إسلام ويب

من القواعد التي ذكرها الفقهاء: أن الأصل في اللحوم والأبضاع التحريم وبناء على هذه القاعدة فالتناكح بين الإنس والجن محرم إلا بدليل يبيح ذلك، وقد استدل المبيحون لذلك بأدلة لا تخلو من الاعتراض. وتلبس الجني بالإنسي حقيقة دل عليها الشرع والواقع، وتأويل الآية الدالة على ذلك بالمجاز لا الحقيقة غير صحيح.

حكم تملك الأخوات بملك اليمين والتمتع بهن

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

في البداية وردت مسألة متعلقة بملك اليمين، وهل يجوز للرجل الواحد أن يملك عشر أخوات بملك اليمين، وأن يتمتع بهن؟

فنقول: يجوز أن يملك عشر أخوات بملك اليمين، لكن إن اقترب من واحدة منهن فلا يجوز أن يطأ البقية، يعني: هو مخير في وطء من شاء، لكن يحرم أن يجمع بالوطء بين أختين عن طريق ملك اليمين أو عن طريق عقد النكاح، فيجوز له أن يملك أماً ومعها بنتها وكلاهما أمتان رقيقتان، لكن لو قدر أنه وطئ الأم فلا يجوز بعد ذلك أن يتصل بالبنت، يعني: ما ينبغي أن يكون حكمه في النكاح كذلك عن طريق ملك اليمين، وإلا الآن يقال: وَأُحِلَّ لَكُمْ [النساء:24] ولا يقال: إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ [المؤمنون:6]. بمعنى: أن هذه عن طريق ملك اليمين، فيجوز أن يجمع بين الأخوات، وأن يطأ الأم مع ابنتها, وهذا لا يجوز.

حبوب منع الحمل وأثرها في تشوه الأجنة

إخوتي الكرام! بعض الإخوة عرض هذه الورقة، كتب فيها: أن فتاة ولدت في بلاد مصر بعين واحدة في وسط وجهها، بدون أنف أو حاجبين، ثم يقول: ماتت هي بعد ذلك، والأطباء يحملون هذه الولادة الشاذة على أمرين اثنين، أما الأمر الأول -وهذا مردود عليهم، وهذا من ترهاتهم وأوهامهم وتخريفهم- يقولون: لعله بسبب زواج الأقارب؛ لأن الأم متزوجة من ابن عمها، وهذه وسوسة شيطانية، لكن الوسوسة الشيطانية قد تكون من قبل شياطين الإنس أو من قبل شياطين الجن.

والأمر الثاني وفيما يظهر أنه هو السبب والعلم عند الله: وهو تناول أدوية ضارة بالأجنة أثناء الحمل؛ لأن الأم مصابة بالسكري. فنقول للأطباء الذين يمنعون الحياة في هذه الأوقات باسم معالجة الناس: من الذي اخترع حبوب منع الحمل أوليس أنتم؟ ولا تخلو من ضرر إما على المرأة، أو عليها وعلى طفلها إن حصل حمل في المستقبل، أو عليها وعلى جنينها وعلى زوجها، وفي الغالب الأضرار الثلاثة تجتمع، فسرطان الرحم أكثر أسبابه تناول حبوب منع الحمل، فأنتم الآن تنتجون ثم تقولون بعد ذلك: لعله أو لعله.

والسبب الثاني وهم منكم ولا حقيقة له، وهو كونه بسبب زواج الأقارب، أي مضرة ومنقصة في زواج الأقارب؟ إذا تزوج الإنسان قريبته كان ماذا؟ لا حرج ولا شيء في ذلك، فإذا حصل مثلاً بعض الصفات الوراثية في الجنين كأن زادت فيه صفة يتناقلونها، فليس معنى هذا أن الخلق سيخرج بهذا التشنيع: عين واحدة بالوسط ولا أنف ولا أذنان ولا ولا، هذا كله كما قلت لا علاقة له بزواج الأقارب على الإطلاق، إنما هذا بسبب تناول أدوية ضارة, وما أكثرها وأكثر من يتناولها هذه الأيام.

قاعدة: الأصل في الأبضاع التحريم

إخوتي الكرام! ختام الكلام على هذه المسألة: أنه لا يجوز التزاوج والتناكح بين الإنس والجن.

آخر الأدلة كما تقدم معنا: أن الأصل في الأبضاع التحريم، وكذلك في اللحوم؛ لأن الأصل في اللحوم أنها ميتة، حتى تأتي ببرهان على حل التذكية، ونحن قد حرمت علينا الميتة, وهنا كما حرم علينا أن نستعمل فروجنا في أي شيء إلا فيما قام الدليل على حله أمرنا بحفظ فروجنا، ونهينا عن استعمالها إلا فيما أبيح لنا، ونهينا عن أكل الميتة إلا في حال الضرورة. وعليه فإن كل لحم مذبوح إذا لم تتحقق من تذكيته فهو ميتة وحرام.

وقد أشار إلى هذه القاعدة أئمتنا الكرام فيما استنبطوه من حديث نبينا عليه الصلاة والسلام، هذه القاعدة يشير إليها الإمام ابن دقيق العيد في كتابه إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام في الجزء الرابع صفحة تسع وتسعين ومائة، وينقل هذه القاعدة عنه الحافظ ابن حجر عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في الفتح في الجزء التاسع صفحة اثنتين وستمائة.

قاعدة: الأصل في اللحوم التحريم

وكنت أسمع شيخنا المبارك الشيخ محمد المختار الشنقيطي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا يذكر هذه القاعدة بكثرة، ويقول: أكثر طلبة العلم يغفلون عنها، وهي: أن الأصل في اللحوم الحظر والمنع والتحريم حتى يثبت الحل كما هو الحال في الفروج تماماً، وتختلف هذه القاعدة عن قاعدة: الأصل في الأشياء الإباحة من تفاح وبرتقال وسكر ورز وما شابهه, هذه الأصل فيها الحل إلا أن تأتي وتقول: نوع كذا حرم عليكم؛ لأنه مسكر .. لأنه مخدر .. لأنه ضار, فتأتي بعلة شرعية أو بنص على نوع واحد من هذه الأشياء.

أما هنا فالأصل أنك ممنوع من أن تأكل لحماً؛ لأنه ميتة، إلا إذا قام الدليل على تذكيته وذبحه وحل التذكية، يقول: الأصل التحريم في الميتة, واللحم كما قلت من جنس الميتة, وله حكمها، يقول: فإذا شككنا في السبب المبيح رجعنا إلى الأصل، فإنه ما يجوز أن تأكل لحماً؛ لأنه ميتة. وهذا أئمتنا أوردوه عند الحديث الصحيح الثابت في المسند والكتب الستة ورواه أبو داود الطيالسي وابن الجارود في المنتقى والإمام البيهقي في السنن الكبرى, وهو من أصح الأحاديث وأعلاها درجة، ولفظ الحديث عن عدي بن حاتم رضي الله عنه وأرضاه عندما سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن الاصطياد بالكلاب، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: ( إذا أرسلت كلبك المعلم وسميت الله فكل ). ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( إلا أن يأكل الكلب فلا تأكل؛ فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه )، يعني: إذا أرسلت كلبك واصطاد صيداً من أرنب أو غزال وأكل منه فلا تأكل؛ فإني أخاف أن يكون إنما أمسك ليأكل هو ما أمسك، لا ليصطاد لك. ( فإن خالطها ) تكملة الحديث ( كلب من غيرها فلا تأكل ). أنت ما تعلم الآن أي الكلاب صادت؟ فأرسلت كلابك واختلط معها كلب آخر ووجدت بعد ذلك الصيد فلا تأكل؛ أي فإنك لا تدري أي الكلاب اصطادته, وأنت أرسلت كلبك وسميت عليه، إذا أرسلت كلبك وسميت الله عند إرساله ثم أكل الكلب من هذا الصيد الذي أمسكه لا يجوز أن تأكل منه؛ لأن الأصل فيه التحريم, لعله أمسك لنفسه وما اصطاد لك، وإذا أمسك لنفسه صار إذاً ميتة فلا يجوز أن تأكله، وقد أبيح لنا عندما نرسله بنص، فنقف عند هذا الأمر، وما عدا هذا الأصل فيه التحريم، فالأصل في الميتة التحريم، فإذا شككنا في السبب المبيح رجعنا إلى الأصل.

ولذلك إخوتي الكرام! ما يأتي من لحوم من غير البلاد الإسلامية في هذه الأوقات وحصل عندنا نبأ أنها لا تذكى ذكاة شرعية هذا يوجب علينا أن نمتنع عن كل لحم حتى يثبت عندنا حله, وأنه تمت تذكيته، أما البلاد الإسلامية فالأصل فيها الحل؛ لأنهم يذكون، لكن لو قدر أنه جاءك أيضاً خبر عن بلد من البلاد أنهم لا يذكون التذكية الشرعية فنقول: كل ما يأتي من لحم من تلك الجهات لا يؤكل إلا أن يأتي بعد ذلك معه برهان ويقين تطمئن إليه أنه مذكى أو تم تحت إشراف شرعي؛ لأنه إذا شككت ترجع إلى الأصل، وهو التحريم، إلا أن يثبت حل تذكيته.

فانتبه لهذا! فالأصل في اللحوم التحريم، والأصل في الفروج التحريم, إلا أن يثبت دليل الإباحة والحل، والعلم عند الله.

رأي الإمام السيوطي في التناكح بين الإنس والجن

الإمام السيوطي في الأشباه والنظائر بعد أن بحث في مسألة التزاوج بين الإنس والجن قال: فإن قلت: ما عندك من ذلك؟ يعني: أنت إلى أي شيء تذهب؟ أي: للإمام السيوطي ؟ قلت: الذي أعتقده التحريم لوجوه، يعني: يحرم التزاوج بين الإنس والجن لوجوه، وذكر بعض الأوجه التي ذكرتها, وقد أوصلتها إلى سبعة أوجه جمعاً من كلام أئمتنا رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين.

العلماء الذين ذهبوا إلى حل التناكح بين الإنس والجن

بقي إخوتي الكرام! تعليق يسير حول هذا عند قول من أباح, أرده ثم ننتقل إلى الأمر الثالث, ألا وهو تلبس الجن بالإنس. ذهب بعض العلماء في هذه الأمة إلى حل التناكح بين الإنس والجن، منهم: الإمام الأعمش ، وهو من التابعين الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، فقد تقدم معنا أنه حضر نكاح جني من إنسية، وإنسي من جنية، ولولا ذهابه إلى القول بالحل لما استجاز أن يحضر نكاحاً حرمه الله جل وعلا، وقلنا: إن الإسناد صحيح ثابت إلى الأعمش كما تقدم معنا ضمن هذا المبحث.

ومن جملة من كان يذهب أيضاً إلى إباحة التناكح بين الإنس والجن: أحد القضاة وهو قاضي هراة زيد العمي, ويقال له: زيد بن الحواري أبو الحواري العمي البصري, وقيل له: العمي نسبة إلى العم، قيل: لأنه كان إذا سئل عن شيء يقول: حتى أسأل عمي؟ فقيل له: زيد العمي , وقيل: إنه من بني العم هكذا, فالعمي نسبة إلى بني العم من تميم، إما أنه يقول: حتى أسأل عمي، أو نسبة إلى قبيلة من تميم يقال لهم: بنو العم. والعلم عند ربنا العظيم.

هذا القاضي قاضي هراة رجال السنن الأربع أخرجوا حديثه, لكنه ضعيف من حيث الرواية, كان يرى حل التناكح بين الإنس والجن، وكان يسأل الله أن يسهل له جنية ليتزوجها، فقيل له: ما تفعل بها؟ قال: تسافر أينما سافرت، إذا سافر تسافر معه لا تحتاج إلى كلفة، والإنسية تحتاج إلى كلفة ومؤنة وتعب، يقول: تسافر معي عندما أسافر، هذه الجنية تصحبني ولا تكلفني شيئاً، فكان يرى القول بالجواز.

أدلة الأقفهسي على جواز التناكح بين الإنس والجن

ومن جملة من كان يرى القول بالجواز: الإمام الأقفهسي, وهو شهاب الدين أحمد بن عماد بن محمد توفي سنة ثمان وثمانمائة للهجرة، أخذ عن الإمام الأسنوي . وسمع منه الإمام ابن حجر كما في شذرات الذهب في الجزء السابع صفحة ثلاث وسبعين، وهو مترجم في الضوء اللامع للإمام السخاوي وغيره، انظروه في الجزء الثاني صفحة سبع وأربعين، وفي البدر الطالع للشوكاني في الجزء الأول صفحة ثلاث وتسعين إلى غير ذلك. له كتاب سماه: توقيت الأحكام على غوالب الأحكام، ذهب الأقفهسي إلى أن التناكح بين الإنس والجن جائز، فقال: الذي يظهر لي جوازه، ثم علل هذا بأمرين ذكرهما:

الأول: قال: إن الله سماهم ناساً ورجالاً، فقال: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن:6]. والنبي عليه الصلاة والسلام اعتبرهم إخواناً لنا، فقال في الحديث الذي معنا وهو حديث الزاد: ( فإنه زاد إخوانكم من الجن ).

وورد تسميتهم ناساً, وذلك ثابت في صحيح البخاري من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، والحديث رواه الإمام الحاكم في المستدرك وهو في صحيح البخاري كما سمعتم، ورواه الإمام الطبري في تفسيره ورواه غير هؤلاء، انظروا الدر المنثور في الجزء الرابع صفحة تسع وثمانين ومائة، ولفظ حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه قال: ( كان ناس من الإنس يعبدون ناساً من الجن، فأسلم الجن وبقي الإنس على عبادتهم، فأنزل الله هذه الآية يعير الإنس بها, فقال جل وعلا: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء:57] ). والآية من سورة الإسراء.

ففي هذا الأثر تسمية الجن ناساً. وقد استشكل الإمام ابن التين كما في فتح الباري في الجزء الثاني صفحة سبع وتسعين وثلاثمائة أثر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه في تسمية الجن ناساً من حديث أن الناس ضد الجن. قال الحافظ ابن حجر : وأجيب بأن الناس هنا مأخوذون من ناس ينوس إذا تحرك، فصفة الحركة موجودة في الجن كما هي موجودة في الإنس، وقيل: إنهم سموا بذلك للتقابل مع الإنس، فهؤلاء ناس من الإنس، وهؤلاء ناس من الجن. ثم قال الإمام ابن حجر عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا: ويا ليت شعري على من يعترض الإمام ابن التين ؟ يعترض على صحابي عربي هو أدرى بلغة العرب من المعترض؟ والعلم عند الله جل وعلا.

بناء على هذا فالأحكام التي تنطبق علينا تنطبق عليهم, ونحن نستوي معهم في ذلك, فيحل لنا أن ننكح منهم وأن ينكحوا منا، كما يجوز هذا في الإنس مع الإنس وفي الجن مع الجن يجوز بين الصنفين.

كما قلت هذا استدلال لا يدل على المطلوب؛ لأنه لا بد من البحث في الأدلة الخاصة، فلو أن إنساناً جاء واستدل بقول الله: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:3] على جواز الزواج بالوثنية؛ لأن الآية عامة في النساء؛ فنقول له: الاستدلال بالعموم على هذه القضية لا يصلح؛ لأنه لا بد من الإتيان بدليل خاص؛ لأننا نهينا بعد ذلك بأدلة خاصة. وتقدم معنا آيات حصرت النكاح فيما هو من جنسنا كما في آية النحل وآية الروم, ثم عندنا نهي عن النبي عليه الصلاة والسلام، والحديث ملزم، واعتضد بفتيا التابعين، ثم عندنا أدلة أخرى ذكرناها. فالقول بأنهم يسمون رجالاً وهم إخوان لنا فيجوز أن ننكح منهم، هذا لا دلالة فيه على هذا المطلوب أبداً، فلابد من أن تأتي بدليل خاص في المسألة، وأما أن تأتي بعمومات فلا ثم لا، فالمرأة الكافرة أيضاً من بني آدم، وهي أيضاً من النساء ولا يجوز أن ننكحها؛ لقيام الدليل الخاص على المنع منها، وهنا كذلك، فهذه الأدلة العامة لا تقابل الأدلة الخاصة التي هي كما قلت نص في محل النزاع.

وتقدم أن كل واحد منها قوي، يعني: الأصل في الفروج والأبضاع التحريم, لو لم يكن إلا هذا لكفى دليلاً على المنع.

ثم تقدم معنا قياس الأولى، فلا يستدل بهذا العموم على هذا الخصوص, والعلم عند الله جل وعلا.

الاستدلال بقصة سليمان مع بلقيس على جواز التناكح بين الإنس والجن

دليل ثان يستدل به من ذهب إلى جواز التناكح بين الإنس والجن، وقد بنوه على أمر أولاً يحتاج إلى ثبوته، ثم لو ثبت لا دلالة فيه كما سأوضح، قالوا: نبي الله سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام عندما تزوج بلقيس وأحد أبويها كان جنياً، فهذا يدل على أنه يجوز التناكح بين الإنس والجن. ووجه الاستدلال بذلك قالوا: شرع من قبلنا شرع لنا، فهذا نبي كريم مبارك على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه, ولو كان لا يجوز لما تزوج هذه المرأة التي أحد أبويها جنيٌ؛ لأنه يحرم نكاح من في أحد أبويه من لا يحل نكاحه كإنسي مع جنية, إذا كان الجني لا يحل لك أن تتزوجه لو كان امرأة فما يأتي من أولاد هذه الجنية لا يجوز أن يتزوجه بعد ذلك الإنس وإن كان الزوج من الإنس. فإذاً هنا نبي الله سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام تزوج بلقيس ملكة سبأ, وأحد أبويها من الجن.

الأمر الأول: بالنسبة لزواجها من نبي الله سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام هذا لا دليل عليه، والذي ورد أن أحد أبويها كان من الجن، وقلت: هو الراجح, والأدلة في ذلك تعتضد وتتقوى, وقلت: هذا هو المعتمد والعلم عند الله، تقدم معنا هذا. لكن زواج نبي الله سليمان منها على نبينا وعليه الصلاة والسلام لا يوجد دليل على ذلك لا في القرآن ولا في السنة، وأخبار أهل الكتاب مختلفة، بعضهم يقول: تزوجها، وبعضهم يقول: عرض عليها الزواج ليس منه بل من غيره, فقالت: ملكة تتزوج؟! قال: لابد في الإسلام من الزواج, فزوجها من أحد الأمراء. وقيل: لم تتزوج أبداً. والعلم عند الله جل وعلا. يعني: حتى أخبار أهل الكتاب المنقولة عنهم قيل: تزوجها نبي الله سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وقيل: زوجها لأمير.

إذاً: كونه تزوج هو منها أو لا هذا محل بحث وليس بمسلم, وعلى التسليم بأن نبي الله سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام تزوج منها فلا يجوز أن يستدل بالقاعدة: أن شرع من قبلنا شرع لنا؛ لأن هذه لها عدة أحوال, فانتبه لها!

أولها: شرع من قبلنا يعتبر شرعاً لنا إلا في أمور الاتفاق، فإذا قام الدليل على نسخ ذلك وفي شرعنا خلاف هذا وهنا دل شرعنا المنزل على نبينا عليه الصلاة والسلام على المنع من التناكح بين الإنس الجن فلو كان هذا جائزاً في الأمم السابقة فنحن منعنا منه، والعلم عند الله جل وعلا.

ثانيها: شرع من قبلنا إذا لم يقم دليل على ثبوته في موضوع ولا حكي في كتاب ربنا ولا سنة نبينا عليه الصلاة والسلام لا يستدل به؛ لعدم الوثوق بثبوته، وعليه ما حكي في أخبار أهل الكتاب أنه كان عندهم كذا وكذا إذا لم يحفظ في شريعتنا ولم يثبت عندنا لا يجوز أن نقول: هذا شرع من قبلنا.

ثالثها: متفق عليه، شرع من قبلنا شرع لنا فيما أقر في شرعنا وألزمنا به.

هذه ثلاثة أمور متفق عليها: فما نسخ من شرع من قبلنا وإن أخبرنا به وأن شريعتنا تخالفه فلا يقال: شرع من قبلنا شرع لنا في هذه المسألة.

الأمر الثاني: ما لم يثبت عندنا أنه شرع من قبلنا؛ لأنه ما ورد في شرعنا الخبر عنه لا يجوز أن نقول: إنه شرع من قبلنا، الله عليم هل هذا كان أو لا، وأخبار أهل الكتاب لا يوثق بها.

الأمر الثالث: ما ثبت عندنا من شرع من قبلنا وأمرنا به في شريعتنا، هذا يحتج به بالاتفاق.

حكم العمل بشرع من قبلنا إذا لم يوجد في شريعتنا ما يخالفه أو ينسخه

بقيت صورة رابعة: شرع من قبلنا الذي حكي في كتابنا وذكر ولم ينسخ ولم نؤمر به فهل يستدل به ويعتبر شرعاً لنا أم لا؟ الجمهور من أئمتنا على أنه شرع لنا، إذا حكي في شريعتنا ولم يعارض ولم ينسخ ولم يبين أن في شريعتنا ما يخالفه فالأصل أن يستدل به، والله جل وعلا عندما قصه علينا قصه علينا إذاً من أجل أن نعمل به، فالشرائع في الأصل متفقة, إلا ما قام عليه دليل النسخ. وهذا الذي ذهب إليه جمهور العلماء الكرام: أبو حنيفة ومالك والشافعي وهو قول للإمام أحمد عليهم جميعاً رحمة الله، وتنظر المسألة في تفسير القرطبي في الجزء الأول صفحة اثنتين وستين وأربعمائة. وأئمتنا فصلوا الكلام عليه, والظاهر عند الشافعية أيضاً خلاف في هذا، ففي حاشية العطار في الجزء الثاني صفحة أربع وتسعين وثلاثمائة ينقل عن الشافعية خلاف ما تقدم, وهو أن شرع من قبلنا في غير الصور المتفق عليها الثلاث أي: ما حكي دون أن يتبع بأن شرعنا يوافقه أو يعارضه هل يستدل به في هذه الصورة؟ هذه ينقلون أيضاً عن الإمام الشافعي أنه لا يستدل به.

والذي يظهر والعلم عند الله أن شرع من قبلنا في الأصل شرع لنا إلا إذا قام في شرعنا ما يعارضه وما ينسخه. وقد ثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح البخاري والحديث في السنن الأربع إلا سنن ابن ماجه، ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه والبيهقي في السنن الكبرى، وهو في تفسير ابن مردويه ، والحديث صحيح صحيح، وهو في تفسيره, فهو في صحيح البخاري عن مجاهد عليه رحمة الله قال: قلت لـابن عباس عليهم جميعاً رحمة الله ورضوانه: أأسجد في ص؟ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ [ص:24]. فقرأ عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عليه آيات في سورة الأنعام, في آخرها قول الله جل وعلا: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90]. من جملة الأنبياء الذين ذكروا على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه: داود . ونص الآيات الكريمات كما قال رب الأرض والسماوات في سورة الأنعام: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ [الأنعام:83-90].

فإذاً: نبي الله داود عندما ذكر والله يقول في آخر الآيات: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90]. قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما لـمجاهد: هو -أي: داود- ممن أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم أن يقتدي به. فكما سجد نبي الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام نسجد نحن.

وكان عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يقول: سجدة ص ليست من عزائم السجود، لكنني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها. من أجل أنه أمر أن يقتدي بنبي الله داود على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، ونحن أمرنا أن نقتدي بنبينا عليه الصلاة والسلام. فعليه يستنبط من هذا أن شرع من قبلنا -والعلم عند الله- شرع لنا, إلا إذا ورد في شرعنا ما يعارضه.

وخلاصة القول في هذه المسألة: أن ما حكي لنا من شرع من قبلنا ونسخ في شريعتنا لا يحتج به اتفاقاً.

الحالة الثانية: ما لم يرد في شرعنا ذكره على أنه شرع من قبلنا ونقل عن أهل الكتاب لا يوثق به مطلقاً ولا يعول عليه اتفاقاً.

الحالة الثالثة: ما حكي لنا من شرع من قبلنا في شريعتنا وأقر في شريعتنا وأمرنا به، يحتج به اتفاقاً.

الحالة الرابعة: ما ورد من شرع من قبلنا في شريعتنا ولم يرد في شرعنا إلزامنا به ولا نسخه، فهذا مما اختلف فيه أئمتنا هل يعتبر شرع من قبلنا شرعاً لنا أو لا؟ فذهب الجمهور كما تقدم معنا أن شرع من قبلنا شرع لنا والعلم عند الله جل وعلا.

إذاً: الدليل الثاني لا يصلح أن يستدل به، وهو زواج نبي الله سليمان من هذه التي أحد أبويها من الجن؛ لأنه ورد في شرعنا ما يعارض ذلك وما يمنعنا من ذلك.

الدليل الثالث عندهم وهو بمثابة رد على بعض الأدلة التي استدل بها الجمهور، قالوا: النهي عن نكاح الجن الوارد في حديث الزهري المرسل الذي تقدم معنا يمكن حمله على الزنا، نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح الجن, أي: قال: عن الزنا، لم؟ قال: لأن المراد من الزنا أنه يفعل سراً وخفية من الاجتنان، ليس نهياً عن التناكح بين الإنس والجان، وإنما عن الزنا الذي يفعل سراً ويزين به الجن, وليس المراد به التناكح بين الإنس والجن. وهذا التأويل متكلف مردود، وما عولنا نحن في التحريم على هذا الدليل فقط حتى إذا أولوه بهذا التأويل يقال: إذاً يجوز التناكح بين الإنس والجن. بل تقدم معنا أدلة سبعة تدل على المنع، وهو الذي يظهر والعلم عند الله جل وعلا.

وأما قول الإمام مالك عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا فقد تقدم معنا أنه يرى أن الأصل جواز التناكح بين الإنس والجن، لكنه يرى المنع من ذلك؛ خشية وقوع الفساد في بلاد الإسلام، وتقدم معنا هذا القول وتوجيهه, وقول الجمهور أقوى وأحوط، والعلم عند الله عز وجل.

تلبس الجن بالإنس

ننتقل بعد ذلك إلى المسألة الثالثة: ألا وهي تلبس الجن بالإنس وصرع الجن للإنس.

أسباب تغير عقل الإنسان

يراد من الصرع: تغير في عقل الإنسان، هذا التغير الذي يكون في عقله ينتج عنه اختلال في أفعاله واضطراب في كلامه، وسبب هذا التغير الذي يكون في عقل الإنسان أمران:

الأول: سبب عضوي بدني يكون فيه آفة من الآفات, وهذا الذي يقرره الأطباء.

والثاني: سبب جني، فيتغير عقله بحيث يصبح مجنوناً مخبولاً يتخبط ويصرع.

يعني: إما أنه يوجد فيه آفة بدنية عضوية، أو أنه تسلط عليه جن من الجن، فالأمران ثابتان كما قرر أئمتنا الكرام، وسيأتينا إيضاح هذا وتفصيله عند أقسام الصرع إن شاء الله، والأدلة على كل نوع، وتوجيه الكلام، بعون ذي الجلال والإكرام.

وقد قرر هذين النوعين من الصرع -الصرع العضوي والصرع الجني-أئمتنا قاطبة، انظروا مثلاً كتاب زاد المعاد في هدي خير العباد على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه للإمام ابن القيم في الجزء الرابع صفحة ست وستين إلى واحد وسبعين في الصرع وفي قسميه: العضوي والجني، وانظروا أيضاً فتح الباري للحافظ ابن حجر في الجزء العاشر صفحة مائة وأربع عشرة، وانظروا مجموع الفتاوى في الجزء التاسع عشر صفحة اثنتي عشرة، وعمدة القاري للإمام العيني في الجزء الحادي والعشرين صفحة أربع .... ومائتين, وانظروا آكام المرجان للإمام الشبلي صفحة سبع ومائة، ولقط المرجان لـلسيوطي صفحة ثمان وثمانين، وانظروا مقالات الإسلاميين للإمام أبي الحسن الأشعري في الجزء الأول صفحة أربع وعشرين وثلاثمائة.

وفي مبحثنا إن شاء الله ومدارستنا لهذا الأمر ألا وهو تلبس الجن بالإنس وصرع الجن للإنس سأقرر وقوع صرع الجن للإنس بآية من القرآن تدل على ذلك، ثم سأنتقل بعد ذلك إلى تقسيم الكلام على أقسامه، وعلى الأحاديث الصحيحة الصريحة الثابتة في حصول صرع الجن للإنس، وفي مداواة ومعالجة نبينا عليه الصلاة والسلام لمن صرع من قبل الجن في حياته عليه وعلى آله وصحبه صلوات الله وسلامه.

إثبات تلبس الجن بالإنس من القرآن

أما الآية التي تقرر الصرع وأن الجني قد يتخبط الإنسي فيخبل عقله ويتخبط في هذه الحياة، فتختل تصرفاته وأفعاله ويهذي بما لا يدري ولا يعني، فهذا هو الجنون وهذا هو الصرع الذي يصاب به الإنس من قبل الجن، قرر الله هذا في سورة البقرة, فقال جل وعلا: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:275]. الشاهد صدر الآية: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة:275]. وقول الله جل وعلا: يَأْكُلُونَ [البقرة:275]. المراد من الأكل هنا: الأخذ بأي صورة كانت، يتعاملون بالربا يأخذونه، وإنما عبر عنه بالأكل لأمرين معتبرين:

الأمر الأول: لأن معظم المقصود من الأخذ الأكل، وهو أخذ الربا ليأكله.

والثاني: ليسجل عليهم بهذه الصفة الذميمة التي هي الشره في الأكل وعدم الشبع، همه أن يأكل وأن يجمع من أي طريق كان أمن حرام أو من حلال.

وعليه فما أخذه ولم يأكله ووضعه في جيبه أو كنزه له هذه العقوبات، بل هذه العقوبة كما سيأتينا تكون لكل من تعامل بالربا سواء أخذ أو أعطى أو كسب أو شهد أو أو. فكل من أعان على قيام المعاملة الربوية فله هذا الوعيد: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة:275]. وقد صرح نبينا عليه الصلاة والسلام بذلك, وأخبرنا أن كل من شارك في هذه المعاملة الدنسة الخبيثة فله هذه العقوبة عند الله جل وعلا.

أدلة من السنة على تحريم التعامل بالربا

ثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم، والحديث في السنن الكبرى للإمام البيهقي، ورواه ابن الجارود في المنتقى من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه, وقال: هم سواء ). اللعنة واحدة والعقوبة واحدة لهؤلاء: من آكل ومؤكل وكاتب وشاهدين, وقال: (هم سواء). والحديث كما سمعتم في صحيح مسلم وغيره, فهو حديث صحيح صحيح.

والحديث ثبت أيضاً من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه في صحيح مسلم ومسند الإمام أحمد والسنن الأربع إلا سنن النسائي ، والحديث رواه الإمام الطيالسي في مسنده، والبيهقي في السنن الكبرى من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بمثل اللفظ المتقدم، لكن في رواية مسلم الاقتصار على الجزء الأول من الحديث: ( لعن الله آكل الربا وموكله )، دون التكملة (وكاتبه وشاهديه), وقال: ( هم سواء ). فقال مغيرة لـإبراهيم النخعي : وكاتبه وشاهديه؟ يعني: هذا مروي في حديث جابر بن عبد الله وغيره من الصحابة الكرام, أنت الآن لم لم ترفع الزيادة أيضاً وتخبرنا بها عندما حدثتنا؟ قال: إنما نحدث بما سمعنا. وهذه زيادة عن عبد الله بن مسعود عن نبينا عليه الصلاة والسلام. وكما قلت الزيادة ثابتة في السنن عن عبد الله بن مسعود أيضاً، لكن كون إبراهيم النخعي لم يسمعها وهو الراوي للحديث في صحيح مسلم لا يعني أنها ليست بثابتة, والعلم عند الله جل وعلا.

وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة، منها في مسند الإمام أحمد وسنن النسائي عن علي رضي الله عنه وأرضاه باللفظ المتقدم من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين: ( لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه ).

وروي في ذلك أحاديث مرسلة كثيرة, منها عن سعيد بن المسيب ومراسيله أصح المراسيل كما في مصنف عبد الرزاق في الجزء الثامن صفحة خمس عشرة وثلاثمائة.

ومنها أيضاً مرسل للإمام الشعبي باللفظ المتقدم كما تقدم معنا.

وانظروا آثاراً كثيرة في عقوبة آكل الربا في مجمع الزوائد في الجزء الرابع صفحة سبع عشرة ومائة.

الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة:275]. إذاً: المراد من الأكل المعاملة الربوية بأي صورة كانت، إن أكل أو إن أعطى أو إن كتب أو إن شهد له هذه العقوبة عند الله جل وعلا.

حديث: (الربا ثلاثة وسبعون باباً) والجمع بين رواياته

والربا أمره شنيع فظيع, وقد انتشر في هذه الأيام واستسهله كثير من الناس، وقد ثبت في مستدرك الحاكم والحديث في الجزء الثاني صفحة سبع وثلاثين وقال: إسناده صحيح على شرط الشيخين، وأقره عليه الذهبي من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الربا ثلاثة وسبعون باباً، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه )، يعني: هو ثلاثة وسبعون إثماً .. ثلاث وسبعون معصية، أيسر هذه المعاصي كما لو فجر الإنسان بأمه. نسأل الله العافية. فكم بعد ذلك ستكون إذاً عقوبة المرابي عند الله. ولذلك له هذه الصورة المهينة المزرية التي يتميز بها المرابي حتى عن عباد الوثن يوم القيامة، لا يقومون من قبورهم وفي عرصات الموقف وساحات الحساب أمام الخلائق إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، يحشر المرابي وبطنه كالبيت والحيات ترى من خارج بطنه, وهو يتخبط بين أرجل الناس حتى يقضي الله بين عباده في عرصات الموقف؛ هذا ليتميز المرابي عن كل أحد, الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة:275].

وحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن نبينا عليه الصلاة والسلام ثابت عن عدة من الصحابة الكرام، وهو حديث صحيح صحيح، رواه الإمام ابن ماجه من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بلفظ: ( الربا ثلاثة وسبعون باباً )، دون آخر الحديث، ( أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه ).

ورواه البزار عن عبد الله بن مسعود أيضاً بسند رجاله رجال الصحيح: ( الربا سبعون باباً ). وهذه كلها روايات عن عبد الله بن مسعود .

وثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه في سنن ابن ماجه والسنن الكبرى للإمام البيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الربا سبعون حوباً -أي: إثماً ومعصية- أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه ).

والحديث روي عن البراء بن عازب وهي رواية ثالثة في معجم الطبراني الأوسط، ولفظ حديث البراء رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الربا اثنان وسبعون باباً، أدناها مثل أن ينكح الرجل أمه ).

إذاً: من رواية عبد الله بن مسعود وأبي هريرة والبراء بن عازب رضي الله عنهم أجمعين اثنان وسبعون .. ثلاثة وسبعون .. سبعون، كما تقدم معنا في نظائر ذلك لا معارضة بين هذه الأعداد؛ لدخول القليل في الكثير، وهو مفهوم عدد, ولا تتعارض هذه الأعداد فيما بينها والعلم عند الله. سبعون .. اثنان وسبعون .. ثلاث وسبعون.

وقد ورد أيضاً هذا الحديث برواية أخرى عن عدة من الصحابة الكرام تبين لنا شناعة الربا عند ذي الجلال والإكرام، من ذلك: ما في مسند الإمام أحمد ومعجم الطبراني الكبير ومعجم الطبراني الأوسط، والحديث رواه الإمام الدارقطني وإسناده صحيح، وانظروه في الترغيب والترهيب في الجزء الثالث صفحة سبع وفي مجمع الزوائد في الجزء الرابع صفحة سبع عشرة ومائة من رواية عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، وحنظلة بن أبي عامر الصحابي المبارك رضي الله عنه وأرضاه الذي استشهد في أحد وهو جنب، وقد رفع سيفه ليقتل أبا سفيان وكان إذ ذاك مشركاً, فجاء بعض المشركين وطعنه فمات على جنابة، ولما سمع النداء إلى الجهاد خرج من فراشه الذي كان فيه مع زوجته، فنبينا عليه الصلاة والسلام رأى الملائكة تغسله، فسأل زوجته فقالت: خرج قبل أن يغتسل. على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه. وأثره موجود في مغازي ابن إسحاق .

ومن مناقب هذا العبد الصالح وهو حنظلة بن أبي عامر ما رواه ابن شاهين بسند حسن كما قال الحافظ ابن حجر في الإصابة في الجزء الأول صفحة واحدة وستين وثلاثمائة: أنه جاء هو وعبد الله بن عبد الله بن أبي وكان حنظلة بن أبي عامر من الصحابة ووالده من كبار الأشقياء المنافقين الماكرين، وقد هرب إلى بلاد الشام وبقي عند هرقل , وتوفي في العام التاسع للهجرة وهو على كفره وضلاله، وأما ذاك بقي في المدينة المنورة وهو رئيس المنافقين عبد الله بن أبي, وولده عبد الله أيضاً من الصالحين والصحابة الكرام. جاء هذان الصحابيان ولد رئيس المنافقين وولد هذا الخبيث الذي ذهب إلى بلاد الروم كل منهما يطلب من النبي عليه الصلاة والسلام أن يأذن له بقتل والده.

خطر المعاملة بالربا وآثاره السيئة

والحديث من رواية ولده عبد الله بن حنظلة، والحديث كما قلت إسناده صحيح عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست وثلاثين زنية ). والحديث رواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير من رواية عبد الله بن سلام وكان من أحبار اليهود، وأسلم رضي الله عنه وأرضاه، وروايته: ( درهم ربا يأكله الرجل أشد من ثلاث وثلاثين زنية في الإسلام ). هناك ست وثلاثون، وهنا ثلاث وثلاثون، وإسناد الحديث منقطع بين عطاء الخرساني وعبد الله بن سلام , فقط فيه آفة الانقطاع, ويشهد له حديث عبد الله بن حنظلة .

والحديث روي أيضاً عن عبد الله بن عباس في معجم الطبراني الأوسط والصغير بمثل رواية عبد الله بن سلام : ( درهم ربا يأكله الرجل أشد من ثلاث وثلاثين زنية في الإسلام ). هذا شأن الربا. ولذلك ثبت عن كعب الأحبار في مسند الإمام أحمد ومصنف عبد الرزاق والسنن الكبرى للإمام البيهقي وإسناد الأثر إليه جيد أنه قال: ( لأن أزني ثلاثاً وثلاثين زنية أحب إلي من أن آكل درهم ربا يعلم الله فيما أكلته أنه درهم ربا ). درهم ربا يعلم الله أنني عندما آكله هو درهم ربا, هذا شنيع إلي وخبيث عندي، ولو حصل عند هذا العبد الصالح ثلاث وثلاثون زنية لكان أيسر عليه من أن يأكل درهم ربا يعلم الله أنه درهم ربا عندما أكله.

هذا هو شأن الربا إخوتي الكرام! ولذلك إذا انتشر في الأمة فقد هددت بعقاب من الله جل وعلا، ثبت في مسند الإمام أحمد ومسند أبي يعلى وتفسير الطبري ، وإسناد الحديث جيد من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، وانظروا الحديث في الترغيب والترهيب في الجزء الثالث صفحة ثمانية، وصفحة ثمان وسبعين ومائتين أيضاً, أورده في مكانين، وانظروه في مجمع الزوائد في الجزء الرابع صفحة ثمان عشرة ومائة، وإسناده جيد، وبذلك حكم عليه الإمامان: الهيثمي والمنذري ، وروايته من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا ظهر الربا والزنا في قوم فقد أحلوا بأنفسهم عقاب الله، وقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله ).

والحديث روي أيضاً من رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في مستدرك الحاكم في الجزء الثاني صفحة سبع وثلاثين بسند صحيح أقره عليه الذهبي ، ورواه الطبراني في معجمه الكبير والبيهقي في شعب الإيمان، و(عليه) أي: الحديث من رواية عبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين: ( إذا ظهر الربا والزنا في قوم في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله ). الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة:275]. قول الله جل وعلا: لا يقومون المراد من القيام: قيامهم من قبورهم، وقيامهم في عرصات الموقف وساحة الحساب أمام ربهم.

تفسير قوله تعالى: (لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس)

وقوله تعالى: لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة:275].

لا يقومون ولا يقفون في ساحة الحساب وعرصات الموقف إلا بهذه الصورة المنكرة المزرية.

وهذا ما قرره أئمتنا المفسرون قاطبة، قال الإمام ابن جرير في تفسيره في الجزء السادس صفحة ثمانية من الطبعة التي حققها الشيخ أحمد شاكر عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا قال: لا يقومون في الآخرة من قبورهم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، يعني: بذلك يتخبله الشيطان في الدنيا، وهو الذي يخنقه الشيطان فيصرعه من المس ومن الجنون، وبمثل ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل، ثم نقل هذا عن السلف الكرام رضوان الله عليهم أجمعين. وهكذا قال الإمام ابن قتيبة في غريب القرآن صفحة ثمان وتسعين، ونقله عنه الإمام ابن الجوزي في زاد المسير في الجزء الأول صفحة ثلاثين وثلاثمائة. لا يقومون قال ابن قتيبة : من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس, أي: من الجنون.

قال الإمام ابن الجوزي : فالناس إذا خرجوا من قبورهم أسرعوا، كما أخبر الله جل وعلا عنهم يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [المعارج:43]. يسرعون إلى أهداف يتسابقون إليها إلا أكلة الربا فيقومون بهذه الصورة المزرية، يقول: إذا خرجوا من قبورهم سراعاً, إلا أكلة الربا فإنهم يقومون ويسقطون؛ لأن الله أربى الربا في بطونهم يوم القيامة، جعل هذا الربا يكبر ويربو ويعظم في بطونهم يوم القيامة حتى أثقلهم, فلا يقدرون على الإسراع.

وهذا هو الذي نقل عن سلفنا الكرام من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ثبت في تفسير الطبري وابن المنذر ، والأثر رواه ابن أبي حاتم في تفسيره، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: يبعث آكل الربا يوم القيامة مجنوناً يخنق، أي: من الجنون والصرع، وفي رواية في تفسير الطبري ومسند عبد بن حميد وتفسير ابن المنذر : وذلك حين يبعث من قبره.

إذاً: يبعث آكل الربا يوم القيامة مجنوناً يخنق حين يخرج من قبره. وهذا الأثر كما قلت عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.

وورد نظيره عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين, رواه عنه أبو عبيد، ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره، والطبري في تفسيره عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أنه كان يقرأ قول الله جل وعلا: (الذين يأكلون الربا لا يقومون يوم القيامة إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس). وهذه القراءة من باب الإدراج فيها وهو للتفسير, لا أنها قراءة يقرأ بها في كلام الله جل وعلا. لا يقومون يوم القيامة إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس؛ ليبين لنا أن هذا القيام هو في يوم القيامة.

وإنما أريد أن أورد هذه الآثار لأن كثيراً من المفسرين المعاصرين من أهل الشطط أولوا هذا القيام بسوء تصرفات الإنسان في هذه الحياة، فقالوا: لأنه يشتغل بحسابات البورصة والحساب والكذا بحيث إذا نظرت إليه تراه مشدوهاً بالمال, هذا هو الجنون الذي عبر عنه لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة:275]. ثم سأقرأ عليكم كلام رشيد رضا وغيره ممن يتلاعبون بكلام الله عز وجل تحت ستار التأويل.

وهذا كلام المفسرين لنكون على علم بذلك، وهو قول المفسرين قاطبة.

وقد روى ابن أبي الدنيا والبغوي عن عبد الله بن سلام والأثر في الترغيب والترهيب للإمام المنذري في الجزء الثالث صفحة ستين، أنه قال -يعني: عبد الله بن سلام وهو من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين-: الربا اثنان وسبعون حوباً - أي: إثماً ومعصية وذنباً- أصغرها كمن أتى أمه في الإسلام، ودرهم الربا أشد من بضع وثلاثين زنية. وكل هذا الكلام الموقوف عليه تقدم معنا نظيره في الحديث المرفوع إلى نبينا صلى الله عليه وسلم.

بقية الكلام لـعبد الله بن سلام قال: ويأذن الله بالقيام والإسراع إلى ساحة الحساب يوم القيامة للبر والفاجر, إلا آكل الربا فإنه لا يقوم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس.

هذا أثر ثالث عن صحابي ثالث, وهو عبد الله بن سلام وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين، ونقل هذا عن جم غفير من التابعين، منهم الربيع بن أنس كما في تفسير الطبري ، والربيع بن أنس توفي سنة تسع وثلاثين ومائة, وقيل: أربعين ومائة، وحديثه مخرج في السنن الأربع, وهو صدوق من أئمة الخير، وقد روى عن أنس بن مالك , فهو تابعي رضي الله عنهم أجمعين، قال: يبعثون -يعني: أكلة الربا- يوم القيامة وبهم خبل من الشيطان. وهي في بعض القراءات، وفي قراءة: (لا يقومون يوم القيامة إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس), وهي قراءة عبد الله بن مسعود التي تقدمت معنا. وقلت: هذه من باب الإدراج للتوضيح والتفسير، وإذا قلت: إنه يقرأ بها فهي قراءة شاذة, ليست من القراءات المتواترة, وهي في بعض القراءة. وهذا من تفسير الربيع بن أنس رضي الله عنهم أجمعين.

ونقل الطبري في تفسيره هذا عن مجاهد وعن سعيد بن جبير وعن قتادة بن دعامة وعن الضحاك بن مزاحم وعن السدي وعن ابن زيد أنهم قالوا: من مات وهو يأكل الربا بعث يوم القيامة متخبطاً كالذي يتخبطه الشيطان من المس في هذه الحياة. وفي رواية قالوا: هذا مثلهم يوم القيامة: لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة:275]. لا يقومون يوم القيامة مع الناس إلا كما يقوم الذي يخنق من الناس وكأنه مجنون.

والإمام القرطبي في تفسيره في الجزء الثالث صفحة أربع وخمسين وثلاثمائة وقبله الإمام ابن عطية في تفسيره في المحرر الوجيز في الجزء الثاني صفحة ثمانين وأربعمائة يقولان: أي القرطبي وابن عطية: قالوا كلهم -أي: المفسرون المتقدمون بلا خلاف-: يبعث آكل الربا كالمجنون عقوبة له وتمقيتاً، أي: ومقتاً له من قبل الله عز وجل له وتمقيتاً عند جمع أهل المحشر حينما يبعث بهذه الصورة, وأن يظهر أثر غضب الله وسخطه عليه، يتميز آكل الربا بهذه الصورة المزرية عندما يبعث من قبره. وهذا قول المفسرين قاطبة كما ينقله هذان الإمامان.

وقال الإمام ابن كثير في الجزء الأول صفحة ست وعشرين وثلاثمائة: لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له، وذلك أنه يقوم قياماً منكراً من صرعة الجني وتلبسه, يصرع ويهذي ويقول شيئاً ولا يدري وأحياناً يغمى عليه، وهؤلاء حالتهم في عرصات الموقف كذلك, لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة:275].

بيان معنى قيام آكل الربا يوم القيامة كالممسوس والمقصود من انتفاخ بطنه

إخوتي الكرام! عندنا في هذا المعنى الذي نقل عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين تنبيهات, فانتبهوا لها!

أولها: يجمع الله للمرابين الأمرين اللذين أشير إليهما في كلام سلفنا:

أولهما: ضخامة البطن، كل واحد بطنه تزيد على البيت، وهذا ثابت عن نبينا عليه الصلاة والسلام في أحاديث سأذكرها. إذاً: ضخامة البطون، ومع هذه الضخامة يصاب بالصرع والتخبط والسقوط كحال المصروع في هذه الحياة، والإنسان إذا كان ضخم الجثة عظيم البطن تخبطه يكون أشنع في الصورة والإزراء مما لو كان نحيفاً ضعيفاً، ولذلك هؤلاء يصرعون في عرصات الموقف كما يصرع من يتخبطه الجني في هذه الحياة، لكن يصرعون بأشنع صور الصرع, ألا وهي بطون زادت على البيوت، ثم هو بعد ذلك يقع ويسقط ويطؤه الناس بأقدامهم، إن هذه الصورة أشد مما لو كانت صرعاً بدون انتفاخ بطون، ولذلك فالأمران مرادان، وكلاهما -كما سيأتينا- عليهما دليل من كلام نبينا عليه الصلاة والسلام، يصرع ويسقط ويوطأ عليه ويداس، لكن فيه هذه الضخامة وهذه الصورة المزرية بطناً يزيد على البيت الواسع العظيم كما كان في هذه الحياة يأكل ولا يشبع، الجزاء من جنس العمل, عرض الله صورته على رءوس الأشهاد بهذه الصورة المزرية.

الإمام الرازي في تفسيره في الجزء السابع صفحة تسع وثمانين عند تفسير هذه الآية فرق بين الأمرين وقال: هذان أمران مختلفان, وكل واحد يدل على معنى، ففريق يقول: بطونهم منتفخة، وفريق يقول: يصرعون ويكونون كالمجانين يقعون ويوطئون, يكون هذا خلاف هذا، والذي يظهر كما قلت أنهما متلازمان، الله جل وعلا يريد أن يخبرنا أن الصرع الذي سيحصل لهم في عرصات الموقف عند خروجهم من قبورهم يكون بهذه الصورة، وليس إذاً هناك تعارض بين القولين، أو أن هذا غير هذا، الصرع يكون لهم, لكن ما هي صورهم .. ما هي حالتهم .. ما هي أشكالهم؟ بطونهم أضخم وأعظم من البيوت الكبيرة، ولا داعي أن نقول: منقول عن السلف قولان، يعني: كأن هذا قول وهذا قول, وهذا ينفصل عن هذا، لا ثم لا، من قال: إنه يصرع. ما نفى تلك الصورة الشنيعة لهم وهي انتفاخ البطون، ومن قال: إن بطونهم منتفخة. ما قال: إن البطون منتفخة لكن يمشي كما يمشي الناس، لا، البطن منتفخة ويصرع، ومن قال يصرع قال: يصرع بتلك الصورة؛ لأن الصرع في حال انتفاخ بطن الإنسان أشنع مما لو صرع ولم يكن بتلك الصورة. إذاً: هذا الأمر الأول.

الأمر الثاني: تأويل القيام بأنه قيام يدل على تشتت ذهن الإنسان في هذه الحياة، فهو عجل في طلب الأمور، يريد جمع المال، ما عنده تؤدة ولا روية ولا هدوء في مشيته من حبه للمال, هذا هو المراد من القيام المذموم في حقه لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة:275]. وأما المس الذي يحصل من قبل الجان فليس المراد أنه مس حسي, إنما وسوسة من الجني للإنسي للحرص على المال وجمعه وتكديسه والبخل به، وعدم انفاقه بحيث يكون معبوداً عند الإنسان، فتراه يفكر فيه ويهتم له ويعادي ويسالم من أجله، هذا هو مس الشيطان للإنسان، وهذا هو قيامه بهذه الصورة المزرية. هذا ما أشار إليه رشيد رضا في تفسير المنار في الجزء الثالث صفحة أربع وتسعين.

كأن الوقت اقترب، لأذكر كلامه في أول الموعظة الآتية إن شاء الله، وأحضرت الكتب لأقرأ كلامه وأعلق عليه، وهو مع التأويل المردود كذب على أئمتنا، ونسبة هذا للإمام ابن عطية , ما رأى من المفسرين من ينسب إليه هذا القول إلا ابن عطية ؟! ووالله لو لم يكن تفسير ابن عطية مطبوعاً لما أمكننا أن نقف على كذبه، فقال: ابن عطية قال هذا، قال: قوله هو المعتمد, وأما المفسرون كلهم ما عندهم تحقيق عندما قالوا، وبنوا هذا الكلام على تفسيرات وضعها من وضعها؛ من أجل أنهم ما عرفوا المراد منه, فوضعوا آثاراً عن نبينا عليه الصلاة والسلام في تقرير هذا المعنى، يتهم المفسرين بأنهم يقبلون الروايات المكذوبة، ويتهم ابن عطية بأنه قال هذا القول، وابن عطية يحكي اتفاق المفسرين على هذا القول.

نعم ذكر ذلك القول, وقال: الآية تحتمله لولا ما أثر عن السلف في تفسير هذه الآية. وعليه فلا مجال للقول بذلك مطلقاً. يأتينا هذا في أول الموعظة الآتية كما قلت إن شاء الله.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر لمن وقف هذا المكان المبارك، اللهم اغفر لمن عبد الله فيه، اللهم اغفر لجيرانه من المسلمين، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [29] للشيخ : عبد الرحيم الطحان

https://audio.islamweb.net