إسلام ويب

يشبه الجن الإنس في كثير من الجوانب، ومن ذلك التكليف، فكما أن الإنس مكلفون وعلى أعمالهم محاسبون فالجن كذلك؛ وكما أن الإنس يتناكحون وينجبون الذرية فكذلك هو الحال عند الجن، فقد قامت الأدلة على أن الجن يتوالدون وأن ذريتهم أكثر من ذرية الإنس، وهم يعينون نظراءهم من الإنس لمقاصد مختلفة، فإما أن تكون الإعانة بغرض الإحسان والمنفعة، أو تكون بقصد الإضلال والمضرة.

مقاصد الجن من إعانة الإنس

الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين.

اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين.

سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك.

اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

فلا زلنا نتدارس مبحث الجن، ونحن الآن في آخر مباحث الجن ألا وهو صلتنا بهم، وصلتهم بنا، وقلت: هذا المبحث سنتدارسه ضمن أربعة أمور:

أولها: استعانة الإنس بالجن.

وثانيها: وقوع التناكح بيننا وبينهم.

وثالثها: تلبس الجني بالإنسي.

ورابعها: تحصن الإنس من الجن.

أما الأمر الأول فقد مر الكلام عليه مفصلاً في المواعظ السابقة، وقلت: إن الاستعانة بهم تنقسم إلى قسمين: قسم جائز مشروع، وقسم محرم ممنوع، وفصلت الكلام على كل قسم وعلى أنواعه وأدلة ذلك.

ختمت الكلام على القسم المحرم الممنوع بأن الجن لا يساعدون الإنسان في محرم إلا إذا فعل محرماً، ويستمتع كل منهما بصاحبه، فإذا طلبنا منهم معصية من إحضار ما نريد ونهواه عن طريق ما حرم الله، أو من إيذاء أحد من خلق الله ونحو ذلك، فإنهم في المقابل يطلبون منا أن نسجد لهم، وأن نستعين بهم، وأن نذبح لهم، وأن نحسن إليهم، وأن نرجوهم، وأن نخافهم، أو أن نسجد لشيء يأمروننا بالسجود له، وأحياناً يقع التناكح بيننا وبينهم.

الإعانة بقصد الإضلال

قد لا يقع من الإنسي طلب معونة من الجني، لكن الجني يتطوع لإحضار المطلوب للإنسي دون أن يطلب منه من أجل أن يستدرجه، ومن أجل أن يوقعه في الشرك، وهذا حصل بكثرة لكثير من أئمتنا لكن ليقظتهم وبصيرتهم وقوة إيمانهم ما راجت عليهم هذه التلبيسات.

فمن ذلك ما ذكره أئمتنا الكرام في ترجمة شيخ الإسلام الشيخ عبد القادر الجيلاني عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، وقد توفي سنة واحدة وستين وخمسمائة للهجرة، وهو من شيوخ أهل السنة الصالحين، ومن العلماء الربانيين، يقول الإمام ابن رجب في الذيل على طبقات الحنابلة في ترجمته في الجزء الأول صفحة تسعين ومائتين إلى صفحة واحدة وثلاثمائة ترجمه في إحدى عشرة صفحة، يقول: انتصر أهل السنة لظهوره؛ لأنه كان شيخ أهل السنة في زمانه، وتقدم معنا أن الإمام ابن قدامة عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا لما ذهب إلى بغداد تتلمذ عليه وتلقى العلم منه، وكان يقول: إذا تواترت الكرامات عن أحد فتواترها عن الشيخ عبد القادر عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، ولذلك يقول ابن رجب الحنبلي : انتصر أهل السنة بظهوره، وهو من العلماء الربانيين، وممن تأدب بآداب الشرع القويم، ومع ذلك كان إذا حصل منه شيء أحياناً يظهر له النبي عليه الصلاة والسلام في الرؤيا فيوجهه بالتي هي أكمل.

جاءه مرةً بعض طلبة العلم وألح عليه في الأسئلة بحيث اغتاظ الشيخ وغضب وقال: ليس الآن وقت أسئلة اسكت، فلما ذهب نام الشيخ، فرأى النبي عليه الصلاة والسلام يقول له: يا عبد القادر ! أنت معلم الخير، فلا ينبغي أن تغضب وإن ألح، عليك بالرفق، فاستيقظ من نومه مباشرةً وأرسل إلى هذا التلميذ وقال له: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وعاتبني فيك، فماذا عندك؟ سلني عنه، وهذا أدب نبوي شريف، والله يقول لنبيه عليه صلوات الله وسلامه: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] ، وما كان يزيده جهل الجاهل، ولا سفاهة السفيه إلا حلماً، وقد شهد الله له بأنه على خلق عظيم، وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] عليه صلوات الله وسلامه.

هذا الشيخ المبارك الإمام الرباني الشيخ عبد القادر الجيلاني عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا يخبر عن نفسه كما في الذيل على طبقات الحنابلة صفحة أربع وتسعين ومائتين، قال الإمام ابن رجب : وهذه قصة مشهورة عنه.

خلاصتها: أنه كان في سفر مع بعض أصحابه فاشتد عليه العطش، وكان الوقت حاراً، فأظلتهم سحابة، ثم نزل منها ما يشبه الندى والرطوبة حتى ارتووا، ثم خرج من تلك السحابة نور تبعه دخان وفيه صوت ينادي: يا عبد القادر ! أنت عبدي وأنا ربك، وقد أحللت لك المحرمات، فقال الشيخ عبد القادر عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا: اخسأ يا لعين، فقال له من معه: كيف عرفت أنه اللعين وأنه الشيطان الرجيم؟ قال: من قوله: أحللت لك المحرمات، كيف يحل الله ما حرم على عباده؟ وما حرم علينا إلا لما فيه من ضرر، فكيف إذاً يحل لي؟ ثم سمع صوتاً آخر يناديه من هذه السحابة التي خرج منها نور وتبعه دخان يقول: يا عبد القادر ! لقد أضللت كثيراً من العباد بمثل هذا الفعل، لكن ما استطعت أن أضلك ليقظتك ولعلمك، قال: هذا بفضل الله لا بعلمي يا لعين، والله هو الذي منّ علي بهذا وهو خير الحافظين، ونسأله ألا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، فمن وكل إلى نفسه هلك، ومن وكل إلى الخلق ضاع، ومن وكل إلى الله فهو في حفظ عظيم.

وهنا لم يطلب الشيخ عبد القادر عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا معونةً من الجن، وما اتصل به جني وقال: أريد أن تحضر لي قربةً من الماء، وإنما الشياطين فعلوا هذا من أجل إضلال هذا الشيخ وإضلال الناس به.

تشكل الجن بصور الصالحين كابن تيمية وغيره بقصد الإحسان

وهذا يفعله الجن أحياناً مع كثير من العباد، بل يفعلون مثل هذا مع الكفار ليزيدوهم كفراً على كفرهم، والشيخ ابن تيمية عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا كان يخبر عن نفسه أنه كثيراً ما كانت تتشكل الجن بصورته، أحياناً للمؤمنين وأحياناً للكافرين، أما المؤمنون فمن أجل أن يساعدوا أصحاب الإمام ابن تيمية، وأما الكافرون فمن أجل أن يحصل بذلك إضلال وفتنة لهذا الشيخ الإمام، وفي مجموع الفتاوى في عدة أماكن في الجزء الحادي عشر صفحة تسع وثلاثمائة ذكر حوادث لتشكل الجن بصورته وهو غائب في مكان فيتشكلون في مكان آخر ويقضون حاجة بعض الناس هناك على أن الفاعل هو الشيخ ابن تيمية وهو في مكان آخر، فهو في بلاد مصر ويتشكل الجني بصورته في بلاد الشام، ويقضي حاجة بعض عباد الرحمن، وذكر هذا في الجزء التاسع عشر صفحة سبع وأربعين، وذكره في الجزء الثالث عشر صفحة اثنتين وتسعين.

يقول عليه وعلى أئمتنا رحمة رب العالمين: وكثيراً ما يستغيث الرجل بشيخه الحي أو الميت، فيأتونه في صورة ذلك الشيخ، وأحياناً لا يوجد استغاثة كما ستسمعون، وقد يخلصونه مما يكره، فلا يشك أن الشيخ نفسه جاء، أو أن ملكاً تصور بصورته وجاءه، ولا يعلم أن ذلك الذي تمثل له إنما هو الشيطان، وأنه لما أشرك بالله أضلته الشياطين، والملائكة لا تطلب منه أن يشرك، وعندما استغاث بميت ولجأ إليه وقال: يا شيخ عبد القادر : فرج كربي، يا رسول الله -عليه الصلاة والسلام- أغثني، يا أبا بكر اكشف عني ضري، رضي الله عن أبي بكر وعن الصحابة أجمعين، فعندما فعل هذا واستغاث هذه الاستغاثة الشركية جاءه الشيطان مباشرةً وقضى له حاجته يريد أن يضله وأن يثبته على هذا الشرك، وإذا نزل به ضر لجأ إلى المخلوق مرةً ثانية، في البداية لا بد من طعم يطعمه من أجل أن يخرجه من دين الله، فإذا استحكم بعد ذلك منه أنه مشرك فإنه لا يقضي حاجاته بعد ذلك؛ لأنه قبض عليه وأدخله القفص.

وذكرت في بعض المواعظ أن بعض الناس في بلاد الشام ذكر لي مرةً قصة من القصص وله شأن من حيث المكانة والشهادات في هذه الأيام، وقال لي: أنتم لا تؤمنون بكرامات الأولياء، قلت: للأولياء كرامات ويوجد تخريف ففرق بين الأمرين، فقال: أنا أحكي لك قصة هل تؤمن بها؟ قلت: اذكر، يقول: كان بعض الناس يقود سيارةً من الأتوبيسات الباصات الكبيرة التي تسع ستين فما يزيد من سيارات الأجرة، يقول: كان وهو في طريق النزول من اللاذقية إلى حلب وهي طريق كلها مرتفعات جبال ووديان، يقول: فلما علوا جبلاً ونزل في الوادي وهو مزفت ولم يبق فرامل في السيارة، يضع رجله على الكابح والسيارة لا تقف، وبدأت تهوي كأنها الريح، قال: فبدأ ينادي: يا ألله يا ألله يا ألله! فما أحد أجابه ولا وقفت السيارة، فالتفت إلى الشيخ عبد القادر وقال: يا شيخ عبد القادر ! أنا في جوارك، أنا في حماك، أغثني.. تداركني قال: فما شعر إلا بالسيارة وقفت، وسمع صوتاً يناديه: أما تستحي أتعبتني من بغداد إلى بلاد الشام، وعندك في بلاد الشام في حلب واللاذقية ودمشق أولياء كثر لم لم تستنجد بواحد منهم وتلجأ إليه؟ يريد الشيطان أن يضله بهؤلاء وبأولئك، قال لي: هذه تؤمن بها أم لا؟ قلت: لها عندي حالتان:

الحالة الأولى: الغالب أنها مكذوبة، والناس يتناقلون كثيراً من الأخبار الشركية التي لا حقيقة لها، ولو تتبعت السند لوجدت أنه ما وقع ولا حصل شيء من ذلك، وهذا يقع بكثرة، ثم يأتي الشيطان فينشر بين الناس كذباً ويحكي أكذوبة فيتناقلها الناس ولا حقيقة لها.

قلت: وعلى التنزل والتسليم أنها وقعت، فلعل الجن هم الذين أمسكوا الأتوبيس، ولهم قوى عظيمة كما أخبرنا ربنا جل وعلا عنهم، وفعلوا ذلك من أجل أن يفتنوا هذا الإنسان وهؤلاء الستين راكباً ليخبروا الأمة بعد ذلك بأنه إذا وقع فيك ضر فالجأ إلى الشيخ عبد القادر ولا تلجأ إلى الله القوي القادر سبحانه وتعالى.

ثم قلت: أنا أعجب من عقلك وأنت تحكي هذه القصة، أنت تقول: استغاث بالله فما أجابه، واستغاث بالشيخ عبد القادر فأجابه، فهل صار الشيخ عبد القادر أرأف وأرحم وألطف وأبر بالعباد من رب العالمين سبحانه وتعالى؟ قال: لا، الله هو أرحم لكن كل شيء له باب وله مفتاح، فمفتاح رب العالمين أولياؤه فنلجأ إليهم من دونه، وهم بعد ذلك واسطة بيننا وبين الله جل وعلا.

وهذا قول المشركين قبل بعثة نبينا الأمين عليه صلوات الله وسلامه، حيث كانوا يلجئون إلى هذه الوسائط من أجل أن يقربوهم إلى الله زلفى، فهنا استغاث وحصل له كما يقول الشيخ ابن تيمية شيطان من أجل أن يضله.

قال الشيخ ابن تيمية عليه رحمة الله: وتارةً يأتون إلى من هو خال في البرية، وقد يكون ملكاً أو أميراً كبيراً، ويكون كافراً وقد انقطع عن أصحابه وعطش وخاف الموت، فيأتيه في صورة إنسي، فيسقيه ويدعوه إلى الإسلام، فيسلم على يديه، ثم يدله على الطريق، فيقول له: من أنت؟ فيقول: أنا فلان، ويكون من مؤمني الجن، أحياناً هذا يقع، يراه بعض مؤمني الجن منقطعاً في فلاة، فيتصلون به وقد يكون على معصية فينصحونه، ثم يقول له: من أنت؟ فيقول: أنا فلان، باسم بعض الشيوخ الصالحين من الإنس، وحتماً هو في هذا الإخبار مخطئ وأخبر بخلاف الحقيقة كما سيأتينا، فهي معصية جرت منه مع المعونة التي قدمها.

تمييز الجني عن الملك

يقول الإمام ابن تيمية : كما جرى مثل هذا لي، كنت في مصر في قلعتها، وجرى مثل هذا عند كثير من الناس من ناحية المشرق وكان في بلاد الشام، قال له ذلك الشخص: أنا ابن تيمية ، فلم يشك ذلك الأمير أني أنا هو، وأخبر بذلك ملك ناربين، قال له: ظهر علي الإمام ابن تيمية وقضى حاجتي وأنا في برية والإمام ابن تيمية في مصر، وأرسل ملك ناربين بذلك إلى مصر رسولاً، وكنت في الحبس فاستعظموا ذلك، وأنا لم أخرج من الحبس، ولكن كان هذا جنياً يحبنا، فيصنع بالتتار مثلما كنت أصنع بهم -لما جاء إلى دمشق يقول: كنت أدعوهم إلى الإسلام، فإذا نطق أحدهم بالشهادتين أطعمته ما تيسر- فعمل هذا الجني مثل ما كنت أعمل، فلما خرجت من بلاد الشام بدأ يتصور الجني بصورتي ويدعوهم إلى الإسلام، فإذا آمنوا أطعمهم وأحسن إليهم، فهم يقولون: اهتدينا على يد الإمام ابن تيمية وأطعمنا الإمام ابن تيمية ، ولما فعلوا هذا مع بعض أمراء التتار، نقل هذا لملك ناربين فاتصل بأمير مصر وحاكمها وقال: تقولون ابن تيمية عندكم في السجن وهو في بلاد الشام يتصل بأمراء التتار ويصوبهم ويطعمهم ويحسن إليهم؟! يقول: وأراد الجني بذلك إكرامي ليظن ذاك أني أنا الذي فعلت ذلك.

قال لي طائفة من الناس -وما زال الكلام للإمام ابن تيمية- : فلم لا يجوز أن يكون ملكاً من الملائكة؟ قلت: لا، إن الملك لا يكذب، لو نزل ملك وأعان لا يقول: أنا ابن تيمية وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31] يقول: أنا من جنود الذي يجيب المضطر إذا دعاه، أما أن يقول: أنا ابن تيمية فلا يمكن، وهذا قد قال: أنا ابن تيمية وهو يعلم أنه كاذب في ذلك.

يقول: وكثير من الناس من قال: رأيت الخضر وإنما رأى جنياً، ثم ذكر أن الناس انقسموا إلى قسمين: من يقول: إنه يرى الخضر ، وفريق يكذب، قال: هؤلاء يكذبون، الخضر مات من زمن، وفريق صدقوه وقالوا: إن الخضر حي، يقول: وكلا الفريقين على خطأ، والواقع أن جنياً تشكل بصورة الخضر وأخبر من ظهر عليه أنه هو الخضر .

يقول الإمام ابن تيمية : والقصص في ذلك متواترة، وهذا منقول عن الصالحين بكثرة أنهم اجتمعوا مع الخضر والاجتماع إنما كان في الحقيقة مع جني، قال: أنا الخضر ، فهم ظنوا أن الخضر حيٌ وأنهم اجتمعوا به، وهم واهمون في ظنهم، ومن كذبهم أيضاً واهم في تكذيبه، إنما الحقيقة أنه ظهر جني وأخبر أنه هو الخضر واجتمع مع هؤلاء، فظنوا أن الاجتماع حصل بـالخضر وليس كذلك.

والمعتمد وهو أظهر القولين: أن الخضر نبي من أنبياء الله على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، وقيل: إنه كان من مؤمني الجن، وقيل: إنه ملك.

يقول الحافظ ابن حجر عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في الزهر النضر في أخبار الخضر : ولو ثبت أنه ملك لارتفع كل إشكال حوله، والذي يظهر أنه نبي؛ لأنه يقول: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [الكهف:82]، وقال الله في حقه: فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا [الكهف:65] ، وهذا عن طريق ما أوحى الله به إليه كما يوحي إلى أنبيائه ورسله على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.

فأقوى الأقوال: أن الخضر نبي، وقد مات بعد أن عاش فترةً في الزمن الخالي، وما يحكى بعد ذلك من بقائه في هذه الأمة، وقصصه التي جنسها متواتر من إخبار كثير من الناس أنهم اجتمعوا معه لو ثبت ذلك فهو محمول على أنهم اجتمعوا بجني قال: إنه هو الخضر .

ولا يعين الجني الكافر إنساناً إلا إذا كان يعصي الله، أو طمع الجني الكافر بمعصية ذلك الإنسان.

حقيقة تكليف الجن وحضورهم مجالس العلم

تقدم معنا أن التكليف مشترك بين الإنس والجن، ونبينا عليه الصلاة والسلام هو رسول إلى الإنس والجن، وهم مكلفون بالإيمان وبشرائع الإسلام كما كلفنا؛ ولذلك يحضر أحياناً من مؤمني الجن دروس الوعظ وحلق العلم أكثر مما يحضر من الإنس، وهذا ثابت في العصور الماضية وهو باق في العصور المتأخرة، والسبب أن الإمكانيات التي عند الإنس من ناحية الاطلاع على شريعة الله تكون مذللةً أكثر مما هو عند الجن، فهم يتعلمون بواسطة الإنس، ولذلك إذا تعلم جني يعلم، لكن أصل العلم في الإنس.

يذكر الإمام غندر وهو محمد بن جعفر وكان محدث بخارى، وتوفي غندر سنة اثنتي عشرة وأربعمائة للهجرة، وله ترجمة في سير أعلام النبلاء في الجزء السابع عشر صفحة أربع وثلاثمائة يذكر في تاريخه في ترجمة العبد الصالح محمد بن سلام البخاري البيكندي ، محمد بن سلام بالتخفيف وقيل: بالتثقيل، والأصح كما قال أئمتنا: بالتخفيف محمد بن سلام ، وهو من رجال الكتب الستة، ثقة إمام عدل رضا مخرج له في الكتب الستة، توفي سنة خمس وعشرين ومائتين للهجرة، وترجمه الإمام البخاري في التاريخ الكبير في الجزء الأول صفحة عشر ومائة.

وقال الحافظ في ترجمته في التقريب: ثقة ثبت، يقول غندر : كان مرةً في بيته فطرق عليه شخص الباب ففتح فإذا بشيخ كبير وقور، قال له: أنا من الجن، وقد أرسلني ملك الجن إليك، وهو يسلم عليك ويقول لك: لا يكون لك مجلس إلا ويكون منا في مجلسك أكثر من الإنس، فلا تفتر عما أنت فيه وعليه، وهذه القصة كما قال عنها أئمتنا: حكاية مستفيضة مشهورة، انظروها في سير أعلام النبلاء في الجزء العاشر صفحة تسع وعشرين وستمائة، وانظروا ترجمة محمد بن سلام أيضاً في تهذيب التهذيب في الجزء التاسع صفحة ثلاث عشرة ومائتين.

إذاً الجن يستوون معنا في التكليف، فإذا كان كذلك فالمناكحة فيما بينهم ثابتة واقعة قطعاً وجزماً كالمناكحة فيما بيننا، ثم إن المناكحة بيننا وبينهم أيضاً ممكنة، بل وواقعة، لكن ما حكمها في الشرع؟ هذه ثلاثة أمور سنبحثها.

وقوع التناكح بين الإنس والجن عن طريق الحلال أو الحرام كالزنا أو اللواط كل هذا ممكن، ثم ما حكم الحلال من ذلك في شريعة الله؟ إذا قلنا: إن التناكح بيننا وبينهم جائز فهل يصح أن يتزوج الإنسي جنية والعكس؟ ذهب إلى الجواز بعض أئمة الإسلام كما سيأتينا، وأبين الراجح في هذه المسألة بعون الله جل وعلا.

وقوع التناكح بين الجن وحصول الذرية لهم

الأمر الأول: سبق أن الجن يستوون معنا في التكليف، وعليه ينبغي أن يحصل بينهم تناكح كما هو الحال بين الإنس، وقد دلت آيتان من آيات القرآن على وقوع التناكح بين الجان، وحصول الذرية لهم، كما يحصل هذا لبني الإنسان.

دلالة آية (أفتتخذونه وذريته..) على وقوع التناكح والذرية من الجن

الآية الأولى في سورة الكهف وفيها يقول الله جل وعلا: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا [الكهف:50] .

(أفتتخذونه وذريته) والذرية هم الأولاد، إما مأخوذ من الذرأ وهو الخلق، وعليه فالأصل أن يقال: ذريئة، حذفت الهمزة تخفيفاً. وإما من الذر بمعنى البث والنشر كما قال الله جل وعلا في أول سورة النساء: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] .

إذاً الذرية من الذرء بمعنى الخلق، أو من البث بمعنى النشر والتفريق، فكما أن الله ذرأنا ذرأهم، وكما بثنا ونشرنا وخلقنا خلقهم وبثهم وجعلهم يتناسلون، وقد استدل أئمتنا بهذه الآية الكريمة على وقوع التناكح بين الجن وحصول النسل بسبب ذلك التناكح كما يحصل بين الإنس، قرر هذا الإمام الشبلي في كتاب آكام المرجان في صفحة ثلاث وثلاثين، وقرره الإمام السيوطي في لقط المرجان في صفحة تسع وعشرين، وعبارتهما: هذا يدل على أنهم يتناكحون لأجل الذرية، كما أننا نحن نتناكح من أجل حصول النسل والذرية والأولاد، وأعظم وأبرز مقاصد النكاح إيجاد الذرية التي تعبد وتوحد رب البرية، وله مقاصد أخرى، وهذا ما رجحه الإمام القرطبي في تفسيره في الجزء العاشر صفحة عشرين وأربعمائة عند تفسير هذه الآية، فقال: هذه الآية تدل على أن لإبليس من صلبه، ذرية تخرج منه، وهذا ما قاله الإمام الرازي أيضاً في تفسير هذه الآية في الجزء الحادي والعشرين صفحة ست وثلاثين ومائة، فقال: أثبت الله له -أي: لإبليس- ذريةً ونسلاً.

وأما من فسر الذرية بالأتباع فإن أراد قصر اللفظ على ذلك فلا شك في خطئه، وإن أراد أن اللفظ شامل للذرية الذين هم أولاد ولمن يتبعه من أهل الفساد سواء من عتاة الجن أو من عتاة الإنس فلا مانع، وهذا ما ذهب إليه الإمام الألوسي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في روح المعاني في الجزء الخامس عشر صفحة أربع وتسعين ومائتين، فقال: قيل ولعله الحق: إن له أولاداً وأتباعاً، قال: ولا يلزمنا أن نعلم كيف يلد؛ لأن إدخال العقل في أمور الغيب معيب، قال الإمام الألوسي : فكثير من الأشياء مجهولة الكيفية عندنا، ونقول بها، فليكن من هذا القبيل تناكح الجن وولادتهم إذا صح الخبر فيهم.

ولا يجوز للإنسان أن يكذب إذا لم يحط علماً بالشيء، فنحن كما قال الله: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85] .

دليل عقلي على إمكانية توالد الجن

يقول الإمام الزمخشري غفر الله لنا وله في تفسيره في الجزء الأول صفحة سبع وخمسين في تفسير قول رب العالمين: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا [البقرة:26]: (فما فوقها) قيل: المراد (فما فوقها) في الصغر، أي: فما هو أصغر منها، أو فما هو أكبر منها، يقول: في خلق الله حيوان أصغر من البعوضة، ومن جناحها، وربما رأيتُ -يخبر عن نفسه- في تضاعيف الكتب العتيقة دويدة صغيرة، لولا تحركها لما أبصرها البصر الحاد، قال: فإذا سكنت هذه الدودة فالسكون يواريها، ثم إذا لوحت لها بيدك حادت عن اليد وهي دودة، وتجنبت مضرتها، فسبحان من يدرك صورتها وأعضاءها الظاهرة والباطنة، ويدرك تفاصيل خلقتها، ويبصر بصرها، ويطلع على ضميرها، ولعل في خلقه ما هو أصغر منها وأصغر، فلو رأى الآن الميكروبات لعلم أنها أصغر من البعوضة بكثير، وأصغر من جناحها وأدق بكثير، فهي لا ترى إلا بهذه المجاهر، وفي قطرة الماء ترى آلافاً مؤلفة من هذه الحشرات الصغيرة فسبحان الخالق، ثم أنشد أبياتاً من الشعر حكاها عمن أنشدها، وتضاف إلى أبي العلاء المعري والعلم عند الله جل وعلا:

يا من يرى مد البعوض جناحها في ظلمة الليل البهيم الأليل

ويرى عروق نياطها في نحرهاوالمخ في تلك العظام النحل

اغفر لعبد تاب من فرطاتهما كان منه في الزمان الأول

ثم ختم الكلام على هذا بقوله: سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون.

وعلق الإمام الشبلي على كلام الزمخشري في آكام المرجان فقال: فهذه الدودة الصغيرة لا تمنعها اللطافة المشرقة من التوالد، فسبحان القادر على كل شيء، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82] .

فإذا كانت هذه الدودة الصغيرة التي لا يجليها البصر الحاد، ولا يدركها إلا إذا تحركت، ومع ذلك تتوالد وتتناسل ويخرج لها الذرية، فما المانع إذاً من أن يكون هذا في الجن؟ أما كيف تتوالد هذه الدودة! وكيف يتوالد الجن!، فهذا لا يعلمه إلا من أحاط بكل شيء علماً وهو الله جل وعلا.

العلم للرحمن جل جلالهوسواه في جهلانه يتغمغم

ما للتراب وللعلوم وإنمايسعى ليعلم أنه لا يعلم

إذاً القول بأن الجن يتناكحون، ولهم نسل وذرية، هو المنقول عن سلفنا الكرام رضوان الله عليهم أجمعين. وهذه الآية تدل على هذه القضية.

كثرة ذرية إبليس

روى الإمام الطبري في تفسيره في تفسير هذه الآية من سورة الكهف، والأثر رواه ابن أبي حاتم في تفسيره كما في الدر المنثور، ورواه أبو الشيخ في كتاب العظمة في صفحة اثنتين وخمسمائة، وإسناد الأثر صحيح إلى قتادة بن دعامة السدوسي من أئمة التابعين عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، قال: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ [الكهف:50]، قال: هم أولاده يتوالدون كما يتوالد بنو آدم، وهم أكثر عدداً من بني آدم، وسيأتينا أنه لا يولد للإنس مولود إلا ولد مقابلة من الجن تسعة أولاد.

ونقل مثل هذا أيضاً عن محمد بن شهاب الزهري عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا وهو من أئمة التابعين، وأثره أيضاً في كتاب العظمة لـأبي الشيخ صفحة سبع وثمانين وأربعمائة، والأثر رواه أيضاً ابن أبي حاتم في تفسيره كما في الدر المنثور في الجزء الرابع صفحة سبع وعشرين ومائتين.

قال محمد بن شهاب في تفسير هذه الآية أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ [الكهف:50] ، قال: إبليس أبو الجن كما أن آدم من الإنس وهو أبوهم، فإبليس من الجن وهو أبوهم.

وهناك أثر ثالث نقله الإمام الطبري في تفسيره عن ابن زيد قال: إبليس هو أبو الجن، كما أن آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام أبو الإنس، وقال الله لإبليس: لا أذرأ لآدم ذريةً إلا ذرأت لك مثلها، أي: لا أخلف لآدم ذرية إلا أخلف لك مثلها، فليس من ولد آدم أحد إلا وله شيطان قد قرن به، بل سيأتينا أن هذا الذرأ يكون في حق الجن أضعاف ما يكون في حق الإنس، ثبت الأثر بذلك في تفسير الطبري وابن المنذر وتفسير ابن أبي حاتم ، والأثر رواه ابن عبد البر والحاكم ، ولعله في تاريخ نيسابور فلم أره في المستدرك بعد بحث، ونسبه إليه الإمام السيوطي في لقط المرجان في صفحة ثلاثين، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: إن الله جزأ الإنس والجن عشرة أجزاء، فجزء من الإنس، وتسعة أجزاء من الجن، فلا يولد لبني آدم ولد من الإنس إلا ولد تسعة أمثاله من الجن، وهذا أثر رابع.

وهناك أثر خامس أيضاً روي عن ثابت بن أسلم البناني والأثر في شعب الإيمان للإمام البيهقي وكتاب تاريخ دمشق للإمام ابن عساكر عن ثابت قال: (بلغنا أن إبليس عليه وعلى الشياطين لعنة ربنا العظيم قال: إنك يا رب خلقت آدم وخلقتني، وجعلت بيني وبينه عداوةً، وجعلت بين ذريتي وذريته عداوةً، فسلطني عليه، فقال الله جل وعلا: صدورهم مساكن لك).

وتقدم معنا (أن الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا ذكر بنو آدم ربهم خنس وإلا وسوس).

(صدورهم مساكن لك. فقال: رب زدني، قال: لا يولد ولد لآدم -أي: وذريته- إلا ولد لك عشرة أمثاله، قال: رب زدني، قال: تجري منهم مجرى الدم)، وتقدم معنا ثبوت هذا في الحديث الصحيح، وهنا ثابت بن أسلم يقول: بلغنا هذا، لكن معنى هذا ثابت عن نبينا عليه الصلاة والسلام، قال: (رب زدني، قال: أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [الإسراء:64] ).

هذه طلبات الشيطان من ربنا الرحمن، (فاعتصم أبونا آدم على نبينا عليه صلوات الله وسلامه بالله من كيد الشيطان وضره قال: فشكا آدم حاله إلى الله وقال: ربي إنك خلقتني وجعلت بيني وبين إبليس عداوة وبغضاً وسلطته علي وأنا لا أطيقه إلا بك، فقال الله له: لا يولد لك ولد إلا وكلت به ملكين يحفظانه)، وهذا أقل ما يقع، وقد ورد في معجم الطبراني الكبير بسند فيه ضعف من رواية أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه وأرضاه عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: (وكل الله بالمؤمن ستين ومائة ملك يحفظونه، للبصر من ذلك سبعة أملاك)، (لا يولد لك ولد إلا وكلت به ملكين يحفظانه، قال: رب زدني، قال: الحسنة بعشر أمثالها، أو أزيد؟ والسيئة بمثلها أو أعفو، قال: رب زدني، قال: لا أحجب عن ولدك التوبة ما لم يغرغروا بأنفسهم)، ما لم تصل الروح إلى الحلقوم، إذاً لك ملائكة تحرسك وتحفظك أنت والمؤمنين من ذريتك.

الأمر الثاني: أضاعف لك الحسنات، فإذا أغواك فلك حسنات مضاعفة، والسيئات بمثلها أو أعفو.

الأمر الثالث: التوبة لا تحجب عن بنيك ما لم تبلغ الروح الحلقوم، وهكذا ما لم تطلع الشمس من مغربها.

الشاهد أن ذريته كثيرة تزيد على ذرية بني آدم، وهذا ما أشار إليه ربنا جل وعلا في كتابه أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ [الكهف:50].

دلالة آية (لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان) على وقوع التناكح بين الجان

الآية الثانية تقدمت معنا الإشارة إليها عند الكلام على مؤمني الجن وأنهم يدخلون الجنة كما يدخل مؤمنو الإنس الجنة، في سورة الرحمن عند قاصرات الطرف والمقصورات في الخيام، يقول الله في وصفهن: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:56]، والطمث مأخوذ من طَمِثت وطمَثت المرأة، والطمث يطلق على ثلاثة أمور: على الدم الذي يخرج منها وهو دم الحيض، ويطلق على المباشرة والمسيس والجماع وإن لم يكن هناك دم خارج، ويطلق على افتضاض البكر فتدميتها يقال له: طمث، فهو من أسماء الجماع ودم الحيض غير مراد هنا قطعاً، فإذاً (لم يطمثهن) يعني: لم يجامعهن ولم يفتضهن (إنس قبلهم ولا جان) فهن أبكار كما قال الله جل وعلا: إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا * لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ [الواقعة:35-38].

والإمام الرازي أورد عند هذه الآية نكتةً ما أحلاها وأبهاها فقال: لم عبر الله عن الجماع الذي يكون في الآخرة باسمه، وكنى عنه في الدنيا بالمباشرة وبالمسيس، ولم يذكر لفظ الطمث أو لفظ الجماع؟

يقول: جماع الدنيا لا يخلو من آفة ومن نقص، فهو يتعب البدن ويرهقه، ويصاحبه أذى، وهذه كلها يصان عنها جماع أهل الجنة في الجنة، فكأن الجماع في الدنيا مع كونه محبباً إلى النفس فيه نقص، فلم يعبر عنه بالاسم الصريح، فكأنه يقول: فيه ما فيه فاعتبروا بهذا، وأما هنا فلا إرهاق للبدن بل هو على وجه التمام والكمال، وتقدم معنا ما في قضاء هذه الشهوة الجنسية من نقائص وآثار ضمن مباحث النبوة عند مبحث مقاصد النكاح.

إذاً لو لم يتأت من الجني الطمث وهو الجماع وافتضاض المرأة كما يحصل من الإنسي، لكان ذكر هذا من باب اللغو الذي لا قيمة له وهو شيء ينزَّه عنه كلام الله جل وعلا، إذاً فالطمث يتأتى منهم، وهذا يحصل فيما بينهم كما يحصل من الإنس فيما بينهم.

وقد استدل بهذه الآية أئمتنا على وقوع الجماع والافتضاض من الجن، ومن جملة من استدل بذلك الإمام الشبلي في آكام المرجان صفحة ثلاث وثلاثين، والسيوطي في لقط المرجان، وعبارتهما: هذه الآية تدل على تأتي الطمث منهم وهو الافتضاض بالتدمية، وهو حصول الجماع.

وتقدم معنا قول ضمرة بن حبيب الزبيدي وهو أبو عتبة الحمصي وقلت: إنه من رجال السنن الأربعة، وتوفي سنة ثلاثين ومائة للهجرة وهو ثقة رضي الله عنه وأرضاه، تقدم معنا كلامه، وأن هذه مما استدل بها هذا العبد الصالح على دخول مؤمني الجن الجنة، فقال: للجن جنيات، وللإنس حوريات، يكون في الآخرة حوريات وجنيات، ثم قال: ومصداق ذلك في كتاب الله: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:56] ، وتقدم معنا أن الأثر ثابت عنه وهو من أئمة التابعين وأثره في تفسير الطبري وابن المنذر وكتاب العظمة لـأبي الشيخ ، ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره وابن شاهين في غرائب السنن، وقد استدل الإمام السيوطي في الإكليل في صفحة أربع ومائتين بهذه الآية على حصول التناكح بين الجن، فقال: استدل بهذه الآية على إمكان نكاح الجن الإنسية ووقوع تناكح الجن فيما بينهم، ثم استدل بأثر ضمرة بن حبيب وذكره، وأما وقوع التناكح بين الإنس والجن فسيأتينا ضمن المسألة الثالثة إن شاء الله.

إذاً هاتان الآيتان في كتاب ربنا الرحمن تدلان على وقوع التناكح بين الجن وعلى التوالد الذي يحصل لهم كما يحصل للإنس تماماً، أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا [الكهف:50] ، لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:56] ، فلو لم يتأت منهم الطمث والجماع والافتضاض بالتدمية لما صح أن يضاف ذلك إليهم، والعلم عند الله جل وعلا.

هذا فيما يتعلق بالأمر الأول: وهو وقوع المناكحة فيما بينهم.

الأدلة القرآنية على إمكان المناكحة بين الإنس والجن

الأمر الثاني: هل تتأتى المناكحة بين الإنس والجن؟ وهل هذا ممكن؟ وإذا كان ممكناً فما حكمه في الشريعة؟

أما الإمكان فهو ممكن، ويدل على هذا اشتمال الآيات لهذا الأمر كما سيأتينا، كما تدل عليه الوقائع التي وقعت في الحياة، ويدل عليه أمر ثالث وهو: منع الفقهاء منه، فهذا دليل على إمكانه وحصوله، فلو لم يكن هذا ممكناً ويتأتى فعله لما منع الجمهور -الحنفية والشافعية والحنابلة- من وقوع التناكح بين الإنس والجن، والإمام مالك كما سيأتينا كرهه بأمر من الأمور، سأذكره عند بيان أقوال الفقهاء في حكم التناكح بين الإنس والجن.

فهذه إذاً أربعة أدلة: اشتمال الآيات وسأوضح ذلك، وورود الآثار به، والوقائع التي وقعت وحصل فيها تناكح بين الإنس والجن. الأمر الرابع: منع جمهور الفقهاء منه، ولا يمنعون من شيء مستحيل ويتأتى وقوعه.

أما الآيات فمن جملة الآيات التي فيها دلالة على أن وقوع التناكح بين الإنس والجن ممكن آية الإسراء وفيها يقول رب الأرض والسماء سبحانه وتعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا * قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا * قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ [الإسراء:61-64] ، فالمشاركة في الأموال أن يأكل من طعامهم، وهذا معلوم كما تقدم معنا عند طعام الجن.

ومشاركته في الأولاد أنه يباشر الزوجة مع زوجها إذا لم يقع عند مباشرتها تسمية وتحصن بالله جل وعلا واستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، وستأتينا الدلالة على هذا إن شاء الله، يجامع الشيطان معك، فيخرج الولد بعد ذلك جنياً وإنسياً.

وهذا ما استنبطه أئمتنا من آية الإسراء، منهم الإمام الطبري في تفسيره عند هذه الآية في الجزء الخامس عشر صفحة اثنتين وثمانين، وهكذا الإمام ابن كثير ، ونقل هذا عن الإمام ابن جرير وأقره، وعبارة ابن جرير أقولها بالمعنى، وهو أن الله جل وعلا عمم المشاركة فقال: وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ [الإسراء:64]، ولم يخصص نوعاً من أنواع المشاركة، وعليه فهو يشاركهم في عدة أمور، يشاركهم بأن يسول لهم، وأن يغويهم بالوقوع في الزنا والحرام، ويجامع معهم في ذلك الوقت، ويشاركهم إذا تركوا التحصن بالله والاستعاذة من الشيطان عند مباشرة الزوجة، يشاركهم في الأولاد بأن يربوهم على غير شريعة رب العباد، فكل ما يقع عليه اسم المشاركة يدخل في معنى هذه الآية، وهكذا في الأموال يشاركهم بأن يغويهم ويغريهم في طلبها عن طريق الحرام، وفي تناول المسكر، ويغويهم بعد ذلك في منع الحق الواجب منها، ويشاركهم في الأكل فيها، وفي جميع الصور التي يشملها قول الله: وَشَارِكْهُمْ [الإسراء:64] ، فالله أطلق وعمم المشاركة، ولم يخصص نوعاً تحصل بين مشاركة الشيطان لبني الإنسان، وتحصل المشاركة لبني آدم إذا تخلوا عن التحصن بالله فإذا تحصنوا بالله فلا يمكن أن تشاركهم لا في مال ولا في ولد، كما قال تعالى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا [الإسراء:65] .

ونقل هذا عن مجاهد وهو شيخ التابعين في التفسير، وإذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به، نقل عنه كما في تفسير الطبري ، والأثر رواه الحكيم الترمذي عن مجاهد ، كما في لقط المرجان صفحة ثلاثين، والدر المنثور في الجزء السادس صفحة ثمان وأربعين ومائة، قال مجاهد عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا: إذا جامع الرجل ولم يسم انطوى الجان على إحليله فجامع معه، فذلك قوله: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:56] ، فحصل طمث بواسطة الجني والإنسي.

قال الإمام الطبري : وكان بعض أهل العلم يستدل بهذه الآية على أن الجن يدخلون الجنة.

تقدم معنا أن التسمية عند الطعام عند كثير من أئمتنا مستحبة، والإشهاد على الدين باتفاق أئمتنا مستحب، وإذا أقرضت ولم تشهد لا يقبل الله لك دعاءً حتى تشهد، وتقدم الحديث بذلك في المستدرك وتفسير ابن مردويه بإسناد صحيح، (ثلاثة يدعون الله فلا يستجيب لهم: رجل أقرض قرضاً فلم يشهد عليه)، فكونه مستحباً عند الجمهور لا يعني أن من ترك هذا لا يعاقب بهذه العقوبة، فعندما ترك تحصين نفسه ولم يلتجئ إلى الله، ولم يستعذ بالله من شر عدوه شاركه الشيطان، أما هل هي مستحبة أو واجبة وخلاف العلماء في ذلك فليس الآن موضوع تقرير هذا الحكم، الأمر هذا ثابت، والحديث الذي ذكرته سيأتينا وهو حديث صحيح ثابت في الصحيحين وغيرهما، المقصود أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا لم تشهد لم يستجب دعاؤك)، وهنا (إذا أكلت الطعام ولم تسم أكل الشيطان معك)، فالعقوبة ثابتة، أما بعد ذلك فالجمهور قالوا: بالاستحباب، وقال فريق من العلماء: بالإيجاب وهو الذي يظهر والعلم عند الله وهو الذي مال إليه الإمام ابن جزي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، وقال: هذا ليس واجباً على الكفاية؛ لأنه يطلب من كل واحد؛ لأنه لا يمكن للإنسان أن يحصن نفسه من الشيطان إلا بذلك، وما لا يتم الواجب إلا به.

فهو واجب، فالذي يظهر لي والعلم عند الله القول بوجوبها؛ لأنك لا يمكنك أن تمنع الشيطان إلا بالتسمية، لكن لا يشترط لفظ التسمية ولعل هذا هو ملحظ من قال من أئمتنا بعدم الوجوب، نقول: لا تتعين طريقاً لدفع الشيطان فلو قلت: لا إله إلا الله على الطعام، فذكرت الله في بدايته طردت الشيطان، فلا يشترط حصول التسمية كالاستعاذة في القراءة قال أئمتنا: لا تتعين طريقاً لدفع الشيطان فيمكن أن تدفعه بأي ذكر كان، فإذاً ليست بواجبة؛ لأنها لم تتعين لدفع الشيطان، فيمكن أن تدفعه بكل ذكر يحصل منك للرحمن، فهذا أمر آخر.

والحديث الذي ذكرته وسأذكره الآن هو حديث صحيح ثابت في المسند، وأخرجه الشيخان في الصحيحين، وأهل السنن الأربعة، لكن الإمام النسائي رواه في السنن الكبرى لا في السنن التي بين أيدينا، وهو في مصنف ابن أبي شيبة ، ورواه الإمام الدارمي، وأبو داود الطيالسي ، ورواه البيهقي في السنن الكبرى، ورواه ابن السني في كتاب عمل اليوم والليلة، وابن حبان في صحيحه من رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أما لو أن أحدكم أراد أن يأتي أهله فقال: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد لم يضره الشيطان أبداً). والحديث في أعلى مراتب الصحيح فهو في الصحيحين كما سمعتم وغيرهما.

مرةً ذكرت هذا الحديث في بعض مواعظ الجمعة، فخرج بعض من انقطع نسله وقد زاد عمره على السبعين سنة يقول لي: يا شيخ! ما ذكرت لنا هذا الحديث إلا في هذا الوقت، يقول: جاءني أولاد يزيدون على العشرة وما أذكر أنني سميت الله في مباشرة من المباشرات.

هذه حال الأمة الإسلامية إنسان يتزوج لا يعرف آداب الزواج، ولا يعرف أحكام الزواج، والله إنها بلية البلايا ورزية الرزايا، لكنه يهتم بموضوع الجهاز وموضوع الأثاث وموضوع الزينات وغير ذلك، أما أن يرجع ليقرأ هدي النبي عليه الصلاة والسلام في النكاح، وكيف سيعاشر أهله فليس عنده في هذا خبر، وتراه يشقى ويتعب شقاء دنيا مع شقاء آخرة نسأل الله حسن الخاتمة، تأتيه ذرية منحوسة، يشارك الشيطان فيها، جاءه أكثر من عشرة أولاد ثم سمع بهذا الحديث! فضلاً عن تطبيقه وعن العمل به، وهذا فيه استئناف للقول المنقول عن مجاهد والذي حكاه ومال إليه الإمام الطبري، وابن كثير، والإمام الشبلي، والسيوطي عليهم جميعاً رحمة الله. وصلى الله على محمد وآله وسلم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [25] للشيخ : عبد الرحيم الطحان

https://audio.islamweb.net