إسلام ويب

مما يعين المسلم على تحصين نفسه من الجن أمور ثلاثة لابد من التنبيه عليها، وهي: أولاً: أن يتخلى عن الخواطر الرديئة، فيضبط خواطر قلبه قبل أن تصبح فكرة ثم شهوة ثم عزيمة ثم فعلاً ثم عادة يصعب عليه التخلي عنها. ثانياً: أن يتخلى كذلك عن النظرات الخائنة التي هي سهم مسموم من سهام إبليس. ثالثاً: أن يتخلى كذلك عن اللفظات المنكرة المحرمة، وليقل خيراً أو ليصمت.

الخواطر الواردة على القلب وضرورة ضبطها

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين!

اللهم زدنا علماً نافعاً وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين, سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك, سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك, اللهم صلِّ على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

إخوتي الكرام! لا زلنا نتدارس مبحث الجن، ونحن الآن في آخر مباحثه, ألا وهو: تحصن الإنس من الجن, وقلت: لتحصن الإنس من الجن أمورٌ كثيرة، أبرزها -كما تقدم معنا- خمسة عشر أمراً, وقد تقدم معنا أن هذه الأمور على كثرتها تدور على أمرين اثنين:

على اجتناب وتخلية، وعلى اكتساب وتحلية.

أما ما ينبغي أن يجتنبه الإنسان ويتخلى عنه فهي سبعة أمور:

ينبغي أن يتخلى عن الخواطر الرديئة, وعن النظرات الخائنة, وعن اللفظات المنكرة المحرمة, وعن الخطوات المذمومة, وينبغي أن يحفظ الأذن والبطن والفرج.

هذه الأمور السبعة إذا حصن الإنسان نفسه منها وما أتي من قبلها؛ فقد أحرز أحد الأمرين مما ينبغي أن يقوم به الإنسان في تحصنه، ألا وهو اجتناب وتخلية.

وهناك تحلية، وهي تدور على ثمانية أمور كما تقدم معنا.

فالتخلية بعدد أبواب النار, والتحلية بعدد أبواب الجنة! فينبغي أن يتصف بهذه الأمور الثمانية أيضاً بعد أن تخلى عن تلك الأمور، أولها: أن يستعيذ بالرحمن من الشيطان, وسوف يأتينا صيغ متعددة ينبغي أن يقولها الإنسان لربه عز وجل ليحصن بها نفسه من عدوه.

وثانيها: أن يكثر من قراءة القرآن.

وثالثها: أن يكثر من ذكر الرحمن على الدوام.

ورابعها: أن يُكثر من الصلاة والسلام على نبينا خير الأنام عليه الصلاة والسلام.

وخامسها: أن يحافظ على الطهارة فهي سلاح المؤمن.

وسادسها: أن يلازم جماعة المؤمنين وأن يكون مع الصادقين.

وسابعها: أن يكثر من الصوم.

وآخر الأمور وهو الثامن منها: أن يحرص على حلق العلم.

إخوتي الكرام! ما زلنا نتدارس الأمر الأول من هذين الأمرين، وهو: التخلية والاجتناب, وقلت له سبعة أنواع:

أول أمر: ينبغي أن نتخلى عن الخواطر الرديئة, وقلت: إن هذه النفوس وهذه القلوب التي بين جنبينا لا تفتر, فلا بد لها من هم وحركة، فإما أن تهم بخير وإما أن تهم بشر, فإذا حصنتها عن الشر ستجول بعد ذلك في الخير، وتقدم معنا أن النفوس جوالة؛ إما أن تجول حول العرش, وإما أن تجول حول الحش، والحش بفتح الحاء وبضمها -مكان قضاء الحاجة-، أي: إما أن تجول حول المزابل، وإما أن تجول في الملأ الأعلى, وقلت: إنها كالرحى التي لا تفتر ولا تقف، فإما أن تطحن براً وتخرج دقيقاً, لتعجنه وتأكله وتنتفع به, وإما أن تطحن شوكاً لا تحصل من ورائه فائدة.

وهذه الخواطر لا بد من ضبطها, وقلت: إن القلب هو ملك الأعضاء, وإذا فسد الملك فسدت الرعية؛ ولذلك لا بد من ضبطه، وقد أشار إلى هذا نبينا خير البرية عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الثابت في الصحيحين والسنن الأربع من رواية النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الحلال بيِّن والحرام بيِّن وبينهما أمور مشتبهات, لا يعلمها كثير من الناس, فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه, ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام, كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه, ألا وإن لكل ملك حمى, ألا وإن حمى الله في أرضه محارمه, ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله, وإذا فسدت فسد الجسد كله, ألا وهي القلب ).

فالقلب لا بد من ضبطه ومراقبته، وما يدور فيه من خواطر فانتبه لها غاية الانتباه, فهذه الخواطر ستتحول إلى هم ثم يتحول إلى أفعال، ثم تكون عادة لك يصعب الإقلاع عنها, فالخواطر حالها كحال النبتة الصغيرة, اقتلاعها يسير في صغرها، فإذا صارت شجرة بعد ذلك عسر قلعها؛ فانتبه لهذا.

وتقدم معنا إخوتي الكرام! ما روي عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( نية المؤمن خير من عمله ), وقلت: لا يخلو طريق من طرق هذا الحديث من ضعف, لكن تتقوى هذه الروايات ببعضها كما قال شيخ الإسلام الإمام السخاوي, ووجه هذه الخيرية -كما قررت- عدة أمور، منها:

قلت: إن النية عمل القلب، وهو عمل الرئيس والملك, وعمل الملك أشرف من عمل الجنود وعمل الأتباع, فعمل القلب له شأن, ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله, وإذا فسدت فسد الجسد كله, ألا وهي القلب ). ‏

فالقلب لا بد له من عمل، إما أن يعمل الخير وإما أن يعمل الشر, وعمل القلب هو الميل إلى الشيء, وإرادة الشيء, والهم به، ثم يحبه أو يتعلق به، هذا كله عمل قلبي, ثم يدفع الأعضاء بعد ذلك لتمثيل ما مال إليه القلب, فالقلب لا يخلو من عمل، كما أن بدنك لا يخلو من حركة.

أصدق الأسماء: حارث وهمام

ولذلك أصدق اسم ينطبق على الإنسان ويوافق مسماه وحقيقته: حارث وهمام، كما أشار إلى ذلك نبينا عليه الصلاة والسلام.

ففي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود والنسائي ، والحديث رواه الإمام البخاري في الأدب المفرد من رواية أبي وهب الجشمي رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( تسموا بأسماء الأنبياء, وأحب الأسماء إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن, وأصدقها: حارث وهمام, وأقبحها: حرب ومرة ).

أسماء الأنبياء: كإبراهيم, يوسف, موسى, عيسى... إلخ، وأفضل أسماء الأنبياء: قرة أعيننا ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام، كأن تسمي ولدك محمداً وأحمد.

وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره من دواوين السنة من رواية المغيرة بن شعبة رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: ( كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين قبلهم )، هذا في الحقيقة مطلوب، وقد سمى نبينا عليه الصلاة والسلام ولده بـإبراهيم على اسم خليل الرحمن إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.

وقوله: ( وأحب الأسماء إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن ) هذا ثابت في صحيح مسلم وغيره من رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما, فأحب الأسماء إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن، ويلحق بهذين الاسمين كل ما أشعر بعبوديته لله عز وجل؛ كعبد الرحيم وعبد الرزاق وعبد الغفار وهكذا عبد العليم, وعبد القدوس، هذه كلها أحب الأسماء إلى الله عز وجل؛ لأنها هي التي تبين الصلة بين المخلوق والخالق، وبين العبد والرب.

قال: ( وأصدقها: حارث وهمام )، الحارث: هو المكتسب الفاعل، والهمام: هو الذي يهم بقلبه، فلك عملان: عملٌ ظاهري، وعمل باطني، ولا تخلو من حركة؛ ولذلك بنو آدم يسمون ناساً -كما تقدم معنا في الاشتقاق- من (النوس) وهو الحركة.

لكن إما أن يتحرك في الخير وإما أن يتحرك في الشر, إما أن تجول نفسه حول العرش وإما أن تجول حول الحُش أو الحَش: ( كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها ).

هذا حال الإنسان, وهذان أصدق اسمين ينطبقان على الإنسان, لذلك الذي يميز الحي عن الميت هذان الأمران: العمل والنية.

ثم قال: ( وأقبحها ) نعوذ بالله منها: ( حربٌ ومرة ), وكلما أشعر بكراهية وشدة أو سوء فهو من الأسماء المنكرة, وهي أقبح الأسماء عند الله جل وعلا.

إخوتي الكرام! الشاهد من هذا الحديث: ( أصدقها: حارث وهمام ), فقلبك لا يفتر.

تخريج حديث أبي وهب الجشمي: (تسموا بأسماء الأنبياء...)

وهذا الحديث إخوتي الكرام رواه عقيل بن شبيب عن أبي وهب الجشني .

ولم يروه عن عقيل بن شبيب إلا محمد بن مهاجر فقط، والذي عليه الجمهور أنه مجهول؛ لأنه ما روى عنه إلا راوٍ واحد، وبذلك حكم عليه الحافظ في التقريب, فقال: مجهول, ثم رمز له (بخ)، من رجال البخاري في الأدب المفرد, و(د.س) لـأبي داود والنسائي, والحديث في أبي داود والنسائي كما قلت وفي الأدب المفرد، ورواه الإمام أحمد أيضاً في المسند.

لكن كما تقدم معنا مراراً تابعي لا يعلم فيه جرح ولم يروِ عنه إلا راوٍ واحد، فالحديث له شواهد كما تقدم معنا فيقبل، ولذلك سكت عنه أبو داود وما سكت عنه فهو حسن أو صالح كما تقدم معنا مراراً, على أن الإمام الذهبي يقول في ترجمة عقيل بن شبيب في الكاشف عقيل بن شبيب ولعله يشير إلى توثيق ابن حبان والعلم عند ذي الجلال والإكرام, والحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب نقل توثيق عقيل بن شبيب عن ابن حبان.

ولا أدري هل يقصد توثيق ابن حبان أو غيره؟

على كل حال؛ فالحديث كما قلت: له شواهد، ومعناه ثابت. وقلت مراراً إخوتي الكرام: ما لا يتعلق بالدماء والفروج والأموال وبالأحكام بين العباد، وشهدت له أصول الشريعة فعدم التحقيق والتدقيق في رِجال الإسناد كثيراً هو مسلك أئمتنا، وهنا حديث واضح وصحيح: ( تسموا بأسماء الأنبياء وأحب الأسماء إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن).

وبعض الأسماء المكروهة ظهرت في أحاديث كثيرة أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يغيرها. أما حارث وهمام فقد قلت: أنها تسمية تنطبق تمام الانطباق على الإنسان، والإمام ابن تيمية يقرر هذا في كثير من كتبه، وفي مجموع فتاوى في صفحات متعددة من أجزاء مختلفة يقرر معنى هذا الحديث، بل تساهل رحمة الله ورضوانه عليه ونسب الحديث إلى صحيح مسلم ، وأصله في صحيح مسلم: (أحب الأسماء عند الله: عبد الله وعبد الرحمن)، ولكن الزيادة بعد ذلك حارث وهمام ليست في صحيح مسلم.

على كل حال؛ هو يقرر -كما قلت لكم- ما يحصل في الإنسان من اكتساب، وأن الإنسان لا ينفك عن ذلك. ولذلك ينبغي أن تضبط الخواطر غاية الضبط, واعلم أن هذه الخواطر هي التي سيترتب عليها ما بعدها.

التعليق على كلام ابن القيم في حفظ الأوقات والخطرات

وللإمام ابن القيم عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا كلام في منتهى السداد والإحكام، ذكره في كتابه الفوائد في صفحة واحدة وثلاثين، ثم بسطه أكثر وأكثر في نفس الكتاب في صفحة اثنتين وسبعين فما بعدها فيما يقرب من خمس صفحات، يقول كلاماً محكماً أقرأ بدايته ثم نصل إلى محل الشاهد منه, وكتابه الفوائد ككتاب صيد الخاطر للإمام ابن الجوزي ليس له موضوع معين، إنما فوائد وسوالف وخواطر تعن لهذا الإمام فيقيدها عند المساء، هذا عمله في هذا الكتاب, وهكذا فعل في بدائع الفوائد، لكنها في أربعة أجزاء، والفوائد جزء لطيف فقط، وحقيقة كل ما فيه فوائد.

يقول في صفحة 31 عليه رحمة رب العالمين: (إضاعة الوقت أشد من الموت) وهذا لا شك فيه، لكن أكثر الناس يحزنون لحلول الموت ولا يحزنون لضياع الوقت, وضياع الوقت هو موتك الحقيقي. وكان أئمتنا يقولون: تضييع الوقت من المقت، هذه لا تغيبن عنكم، وقد كان شيخنا الشيخ محمد نجيب خياط عليه رحمة الله لا يفتر لسانه عن تردادها لنا، فتضييع الوقت من المقت، وإذا مقت الله عبداً جعله يضيع الأوقات بلا فائدة بحيث تذهب سدى. قال: (لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة, والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها). إذاً الموت يخلصنا من العناء والبلاء بلقاء رب الأرض والسماء سبحانه وتعالى.

ثم قال: (الدنيا من أولها إلى آخرها لا تساوي غم ساعة فكيف بغم العمر).

نسأل الله أن يحسن ختامنا، وأن يجعل خير أيامنا يوم لقاه.

ثم قال: (محبوب اليوم يعقبه المكروه غداً, ومكروه اليوم يعقبه المحبوب غداً) وهذا حق؛ لأن الجنة حفت بالمكاره, والنار حفت بالشهوات.

فمحبوب اليوم بعده غصة وترحة، ومكروه اليوم يعقبه فرحٌ وسرور.

ثم قال: (أعظم الربح في الدنيا أن تشغل نفسك كل وقت بما هو أولى بها وأنفع لها في معادها).

وقال: (كيف يكون عاقلاً من باع الجنّة بما فيها بشهوة ساعة؟!).

إخوتي الكرام! لو خُير الإنسان بين البعر والدُّر, فاختار البعر!

ماذا يقول الناس عنه؟ مجنون أم أحمق؟ فكيف تترك جنة لا نهاية للبقاء فيها، (وفيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)، بلذة منغصة زائلة؟! وكنت ذكرت مراراً كلام أئمتنا: لو كانت الآخرة خزفاً يبقى والدنيا دُراً يفنى لآثر العاقل الخزف على الدُر، فكيف والآخرة دُرٌ يبقى والدنيا خزفٌ يفنى!

لو كانت الآخرة من فخار -طين- لكنه باق, والدنيا من ذهب لكنه فانٍ لآثر الإنسان الباقية.

فكيف والأمر بالعكس! طين فانٍ وذهب باقٍ.

ثم قال: (يخرج العارف من الدنيا ولم يقضِ وطره من شيئين: بكاؤه على نفسه، وثناؤه على ربه).

المؤمن لا يشبع من هذين الأمرين: يبكي على نفسه, ويذم نفسه, وينتقص نفسه ويحتقرها لما يفرط ويقصر في حق ربه, ويرى أنه لا شيء يبقى على الدوام, ولا يفتر لسانه من ذكر ذي الجلال والإكرام والثناء عليه.

لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.

ثم قال: (المخلوق إذا خفته استوحشت منه وهربت منه, والرب تعالى إذا خفته أنست به وقربت إليه لو نفع العلم بلا عمل لما ذم الله أحبار أهل الكتاب, ولو نفع العمل بلا إخلاص لما ذم الله المنافقين).

علم بلا عمل طريق اليهود, وعمل بلا إخلاص عمل المنافقين.

جاء الآن لمحل الشاهد وهو الذي أريده، وهذه كلها كما قلت: دُرر في كتابه الفوائد, وكما ترون لا يربطها رباط، يعني: وما يجمعها على موضوع معين بل هي حكم ينثرها رحمة الله ورضوانه عليه.

ثم يقول عن مدافعة الخطرات: (دافع الخطرة)، وهي الخواطر التي نتكلم بدافعها, فإذا وقع في قلبك خاطر رديء ادفعه.

(دافع الخطرة فإن لم تفعل صارت فكرة، فدافع الفكرة فإن لم تفعل صارت شهوة), يعني: النفس بدأت تميل إليها بعد أن فكرت وتعلقت (فحاربها)، يعني: الآن لست مدافعاً بل تحتاج إلى محاربة شديدة، (فحاربها، فإن لم تفعل صارت عزيمة وهمة، فإن لم تدافعها صارت فعلاً، فإن لم تتداركه بضده صار عادة! فيصعب عليك الانتقال عنها).

انظر لهذا الترتيب والإحسان! وحقيقة ما أيسر الأمر من بداية الطريق وهي خطرة، وهذا الخاطر خطم النفس عنه سهل, فإن لم تفعل صار فكرة, فإن لم تفعل صار شهوة, فإن لم تفعل صار عزيمة وهمة, فإن لم تفعل خرج إلى حيز الوجود وصار فعلاً، فإن لم تقابله بضده وتخليت عنه صار عادةً وخُلقاً لك يصعب الانتقال عنه, ولذلك الشيطان يرضى منا بالخاطرة؛ لأنه يعلم أنها تسوقنا إلى المخاطر, وإذا سرنا في الخواطر أخذتنا إلى المخاطر من حيث لا ندري, ولذلك من البداية إياك أن يقع في قلبك خاطر رديء, وإذا وقع حصن نفسك, وإذا لم تحصن وسوس الشيطان، وصعب الأمر.

هذا كما قلت ذكره هنا باختصار، ثم أفاض الكلام فيه في ص172.

هناك ذكر قرابة خمس صفحات، حتماً لا أريد أن أقرأها كلها، إنما أريد البداية فهي حقيقة حلوة وجميلة، وعنوانه عليها والمبحث كله في الخطرة, ثم يترتب عليها قاعدة جليلة, وضعها لها ثم نثرها ص171 ضمن الكلام، ثم وضحها في آخر الكتاب.

مراتب الخطرات القلبية

وحقيقة إخوتي الكرام! ما سيذكره حق، وكل واحد يعلمه من نفسه، وأئمتنا يقولون: ما يدور في نفس البشر أوله هاجس: وهو ما يهجم عليك من غير اختيارك، ثم يزول من غير اختيارك.

يليه خاطر: وهو الذي هجم من غير اختيارك لكن استقر زمناً أطول من زمن الهاجس.

يليه حديث النفس؛ لأن ذاك الهاجس تحول إلى خاطر، فبدأت الآن تحدث نفسك فيه، وتبحث فيه، تفعل أو لا تفعل!

يليه الهم: إذا رجحت جانب الفعل على الترك أو الترك على الفعل فهذا هم.

يليه العزم: عزمت على فعله فلو لم يمنعك مانعٌ خارجي لفعلت ما عزمت عليه.

قال أئمتنا عن مراتب القصد، وهي ما تقصده وتنويه وتريده في قلبك:

مراتب القصد خمسٌ هاجسٌ ذكروافخاطر فحديث النفس فاستمعا

يليه همٌ فعزمٌ كلها رفعتسوى الأخير ففيه الأخذ قد وقع

أي: هذه كلها لا تكتب عليك في الآثام إلا الأخير وهو العزم، فهذا يكتب عليك كما لو فعلته؛ لأنه إن لم تفعله فبسبب مانع خارجٍ عنك, ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنه كان حريصاً على قتل صاحبه) كما في حديث أبي بكرة رضي الله عنه في الصحيحين وغيرهما: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار. قلت: يا رسول الله! هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل أخيه)، فهو عزم على قتل أخيه عزماً أكيداً، لكنه عجز؛ فعليه إثم القتل.

والله يقرر هذا في كتابه فيقول: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور:19]، فإذا أحب في قلبه مال بقلبه لهذا الخاطر الرديء، والميل هو عزم، فالأمر صار عزيمة، فيتمنى ويفرح أن يتكلم الناس على أعراض عباد الله المسلمين.

فإذا تمنى فقط بقلبه فله هذه العقوبة عند ربه: لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور:19].

إذاً إخوتي الكرام! الشعور بأمر من الأمور في جانب الخير أو الشرور يدور في صورة خاطر ثم حديث نفس وهم وعزم، انتبه لها كلها فهي مركبة على بعضها، الهاجس والخاطر لا يكتبان لا في الخير ولا في الشر، وحديث النفس والهم والعزم يكتب لك في الخير, والعزم فقط يكتب عليك في الشر، وعليه فأربع عفي لنا عنها: الهاجس، والخاطر، وحديث النفس، والهم، هذه كلها لو دارت في قلبك في جانب الشر فلا تؤاخذ بها بفضل الله ورحمته.

فمن همّ بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه, وإن تركها من خشية الله كتبت له حسنة, وإن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة, وإذا حدث نفسه أن يعمل حسنة يقول الله: اكتبوها له حسنة! وهذا من فضل الله تعالى.

كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور:19]. فانتبه لما سيذكره هذا الإمام المبارك في هذه القاعدة الجليلة التي شرحها كما قلت في خمس صفحات يقول: (مبدأ كل علم نظري وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار، فإنها توجب التصورات, والتصورات تدعو إلى الإرادات, والإرادات تقتضي وقوع الفعل, وكثرة تكراره تعطي العادة، فصلاح هذه المراتب بصلاح الخواطر والأفكار التي هي من البداية, وفسادها بفسادها).

ما يكون به صلاح الخواطر

فصلاح الخواطر بأن تكون مراقبةً لوليها وإلهها، صاعدة إليه، دائرة على مرضاته ومحابه؛ فإنه سبحانه به كل الصلاح, ومن عنده كل هدى, ومن توفيقه كل رشد, ومن توليه لعبده كل حفظ, ومن توليه وإعراضه عنه كل ضلال وشقاء.

مراقبة الله أول دواء لعلاج الخواطر الرديئة

فيظفر العبد بكل خير وهدىً ورشد بقدر إثبات عين فكرته في آلائه ونعمه، وتوحيده، وطرق معرفته وطرق عبوديته, وإنزاله إياه حاضراً معه, مشاهداً له, ناظراً إليه, رقيباً مطلعاً على خواطره وإراداته وهمه؛ فحينئذٍ يستحيي منه، فلذلك أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك أينما كنت.

ولما قال رجلٌ للإمام الجنيد -عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا-: بم أستعين على غض البصر؟ قال: بعلمك أن نظر الله إليك أسبق من نظرك إلى المنظور إليه, فتستحي من الله وتغض بصرك.

قال: (فحينئذٍ يستحي منه، ويجله أن يطلعه منه على عورة يكره أن يطلع عليها مخلوق مثله، أو يرى في نفسه خاطراً يمقته عليه).

يا عبد الله! إذا كنت تستحي من العباد أن يروك على شيء فاستحي من رب العباد، ولا تجعل الله أهون الناظرين إليك.

قال: (فمتى أنزل ربه هذه المنزلة منه رفعه وقربه منه وأكرمه واجتباه ووالاه، وبقدر ذلك يبعد عن الأوساخ والدناءات، والخواطر الرديئة والأفكار الدنيئة، كما أنه كلما بعد منه وأعرض عنه قرب من الأوساخ والدناءات والأقذار، ويُقطع عن جميع الكمالات، ويتصل بجميع النقائص، فالإنسان خير المخلوقات إذا تقرب من بارئه، والتزم أوامره ونواهيه) هذا هو خير المخلوقات، وهو خير البرية كما قال الله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ [البينة:7].

قال: (فالإنسان خير المخلوقات إذا تقرب من بارئه والتزم أوامره ونواهيه وعمل بمرضاته وآثره على هواه، وشر المخلوقات إذا تباعد منه ولم يتحرك قلبه بقربه وطاعته وابتغاء مرضاته، فمتى اختار التقرب إليه، وآثره على نفسه وهواه؛ فقد حكّم قلبه وعقله وإيمانه على نفسه وشيطانه، وحكّم رشده على غيّه، وهداه على هواه، ومتى اختار التباعد منه فقد حكّم نفسه وهواه وشيطانه على عقله وقلبه ورشده!

واعلم أن الخطرات والوساوس تؤدي متعلقاتها إلى الفكر، فيأخذها الفكر فيؤديها إلى التذكر، فيأخذها الذكر فيؤديها إلى الإرادة، فتأخذها الإرادة فتؤديها إلى الجوارح والعمل، فتستحكم فتصير عادة، فردُّها من مبادئها أسهل من قطعها بعد قوتها وتمامها).

لا شك في ذلك.

فردها من مبادئها أسهل من قطعها بعد قوتها وتمامها، أي: بعد أن صارت عادة، يعني: صارت شجرة بارزة في عنان السماء، فقلعها الآن يحتاج إلى مناشير قوية، ولا يمكن أن تقلعها بيدك مهما كان عندك من قوة؛ لأنها الآن صار لها جذور ضاربة في أعماق النفس.

قوة الإيمان ورجاحة العقل من الأدوية لدفع الخواطر واختيار أحسنها

قال: (ومعلوم أنه لم يُعطَ إنسان إماتة الخواطر ولا القوة على قطعها)، ولذلك قلت: الهاجس والخاطر يهجمان عليك بغير اختيارك، والله يقول: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا [الأعراف:201]، انتبه لتعبير القرآن (مسهم)! فكأنه شيء طرأ عليهم من غير اختيارهم وذاتهم وليس أصلياً فيهم، تعرض لهم فأصابهم وأخبر عنه بأنه (طائف) كأنه يدور كالخيال، يزول بعد ذلك بسرعة، تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201].

قال: (فإنها تهجم عليه هجوم النَفَس), أي: كما أنك تتنفس بغير اختيارك فهي كذلك، قال: (إلا أن قوة الإيمان والعقل تعينه على قبول أحسنها, ورضاه به ومساكنته له، وعلى دفع أقبحها، وكراهته له ونفرته منه).

يقول: لا يمكن أن تستأصل الخواطر، لكن عندك نفس مؤمنة، وعقل حصيف ستقبل الخواطر الحسنة، وتركن إليها فتحبها، وتميل إليها، وتلك تدفعها وتعرض عنها، هذا المطلوب منك، أما أن تبتعد عنها بالكلية فهذا لا يمكن، فإذا خطر خاطر رديء فلا تسترسل معه، استعذ بالله، وحصن نفسك، وتعلق به، وإياك أن تفكر في خاطر رديء فسيجر بعد ذلك إلى عزيمة، أو إلى فعل، أو إلى عادة.

رد الله كيد الشيطان إلى الوسوسة

يقول: (إلا أن قوة الإيمان والعقل تعينه على قبول أحسنه، ورضاه به ومساكنته له، وعلى دفع أقبحه وكراهيته له ونفرته منه).

كما قال الصحابة الكرام رضي الله عنهم: ( يا رسول الله! إن أحدنا يجد في نفسه ما لأن يحترق حتى يصير حممة -أي: فحمة سوداء محترقة- أحب إليه من أن يتكلم به! فقال: أو قد وجدتموه؟ قالوا: نعم. قال: ذاك طريق الإيمان ).

وفي لفظ: ( الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة ).

إخوتي الكرام سأشرح كلام الإمام ابن القيم ثم أبيّن الحديث من رواه، وهو صحيح في صحيح مسلم وغيره.

يقول في معنى هذا الحديث: وفيه قولان: أحدهما: أن رده وكراهته صريح الإيمان، وهذا الذي مال إليه شيخ الإسلام الإمام النووي قال: استعظام هذه الخواطر وكراهتها دليل على وجود الإيمان في قلب صاحبها، فلو لم يكن هناك إيمان عظيم في قلبك لما كرهت خواطر الشيطان الرجيم، (ذاك صريح الإيمان), أي: ذاك محض الإيمان، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة)، كراهيتكم لذلك دليل على إيمانكم. هذا المعنى الأول.

يقول: (والثاني: أن وجوده -أي: إيقاعه من الشيطان، يعني: وجوده ووجود خواطره- وإلقاء الشيطان له في النفس صريح الإيمان؛ فإنه إنما ألقاه في القلب طلباً لمعارضة الإيمان وإزالته به)، وهذا الذي ذهب إليه القاضي عياض ، قال: الوسوسة علامة على وجود الإيمان, والإيمان سبب لوسوسة الشيطان، ولو لم يكن في القلب إيمان لما كان الشيطان بحاجة إلى وسوسةٍ؛ لأن تلك القلوب يجول فيها ويصول على الدوام، وهي قلوب خربة كما تقدم معنا أحوال قلوب العباد؛ فالمساكن ثلاثة في هذه الحياة: بيت الأمير، وبيوت الناس، والخرب التي يتخلى الناس فيها، فالسارق إن أراد أن يسرق لا يسرق من الخربة، ما فيها إلا العذرة، ولا يستطيع أن يقترب من بيت الأمير لما فيه من حراسة وتحصن، إذاً ماذا بقي أمامه؟ بيتي وبيوتكم، إذا ما وجد حراسة قوية عليها جاء وسرق منها, وإذا وجد حراسة قوية هرب وابتعد, وإذا وجد غفلة جاء وسرق، وهكذا الشيطان لا يقترب كما تقدم معنا من قلوب النبيين والصديقين, وماذا يفعل في قلوب شياطين الإنس الذين زادوا بالفساد عليه! ولذلك لما قيل لسيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: اليهود لا يوسوسون في صلاتهم! قال: صدقوا! ماذا يفعل الشيطان في القلب الخرب؟!

قال: خرب! فلماذا يأتي الشيطان إليه فيضيّع وقتاً معه! لكن إن بقي فيه إيمان، وفيه شيء من العصيان، يأتي الشيطان من أجل أن يقوي العصيان فيه وأن يمحو نور الإيمان منه.

ولذلك المعنى الثاني: أن وجود الخواطر وإلقاء الشيطان لها في النفس صريح الإيمان؛ فإنه إنما ألقاها في النفس طلباً لمعارضة الإيمان وإزالته له، أي: بهذه الخواطر التي ألقاها، فلولا الإيمان لما وسوس الشيطان.

فهنا معنيان إذاً: كراهيتنا للوسوسة دليل على إيماننا، وهذا ما قاله شيخ الإسلام الإمام النووي رحمه الله.

والثاني: الإيمان فينا سبب للوسوسة، ولك أن تقول: الوسوسة علامة على وجود الإيمان فينا.

انظروا تقرير شيخ الإسلام الإمام النووي لهذا في شرح صحيح مسلم في (ج2/ ص154).

قال الإمام ابن القيم عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا: (وقد خلق الله سبحانه النفس شبيهة بالرحى -وهي: الطاحونة التي تطحن ولا تصنع- الدائرة التي لا تسكن ولا بد لها من شيء تطحنه، فإن وضع فيها حب طحنته -أخرجته دقيقاً- وإن وضع فيها تراب أو حصى طحنته فالأفكار والخواطر التي تجول في النفس هي بمنزلة الحب الذي يوضع في الرحى، ولا تبقى تلك الرحى معطلة قط -حارث وهمام- بل لابد لها من شيء يوضع فيها، فمن الناس من تطحن رحاه حباً يخرج دقيقاً ينفع به نفسه وغيره، وأكثرهم يُطحن رملاً وحصىً وتبناً ونحو ذلك، فإذا جاء وقت العجن والخلط تبين له حقيقة طحينه) ما ينتفع مما طحنته نفسه.

وهذا الكتاب فيه فوائد وقواعد عظيمة، فاقتنوه وسرحوا النظر فيه على الدوام، فإنك كلما تقرؤه ترى أنك تجد فيه فوائد جديدة، ولو قرأته مائة مرة.

إخوتي الكرام! أما الحديث فهو صحيح، رواه الإمام أحمد في المسند، ومسلم في صحيحه، وأبو داود في سننه، وأبو عوانة في مستخرجه، وابن أبي عاصم في كتاب السنة من رواية سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه قال: ( جاء ناس إلى النبي عليه الصلاة والسلام فسألوه فقالوا: يا رسول الله! إن أحدنا يجد في نفسه ما يتعاظم أن يتكلم به -لا نستطيع أن نتكلم حين تقع في نفوسنا خواطر رديئة- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أو قد وجدتموه؟ قالوا: نعم. قال: ذاك صريح الإيمان ).

والحديث رواه ابن أبي عاصم بهذا اللفظ أيضاً من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

ورواه الإمام مسلم في صحيحه، والطبراني في معجمه الكبير والأوسط، وأبو عوانة في مستخرجه، والبغوي في شرح السنة من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين، قال: ( سُئل النبي عليه الصلاة والسلام عن الوسوسة، فقال: تلك محض الإيمان )، محض: خالص.

وقلت: كراهيتنا للوسوسة محض الإيمان، فالوسوسة علامة على وجود الإيمان في قلوبنا، وهذه الرواية -أعني رواية عبد الله بن مسعود - ثابتة في المسند، والسنة لـابن أبي عاصم لكن عن أبي هريرة.

وتقدم معنا رواية أبي هريرة بلفظ آخر، لا بهذا اللفظ: سُئل عن الوسوسة فقال:( تلك محض الإيمان).

ورواها أبو يعلى عن أنس، ورواها الإمام أحمد وأبو يعلى عن أمنا عائشة رضي الله عنهم أجمعين.

انظروا مجمع الزوائد لبيان هذه الرواية ودرجتها في (1/34)، فالآن الصحابة الذين رووه هم أبو هريرة وأبو سعيد وابن مسعود وأنس وعائشة .

والحديث أيضاً رواه ابن أبي عاصم في السنة، والإمام أحمد في المسند، وأبو داود في السنن، والبغوي في شرح السنة عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهم، وفيه: ( أن أناساً جاءوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقالوا: يا رسول الله! أحدنا يجد في نفسه ما يتعاظم أن يتكلم به، ولأن يكون حممة خير له من أن يتكلم به، ولأن يخر من السماء أحب إليه من أن يتكلم به! فقال النبي عليه الصلاة والسلام: الله أكبر ثلاثاً, الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة ).

ورواه بهذا اللفظ وقريباً منه الإمام الطبراني في معجمه الكبير عن معاذ بن جبل رضي الله عنه.

وآخر الروايات عن أمنا أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها رواها الإمام الطبراني في معجمه الأوسط والصغير كما في المجمع في المكان المشار إليه: ( أن النبي عليه الصلاة والسلام سُئل عن الوسوسة، فقال عليه الصلاة والسلام: لا يلقى ذلك الكلام إلا مؤمن ) فرواة الحديث هذا من الصحابة ثمانية عليهم رضوان الله تعالى.

قال الإمام ابن القيم عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا: ما أعطي الإنسان قطع الخواطر وليس في وسعه ذلك، لكن عنده قوة إيمانية وعقل بعد ذلك صريح يميز بين الخواطر النافعة فيميل إليها، ويركن إليها ويحبها وينميها ليفعلها ولتكون عادةً له، وعنده قدرة بعد ذلك على مجاهدة نفسه فيفطم نفسه عن الخواطر الرديئة والرذائل، ويتخلى عنها، فيكون ممن جاهد نفسه في ذات الله عز وجل.

خطورة النظرات الخائنة ولزوم حفظ البصر منها

إذاً ما يتعلق بالأمر الأول: خواطر، وقدمتها لأنها أخطر مما بعدها، ويليها كما تقدم معنا: لحظات، هذه تلي خواطر القلب، وكما أن القلب ينبغي أن تضبطه فالأعين ينبغي أن تضبطها كذلك، والله جل وعلا يقول في كتابه: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30]، فقدم غض البصر على حفظ الفرج، مع أن الفساد بالفرج أشنع من الفساد بالعين، لِمَ؟

قال أئمتنا لأمرين معتبرين:

الأمر الأول: أن العين هي باب الشروع، وهي رائد الخبث والفجور، وإذا كان الأمر كذلك فينبغي أن نقدمه، لا يمكن للإنسان أن يزني بفرجه إلا إذا أطلق نظره، أما إذا حصنت العين فيستحيل أن يزني الفرج!

بل لا يكون الزنا إلا بعد أن يحصل نظر ونظر واشتهاء وإعمال الحيل حتى تقع في معصية الله عز وجل، فإذا حصنت البصر من البداية وغضضته فستحفظ الفرج قطعاً وجزماً، ولذلك: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30].

كل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر

كم نظرةٍ فعلت في قلب صاحبها فعل السهام بلا قوس ولا وترِ

نظر! لكن كأنه ضرب بسهم بغير قوس ولا وتر!

يسر مقلته ما ضر مهجته لا مرحباً بسرورٍ عاد بالضرر

والمرء ما دام ذا عين يقلبها في أعين الغيد موقوف على الخطر

فهذا البصر لابد من غضه، لذلك كان أئمتنا يقولون: البصر أوله أسف- هذا أوله لكن آخره نعوذ بالله منه -وآخره تلف!

رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر

رأى فتأثر، كلما رأى لا يمكن أن يستسلم له، وأن يقضي وطره منه، ولم يبال بعد ذلك بمعصية الله عز وجل، لكن كل ما تراه لا يمكن أن تصله!

لذا؛ يتأثر ويتحرق لأنه يرى ما لا يستطيع الوصول إليه، لكن في الخاتمة أسوأ وأسوأ وهي التلف!

والنظرة تزرع في القلب شهوة وكفى بها فتنة! ‏

حديث ابن عمر: (النظرة سهم مسوم من سهام إبليس...)

ولذلك حذرنا نبينا عليه الصلاة والسلام من النظرات الخائنة الخبيثة، فتأملوا لهذا التوجيه النبوي، على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.

روى الحاكم في المستدرك في (4/ 324)، والحديث في معجم الطبراني الكبير كما في مجمع الزوائد في (8/ 63)، ورواية الحاكم من رواية حذيفة، ورواية الطبراني من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين.

والحديث رواه الإمام القضاعي في مسند الشهاب في (1/ 195) من رواية صحابيين: أحدهما: حذيفة ، وقد تقدم في رواية الحاكم، والثاني: ليس حذيفة ولا ابن مسعود إنما هو ابن عمر رضي الله عنهم أجمعين، وعليه من رواية حذيفة وابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم أجمعين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، من تركها من مخافتي أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه ).

نسأل الله أن يرزقنا لذة الطاعة لنكره المعصية بفضله ورحمته؛ فلطاعة الله حلاوة تزيد لذتها على الحلاوة الحسية: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولا)، والحديث في المسند وفي صحيح مسلم وغير ذلك من دواوين السنة، وقوله صلى الله عليه وسلم: ( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)، والحديث في المسند والصحيحين من رواية سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه.

حلاوة الإيمان هذه إذا جعلها الله في قلبك فهنيئاً لك؛ ولذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب لا يكرهه أحد، وكان أئمتنا يقولون: إنما رجع من رجع لأنه لم يصل، ولو وصل لما رجع، هذا ما ذاق، هذا لا زال في الطريق، والطريق حقيقة -في بدايته- محفوف بالمكاره، فهو ما حصَّل إلا المكاره ورجع القهقرى بعد ذلك ينكص على عقبيه، ولكن لو ذاق حلاوة الإيمان لم يسخطه كما قال هرقل: وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد، وهذه من الأمور التي علم بها صدق نبينا عليه الصلاة والسلام عندما قال لـأبي سفيان -تقدم معنا الحديث وهو في صحيح البخاري، ضمن كتاب الوحي في مباحث النبوة-: هل يرتد أحد من أصحابه سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قال: لا!، فعقب هرقل على كلام أبي سفيان بقوله: وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد.

ولذلك عندما يسأل في هذه الأيام كثيرٌ من الإخوة الكرام فيقول: ما سبب انتكاس كثير من الشباب في هذه الأيام في أول التزامه؟ قلت: أمران:

الأمر الأول: لأنه التزم وما وصل.

الأمر الثاني: التزم مع أناس مخلطين مخبطين، فلما صار معهم رأى أنه في مضيعة، وإلا لو كان مع مهتدين لما رجع.

وهذا حقيقة لا بد من وعيها، فلو كان مع مهتدين لبقي معهم، لكن لما دخل ورأى مصالحه فهذا أحدث في نفسه ما أحدث فرجع بعد ذلك القهقرى!

والآن الاجتماع كله لمصالح حتى لو قلنا: لا إله إلا الله! ولعنا الشيطان! فلمصلحة، إلا قليل منا من يتنزه عن ذلك، فالأصل ما تجمعنا إلا المصالح الدنيوية، فإذا انقطعت فلا صلة بيننا وبين أحد من الخلق.

فنسأل الله أن يجعل أعمالنا صالحة، وأن يعلق قلوبنا به لنحبه ونحب فيه ومن أجله، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

والحديث إخوتي الكرام! في جميع أسانيده من رواية هؤلاء الصحابة الثلاثة الكرام: حذيفة ، وابن مسعود ، وابن عمر رضي الله عنهم أجمعين، وفي جميع أسانيده عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي قال فيه الذهبي: ضعفوه، كما في تعليقه على المستدرك، وقال الإمام الهيثمي في المجمع: عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي: ضعيف.

وقال المنذري في الترغيب والترهيب في (3/ 34): واهٍ.

وقال الحافظ ابن حجر في التقريب: عبد الرحمن بن إسحاق أبو شيبة الكوفي : ضعيف من رجال أبي داود والترمذي.

وتقدم معنا ترجمة لهذا العبد الصالح في غناء الحور العين، كما في الحديث الذي في المسند من رواية سيدنا علي رضي الله عنه: ( في الجنة سوق ما فيه إلا الصور ).

يقول بعد ذلك: (الحور العين يغنين: نحن الخيرات الحسان أزواج أقوام كرام)، تقدم معنا الحديث في المسند وغيره، ورواه الإمام الترمذي ضمن مباحث النبوة، وإن كان الإمام ابن الجوزي أودعه في الموضوعات، ولكن الحافظ ابن حجر في القول المسدد في الذب عن المسند دافع عنه، كما تقدم معنا في ص33 من القول المسدد، يقول الإمام ابن حجر: عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي حسّن له الترمذي مع قوله: تكلم فيه، وقال: صحح له الحاكم حديثاً من طريقه.

وقد روى ابن خزيمة عنه في صحيحه لكن قال: في القلب شيء من روايته، أي: من رواية عبد الرحمن بن إسحاق ، ورواية ابن خزيمة في (3/ 306).

انظر ماذا يقول: باب ذكر ما أعد الله جل وعلا في الجنة من الغرف لمداوم صيام التطوع إن صح الخبر، فإن في القلب من عبد الرحمن بن إسحاق أبي شيبة الكوفي. يعني: في القلب شيء ما.

ثم قال: ليس هو بعبد الرحمن بن إسحاق الملقب بـعباد، الذي روى عن سعيد المقبري ، والزهري وغيرهما، بل هذا صالح الحديث مدني سكن واسط ثم انتقل إلى البصرة، وهو صدوق رمي بالقدر، حديثه في الأدب المفرد وصحيح مسلم ، وعندنا هنا عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي فبينهما فرق.

وكما قلت فـالترمذي يمشّي حاله، والإمام ابن حجر يضعف، وعلى كل حال فلا يصل إلى درجة الترك ولا النكارة، غاية ما فيه أن فيه ضعفاً، والترمذي يحسن الحديث في طريق، ومعناه صحيح ثابت.

هذا هو الكلام على حديث: (النظرة سهم مسموم من سهام إبليس من تركها مخافتي أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه).

حديث أبي أمامة: (ما من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة ...)

وهناك رواية أخرى بمعنى هذه الرواية، رواها الإمام أحمد في المسند، والطبراني في معجمه الكبير. ورواها الإمام البيهقي عن أبي أمامة رضي الله عنه وأرضاه، كما في المجمع في (2/ 63)، وانظر الترغيب والترهيب في (3/ 34).

والحديث كما تقدم معنا عن ثلاثة من الصحابة، وهنا عن أبي أمامة، وليس في إسناد أبي أمامة عبد الرحمن بن إسحاق .

ولفظ حديث أبي أمامة عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: (ما من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة ثم يغض بصره إلا أحدث الله له عبادة يجد حلاوتها في قلبه).

وقوله: ينظر، انتبه! ليس ينظر مع عزم القلب والإرادة، بل المراد: يقع نظره.

والنظرة الأولى لك، وهي التي تقع من غير اختيارك، كأن يقع نظرك على ما حرم الله ثم تتركه.

فإذاً: (ما من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة ثم يغض بصره إلا أحدث الله له عبادة يجد حلاوتها في قلبه).

الحديث إخوتي الكرام! فيه علي بن يزيد ، قال عنه الإمام الهيثمي في المجمع في (2/ 119) ضعيف.

وبذلك حكم عليه الحافظ ابن حجر في التقريب فقال: ضعيف، وقد أخرج حديثه الترمذي وابن ماجه ، وتوفي سنة بضع عشرة ومائة.

هنا علي بن يزيد ، وهناك عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي.

فهذا الحديث يشهد لذاك؛ لأن هذا ضعيف وذاك ضعيف، إن علي بن يزيد الألهاني من رجال الترمذي وابن ماجه، عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي من رجال الترمذي وأبي داود، على أنه في الرواية الأولى كما تقدم معنا أن الإمام الترمذي يمشي حال عبد الرحمن بن إسحاق، والحافظ العراقي في تخريج الإحياء في (1/ 241) حكى تصحيح الحاكم ولم يعترض عليه، فقال: رواه الحاكم وصححه: (النظرة سهم مسموم ).

وهكذا الإمام العجلوني في كشف الخفاء ومزيل الالتباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس في (2/ 328) حكى تصحيح الحاكم ولم يعترض عليه.

والإمام ابن القيم عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في جوابه الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي (ص176) ومائة عزا الحديث إلى المسند، وعزاه من رواية سيدنا عبد الله بن عباس.

وأنا بعد بحث كثير لم أقف على هذه الرواية، فالله أعلم هل الإمام وهم أو أنا لم أقف على هذه الرواية؟!

وقد قلت: إنما ذكر أنه في المسند عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (النظرة سهم مسموم) جاء باللفظ المتقدم من رواية حذيفة فــعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين.

إخوتي الكرام! كما قلت: المعنى صحيح أن النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، إذا تركته خشية من الله العزيز أبدلك إيماناً وأحدث في قلبك طاعة تجد حلاوتهما في قلبك، فالنظرة لها شأن شنيع كما ثبت هذا عن نبينا عليه الصلاة والسلام.

حديث: (الإثم حواز القلوب ...)

روى الإمام البيهقي في شعب الإيمان، وقال الإمام المنذري في الترغيب والترهيب في (3/ 36): رواة الحديث لا أعلم فيهم مجروحاً، لكن قيل: صوابه موقوف، يعني قيل: هذا ليس بمرفوع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام، إنما هو موقوف على الصحابي الراوي وهو عبد الله بن مسعود كما سيأتينا، لكن رواة الإسناد لا أعلم فيهم مجروحا.

وقال الإمام العراقي في تخريج أحاديث الإحياء في (1/25): رواه البيهقي في شعب الإيمان، ورواه العدني في مسنده موقوفاً.

ولذلك قال الإمام المنذري في الترغيب والترهيب لا أعلم فيهم -يعني: في الرواة- مجروحا، لكن قيل: إنه موقوف، ولفظ الحديث موقوفاً أو مرفوعاً إلى نبينا عليه الصلاة والسلام: ( الإثم حواز القلوب، وما من نظرة إلا وللشيطان فيها مطمع ).

الإثم حواز أي: يحوزها ويستولي عليها ويغلب عليها، وإذا استفقت بعد ذلك طمس قلبك، قال تعالى: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14].

فإذا فعلت الآثام استولى الشيطان عليها، وما من نظرة إلا وللشيطان فيها مطلب.

هذا حوَّاز -كما قلت- بتثقيل الواو، أي: يحوزها ويستولي عليها، وقيل: بتخفيف الواو وتشديد الذال يصبح: حوازُّ، وهو: جمع حازة أي: تحز في القلوب وتؤثر فيه، وتحك فيها هذه الآثام وتخدشها وتذهب الصفاء عنها، فهناك تستولي وهنا تحز وتؤثر وتحك، ولذلك إذا أذنب العبد نكت في قلبه نكتة سوداء، هذه هي الحازة حواز حوّاز.

إذاً ضبط أيضاً بتخفيف الواو وتشديد الزاي، جمع حازة تحز في القلوب وتحك وتؤثر، قال الإمام المنذري: وهذا أشهر.

الإثم حواز على الضبط الأول لا ينبغي أن نشدد الزاي، والإثم حوّاز: من حاز يحوز حوازاً. والضبط الثاني: الإثم حوازّ: جمع حازة، يحز في النفوس ويؤثر فيها، والقلوب تتكدر عند فعل الإثم، وإذا طرأ على القلب يستنكره.

والأثر كما قلت لا يوجد في رجال إسناده من هو مجروح، لكن اختلف في رفعه وفي وقفه.

والشاهد: ( وما من نظرة إلا وللشيطان فيها مطمع ).

والآثار في ذلك إخوتي الكرام كثيرة، فلا بد من ضبط الخطرات، ولا بد من ضبط النظرات، وقد جمع الله بينهما فقال: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19].

ضبط اللفظات

ننتقل بعد ذلك إلى اللفظات وإلى الخطوات.

جمع الله بينهما أيضاً في كتابه فقال: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا [الفرقان:63]، هذه خطوات، وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا [الفرقان:63]، فهناك قدم النظر: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19]، وهنا قدم الخطوة وأخر ما هو أشنع منها وهو اللفظ، وأئمتنا يقولون: من ضبط هذه الأمور الأربعة فهو مؤمن: خطرات، لحظات، لفظات، خطوات.

وفي قوله: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا [الفرقان:63]، أنهم ضبطوا الخطوات واللفظات. وسيكون ضبط اللفظات أصعب من ضبط الخطوات بكثير! كما أن الزلل في اللفظات أشنع من الزلل في الخطوات، ولا يموت الإنسان ويكسر عنقه من زلة رجله. وزلة الرجل تبرأ على مهل، لكن زلة اللسان تذهب الرأس.

احفظ لسانك أيها الإنسان لا يلدغنك إنه ثعبان

كم في المقابر من قتيل لسانه كانت تهاب لقاءه الأقران!

كم من إنسان من زلة لسانه قطعت رقبته، أما زلة الرجل يعني لو تزحلق ووقع لا ينكسر عنقه غاية ما في الأمر أن تنكسر رجله، وبعد شهر أو شهرين تبرأ بإذن الله.

وسنبدأ بزلة اللسان باللفظات كما بدأنا هنا بالخطوات.

إخوتي الكرام! لا بد من ضبط اللسان، ونحن الآن في مقام التخلية لا في مقام التحلية، فهذا اللسان ينبغي أن يتنزه عن كل سوء وقبيح، وعن كل ما لا نفع فيه، ومن شغل لسانه بما لا نفع فيه كمن آثر البعر على الدر والخزف على الجوهر؛ فحماقته حماقة شديدة!

وهذا اللسان يظهر حقيقة الإنسان؛ لأن الإنسان مخبوء وراء لسانه، فإذا تكلمت ظهر قدرك، ولذلك كان أئمتنا يقولون: الأفواه حوانيت، فإذا تكلموا ظهر البيطار من العطار، إذا تكلمت فما بقلبك يظهر على لسانك، هل أنت بيطار أو عطار؟

المرء مخبوء تحت لسانه متى ما تكلم فإما أن يتكلم بالإسفاف والسفاهة، وإما أن يتكلم بذكر الله جل وعلا والفضيلة، ولذلك هذا الحانوت ينبغي أن نضع فيه ما هو حسن؛ من أجل أن يترجم اللسان بعد ذلك عمّا في ذلك الحانوت؛ لأن اللسان ترجمان القلب، ولا يمكن للإنسان أن يتكلم بفضيلة إلا إذا كان القلب محشواً منها.

حديث أبي هريرة: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت...)

إخوتي الكرام! ينبغي أن نتكلم بخير أو نسكت، فالإنسان على نفسه بصيرة، وقد وضع نبينا عليه الصلاة والسلام هذا المنهج لأمته ولأتباعه؛ فينبغي أن نسير عليه. ثبت في المسند والصحيحين وسنن أبي داود وابن ماجه، والحديث رواه شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد والرقائق (ص125، 126) وهو في كتاب الصمت لـابن أبي الدنيا في (ص47) من رواية سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه.

وانظروا روايته في جامع الأصول في (6/ 636).

والحديث ثبت في المسند والصحيحين وابن ماجه من رواية أبي هريرة وأبي شريح في الصحيحين.

ولفظ الحديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمُت)، ليصمُت بضم الميم وكسرها كما قال علماء اللغة، ذكر هذا الحافظ ابن حجر في الفتح في الجزء العاشر (10/ 446).

(ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره)، وفي رواية: (فليحسن إلى جاره)، وفي رواية: (فليكرم جاره).

إذاً عليه أن يكرم ضيفه، ويكرم جاره، والخطوة الأولى: فليقل خيراً أو ليصمت، فأنت بين أمرين: بين خير فتكلم أو شر فاسكت، هذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام.

وهذا الحديث حقيقة هو أصل أصيل في هذا المبحث، فانتبه لتقرير شيخ الإسلام الإمام النووي -عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا- هذا المعنى من هذا الحديث، ولتعليقه على هذا الحديث في كتابه الجلي الذي يقول أئمتنا فيه: بع الدار واشترِ الأذكار! كتاب الأذكار لشيخ الإسلام الإمام النووي (ص284) يقول: (اعلم أنه ينبغي لكل مكلف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلا كلاماً تظهر المصلحة فيه، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة -إن تكلمت توجد مصلحة، وإن سكت توجد مصلحة- فالسنة الإمساك عنه؛ لأنه قد ينجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، بل هذا كثير أو غالب في العادة) كلام استوى في المصلحة، السكوت عنه أو الكلام فيه، إن تكلمت ففيه مصلحة، وإن سكت ففيه أيضاً مصلحة، يقول السنة: أن تمسك عنه؛ لئلا يجرك هذا الكلام إلى شيء من الزيادة أو النقصان فيه حرام أو مكروه، كما هو الغالب في العادة، بل هذا هو الذي يقع بين الناس، ثم قال النووي: (والسلامة لا يعدلها شيء)، حقيقة السلامة لا يعدلها شيء!

وقائلةٍ ما لي أراك مجانباً أموراً وفيها للتجارة مربح.

فقلت لها كفي ملامك واعلمي فنحن أناس بالسلامة نفرح.

ثم قال عليه رحمة الله بعد أن روى هذا الحديث، بعد كلامه المتقدم: هذا الحديث المتفق على صحته نص صريح في أنه لا ينوي أن يتكلم الإنسان إلا إذا كان الكلام خيراً وهو الذي ظهرت مصلحته، ومتى شك في ظهور المصلحة فلا يتكلم.

قال الإمام الشافعي -عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا-: إذا أراد الإنسان الكلام فعليه أن يفكر قبل كلامه، فإن ظهر فيه المصلحة تكلم، وإن شك لم يتكلم حتى تظهر.

إذن: إن وجدت مصلحة متحققة ومصلحة زائدة على مصلحة السكوت فتتكلم وإلا فالسنة الإمساك.

وهذا الذي قاله الإمام الشافعي منقول عن سلفه الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، رواه شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد والرقائق (ص131)، ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه في (14/ 32)، ونسبه الإمام العراقي في تخريجه أحاديث الإحياء في (3/ 107) إلى الخرائطي في مكارم الأخلاق.

وفي كتاب الزهد والرقائق ومصنف ابن أبي شيبة والخرائطي في مكارم الأخلاق عن الحسن البصري رحمة الله ورضوانه عليه قال: كانوا يقولون: إن لسان المؤمن وراء قلبه، فإذا أراد أن يتكلم تفكر؛ لأن الكلام سيمر على القلب، فإذا تدبر القلب وتفكر وظهرت المصلحة أمر اللسان بأن تتكلم.

وكانوا يقولون: إن لسان المنافق أمام قلبه، فهذا بمجرد ما يحصل له شيء تكلم دون أن يستشير القلب! بدون أن يتفكر، وهذا ما أشار إليه الإمام الشافعي يقول: إذا أراد الكلام فعليه أن يفكر قبل كلامه فلسانه وراء قلبه، فإن ظهرت المصلحة تكلم وإن شك لم يتكلم حتى تظهر، وأما المنافق فلسانه أمام قلبه، فإذا خطر بباله شيء تكلم فيه دون تأمل أو تدبر أو تفكر، وأما المؤمنون فلا يتكلمون إلا بعد تدبر وتفكر ووعي.

إخوتي الكرام! هذا الأمر كما قلت حقيقة ينبغي أن نعيه غاية الوعي! الكلام الذي ظهرت مصلحته وزادت على مصلحة السكوت عنه هو الذي نتكلم فيه وما عداه فنسكت، فوالله لو طبقنا هذا المنهج في حياتنا لسعدنا وسعدت البشرية، كون الإنسان لا يتكلم إلا بمقدار الضرورة، ولو كنا نشتري الأوراق والأقلام للملائكة الأطهار الذين يكتبون أعمالنا وأقوالنا لذهب في المائة تسعين من كلامنا! ولتركنا الثرثرة وتكلف الكلام الذي نحاسب عليه أمام الله جل وعلا.

هذا الحديث إخوتي الكرام يقول عنه الحافظ ابن حجر في الفتح في (10/ 46): هذا من جوامع الكلم. لِمَ؟ قالوا: لأن القول كله إما خير وإما شر، ينقسم إلى هذين الأمرين: خير أو شر، وإما آيل أي: صائر إلى أحدهما، إلى الخير أو إلى الشر، ثم قال الإمام ابن حجر عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا: فدخل في هذا الحديث كل مطلوب من الأقوال، يعني: كل ما يمكن أن تقوله دخل في هذا الحديث فرضها وندبها، فأذن لنا نبينا عليه الصلاة والسلام أن نتكلم فيه على اختلاف أنواعه.

فالكلام المستحب خير وكذلك ما يؤول إليه، ثم الكلام الواجب كلام مستحدث، وما عدا ذلك شر أو يؤول إليه، فأمر نبينا عليه الصلاة والسلام عند إرادة الخوض فيه بالضبط: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً ) وهو: الكلام الذي ظهرت مصلحته وأمرت به؛ من كلام حق: إما واجب وإما مستحب، ما عداه فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: ابتعد عنه، إذا كان شراً أو يؤدي إلى شر أو لا فائدة فيه فاسكت عنه ( فليقل خيراً أو ليصمُت أو ليصمِت ) كما تقدم في ضبط الحديث.

حديث أبي هريرة: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)

والأحاديث إخوتي الكرام في ذلك كثيرة! أذكر حديثاً واحداً، وأدع بقية الأحاديث والكلام على تقرير هذا المبحث في موعظة آتية إن شاء الله.

وقد أخذ علينا نبينا عليه الصلاة والسلام العهد إذا كنا مؤمنين، وإيماننا حسن كريم أن لا نتكلم ولا نتدخل فيما لا يعنينا، ومن تكلم فيما لا يعنيه فإسلامه ليس بإسلام حسن! يشير نبينا عليه الصلاة والسلام إلى هذا المعنى في الحديث الذي رواه الإمام الترمذي وابن ماجه في السنن، ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت (ص73).

وانظروا الحديث في جامع الأصول في (11/ 726)، من رواية سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ).

وسيأتي معنا في شرح الحديث أنه ليس المراد بما لا يعنيه في حكم الهوى، بل المراد: ما لا يعنيك بحكم الشرع، أي: الذي في التحدث به أو فعله خير فتحدث به وافعله، فما لا يعنيك أي: في الشرع مما ليس بواجب ولا مستحب فاتركه، وليس معنى: ما لا يعنيه أي مما لا يريده، ولا مصلحة له فيه! لا علاقة لنا بهذا على الإطلاق كما سيأتينا تقرير هذا من كلام الحافظ ابن رجب.

وهذا الحديث إخوتي الكرام حديث صحيح، مروي عن عدة من الصحابة الكرام، رواه الإمام الترمذي، ومالك في الموطأ، وابن أبي الدنيا في كتاب الصمت من رواية علي بن الحسين، وهو الإمام الطيب المبارك من أشرف البيوت وأطهرها، من بيت النبوة على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وزين العابدين رواه مرفوعاً إلى نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام.

إذاً الحديث عن رواية علي بن الحسين وهو الذي يلقب بـزين العابدين، وهو في هذه الكتب الثلاثة.

ورواه الإمام أحمد في المسند والطبراني في معاجمه الثلاثة، من رواية سيدنا زين العابدين عن والده سيد الشهداء في جنات النعيم وهو الحسين بن علي، سيد شباب أهل الجنة مع أخيه الحسن على نبينا وآل بيته وأصحابه جميع صلوات الله وسلامه.

قال الإمام الهيثمي في المجمع في (8/ 18): وإسناده ثقات.

وروي الحديث في معجم الطبراني الصغير من رواية زيد بن ثابت رضي الله عنهم أجمعين.

وفي إسناد الحديث محمد بن كثير بن مروان، قال عنه الحافظ الهيثمي في المجمع في المكان المتقدم: فيه ضعف.

وعليه هو الذي .. لأربعة منه، فالصحابة الكرام.

ثلاث من الصحابة وهو مرسل عن تابعي من رواية أبي هريرة والحسين وزيد بن ثابت. وروي من رواية علي بن الحسين مرسلاً إلى نبينا عليه الصلاة والسلام.

والحديث الصحيح: ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )، وللحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم -عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا- كلام محكم في تقرير معنى هذا الحديث في صفحة (ص106)، أتكلم عليه وأذكره إن شاء الله في الموعظة الآتية بعون الله.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً.

اللهم لا تجعل فينا ولا منا ولا بيننا شقياً ولا محروماً.

اللهم اجعل هذا الشهر الكريم أوله لنا رحمة، وأوسطه لنا مغفرة، وآخره عتقاً لنا من النار.

اللهم صلِ على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر لمن وقف هذا المكان المبارك، اللهم اغفر لمن عبد الله فيه، اللهم اغفر لجيرانه من المسلمين، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [43] للشيخ : عبد الرحيم الطحان

https://audio.islamweb.net