إسلام ويب

لقد كان لعبد الله بن مسعود مكانة كبيرة مع القرآن الكريم؛ ولأنه كان يقرأ القرآن غضاً طرياً كما أنزله الله عز وجل، أمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقرأ القرآن عليه، وحال السلف يختلف عند سماع القرآن فقد كان الصحابة تدمع عيونهم، وتقشعر جلودهم، وأما التابعون فكانوا يصعقون، ولا شك أن حال النبي والصحابة أكمل، وعبد الله بن مسعود كان أحد الأربعة الذين أمر الرسول بأخذ القرآن عنهم، وقد اتهم بعضهم بعض الصحابة بأنه لا يحسن قراءة القرآن وهذا خطأ، والصواب أنه لا يكثر من قراءة القرآن، إما لجهاد أو غيره.

قراءة ابن مسعود القرآن على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعن من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين.

اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فكنا نتدارس ترجمة الصحابي الزاهد القانت العابد عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين، ومما ينبغي أن نعلمه في بداية هذا المبحث عند تكملة ترجمته رضي الله عنه أن مدارسة حياة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين دين نتقرب به إلى رب العالمين، وليس هذا من باب سرد وقائع وأحداث مضت وانقضت، أو من باب الاطلاع على التاريخ، لا، فمعرفة حياة الصحابة وسيرتهم دين، ومن أقوالهم وأفعالهم نستنبط أحكاماً شرعية ونتقرب بها إلى رب البرية سبحانه وتعالى.

قلت: وسنتدارس ترجمته الطيبة العطرة المباركة ضمن ثلاثة أمور:

أولها: كما تقدم معنا في نسبه وإسلامه وصلته بنبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وقد مضى الكلام على هذا الجانب الأول، وبينت أن هذا الصحابي له شأن عظيم في الإسلام، فيكفيه فخراً أنه سادس من أسلم بنبينا عليه الصلاة والسلام، وكان له شأن عظيم، عن طريق الصلة الوثيقة المحكمة بنبينا الكريم صلوات الله وسلامه عليه، فما فارقه حضراً ولا سفراً، وكان يباشر أموره الخاصة ويتعهدها ويقدمها إلى النبي عليه الصلاة والسلام.

الأمر الثاني من ترجمته العطرة الطيبة: في بيان منزلته العلمية ومكانته في ذلك.

الأمر الثالث: نبذة من أقواله المحكمة الحكيمة وآرائه القيمة القويمة، وقد كنا تدارسنا الأمر الثاني من هذه الأمور الثلاثة، وآخر ما تحدثت عنه في بيان منزلته العلمية، أنه كان من أقرأ الصحابة لكلام الله جل وعلا، ولذلك كان نبينا عليه الصلاة والسلام يطلب منه أحياناً كثيرة أن يقرأ عليه القرآن؛ لأنه كان يقرأ القرآن غضاً رطباً كما أنزله ذو الجلال والإكرام.

وآخر شيء تقدم معنا فيما يتعلق بهذا الأمر الحديث الذي ثبت في مسند الإمام أحمد والكتب الستة إلا سنن ابن ماجه، ورواه جم غفير من أئمتنا الكرام كـابن أبي شيبة في مصنفه، وعمرو بن كليب في مسنده، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في دلائل النبوة، وفي السنن الكبرى، عن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( اقرأ عليّ القرآن فقلت: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقرأ عليك، وعليك أنزل؟! ) يعني: أنت تقرأه ونحن نتعلمه منك، والله أنزل عليك هذا القرآن بواسطة أمين السماء جبريل فكيف أقرؤه عليك؟ ( أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: إني أحب أن أسمعه من غيري )، وفي هذا تشريع من نبينا الكريم صلوات الله وسلامه عليه إلى الاستماع إلى تلاوة القرآن، وأن نطلب هذا من المقرأين، وقد كانت هذه عادة سلفنا الكرام، وكانوا إذا اجتمعوا يقول عمر رضي الله تعالى عنه لـأبي بن كعب : ذكرنا يا أبي بربنا! فيقرأ القرآن، وكانوا يجتمعون على هذا، ولا يخلو اجتماع من اجتماعاتهم من تلاوة كلام الله عز وجل، ثم إذا كان لهم حديث يتحدثون به، ثم تغيرت الأمور، فصارت اجتماعات الناس على القيل والقال، وفرقة أخرى يسمون أنفسهم بالصوفية بدأوا يجتمعون على الغناء وعلى البلاء باسم الله جل وعلا، فإذا اجتمعوا يحضرون القوال بدلاً من التالي لكلام ذي العزة والجلال، ويغني (يا ويل) على تعبيرهم، وهم يتواجدون، وما يتواجدون إلا للشيطان لا لذي الجلال والإكرام.

وتقدم معنا أن هذا السماع أعني سماع الغناء محدث في الإسلام، ولا سيما إذا زعم الإنسان أنه قربة يتقرب به إلى ذي الجلال والإكرام.

(فشرع عبد الله بن مسعود في قراءة سورة النساء، حتى وصل إلى قول الله جل وعلا: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء:41-42]، قال: حسبك، يقول: فنظرت إليه، فإذا عيناه تذرفان صلوات الله وسلامه عليه)، وهذا كما سيأتينا من الآثار المحمودة التي كانت تظهر على سلفنا عند تلاوة كلام ربنا دمعة العين، ووجل القلب، وقشعريرة الجلد، ويأتينا بيان حكمها إن شاء الله، فهذه الأمور شرعية، وإذا لم تظهر على التالي، ففي تلاوته واستماعه وحضوره وخشوعه نقص، وهذه الأمور الثلاثة ذكرها الله في كتابه، أولها قشعريرة الجلد، قال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر:23]، وثانياً: وجل القلب، كما قال الله جل وعلا في أول سورة الأنفال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2]، وثالثها: دمع العين، قال سبحانه: وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [المائدة:83] دمع العين، وجل القلب، قشعريرة الجلد، هذه آثار محمودة طيبة كانت تظهر على سلفنا عند سماع كلام ربنا، وهنا نبينا عليه الصلاة والسلام عيناه تذرفان بالدمع فداه أنفسنا وآباؤنا وأمهاتنا وعليه صلوات الله وسلامه.

شواهد لقراءة ابن مسعود القرآن على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم

الحديث له طرق أخرى رواه الإمام الحاكم في مستدركه في الجزء الثالث، صفحة تسع عشرة وثلاثمائة بسند صحيح أقره عليه الذهبي ، عن ابن حريب ، عن أبيه حريب ، قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن مسعود أن يقرأ، فقرأ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه سورة النساء وهذا في مناسبة أخرى، (فاستعبر النبي صلى الله عليه وسلم)، أي: أخذته العبرة وهي الخشوع والإثارة، فبدأ يبكي عليه صلوات الله وسلامه، فكف عبد الله بن مسعود عن القراءة، -وفي الرواية السابقة: قال له حسبك- ثم تكلم فحمد الله، في أول كلامه، وأثنى عليه، وصلى على نبيه على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وشهد شهادة حق وقال: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً، كأنه يريد أن يفعل هذا من أجل أن يسلي النبي عليه الصلاة والسلام، وأن يخبره بأننا نؤمن به عليه صلوات الله وسلامه، فعلق نبينا عليه الصلاة والسلام على هذا الكلام الذي جرى من عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال عليه الصلاة والسلام: ( وأنا رضيت لكم ما رضي لكم ابن أم عبد )، فما رضيه لنا عبد الله بن مسعود فعضوا عليه بالنواجذ، وهو الله ربكم سبحانه وتعالى، والإسلام دينكم، ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام كما ورد في كلام عبد الله بن مسعود عندما شهد شهادة حق.

وهذه الأمور الثلاثة من رضي بها ذاق طعم الإيمان وحلاوة الإسلام: ( ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ) والحديث في المسند، وصحيح مسلم وغيرهما من رواية العباس رضي الله عنه عن نبينا صلوات الله وسلامه عليه، ورضي بالشيء إذا قنع به ولم يطلب سواه، فلا بد من تحقيق القناعة والرضا لتذوق للإيمان حلاوة وبهجة، فتتضاءل وتحتقر بجانبها كل لذة وحلاوة حسية.

الأمر الأول: أن تقنع بالله رباً، أي: أن لا تعبد غيره سبحانه وتعالى، وأن تجعل جميع أعمالك لله جل وعلا: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162]، أما أن تتخذ أرباباً متعددة تعبدها من دون الله، ويجمعها هواك فأنت كما قال الله: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا [الفرقان:43]، ولن تذوق حلاوة الإيمان.

والثانية: أن ترضى بالإسلام ديناً، فلا تحتكم إلى غيره، وتحكمه في جميع شؤون حياتك.

والثالثة: أن ترضى بالنبي عليه الصلاة والسلام إماماً، ونسأل الله أن يجعله إمامنا في دنيانا وفي آخرتنا، وأن لا نأتم بغيره بفضل الله ورحمته، يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ [الإسراء:71]، فليس لنا إمام متبع، وليس لنا مسموع إلا هذا النبي الهادي الذي لا ينطق عن الهوى عليه صلوات الله وسلامه، وهو الإمام المسموع بحق، وهو المتبع بصدق.

إذا قنعت بهذه الأمور الثلاثة ولم تطلب سواها، الله ربك والإسلام دينك، ومحمد عليه الصلاة والسلام نبيك، تذق للإسلام حلاوة، فإذا قرأت القرآن تبكي، والقلب يوجل ويخاف، والجلد يقشعر ثم يلين، لكن إذا كانت الأرباب متعددة، والمناهل الفاسدة كثيرة والأئمة تنازع إمامك النبي عليه الصلاة والسلام، فكيف تذوق حلاوة الإسلام؟! نسأل الله أن يجعل هوانا تبعاً لشرع نبينا عليه الصلاة والسلام إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

إذاً: (وأنا رضيت لكم ما رضي لكم ابن أم عبد ) ، وهذه الجملة، وردت من طرق كثيرة عن عدة من الصحابة الكرام رضوان الله عنهم أجمعين، رواه الطبراني في معجمه الأوسط، عن عبد الله بن مسعود، ورواه الطبراني في معجمه الكبير، عن أبي الدرداء، ورواها البزار في مسنده، عن أبي الدرداء وزاد: ( وكرهت لأمتي ما كرهه ابن أم عبد لهم ) فما رضيه ابن أم عبد لهذه الأمة فهو تشريع، وما كرهه ابن أم عبد لهذه الأم فهو تشريع، والصحابة لا يتكلمون عن طريق آرائهم وأهوائهم، إنما يتكلمون حسب ما علموه من نبيهم على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وإسناد الأحاديث في هذه الروايات إسناد صحيح ثابت وفي رواية البزار محمد بن حميد الرازي وهو ثقة وفيه خلاف، وبقية رجال الإسناد كلهم وثقوا كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد.

الرواية الثالثة: رواها الطبراني في معجمه الكبير بسند رجاله ثقات، كما قال الهيثمي في المجمع في الجزء السابع، صفحة أربعين، وقال السيوطي في الدر: إسناد الأثر حسن في الجزء الثاني، صفحة ثلاث وستين ومائة، والأثر رواه ابن أبي حاتم في تفسيره، والطبري في معجم الصحابة، عن محمد بن فضالة الأنصاري وهذا صحابي ثالث، قال: (أتانا النبي صلى الله عليه وسلم) أي: إلى بيوتهم وفي ديارهم رضي الله عنهم، (ومعه عبد الله بن مسعود ، ومعاذ بن جبل، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم قارئاً أن يقرأ، فقرأ) ولم يسم القارئ، لكن بحسب الروايتين المتقدمتين القارئ هو عبد الله بن مسعود، وقرأ نفس هذه السورة في المرات الثلاثة، وكان يقدمها على غيرها، لما فيها من بيان الفرائض والأحكام، وفيها ذكر النبي عليه الصلاة والسلام عند أن يأتي شهيداً على هذه الأمة، وهذا يدل على منزلته، وأن هذه الأمة تشهد على الأمم، ونبينا يزكي شهادتهم.

(فأمر قارئاً أن يقرأ، فقرأ سورة النساء حتى أتى على هذه الآية: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41]، فبكى نبينا صلى الله عليه وسلم حتى اضطرب لحياه وجنبه)، اضطرب أي: تحرك، ولحياه: فكاه الأعلى والأسفل، من كثرة بكائه كما هو حال من يبكي، يتحرك ويختلج فكاه الأعلى والأسفل، وتحرك أيضاً جنباه عليه صلوات الله وسلامه من بكائه، وبدأ جسمه يعتريه القشعريرة، فالجسم ينقبض ويهتز.

ثم قال عليه الصلاة والسلام: ( شهدت على من أنا بين ظهرانيه فكيف بمن لم أره؟! )؛ لأن الله يقول في الآية: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41] على هذه الأمة من أولها إلى آخرها شهيداً، قال: (شهدت على من أنا بين ظهرانيه)، أي: رأيته وأعلم ما جرى منهم، (فكيف بمن لم أره)، مع أن الله سبحانه وتعالى سيطلعه.

وتقدم معنا في حديث عند مباحث النبوة، والحديث في مسند البزار وغيره، وقلت: لا ينزل عن درجة الحسن أن حياة نبينا عليه الصلاة والسلام خير لنا، كما أن مماته خير لنا، ففي حياته نحدث ويحدث لنا، من أحكام فينزل الوحي بشأن ذلك، وفي مماته عليه الصلاة والسلام تعرض عليه أعمالنا.

إذاً سيشهد علينا على حسب ما عرض عليه، فكأنه ينظر إلينا ويرانا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وتقدم معنا أن أعمال الإنسان تعرض على أقاربه من الموتى، وأعمال هذه الأمة تعرض على نبيها صلوات الله وسلامه عليه، بعد موته، فما رأى من خير وحسن حمد الله عليه، وما رأى من دون ذلك استغفر لنا صلوات الله وسلامه عليه، وإذا حرمنا من التمتع أو من النظر إلى نور وجهه في الحياة، فينبغي أن يسلي الله هذه الأمة بشيء ينالهم من نبيهم، فمن يأتي بعده تعرض أعماله على هذا النبي الرحيم الكريم، ويستغفر له، وهذا بشارة عظيمة، وتقدم معنا أن هذا الحديث بوب عليه أئمتنا باب بركة النبي عليه الصلاة والسلام حياً وميتاً، عليه صلوات الله وسلامه، تقدم معنا الحديث وتفصيل الكلام عليه، وأنه قد صححه ستة من الحفاظ الأئمة النقاد رحمهم الله.

ما يحصل للإنسان عند قراءة القرآن

إن ما حصل من نبينا عليه الصلاة والسلام من بكاء واضطراب لحييه، وتحرك جنبيه هذا كله يدل على الخشوع، بكاء العين، ووجل القلب وخشوعه، وقشعريرة الجلد واضطرابه، وما زاد على ذلك من صعق يعتري الإنسان، أو من موت يصيبه عند سماع كلام الرحمن، ما زاد على هذا له حالتان: الحالة الأولى: إن حصل بتكلف واستدعاء من الإنسان، فعليه في ذلك إثم ومعصية عند الرحمن، الحالة الثانية: إن لم يحصل بتكلف، إنما كون عليه ضارب عند سماع كلام الله عز وجل، فما تحمل لضعفه فصعق، واعتراه الغشي والغيبوبة، ثم استيقظ بعد ساعة أو ساعات أو مات، كما حصل هذا في التابعين الطيبين الطاهرين، كـزرارة بن أوفى كان قاضي بلاد الكوفة، توفي سنة ثلاث وتسعين للهجرة، وحديثه عندكم في الكتب الستة، وترجمته في تقريب التهذيب، يقول الحافظ في ترجمته: ثقة عابد.

ثبت في مستدرك الحاكم بسند صحيح وهو في حلية الأولياء، وكتاب الزهد للإمام أحمد : أن زرارة بن أوفى صلى في مسجد بني قشير فقرأ في صلاة الفجر سورة المدثر، فلما وصل إلى قول الله عز وجل: فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ [المدثر:8] ما أكمل السورة وخر في مكانه ميتاً.

هذا الذي حصل في زمن التابعين، من الصعق والموت عند سماع القرآن، هذا ما حكمه؟ أولاً: نقول: هذا يدل على نقص؛ لأن الكمال أن يتفاعل مع القرآن دون أن يعتريه شيء من النقصان، لا من غيبوبة ولا من موت، وهذا هو حال الكمل من نبينا عليه الصلاة والسلام وصحبه، فيدل على نقص قطعاً وجزماً، لكن هذا النقص هو فيه معذور، وعليه مأجور بإذن العزيز الغفور، ولذلك قال ابن الجوزي في تلبيس إبليس في صفحة سبع وخمسين ومائتين، وابن تيمية في مجموع الفتاوى في الجزء الحادي عشر، صفحة تسعين وخمسمائة، قال: السبب إذا لم يكن محظوراً كان صاحبه فيما تولد عنه معذوراً، يعني: سماع القرآن ليس بمحظور ولا، بل هو ممنوع قربى، فصاحبه فيما تولد عنه معذور، فلو أن إنساناً سمع القرآن ثم جاءت بعد ذلك آيات لو أنزلت على الجبال لفتتها كما قال الله: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر:21]، فما تحمل فصاح ومات، وهذا وقع في التابعين بكثرة، لماذا؟ لضعفهم، وكثرة خشوعهم، وقوة تعظيمهم لكلام ربهم، أما الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين فكانوا يتحملون، فتقشعر الجلود، وتدمع الأعين، وتخاف وتوجل القلوب، لكن لا يحصل لهم صعق، ولا يحصل الموت، وهذا حال الكمال، وما حصل، وفي زمن التابعين بكثرة فيعذرون عليه ويؤجرون؛ لأنهم لم يتكلفوا ذلك، وما تعرضوا له، إنما سمع القرآن وهو مأمور بسماعه، فإذا كان السبب ليس محظوراً يكون صاحبه فيما تولد عنه معذوراً، لكن لا يدل هذا على كمال، فالكمال ما كان عليه نبينا عليه الصلاة والسلام وصحبه الكرام الكاملون المكملون عليهم جميعاً رضوان الحي القيوم.

أخذ القرآن من أربعة من الصحابة منهم ابن مسعود

كان عبد الله بن مسعود يقرأ القرآن غضاً رطباً كما أنزل، ولا زلنا في مكانته العلمية رضي الله عنه.

وقد أمرنا خير البرية أن نستقرئ القرآن، وأن نأخذه، وأن نتعلمه من أربعة من الصحابة الكرام على رأسهم وفي مقدمتهم ابن أم عبد ، والحديث رواه الإمام أحمد في المسند، والشيخان في الصحيحين، والترمذي في السنن، وابن سعد في الطبقات، وأبو نعيم في الحلية، والحاكم في المستدرك مع كونه -كما قلت- في الصحيحين، من رواية مسروق قال: أتينا عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، فذكرنا عنده عبد الله بن مسعود، فقال عبد الله بن عمرو بن العاص: ذكرتم رجلاً لا أزال أحبه منذ أن سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (خذوا القرآن من أربعة: ابن أم عبد أولهم، قال عبد الله بن عمرو : وبدأ به، ومعاذ بن جبل ، وأبي بن كعب ، وسالم مولى أبي حذيفة) وهؤلاء الصحابة رضوان الله عنهم أجمعين: عبد الله بن مسعود ، أبي بن كعب ، معاذ بن جبل ، سالم مولى أبي حذيفة خذوا القرآن من هؤلاء الأربعة، لكن ما مكانتهم، بدأ نبينا عليه الصلاة والسلام بـعبد الله بن مسعود يقول عبد الله بن عمرو رضي الله عنهم أجمعين: ذكرتم رجلاً أنا لا أزال أحبه، وحقيقة الحب في الله والبغض في الله هو الإيمان، ويجب عليك أن تحبه، إذا لم تحبه فأنت مقصر، الشيخ عبيد الله الأفغاني من المشايخ الصالحين، وكان يقيم في أبها، فقال له بعض إخوانه: إني أحبك، قال: إذا لم تحبني فإيمانك ناقص، وأمره بذلك، وكان يقول: أنا مؤمن من عباد الله يجب عليك أن تحبني، فإن لم تفعل يكون إيمانك نقص.

عبد الله بن عمرو يقول: أنا لا أزال أحبك، وكيف لا نحب من كان النبي عليه الصلاة والسلام يحبه! لكن -كما قلت- ليبين لنا أن الأمور ينبغي أن توضع في مواضعها قال: أنتم ذكرتم رجلاً القلب يتعلق به، منذ أن سمعت النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (خذوا القرآن من أربعة: ابن أم عبد بدأ به، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل ، وسالم مولى أبي حذيفة ) رضي الله عنهم أجمعين، وهذا حديث كما هو ثابت عن عبد الله بن عمرو ، نقل عن غيره من الصحابة الكرام.

ثبت في المستدرك في الجزء الثالث، صفحة خمس وعشرين ومائتين، من رواية علقمة ، وتقدم معنا أن علقمة هو ألصق الناس بشيخه حبر الأمة وإمامها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( خذوا القرآن من أربعة: ابن أم عبد ، ومعاذ بن جبل ، وأبي بن كعب ، وسالم مولى أبي حذيفة ) والحديث صححه الحاكم وأقره عليه الذهبي، لكنه هناك من رواية عبد الله بن عمرو ، وهنا من رواية عبد الله بن مسعود .

عبد الله بن مسعود من حملة العلم

لقد روي ما يدل على مكانة عبد الله بن مسعود في العلم عن جمع غفير من الصحابة، وأنهم كانوا يوصون بأن يتلقى العلم عنه، وأن يؤخذ القرآن منه، من ذلك ما رواه الترمذي وقال: حسن غريب صحيح، من رواية يزيد بن عميرة قال: (لما احتضر معاذ بن جبل رضي الله عنه قلنا له: أوصنا قال: أجلسوني، قال: فأجلسناه رضي الله عنه، ثم قال: إن العلم والإيمان مكانهما من ابتغاهما وجدهما ثلاث مرات)، ومكانهما هو في الكتاب وفي السنة، من ابتغاهما وجدهما، يعني: إن الله عز وجل عندما أمرنا باتباع الحق، من مقتضيات ذلك الاتباع أن الله جل وعلا يجعل الحق واضحاً معلوماً، إن الإيمان والعلم مكانهما من طلبهما وجدهما، (ثم قال: خذوا العلم من أربعة من عويمر أبي الدرداء الذي هو حكيم هذه الأمة، ومن عبد الله بن مسعود، ومن سلمان الفارسي ، ومن عبد الله بن سلام الذي كان يهودياً فأسلم، وقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إنه عاشر عشرة في الجنة)، وقد وردت أحاديث كثيرة صحيحة في عدد من الصحابة أنهم في الجنة منهم العشرة المبشرون، ومنهم عبد الله بن سلام ، ومنهم ثابت بن قيس بن شماس ، ومنهم عبد الله بن مسعود قطعاً وجزماً، كما تقدم معنا، أن رجله عند الله أثقل من جبل أحد، فله تلك المكانة الطيبة المباركة عند الله جل وعلا.

إذاً خذوا العلم من هؤلاء الأربعة، الشاهد معنا عبد الله بن مسعود ، ومعه عويمر أبو الدرداء ، وسلمان الفارسي ، وعبد الله بن سلام رضي الله عنهم أجمعين.

قبل أن ننتقل إلى الأمر الثالث لا زلنا في الأمر الثاني وهو في بيان مكانته العلمية، ومنزلته في ذلك بين الصحابة الكرام، إذا كانت منزلة عبد الله بن مسعود كما تقدم معنا رضي الله عنه، وهو أقرأ الناس بكلام الله عز وجل، وله تلك المنزلة العظيمة بين الصحابة الكرام، فيحق له أن يقول ما سنذكره عنه، وهذا من باب التحدث بنعمة الله عليه، لا من باب الفخر، كما قال ربنا: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى:11]، يقول كما في الصحيحين، وسنن النسائي ، والأثر رواه الخطيب البغدادي في كتاب الرحلة في طلب الحديث -وكنت ذكرت هذا الكتاب في مباحث سابقة، وقلت إنه يقصد من هذا الكتاب من رحل من أئمتنا في حديث واحد، لا في طلب الحديث مطلقاً، فأولئك لا يحصون، بل يحتاج عدهم إلى كتب، لكن من رحل من المسلمين من الصحابة فمن بعدهم في طلب حديث واحد، يعني: يشد رحله من المدينة المنورة إلى مكة ليلتقي بـعقبة بن عامر ويتلقى عنه حديثاً، والكتاب ما أجمله وأظرفه في قرابة مائة وثمانين صفحة الرحلة في طلب الحديث، في صفحة خمس وعشرين أو ست وعشرين- وفي طبقات ابن سعد ، ورواه الفسوي في المعرفة والتاريخ، والطبري في أول تفسيره في الجزء الأول، صفحة ثمانين في الطبعة المحققة، ورواه ابن أبي داود في المصاحف، في صفحة أربع وعشرين، وهو ابن أبي داود صاحب السنن، وهو إمام ثقة عدل رضا، وإن تكلم والده فيه، وكل منهما إمام، بل بعض أئمتنا قدمه على والده، لكن في الحقيقة تقديم الوالد ينبغي أن يكون هو المعتبر، لكن تكلم والده فيه، ومع ذلك فهو ثقة عدل إمام رضا من أحبار زمانه، عن مسروق قال: (سمعت عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين يقول: والله الذي لا إله غيره -لو لم تحلف- ما أنزلت سورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وأنا أعلم أين نزلت)، أي: في البقعة التي نزلت فيها، من مكي، ومدني، وسفري، وحضري، وكسائي، ونهاري، وليلي، كل هذا مطلوب، عند أئمتنا في كتب علوم القرآن، لا يوجد سورة إلا وأنا أعلم أين نزلت، (وما أنزلت آية على رسول الله عليه الصلاة والسلام إلا وأنا أعلم فيم أنزلت).

ذكر هناك: أين، وهنا: فيم، يعني: في أي شيء؟ وما موضوعها؟ وماذا تعالج؟ وما أحكامها؟ يعني: أعلم المكان وأعلم المعنى والتفسير، وأين نزلت السور، وماذا يراد بكل آية أعلمه، فانظر لهذه المكانة، فيحق له أن يقول هذا إذا كانت له تلك المكانة كما تقدم معنا.

ثم قال تكملة الأثر: ولو أعلم أن أحداً أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لرحلت إليه.

الخطيب البغدادي يورد هذا في الرحلة في طلب العلم والحديث، ويقول: هذا عبد الله بن مسعود، يقول: لو كان يعلم أحداً على وجه الأرض أعلم منه بكتاب الله عز وجل، والإبل تصل إليه لركب ورحل إليه، من أجل أن يتلقى عنه مكان نزول الآية أو معنى الآية، وهل هناك علم بعد هذا العلم؟ لا يوجد سورة إلا ويعلم أين نزلت، ولا يوجد آية من كتاب الله إلا ويعلم فيم أنزلت، ولو يعلم أن أحداً أعلم منه بكتاب الله تبلغه الإبل لرحل إليه، وفي بعض الروايات وهي ثابتة في الصحيحين، قال: (لقد قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعاً وسبعين سورة، ولقد علم أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام)، والمعنى: هم يعلمون، وأنا أقول هذا، واسألوهم هل أحد ينكر عليّ؟ ولقد علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أعلمهم بكتاب الله عز وجل، وما أنا بخيرهم، يعني: لما ذكر ما ذكر، قد يقال: أنت تزكي نفسك وتقدم نفسك على الصحابة، فكأنه يقول: انتبهوا العلم حصلته، لكن الخيرية هذه متروكة لرب البرية، وما أنا بخيرهم، ونحن نقول: من أقرأ القرآن وأقرأه فهو من خير الصحابة قطعاً وجزماً، وأنت من أقرأهم، فأنت أيضاً من خيرهم رضي الله عنهم أجمعين.

ثم قال: (ولو أعلم أن أحداً أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لرحلت إليه).

إذاً: أخذ من النبي عليه الصلاة والسلام من فمه مباشرة دون أن يتلقى هذا من واسطة بضعاً وسبعين سورة، والصحابة لا ينكرون هذا.

هذا الكلام عند الصحابة الكرام، وهل يسلمون بها؟

قال أبو وائل شقيق بن سلمة : فجلست في الحلق أدور على مجالس الصحابة، ومجالس العلم عندما تحدث عبد الله بن مسعود بما تحدث، هل ينقضونه وينكرون عليه، فجلست في الحلق أسمع ما يقولون، فما سمعت راداً يقول غير ذلك، ولا يعارضه، بل كلهم موافقون على أنه من أعلمهم بكتاب الله عز وجل، ويقولون: هو من أعلمنا لا نعيب ذلك عليه ولا نرد قوله، ونحن نسلم له بذلك، هذا يقوله -كما قلت- أبو وائل شقيق من باب أن يبين لنا أن هذا القول قيل، لكنه أقر، وحتى لا يأتي إنسان يقول هو يقول، لكن الله عليم بحال الصحابة هل يسلمون أم لا؟ يقول: أنا كنت أدور على الحلق، وأتفقد مجالس العلم، بعد أن قال عبد الله بن مسعود ما قال، فما رأيت أحداً يرد هذا ولا يعيبه.

إذا كانت منزلته كما تقدم يحق له أن يقول هذا، وهو فيما قال صادق، وفيما أقسم بار غير حانث.

طريقة الصحابة في حفظ كتاب الله تعالى

هذه المنزلة التي وصل إليها هذا العبد الصالح ولا زلنا ضمن أخباره العلمية -كما قلت- في الأمر الثاني من ترجمته، لو تعلمنا أيضاً على طريقته في تحصيل العلم، ولننظر إلى حال سلفه الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، كيف يقيدون العلم؟ وهذه أعظم وسيلة وطريقة لتقييد العلم أن تعمل به، يستمع ثم يتعلم ثم يفهم ولا يتلقى بدون وعي ثم يترجمه لعمل، فكانوا مصاحف تتحرك رضي الله عنهم، وأعمال تترجم كلام ذي العزة والجلال، فاستمع لهذه الطريقة الفريدة التي نشأ عليها الصحابة الكرام رضوان الله عنهم أجمعين.

ثبت في تفسير الطبري في الجزء الأول، صفحة ثمانين في الطبعة المحققة، ورواه البيهقي في الجزء الثالث، صفحة عشرين ومائة، ورواه الإمام الفسوي في المعرفة والتاريخ، وله حكم الرفع كما يقول هذا التعبير الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على تفسير الطبري، عن شقيق أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين قال: (كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن ويعمل بهن)، إذا تعلم عشر آيات لا ينتقل إلى عشر أخرى حتى يعرف التفسير ثم يعمل بمدلول هذه الآيات ويترجمها بسلوكه وعمله.

وسيأتينا من كلام غيره أيضاً من السلف تعلم العلم والعمل جميعاً.

وهذه طريقة محكمة في تلقي العلم، وهو أن يترجمه الإنسان إلى عمل بعد أن يفهمه، تلقى كلام الله عز وجل وفهمه ثم عمل به، هذا ضروري، وهذا كان حال الصحابة الكرام رضوان الله عنهم أجمعين، وعليه عندما يقول: لا يوجد سورة إلا وأنا أعلم أين نزلت، ولا آية إلا وأنا أعلم فيم أنزلت صحيحة أم لا؟ قطعاً صحيح، إنه يقول: نحن قلنا ونبينا عليه الصلاة والسلام لم يربنا على هذه الطريقة، وتقدم معنا أنه سادس من أسلم، تلقى القرآن بهذه الطريقة من أوله لآخره، يتعلم عشر آيات يعرف المعاني ويفهمها على التمام، ويترجمها بعمل ثم ينتقل إلى عشر أخرى، فإذا أنهى القرآن وقد صار قرآناً نظرياً وعملياً، وهذا كان حالهم رضي الله عنهم، والأمة بعد ذلك حصل فيها الخلل عندما تغيرت عن هذا المسلك الجليل، لما تغيرت وصاروا يتلقون العلم نظرياً دون وعي وفهم من ناحية، ودون علم وعمل من ناحية أخرى، وصار بعد ذلك المنافقون هم القراء إلا ما رحم ربك.

ثبت في المستدرك بسند صحيح على شرط الشيخين وأقره عليه الذهبي كما في الجزء الأول، صفحة خمس وثلاثين، والأثر رواه الطبراني في معجمه الأوسط، ورجاله رجال الصحيح كما قال الهيثمي في المجمع، في الجزء الأول، صفحة خمس وستين ومائة، وهو في السنن الكبرى للبيهقي، وقد حكى العراقي في الجزء الأول، صفحة اثنتين وثمانين تصحيح الحاكم وأقره، والحديث صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما، يقول: (عشنا برهة من دهرنا، وإن أحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن)، كنا نقرأ مع النبي عليه الصلاة والسلام نؤتى الإيمان قبل القرآن، (ثم كانت تنزل السورة على النبي عليه الصلاة والسلام، وكنا نتعلم حلالها وحرامها، وما ينبغي أن يوقف عندها)، وهذا كان حال الصحابة في العصر الأول، إيمان وخشية من الرحمن، وسورة في قلوبهم من نبيهم على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، إذا نزل تعلم حلاله وحرامه وما ينبغي أن يوقف عنده، قال ابن عمر رضي الله عنه: ولقد رأيت رجالاً يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأه من فاتحته إلى خاتمته لا يعرف أمره ولا زجره وما ينبغي أن يوقف عنده ينثره نثر الدقل أي: رديء التمر، تسأله عن معناه لا يعرف، ومن باب أولى لا يعمل.

إذاً فنسأل الله العافية من الزمن الذي نعيش فيه، يقرأ القرآن وهو فاسق، يقرأ القرآن ولا يستحي من الرحمن بعد ذلك ليسمع الغناء لمغنية فلانية ومغن فلاني، ألا تستحي من الله أنت تقرأ كلام الله عز وجل، ثم على الأقل إذا ابتليتم بالمعاصي فاستتروا، يعني: اجعل لك قليل حياء عن اجتماعك في الغناء، واترك الناس في ستر ربهم، ولا ينشر هذا في الصحف، إن أكرمك الله بتلاوة كلامه، لكن -كما قلت- تلاوة بلا فهم، ثم من باب أولى بلا عمل، يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، يقرأه من فاتحته إلى خاتمته لا يعرف أمره ولا زجره ولا ما ينبغي أن يوقف عنده، ينثره نثر الدقل. ثبت عن جندب بن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين، كما في سنن ابن ماجه بسند رجاله ثقات، ورواه البيهقي في السنن الكبرى في الجزء الثالث، صفحة عشرين ومائة، قال: (كنا ونحن فتيان حزائر) جمع حزور، وهو الفتى الذي يمتلئ شباباً ونشاطاً وقوة وحيوية، (مع النبي عليه الصلاة والسلام، فتعلمنا الإيمان قبل القرآن، ثم نزل القرآن فازددنا إيماناً)، هل تعلمنا المعنى وعملنا به؟ لكن المعنى الذي يحصل به الإيمان، رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد عليه الصلاة والسلام نبياً، والقلوب تتصل وتتعلق بعلام الغيوب، كانت همة الإنسان في هذه الحياة نيل رضوان الرحمن، هذا هو الإيمان، هذا ما تعلمناه ثم نزل القرآن ليزيدنا إيماناً على إيمان نتعلم الحلال والحرام، ونتلو كلام الرحمن فنزداد إيماناً.

قال جندب بن عبد الله بعد ذلك: (وإنكم اليوم تقرأون القرآن قبل الإيمان)، أي: أن القلوب ليس فيها الإيمان الكامل التام واليقين الحق، يقرأ القرآن من أوله إلى آخره، وحلاوة الإيمان ليست في قلبه، لا يعرف تفسير كلام ربه، ومن باب أولى لم يعمل به، وإنكم اليوم تتعلمون القرآن قبل الإيمان، وهذا ثابت عن غيره من الصحابة الكرام، ففي السنن الكبرى للإمام البيهقي في المكان المتقدم أيضاً عن حذيفة رضي الله عنهم قال: (إنا قوم أوتينا الإيمان قبل القرآن، وأنكم اليوم تؤتون القرآن قبل الإيمان، ومن ذلك أن ترى الحدث من أولاد المسلمين في هذه الأيام يقرأون القرآن، وليس عنده حياء من الله، ولا خشية منه)، لعلك تراه في حلق القرآن ويتعلم القرآن وهو يعمل المنكرات، ولعلك ترى، ونسأل الله العافية وحسن الخاتمة، لماذا القلوب ليس فيها خشية من علام الغيوب؟ وإذا قرأ القرآن دون أن يكون في القلب بهجة ماذا يستفيد صاحبه؟ وهذا ما حصل بعد جيل الصحابة رضوان الله عنهم أجمعين.

إذاً هذه طريقة محكمة سديدة رشيدة، كان نبينا عليه الصلاة والسلام يعلمها الأمة في أول عهدها، ومشى عليها الصحابة الكرام رضوان الله عنهم أجمعين.

وقد ثبت عن أبي عبد الرحمن السلمي ، وهو عبد الله بن حبيب وحديثه في الكتب الستة، وأقرأ في مسجد الكوفة أربعين سنة القرآن، وهذا الأثر ثابت في تفسير الطبري، وطبقاته متعددة، وقد تلقى القرآن عن عثمان ، وعلي ، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين، يقول: حدثنا الذين كانوا يقرأوننا القرآن، من هم؟ عثمان ، وعلي ، وابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين من كبار الصحابة، أنهم كانوا يستقرأون النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل، فتعلموا القرآن والعمل جميعاً، زاد الإمام ابن سعد في روايته في الطبقات قال: وإنه سيرث القرآن بعدنا أقوام يشربونه شرب الماء، لا يجاوز تراقيهم وهي عظام الصدر، بل لا يجاوز هاهنا ووضع يده على الحلق، يعني: لا يصل هذا القرآن إلى القلب، ولا يجاوز إلا اللسان فقط، فهو مجرد هذرمة، لا يصل إلى القلب ولا يتفاعل هذا الكلام بقلب الإنسان، تلك طريقة فريدة صار عليها الصحابة الكرام رضوان الله عنهم أجمعين؛ ولذلك كان يقول: لا يوجد سورة إلا وأنا أعلم أين نزلت وفيم أنزلت.

الآن في هذه الأيام من حافظ عن معنى كلمات أو مفردات لا يتقنها، فكيف سيعمل بها؟

من نقل عنه من الصحابة أنه كان مقلاً من قراءة القرآن وجوابه

قبل أن أنتقل إلى تنبيه آخر يتعلق بالجانب الثاني من جوانب ترجمة عبد الله بن مسعود ألا وهو ترجمته العلمية، عندنا تنبيه ينبغي أن ننتبه له.

الصحابة الكرام كانوا يكثرون قراءة القرآن قطعاً وجزماً، لكن نقلت آثار عن بعضهم أنه كان يقل من قراءة القرآن لاشتغاله بمصلحة عامة، فشتان شتان بين الإقلال وبين الجهل، فرق بين الأمرين، يعني: هو يتقن القراءة من أولها لآخرها وهو عربي قح، وبمجرد أن يتقن القراءة لا تحتاج منه إلى شيء من الكلفة، أما في هذا في العصر وعند العرب، إذا لم يتكلم ويجود، يعني: عندما يقول: بعيد، العربي لا يقول: بعيد ويسكت، حتى في كلامه الذي ليس من كلام ربه يقول: بعيد -ويقلقل الدال- من أجل أن تظهر الكلمة؛ لأنك لو لم تقلقلها لا يسمعها، فأحكام التجويد هذه ضمن قواعد عربية، والقرآن نزل بلسان عربي مبين، وهذا علم جائز.

وما يقوله بعض الجهال الآن من أن علم التجويد بدعة، ثم خفف الفتوى وقال: لا بأس به، يخرج أحياناً مثل هذه الفتاوى الباطلة في برامج نور على الدرب، هذا هو التجويد، مباح من أتقنه فلا بأس، وحسن وإلا فلا حرج عليه، فالمقصود أن يقرأ كلام الله، أعوذ بالله من هذه الكلمة الضالة، وهل تصح قراءة القرآن بدون تجويد؟ المقصود القراءة ليس المقصود أن تعرب، ولا أن توافق قواعد اللغة لا يصح، ولذلك يقول علماؤنا: اللحن قسمان: جلي وخفي، فالجلي الحمد للهُ -بالضم- ربَ -بالفتح- هذا لحن جلي، واللحن الخفي لحن أيضاً، والذي يلحن به ويقع فيه آثم عاص لله، كأن يأتي ويقول: الحمد لله ربي -يرقق الراء- ما أشبع النص الطبيعي، وحركة العالمين قصرها، وهذا لا يجوز وهو حرام بالإجماع، وهو لحن وهذا لحن، لكن إذا أنت ما تلقيت علم التجويد، كما أننا نتلقى الآن أن الفاعل مرفوع، وأن المبتدأ مرفوع، وأن الخبر مرفوع، كما تلقاها العرب، تقوم بها فريضة، فنحن الآن لا بد من أن نتلقى قواعد اللغة من أجل أن نعرف كيف نتكلم؟ وإلا فقد تقول في: ذهب زيدٌ -بالرفع- ذهب زيدٍ -بالخفض- فإذا سألت: كيف هذا؟ نقول المقصود أن نتكلم لا يا فلان! زيد فاعل فيجب أن يكون مرفوعاً، وهذا من تعلم قواعد اللغة، وهكذا قواعد التجويد فنحن نتعلمه فلا ينظر إليها أنها نافلة، والأعجمي في هذه الأيام سواء، لا بد له من أن يتلقى كلام الله عن القراء، وكما قال الناظم:

والأخذ بالتجويد حتم لازممن لم يجود القرآن آثم

لأنه به الإله أنزلوهكذا منه إلينا وصلا

وهل تصح تلاوة من غير تجويد؟ فانتبه إلى ما نقل عن الصحابة رضي الله عنهم من كلام أنهم يقلون قراءة القرآن، شتان بين الإقلال وبين عدم تجويده.

الرد على من نقل عن خالد بن الوليد أنه لا يُحسن قراءة القرآن

يقول بعض الجهال في هذه الأيام: خالد بن الوليد رضي الله عنه كان لا يتقن قراءة القرآن فينبغي أن يكوى فمه بالنار، خالد لا يتقن قراءة القرآن، وأنت أيها السفيه في هذا الزمان تتقن قراءة القرآن؟! لكن إذا نقل عن خالد كلام ينبغي أن تفهمه كما هو، فاستمع ماذا يقول خالد رضي الله عنه.

ثبت في مسند أبي يعلى بسند صحيح من رواية قيس بن أبي حازم يقول: قال خالد: منعني الجهاد كثيراً من القراءة، من أي شيء منعه؟ هل هو من القراءة؟ أو من معرفة القراءة؟ أو من الإكثار؟ منعني الجهاد كثيراً من القراءة.

قال قيس بن أبي حازم: ورأيته أتي بسم في إناء، وقال: باسم الله وشربه، والأثر إسناده صحيح، قال الذهبي معلقاً على هذا الكلام في سير أعلام النبلاء في الجزء الأول، صفحة خمس وسبعين وثلاثمائة، قلت: والله هذه هي الكرامة، وهذه هي الشجاعة، يعني: رجل يشرب السم رضي الله عنه، ويخوض المعارك، هذه الكرامة مع الشجاعة، يقول: أنا منعني الجهاد من كثرة القراءة.

عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قد يختم في اليوم ختمة، لكنه ينتقل من غزوة إلى غزوة بعد أن أسلم خالد ما قدم النبي عليه الصلاة والسلام عليه أحداً في إدارة الجيوش وقيادتها، خالد بن الوليد سيف من سيوف الله المسلولة رضي الله عنه، وقد ثبت من كلام نبينا عليه الصلاة والسلام ذلك، كما في صحيح البخاري ، والمستدرك، ورواه الإمام أحمد في المسند، من رواية أبي عبيدة بن الجراح ، ورواه أبو يعلى ، عن صحابي لم يسمَ، ورواه ابن سعد في الطبقات من رواية قيس بن أبي حازم مرسلاً، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( خالد سيف من سيوف الله )؛ ولذلك قال علماؤنا: هذه إشارة من نبينا عليه الصلاة والسلام لـخالد أنه لا يمكن أن يقتل، ولن يتوفى شهيداً ولو ألقى بنفسه في وسط المعارك، وهل سيف الله يبتر؟ هذا سيف لا يمكن أن يبتر، ولذلك عندما مات مات على فراشه، ولا يوجد في بدنه موضع شبر، أو موضع إصبع إلا وفيه: ضربة بسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، ثم يموت على فراشه، فلا نامت أعين الجبناء.

خالد بن الوليد رضي الله عنه توفي سنة 21 للهجرة، في بلاد الشام في بلدة طوس، وهي من بلاد الشام رضي الله عنه خالد بن الوليد كان عنده نهم في الجهاد، فيقود الجيوش في أقطار الأرض فيمنعه عن كثير من القراءة، قد يقرأ في اليوم جزءاً لكن شتان بين أن تقول: خالد بن الوليد لا يتقن قراءة القرآن، أما تستحي من الرحمن تقول هذا؟!

-كما قلت- الصحابة الكرام ينبغي أن يعرف قدرهم، والذي يعرض بواحد منهم ينبغي أن يوقف عند حده، فكيف يقال: الصحابة الكرام لا يتقنون قراءة القرآن؟! سبحان ربي العظيم، أما كونه سئل عن كثرة التلاوة، ففرق بين الأمرين، بين أن يقول: شغلني أي: منعني الجهاد كثيراً من القراءة.

ومن كرامته رضي الله عنه أنه أتي إليه بإناء فيه خمر، وقيل خل، فقال: اللهم اجعله عسلاً فانقلب إلى عسل برحمة الله عز وجل، اللهم اجعله عسلاً، فالصحابي مبارك رضي الله عنه.

أما نعمته في الجهاد، وهي التي منعته من كثرة القراءة، رواها أبو يعلى في مسنده، وإسناده حسن كما في المجمع في الجزء التاسع، صفحة خمسين وثلاثمائة، وحقيقة من العيب أن نتكلم على مناقب خالد في هذه العجالة.

إذا تكلمنا على عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في المباحث الماضية، وهذه قد لا ننتهي، وخالد أيضاً إذا جاءنا -إن شاء الله- ذكره ضمن مباحثنا، نطيب حياتنا بترجمته الطيبة المباركة رضي الله عنه، لنرى هذه الجوانب التي فيه، وكيف خصه الله بهذه الخيرات والبركات والفضائل؟ وما عزله عمر إلا بشيء واحد ألا وهو: قال: خشيت أن يقول الناس إنهم ينتصرون بسبب خالد، أنت سيف من سيوف الله اجلس، الله سينصر دينه بدونك، عزله لهذا الأمر، ولذلك أكرمه، وقال له: لن ترى مني معتبة، لكن الناس كلما تدخل غزوة تنتصر فيقولون: خالد، بدأ النصر ينسب إليك قف، فأمر أبو عبيدة أن يقود الجيوش وقد حصل النصر، فالله سينصر دينه، لكن ليس لشيء في نفس عمر على خالد رضي الله عنهم أجمعين، وسيأتينا أخباره -كما قلت- عند ترجمته.

بعض الآثار التي تدل على حب خالد بن الوليد للجهاد والشهادة في سبيل الله

يقول قيس بن أبي حازم، قال: سمعت خالد بن الوليد، والأثر -قلت- في مسنده أبي يعلى بسند حسن: ما من ليلة يهدى إليّ عروس فيها أنا لها محب -ليلة وتهدى إليّ عروس مزينة مطيبة وأنا أحبها ويتعلق قلبي بها- أحب إليّ من ليلة شديدة البرد كثيرة الجليد، في سرية أصبح فيها العدو، هو الآن في ليلة شديدة البرد كثيرة الجليد ننتظر الصباح لنصبح العدو من أجل إعلاء راية لا إله إلا الله محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام، فالذي منعه عن كثرة التلاوة جهاد في سبيل الله، فضع الأمر في موضعه، أما أن يقال: إن خالداً ما كان يتقن قراءة القرآن، فهذا كما قلت والله هذيان سخيف، كيف وصل بنا الحال في هذه الأيام؟ أن كل واحد منا متكئ على أريكته، وجالس كما يقال يأكل من الرز واللحم، ويتكلم بعد ذلك على السلف، أما كفانا أنا قصرنا وفرطنا، ودين الله حاله كما لا يخفى عليكم أما كفانا؟ حتى نتعرض لسلفنا؟!

والله إذا كان خالد لا يتقن ويجهل قراءة القرآن، فما أظن أن بعد خالد أحداً منكم يقرأ القرآن، هو مع كثرة الجهاد حتماً لا يتفرغ أن يقرأ كل يوم عشرة أجزاء؛ لأنه في جهاد متواصل، سرية تلو السرية، وغزوة بعد غزوة، ولقد قطع بلاد العراق إلى الشام في خمسة أيام في سير متواصل، والله الذي لا إله إلا هو هذا لا يقطعه إلا إنسان كأنه يحمل بعناية الرحمن، خمسة أيام، وجيش جرار يأتي به من أجل أن يلحق بمدد أهل الشام من أجل أن يزيل دولة الروم وقد أزالها، كما أزال دولة الفرس، هذا خالد بن الوليد في سفر متواصل في سبيل الله، وفي الجهاد لإعلاء كلمة الله، حتماً هذا سيمنعه من كثرة القراءة، لا من إتقان القراءة.

والله لو قرأ خالد القرآن لخشع الحجر لقراءته، واضطرب لسماع صوته، لكن لا يمكن أن يقرأ كحال عبد الله بن مسعود قطعاً وجزماً، ولا يمكن أن يقرأ كحال أبي هريرة قطعاً وجزماً، والله أقام العباد فيما أرى، فهذا مجاهد، وهذا زاهد، وهذا قارئ، وهذا وهذا، وكلنا نكمل بعضنا بعضاً كأصابع اليدين كل واحدة لها وظيفة، لكن لا يمكن لهذه الوظيفة التي للإبهام أن تجعلها للوسطى، لا هذه شيء وهذه شيء، لكن كلاً منها تقوم بعملها، فهذا يقرأ جزءاً؛ لأنه يقوم بأمور يحصل بها أضعاف أضعاف الأجور التي يحصلها مما لو قرأ عشرة أجزاء، وذاك يحمل العلم وينشره ويحصل أيضاً أجر ذلك. وهكذا المجاهد، وهذه الأمة يكمل بعضها بعضاً، أما أن نأتي في هذا العصر ونتطاول، ونقول: خالد لا يتقن قراءة القرآن، فهذا هذيان.

السلف الكرام -كما قلت- التحدث عنهم ومعرفة أخبارهم دين، والتعريض بهم تعريض بالدين، فانتبه لهذا، عدالة الصحابة، وحرمة الصحابة، ومنزلة الصحابة إياك أن تسمح لنفسك بأن تتدخل في ذلك هؤلاء أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، لو لم يكن عندهم إلا رؤيته لكفاهم، دعونا نقف بعد ذلك عند حدنا، ولا نعرض بسلفنا، خالد بن الوليد الذي منعه عن كثرة القراءة الجهاد في سبيل الله، فهل منا مجاهد في هذه الأيام؟ ما منا إلا مخبط، ونحن لا نتقن لا قراءة القرآن، ولا عرفنا الجهاد في سبيل الرحمن، ولذلك لا بد من وعي هذه القضايا وعدم التلبيس على الناس.

إن خالد بن الوليد رضي الله عنه لو قدمت إليه جارية مزينة مطيبة في ليلة وهو يحب تلك الجارية، أحب إليه من تلك الليلة والتمتع بتلك الجارية عن طريق ما أحل الله ما هو؟ أن يكون في ليلة شديدة البرد كثيرة الجليد وهو بعيد عن أهله وأسرته قد يموت، وترمل الزوجة وييتم الأولاد، وهو ينتظر الصباح ليغزو في سبيل الله، فهل هذه الهمة -لا أقول فينا لا والله إذا قلنا فينا ينبغي أن نرجم بالحجارة- هل خطرت على بالنا أنها توجد في نفس أحد؟ هل خطرت هذه الهمة ببالنا في يوم من الأيام؟ وأنها توجد في نفس ولي من أولياء الله؟ استمعها من خالد رضي الله عنه، والصدوق منا في هذه الأيام عندما يريد أن يتزوج يبقى شهوراً وسنيناً يعد من أجل زواجه، وفي ليلة الزواج لعله لا يصلي العشاء ولا يصلي الفجر، ولعله في ليلة الزواج ينام مثل الجيفة إلى آخر النهار، ونضرب بـخالد، وقوله: هذه لو قدمت لي أحب إليّ منها أن أسير في سبيل الله لإعلاء كلمة الله وليس في ظروف طبيعية، فالظروف الطبيعية هذه قد ينشط إليها من ينشط، إنما ظروف بمنتهى القسوة، زمهرير وجليد الثلج يتساقط، والأرض مكسوة بطبقة من جليد، وأنت تنام في غربة، وهو يقول: هذه أشعر فيها بارتياح، هذه ألذ ليلة عنده على وجه الأرض في حياته.

دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

نحن حالنا إذا حمدنا الله نعمة، وأمرنا بعد ذلك إلى الله، أما تلك الأمة همها أن تنصر هذا الدين، ويجاهد في سبيل رب العالمين في الأوقات التي تكرهها نفوس.

همة خالد إلى نيل الشهادة

استمع لشيء من أخباره أيضاً فيما يتعلق بأمر الجهاد، وماذا يرجو على جهاده من أجر عند ربه جل وعلا، والأثر يرويه الإمام ابن حجر نقلاً عن شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك ، عن أبي وائل ، وهو شقيق بن سلمة، قال: سمعت خالداً رضي الله عنه يقول: لقد طلبت القتل مظانه فلم يقدر لي، يقول: ليس هناك إنسان يظن فيه أن يموت في سبيل الله إلا ذهبت طلبته فلم يقدر لي، يعني: في قتال، وهذا في واقعة اليمامة، يتوفى ألف وخمسمائة من الصحابة يقودهم خالد وهو لا يموت، يتمنى لو قتل، يقول: أنا أطلب القتل في مظانه أن يوجد حرب مخوضة تكون فيها المنية والشهادة في سبيل الله، طلبت القتل مظانه فلم يقدر لي إلا أن أموت على فراشي، وما من عمل شيء أرجى عندي بعد التوحيد من ليلة أبيتها وأنا متترس والترس بيدي، والسماء تهل، أي: تنزل المطر، وتسكب الماء الغزير على رأسي ننتظر الصباح حتى نغير على العدو، هذا أعظم شيء أرجوه، متى سيبرق الفجر لئلا نباغت الناس في الليل فنحن نهينا عن ذلك، إذا برق الفجر وما سمعنا الأذان، فالله يحكم بيننا وبينهم بالحديد الذي أنزله الله جل وعلا: فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحديد:25].

تفاوت الصحابة في القراءة وفي بقية الطاعات

إخوتي الكرام! الصحابة كما تقدم معنا يتعلمون عشر ثم عشر ثم عشر، الكل منهم متقن للتلاوة إذا قرأ الحجارة تخشع لتلاوته، لكن هم يتفاوتون في القراءة ما بين مقل ومكثر حسب اشتغالهم، وكنت ذكرت في ترجمة أبو هريرة رضي الله عنه أنه كثرت الرواية عنه وقلت عن غيره مع أنهم أفضل منه قطعاً وجزماً، كصديق هذه الأمة، فهو أفضل من ملء في الأرض من مثل أبي هريرة وغيره رضي الله عنه، وما روي عن الرسول عشر معشار ما روى عنه أبو هريرة رضي الله عنه لماذا؟ في ذلك اعتبارات، أولها: كما تقدم معنا سبق وفاته، فما عمر وما طالت حياته من أجل أن يتلقى التابعون عنه، فما أخذه هو أخذه الصحابة أيضاً عن الرسول عليه الصلاة والسلام، فكيف لمن سينشر العلم؟

الأمر الثاني: من الأسباب القوية البارزة اشتغاله بمصالح الأمة فالليل كما تقدم معنا لربه، والنهار لهذه الرعية، وفي الليل يكون أيضاً مع عمر رضي الله عنهم أجمعين، يهتم بمصالح المسلمين، فهذا متى سيتفرغ لنشر العلم والتحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام؟

إذاً هذا قال: ثم رأى أن ما يحفظه يمكن أن يفعله غيره، فقال: إذاً السنة لا يمكن ضياعها فأتفرغ لمصلحة أخرى، لكن لو جاء أحدهم في هذه الأيام وقال: أبو هريرة أعلم من أبي بكر نقول: ينبغي أن يحجر عليه، ولا تخرج إلا بتوبة توقع عليها من هذا الكلام ، فـأبو هريرة ومعه الصحابة قاطبة رضي الله عنهم أجمعين، لو وضعوا في كفة ووضع أبو بكر في كفة لما وزنوا لا علمه ولا خشيته، ولا زهده وجهاده، ولا اعتبار من الاعتبارات التي فيه رضي الله عنهم أجمعين، فقف عند حدك، نعم روى عنه أقل هذا شيء، وكونه أعلم شيء آخر، وهنا ما قرأه خالد شيءٌ وما منعه عن كثرة القراءة شيء، أولا يمكنه القراءة شيء آخر، فانتبهوا لهذا، كل صحابي يتقن قراءة القرآن قطعاً وجزماً، ولا تأخذوا القراءة منهم كما تأخذ منا في هذه الأيام، وبمجرد أن يؤمن يجلس مع صحابي ليلقنه القرآن، يأخذ هذه بلغته وبلسانه وبلهجته وبكيفية نطق ذلك الكلام عن طريق قواعد التجويد، فلا يمكن أن يقرأ ملحوناً لا لحناً جلياً ولا لحناً خفياً، ويمكن لصحابي أن يقرأ الآية تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1]، لو قطعت لسانه لا تأتي معه، ولا يطاوعه لسانه على اللحن، ولما يأت: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1] سيخرج له القلقلة، لو قلت له: لا تخرجها، يقول: لا أستطيع، هذا غير ممكن، لا أستطيع أن أنطق الكلام إلا بهذا.

فإذاً ما بقي إلا أن يعلم أن هذا كلام الله وأن يتلقاه من رسول الله عليه الصلاة والسلام، أو من صحابي أخذه عن النبي عليه الصلاة والسلام وانتهى الأمر.

إذاً قلوب ليس فيها طهارة، فلا تعي ولا تفقه كلام الله كأولئك، وقلت مراراً إخوتي الكرام: الصحابي بمجرد رؤيته للنبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، بمجرد رؤية لمن يسمع منه كلمة، يشع النور من مفرق رأسه إلى أخمص قدمه، إذا صار له منزلة خاصة عند الله جل وعلا، وقلب طاهر مطهر يقرأ القرآن بيسر، وأما نحن فنشكو أحوالنا إلى الذي فطرنا سبحانه وتعالى، -فكما قلت- ينبغي أن نلزم غرزهم وإذا أردت أن تتكلم فتكلم عليّ فإن أخطأت فالخطأ يسير، لكن عندما تتكلم عن الصحابة والله إن الخطيئة منك نحوهم هذه جناية على دين الله عز وجل، ولذلك كان أبو زرعة رحمه الله وهو الذي يعلم مقاصد الشيعة وغيرهم في نيلهم من الصحابة الكرام، يقول: إذا رأيت أحداً ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام فاعلم أنه زنديق ولا دين له، قالوا: وكيف؟ يعني: الطعن في صحابي زندقة وخروج من الملة؟ قال: نعم، كيف؟ قال: القرآن حق، والسنة حق، ونقلة القرآن والسنة هم الصحابة، فإذا كان الناقل غير عدل فما قيمة المنقول، وإذا كان الناقل مطعون فيه، فالمنقول لا يوثق به، فهؤلاء أرادوا أن يطعنوا في القرآن، لكن جعلوا جسراً إلى الطعن في القرآن وهو الطعن في الصحابة الكرام، فاعرف لهم قدرهم، وأكرمهم من أجل نبيهم على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، هؤلاء هم الذي آووه ونصروه من مهاجرين وأنصار رضي الله عنهم، هذا سيف الله يخوض هذه المعارك وما يتقن قراءة كلام الله؟! والله الذي لا إله إلا الله لو أخبرت هذا البقر ليس البشر لا يصدقونك، تقول: خالد رضي الله عنه لا يتقن قراءة القرآن، فلو ذهبت إلى البقر تقول: كان خالد لا يتقن قراءة القرآن لا يصدقونك، قل: هذا الذي كان يبني حياته في لقاء أعداء الله ويتمنى الموت في سبيل الله، ما فرغ نفسه سويعات لتعلم كلام الله، يا عبد الله! هذا لا يصدق، لا يصدقه أحد، فلا بد من وضع الأمر في موضعه، نعم نقل عن خالد ما فهمه بعض الناس على غير وجهه أن الجهاد منعه من كثرة القراءة، فافهم ما يقوله، لكن إذا كنت يا مسكين! ما تميز بين القراءة وبين إتقان القراءة هذه بلية البلايا، لا تميز بين كثرة القراءة وبين إتقانها، ولما قرأت النص ظننت أن خالداً كان لا يتقن قراءة القرآن، فلم نفسك لعدم فهمك، لكن كان الواجب عليك وعلى كل أحد عندما يريد أن يتكلم عن الصحابة الكرام أن يبحث وأن يفكك كل كلام فيه تعريض لصحابي رضي الله عنهم أجمعين، ينبغي أن تقف عنه وأن تستفسر عن المراد إذا خفي عليك لفظ نقل عن واحد منهم رضي الله عنهم.

إذاً هذه الطريقة المحكمة التي كانوا عليها رضي الله عنهم -كما قلت- طريقة فريدة عضوا عليها غرز الإيمان في قلوبهم، جاء القرآن فأتقنوا التلاوة، وفهموا المعنى، وترجموه بسلوك عملي رضي الله عنهم.

موقف ابن مسعود من جمع القرآن في عهد عثمان

قبل أن أنتقل إلى الجانب الثالث ألا وهو أقوال محكمة حكيمة، وكلمة قيمة قويمة، قبل أن ننتقل إلى هذا عندنا بعض التنبيهات تتعلق بالجانب العلمي الذي يتعلق بترجمة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وهذه الجوانب انتبهوا لها غاية الانتباه، وسأوجزها في أربع تنبيهات:

التنبيه الأول: عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا الإشكال الكبير يرد مع كثير من طلبة العلم عند قراءة ترجمته فانتبهوا له؛ لأن في ظاهره شيئاً من التنقيص من حقه نلتمس له العذر، وينظر إلى حاله في نهاية الأمر رضي الله عنه وأرضاه.

عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أول الأمر عندما حصل جمع القرآن في عهد الخليفة الراشد ذي النورين عثمان عليه وعلى سائر الصحابة رضوان الله جل وعلا، أتى إلى مخالفي الخليفة عثمان -وهو فيما أشار مخطئ، لكن كل بني آدم خطاء، وتراجع عن خطأه، وعفا الله عما سلف- فأمر من عندهم المصاحف بتخبئتها وعدم تسليمها إلى الخليفة الراشد من أجل إحراقها؛ لأن عثمان رضي الله عنه، لما جمع القرآن، وهذا يعتبر الجمع الثالث، الجمع الأول في عهد النبي عليه الصلاة والسلام وهو الجمع في الصدر، وما كان في مكان واحد، كانت صحفاً مبعثرة مع هذا ومع ذاك، يكتبون بين يدي نبينا المعصوم عليه الصلاة والسلام، ثم هذه الصحف تبقى عند الصحابة الكرام، فلا يوجد آية نزلت إلا وكتبت مع أنها في الصدر قال تعالى: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ [العنكبوت:49].

وفي خلافة أبي بكر رضي الله عنه بعد موقعة اليمامة وموت سبعين من القراء، وخمسمائة من الصحابة الكرام رضوان الله عنهم أجمعين، فطلب -كما سيأتينا إن شاء الله تفصيل هذا في ترجمة زيد بن ثابت موسعاً إنما الآن أشير إلى الأمر مجملاً- من أبي بكر رضي الله عنه أن يجمع القرآن، والغرض من الجمع هذه الصحف المبعثرة تجمع في مكان واحد من أجل أن لا يضيع منها شيء؛ لأنها صحف عند الصحابة، وقرآن في الصدور، افرض أن هذا مات، والصحيفة التي عنده ما حفظت، وربما ضاع شيء من القرآن، فـحذيفة رضي الله عنه عرض هذا على عمر، وعمر رضي الله عنه شاور أبا بكر رضي الله عنه في ذلك، فقال: كيف نفعل شيئاً لم يفعله رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ ثم قالوا: هو والله خير، فشرح الله صدر أبي بكر رضي الله عنه في نهاية الأمر بذلك، فكلف زيد بن ثابت وهو الذي قال له أبو بكر إنك شاب عاقل لا نتهمك، كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري وغيره، فتتبع القرآن فاجمعه، يقول: لو كلفوني بنقل الجبال الراسيات لكان أهون، قاموا بهذه المهمة وجمع القرآن في مصحف، بعد أن كان في صحف، وبهذا يكون هذا هو الجمع الثالث للقرآن.

نسأل الله أن يرحمنا، ونقف هنا ونكمل في المباحث القادمة.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح الترمذي - باب الاستنجاء بالحجرين [5] للشيخ : عبد الرحيم الطحان

https://audio.islamweb.net