمان وخمسين ومائتين، وفي الحاشية ذكر محقق الكتاب والمعلق عليه أنه يوجد رسالة في طرق هذا الحديث لبعض المعاصرين ذهب فيها إلى تصحيح هذا الحديث لكثرة طرقه، وسمى الرسالة المسهم في طرق حديث (طلب العلم فريضة على كل مسلم). وهي للشيخ عبد الله صديق الغماري من بلاد المغرب، ولم أقرأ هذه الرسالة ولا وقفت عليها.

إذاً: لا بد من طلب الحلال، والبعد عن الحرام، فالله لا يقبل إلا ما كان طيباً، وطلب الحلال واجب، كما أن البعد عن الحرام واجب.

حفظ البطن من الحرام من أسباب دخول الجنة

أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام أن من تحرى الحلال وطلبه وأدخله جوفه فله الجنة.

ثبت الحديث في ذلك في سنن الترمذي ، ومستدرك الحاكم ، ورواه الضياء المقدسي في الأحاديث الجياد المختارة، وابن أبي الدنيا في كتاب الصمت، والبيهقي في شعب الإيمان، والحديث صححه الحاكم وأقره الذهبي ، والترمذي في النسخة المطبوعة قال: هذا حديث غريب، والمنذري في الترغيب والترهيب ينقل عن نسخة عنده في القرن السادس فيها: هذا حديث حسن صحيح غريب.

والحديث حوله كلام، لكن لا ينزل عن درجة الحسن لشواهده بإذن ربنا الرحمن، ولفظ الحديث من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أكل طيباً، وعمل في سنة، وأمن الناس بوائقه دخل الجنة. فقال الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين: يا رسول الله! هذا كثير فينا نأكل الحلال، ونعمل على حسب سنتك، فلا نخرج عنها لا نبتدع ولا ننحرف، ويأمن الناس بوائقنا أي: شرورنا فلا نظلم أحداً ولا نعتدي على أحد، هذا كثير فينا، قال: وسيكون في قرون بعدي).

حفظ البطن من أسباب تحصيل السعادة في الدنيا

وأخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام أن الإنسان إذا أكل الحلال وابتعد عن الحرام فقد حصلت فيه صفات الكمال على التمام.

روى أحمد في المسند، والطبراني في معجمه الكبير، وإسنادهما حسن كما قال المنذري في الترغيب والترهيب في الجزء الثاني، صفحة ست وأربعين وخمسمائة، وكذلك قال الهيثمي في المجمع في الجزء العاشر، صفحة خمس وتسعين ومائتين، والحديث رواه الخرائطي ، والحاكم وصححه، وسكت عنه الذهبي ، انظر الجزء الرابع، صفحة أربع عشرة وثلاثمائة، ورواه البيهقي في شعب الإيمان من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.

ورواه ابن عدي وابن عساكر لكن عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين.

ورواه عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد والرقائق، صفحة أربع وعشرين وأربعمائة موقوفاً على عبد الله بن عمرو بن العاص .

وعليه فقد روي عن عبد الله بن عمرو موقوفاً ومرفوعاً، وعن عبد الله بن عباس مرفوعاً، ولفظ الحديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: (أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة -أي خلق وأخلاق ومعاشرة-، وعفة طعمة، أي: عفة مطعم)، هذه إذا كانت فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا.

وقد وقع في الجامع الصغير خطأ من الإمام السيوطي ، والشيخ الألباني تبعه على هذا الخطأ؛ لأنه قلده ولو رجع إلى الكتب لاستبان له الخطأ.

الحديث نسبه السيوطي إلى رواية عبد الله بن عمر في المسند، ونسبه إلى عبد الله بن عمرو في معجم الطبراني الكبير، وهو في الكتابين عن عبد الله بن عمرو ، فقوله في المسند: عن عبد الله بن عمر خطأ، والمناوي في فيض القدير (1/462) يقول: عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، فهل هذا التفريق من السيوطي أو ممن نسخ الكتاب فجعل ما في المسند عن ابن عمر وما في الطبراني عن ابن عمرو ؟ لا أعلم.

والشيخ الألباني في صحيح الجامع حافظ على هذا الترتيب، فقال: حم ابن عمر ، طب ابن عمرو ، وهذا غلط، فالحديث في المسند من رواية ابن عمرو ، كما في الجزء الثاني، صفحة اثنتي عشرة ومائتين، فهو من رواية عبد الله بن عمرو من مسنده، وليس من رواية عبد الله بن عمر ويدل على أن الألباني قلد تقليداً محضاً، وأنه لم يرجع إلى الكتاب أنه في سلسلة الأحاديث الصحيحة في الجزء الثاني، صفحة سبعين وثلاثمائة، قال: إن أحمد روى الحديث عن عبد الله بن عمرو ، وعلى كلٍ الخطأ هل هو من السيوطي أو ممن نسخ الكتاب؟ العلم عند الله جل وعلا.

خلاصة الكلام: ليس الحديث من رواية عبد الله بن عمر ، إنما هو في المسند، ومعجم الطبراني الكبير من رواية عبد الله بن عمرو .

أما الرواية الموقوفة عن عبد الله بن عمرو وهي في كتاب الزهد والرقائق لـعبد الله بن المبارك لفظها: (أربع خلال إذا أعطيتهن لم يضرك ما عزل من الدنيا: حسن خليقة، وعفاف طعمة، وصدق حديث، وحفظ أمانة)، وهذه الرواية موقوفة وهناك مرفوعة، وتقدم معنا رواية عبد الله بن عباس المرفوعة، فإذا وجدت هذه الصفة في الإنسان: عفة في مطعمه، أو طعمته حيث يأكل الحلال، ويتجنب الحرام، هنيئاً له عند ذي الجلال والإكرام.

حفظ البطن من أسباب تحصيل الحياء

أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام أن الإنسان لا يتصف بصفة الحياء على التمام من رب الأرض والسماء سبحانه وتعالى إلا إذا ابتعد عن الحرام، وأكل الحلال، وعلم ما يدخل إلى جوفه، وحفظ بطنه وما حواها.

ثبت الحديث بذلك في مسند أحمد ، وسنن الترمذي ، ورواه الحاكم في المستدرك في الجزء الرابع، صفحة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، وصححه وأقره عليه الذهبي ، ورواه أبو نعيم في الحلية، والطبراني في معجمه الكبير، والبيهقي في شعب الإيمان، وإسناد الحديث صحيح، وهو في جامع الأصول في الجزء الثالث، صفحة ست عشرة وستمائة، من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال: (استحيوا من الله حق الحياء. فقال الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين: يا رسول الله! كلنا نستحي والحمد لله، فقال نبينا عليه الصلاة والسلام: ليس ذلك) يعني: ليس الحياء من الله حق الحياء دعوى، وكلاماً يقوله الإنسان بلسانه، إنما هناك أمور ينبغي أن يتحقق بها لتحصل فيه هذه الصفة، ثم بين النبي عليه الصلاة والسلام تلك الصفات فقال: (إنما الحياء من الله حق الحياء: أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وأن تذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء).

وروي الحديث من رواية صحابيين آخرين.

الرواية الأولى: عن أمنا الصديقة المباركة عائشة رضي الله عنها في معجم الطبراني الأوسط كما في المجمع في الجزء العاشر، صفحة ثلاث وثمانين ومائتين.

ورواه الخرائطي كما في جمع الجوامع في الجزء الأول، صفحة خمس ومائة، وفي إسناده إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة قال عنه الهيثمي في المجمع: متروك، وعليه فإسناد الحديث ضعيف، وإبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة من رجال الترمذي ، والنسائي في السنن، حكم عليه الحافظ في التقريب بأنه ضعيف فقط ورمز له بـ (ت) أي: من رجال الترمذي ، و(ن) أي: من رجال النسائي ، والهيثمي حكمه أشد قال عنه: متروك، ولفظ حديث أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: (قال النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر والناس حوله: أيها الناس! استحيوا من الله حق الحياء. فقال رجل من الصحابة: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! إنا لنستحي من الله. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: من كان منكم مستحيياً من الله حق الحياء فلا يبيتن ليلةً إلا وأجله بين عينيه، وليحفظ البطن وما وعى، والرأس وما حوى، وليذكر الموت والبلى، وليترك زينة الدنيا)، هذا حال من يستحي من الله سبحانه وتعالى حق الحياء.

إذاً هنا زيادة: (لا يبيتن ليلة إلا وأجله بين عينيه)، يعني: إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصبح، وكن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل.

والرواية الثانية: من رواية الحسن بن عمير رضي الله عنه، رواها الطبراني في معجمه الكبير، كما في المجمع في الجزء العاشر، صفحة أربع وثمانين ومائتين، والحديث رواه أبو نعيم في الحلية الجزء الأول، صفحة ثمان وخمسين وثلاثمائة، وفي إسناده إبراهيم القرشي ، قال عنه الهيثمي في المجمع: متروك، وبذلك حكم عليه أئمتنا، قال عنه الذهبي في المغني في الضعفاء: تركه أبو حاتم ، وفي اللسان للحافظ ابن حجر في الجزء الرابع، صفحة واحدة وتسعين وثلاثمائة ومعه الميزان للذهبي : قال البخاري ، والنسائي : إنه منكر الحديث، وقال ابن معين : منكر الحديث ليس بشيء.

إذاً: رواية أمنا عائشة فيها ضعف، ورواية الحسن بن عمير فيها ضعف، ورواية سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه صحيحة تشهد لهاتين الروايتين، فالحديث -كما قلت- ثابت، إنما من باب استيعاب طرقه فهو مروي عن ثلاثة من الصحابة، ورواية الحسن بن عمير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (استحيوا من الله حق الحياء. فقالوا: كلنا نستحي والحمد لله. فقال عليه الصلاة والسلام: احفظوا الرأس وما حوى، والبطن وما وعى، واذكروا الموت والبلى، فمن فعل ذلك فثوابه الجنة)، وهنا قال: (فمن فعل ذلك فثوابه الجنة).

والشاهد: لا بد أن نحفظ البطن وما يدخل إليها، ولا بد من تحصين البطن وألا يدخل إليها شيء حرام، ومن كان لا يبالي بمطعمه، ولا يبالي بما يدخل إلى جوفه فقيمته كما قال أئمتنا ما يخرج منه، وأما المؤمن الذي يتقي الله، ولا يأكل إلا ما أحل الله، ويعلم أن أكل الحرام عصيان ووقوع في الآثام، وأن من أكل الحرام عصى الله شاء أم أبى، فلا بد من أن نقف عند حدنا، والبطن لا بد من أن يضبط.

حفظ البطن من أسباب النجاة من النار

أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام: (أن أكثر ما يدخل النار الأجوفان: الفم والفرج)، الفم: هو طريق إلى البطن، نعم يشمل هذيان اللسان وما فيه من كذب، وغيبة، ونميمة، وقذف، وبهتان، وسب للإنسان، وكفر بالرحمن، عن طريق اللسان، لكن هو أيضاً طريق إلى البطن، ولذلك المبدأ الفم، والواسطة البطن، وإذا أكل الإنسان الحرام، وزرع في نفسه الشهوات، وسار في الشبهات، وقع في الضلالات ووقع في البليات، فلا يمكن للإنسان أن يقع فيما حرم الله إلا بعد أن يقع في الدنس الذي هو عن طريق فمه ثم عن طريق بطنه، ثم بعد ذلك يتحرك الفرج للوقوع في المحظور، فإذاً هذا الغار الذي هو الفم الشامل لما نأكل فيه، ولما نتكلم به، من أكثر ما يدخل الناس النار وخطايا بني آدم في ألسنتهم وما يأكلونه عن طريق أفواههم ويذهب إلى بطونهم، ولهذا هو طريق إلى البطن فكيف سندخل الطعام إلى البطن أو إلى الجوف إلا عن طريق الفم، فلا بد من حفظه، فلا نتكلم بما لا ينفع كما تقدم معنا عند حفظ اللفظات.

ثبت في مسند أحمد ، ورواه أيضاً في كتابه الزهد، والحديث في سنن الترمذي ، وابن ماجه ، ورواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه الجزء الرابع، صفحة أربع وعشرين وثلاثمائة، وصححه ووافقه عليه الذهبي ، ورواه البخاري في الأدب المفرد، وابن أبي الدنيا في كتاب الصمت صفحة ست وثلاثين، وإسناد الحديث صحيح من رواية أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ فقال: تقوى الله، وحسن الخلق. وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ فقال: الأجوفان: الفم والفرج)، وهذا الحديث إخوتي الكرام صحيح بنفسه، لكن له شواهد كثيرة تقرر هذا المعنى، وأنه لا بد من ضبط ما بين الفكين، كما أنه لا بد من ضبط ما بين الرجلين، وأشار إلى هذا نبينا صلى الله عليه وسلم في أحاديث متعددة؛ منها ما ثبت في صحيح البخاري ، ورواه البيهقي في السنن الكبرى وفي شعب الإيمان من رواية سهل بن سعد رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يضمن لي ما بين لحييه) جمع لحي وهو الفك الأعلى والأسفل ما ينبت عليه الشعر ومغرز الأسنان والأضراس في الجانبين الفك العلوي والفك السفلي، (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة)، والحديث رواه الإمام أحمد عن سهل بن سعد ، والترمذي ، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه بلفظ: (من توكل لي ما بين لحييه وما بين رجليه توكلت له بالجنة)، هنا قال من يتوكل يتوكل له بذلك، وهناك من يضمن لي أضمن له.

والحديث رواه أبو نعيم في الحلية في الجزء الثالث، صفحة اثنتين وخمسين ومائتين بلفظ: (من حفظ ما بين لحييه وما بين رجليه دخل الجنة)، إذاً: فالروايات: (من حفظ)، (من يضمن)، (ومن توكل لي)، وكلها بمعنىً واحد.

وورد الحديث من رواية أبي هريرة رضي الله عنه في سنن أبي داود ، وسنن الترمذي ، ورواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه بلفظ: (من وقاه الله شر ما بين لحييه وشر ما بين رجليه)، والحديث في جامع الأصول الجزء الحادي عشر، والحديث الأول حديث سهل صفحة ثمان وسبعمائة، والحديث الثاني صفحة تسع وسبعمائة، (من وقاه الله شر ما بين لحييه وشر ما بين رجليه دخل الجنة).

والحديث من رواية أبي هريرة، رواه البيهقي في شعب الإيمان، والحاكم في المستدرك بلفظ: (من حفظ ما بين رجليه وما بين لحييه دخل الجنة) بمثل رواية أبي نعيم في الحلية من رواية سهل، لكنها هنا من رواية أبي هريرة .

الرواية الثالثة من رواية أبي موسى الأشعري رضي الله عنه رواها القضاعي في مسند الشهاب في الجزء الأول، صفحة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، بلفظ: (من حفظ ما بين لحييه وما بين رجليه دخل الجنة) بمثل رواية سهل في الحلية، وبمثل رواية أبي هريرة -كما قلت- عند البيهقي في شعب الإيمان ومستدرك الحاكم، وفي رواية في مسند أحمد في الجزء الرابع، صفحة ثمان وتسعين وثلاثمائة، ولا زلنا في رواية أبي موسى الأشعري ، ورواها أبو يعلى في مسنده، والطبراني في معجمه الكبير كما في المجمع في الجزء العاشر، صفحة ثمان وتسعين ومائتين، وإسناد أبي يعلى ثقات كما قال الهيثمي ، وأما إسناد أحمد فقال الهيثمي : في إسناده رجل لم يسم، وهو الراوي عن أبي موسى الأشعري الذي هو تابعي، وأبو موسى صحابي رضي الله عنهم أجمعين، قال الهيثمي : والظاهر أن الذي سقط سليمان بن يسار ، فإذا علم وهو ثقة فإسناد المسند صحيح، لكن هذا استظهار دون قطع بذلك، والعلم عند الله جل وعلا.

على كل حال إسناد أبي يعلى صحيح كما قلت، والحديث ثابت من الروايات المتقدمة، ولفظ المسند، ومسند أبي يعلى، والطبراني ( من حفظ ما بين فَقميه ) بفتح الفاء وضمها فُقميه والفَقم -بالفتح- والفُقم -بالضم- هو اللحي فعاد المعنى إلى ما تقدم ما بين لحييه.

وروى الطبراني أيضاً بسند رجاله وثقوا من رواية أبي موسى الأشعري رضي الله عنه كما في المجمع في الجزء العاشر صفحة ثمان وتسعين ومائتين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أحدثك ثنتين من فعلهما دخل الجنة؟ قلنا: بلى) والكلام موجه لسيدنا أبي موسى الأشعري، والصحابة الحضور هم تبع له في ذلك، (قلنا: بلى يا رسول الله فقال عليه الصلاة والسلام: يحفظ الرجل ما بين فَقميه -بالفتح، وما بين فُقميه بالضم- وما بين رجليه. قال: فرجعت أنا وصاحبي فقلنا: والله إن هذا لشديد)، كيف يستطيع المرء أن يحفظ ما بين فَقميه -بالفتح- فُقميه -بالضم- فلا يتكلم إلا بخير، (قال: فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله! إنك ذكرت خصلتين شديدتين، ومن يستطيع أن يملك لسانه يا رسول الله؟ قال: فست من فعلهن دخل الجنة، -الأمر فيه توسعة أكثر- قلنا: وما هن يا رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ قال: من لا يشرك بالله شيئاً، ولا يزني، ولا يأتي ببهتان يفتريه فأتم الآية)، وهي المذكورة في سورة الممتحنة يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ [الممتحنة:12] هذه الستة فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ [الممتحنة:12]، فأتم الآية كلها، فكانت هذه أشد من الأولى.

فالدخول إلى الجنة لا يحتاج إلى احتياط واحتراف، بل إلى جد وعزم في طاعة الله جل وعلا، فمن يرد أن يبني بيتاً فلابد أن يسعى، مع أنه في خلال بنائه لهذا البيت قد يسقط عليه حجر ويكسر رجله، ومن يرد أن يتخذ قصوراً في عليين بجوار رب العالمين لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، سقوفها من الدر والياقوت، ولا يجد ولا يبذل شدةً وجداً واجتهاداً وعزيمةً في طاعة الله فلا يمكن له هذا، فلا بد من المجاهدة وأن يحفظ الإنسان فمه، وأن يحفظ بطنه، وأن يحفظ فرجه، وأن يتقي ربه سبحانه وتعالى.

الرواية الرابعة: رواية أبي رافع رضي الله عنه رواها الطبراني في معجمه الكبير بسند جيد كما قال المنذري في الترغيب والترهيب في الجزء الثالث، صفحة ثلاث وثمانين ومائتين بلفظ: ( من حفظ ما بين فَقميه -بالفتح وفُقميه بالضم- وما بين رجليه دخل الجنة ).

الرواية الخامسة: عن رجل من أصحاب نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه لم يسم، وتقدم معنا مراراً، أن الجهل باسم الصحابي لا يضر، بعد أن يعلم أنه صاحب لخير خلق الله على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، والحديث رواه أحمد في المسند، في الجزء الخامس، صفحة اثنتين وستين وثلاثمائة، ورجاله رجال الصحيح كما قال الهيثمي في المجمع في الجزء العاشر، صفحة ثمان وتسعين ومائتين، رجال الإسناد رجال الصحيح: خلا تميم وهو ثقة، وتميم هو تميم بن يزيد مولى زمعة ، له ترجمة في التاريخ الكبير للبخاري في الجزء الثالث، صفحة أربع وخمسين ومائة، وله ترجمة في الجرح والتعديل لـابن أبي حاتم في الجزء الثاني، صفحة اثنتين وأربعين وأربعمائة، وله ترجمة في تعجيل المنفعة، للحافظ ابن حجر صفحة ستين؛ لأنه بما أنه من رجال المسند، وليست له رواية في الكتب الستة فسيترجم له الحافظ في تعجيل المنفعة قطعاً وجزماً، وأنا أعجب بعد ذلك من المعلق على صحيح ابن خزيمة في الجزء الثالث، صفحة ثمان وثمانين ومائة جاء تميم بن يزيد مولى زمعة في إسناد حديث يتعلق بأحاديث الصيام في كتاب الصيام في صحيح ابن خزيمة ، فقال المعلق: هذا الحديث ضعيف؛ لأن فيه تميماً وهو مجهول.

وهذا فيه نظر لأمور: أولاً: هو تابعي يروي عن صحابة، وثانياً: الهيثمي يقول عنه: ثقة، وثالثاً: الحافظ ابن حجر ذكر ترجمته في تعجيل المنفعة وهكذا البخاري ، وهكذا ابن أبي حاتم .

فالقول: بأنه مجهول وأن الحديث ضعيف من أجله خطأ، فالحديث هناك إن شاء الله صحيح، والحافظ ابن حجر في تعجيل المنفعة بعد أن نقل عن بعضهم أنه قال فيه: إنه مجهول رد ذلك وبين أنه معروف ومترجم، والعلم عند الله جل وعلا.

إذاً الحديث في المسند عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيها الناس! اثنتان من وقاه الله شرهما دخل الجنة. فقال رجل من الأنصار رضي الله عنهم أجمعين: لا تخبرنا ما هما يا رسول الله عليه الصلاة والسلام؟) لماذا اعترض؟ له سبب كما سيأتينا، فلا نستغرب هو لا يريد أن يعترض، يريد أن يجد الناس في طاعة الله لئلا يتكلوا، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (ألا أخبرهم -يعني: ليستبشروا- قال: إذاً يتكلوا)، وهنا كذلك قال: لا تخبرنا ما هما يا رسول الله عليه الصلاة والسلام، دعنا نتنافس في الطاعات، فإنك إذا حدثتنا عن هذين الأمرين وحافظنا عليهما، أصبح عندنا بعد ذلك رجاء محقق؛ بأننا من أهل الجنة وقد يصبح فتور عند بعضنا، فلا تخبرنا ما هما يا رسول الله عليه الصلاة والسلام، فأعاد النبي عليه الصلاة والسلام قال: (اثنتان من وقاه الله شرهما دخل الجنة، فقام مرة ثانية وقال: لا تخبرنا ما هما يا رسول الله عليه الصلاة والسلام، فأعاد النبي عليه الصلاة والسلام الثالثة: اثنتان من وقاه الله شرهما دخل الجنة، فأعاد وقال: لا تخبرنا ما هما يا رسول الله عليه الصلاة والسلام، فكان بجواره بعض الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، فقال له: رسول الله عليه الصلاة والسلام يريد أن يبشرنا وأنت تمنعه اجلس، ومنعه من الكلام بعد ذلك...)، فقال نبينا عليه الصلاة والسلام، وقبل أن يذكر النبي عليه الصلاة والسلام الحديث قال هذا الأنصاري مبرراً كلامه قال: إني أخاف أن يتكل الناس -وهنا ملحظ شرعي- من أجل هذا قلت للنبي عليه الصلاة والسلام: دع هذه البشارة ولا تخبرنا بها لأجل أن نتنافس؛ ولئلا يحصل هناك تواكل وفتور عند بعضنا لعدم فهم المطلوب على وجه التمام، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (اثنتان من وقاه الله شرهما دخل الجنة؛ من حفظ ما بين لحييه وما بين رجليه دخل الجنة).

رواه مالك في الموطأ مرسلاً، ورواية الموطأ من شرط جامع الأصول فذكرها في الجزء الحادي عشر، صفحة تسع وسبعمائة، فالحديث إسناده صحيح لكنه مرسل، ويتقوى بما تقدم من الروايات، ولفظ الحديث عن عطاء بن يسار رحمه الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من وقاه الله شر اثنتين ولج الجنة. فقال رجل: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تخبرنا؟)، يعني: أخبرنا ما هما؟ في بعض نسخ الموطأ: (ألا تخبرنا ما هما؟)، وفي بعضها: (لا تخبرنا عنهما)، فهاتان روايتان، أما رواية المسند فتقدمت معنا وهي: (لا تخبرنا) على النهي جزماً وليس فيها: (ألا تخبرنا)، وهنا وفي الموطأ على الضبطين: (ألا تخبرنا؟)، و(لا تخبرنا)، والذي يظهر أن رواية المسند ترجح أن النهي هو المراد هنا، ثم قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (مثل ذلك، ثم ذهب الرجل يقول مثل مقالته الأول فأسكته رجل إلى جنبه، فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: من وقاه الله شر اثنتين ولج الجنة: ما بين لحييه وما بين رجليه، ما بين لحييه وما بين رجليه، ما بين لحييه وما بين رجليه ثلاثاً)، أعاد الكلام ثلاثاً، والعلة: حتى لا يتكل الناس.

إذاً: فخلاصة البحث: أن حديث: (أكثر ما يدخل الناس النار: الأجوفان الفم والفرج) حديث ثابت عن عدة من الصحابة الكرام، فقد جاء من رواية سهل، وأبي هريرة، وأبي موسى، وأبي رافع، وعن رجل من الصحابة، كما روي عن عطاء بن يسار مرسلاً عن نبينا صلى الله عليه وسلم.

نعوذ بالله من السفاهة والعدوان على أولياء الرحمن، ونسأل الله أن يرزقنا حفظ ألسننا وفروجنا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [47] للشيخ : عبد الرحيم الطحان

https://audio.islamweb.net