إسلام ويب

كان إبرهيم النخعي إماماً حافظاً من كبار تلامذة ابن مسعود -رضي الله عنه- ومراسيله عن ابن مسعود أقوى من مسنده عنه. وسلمان الفارسي له مناقب كثيرة، فهو سابق الفرس إلى الإسلام، ولقمان هذه الأمة وحكيمها، وأدرك العلم الأول والآخر، وكفاه منقبة أن النبي عليه السلام نسبه إلى أهل بيته، تنقل من قسيس إلى قسيس بحثاً عن الحق حتى قدم المدينة، ولبث عبداً عند يهودي حتى هاجر النبي -عليه السلام- إلى المدينة، فأسلم ثم أعتق، وكان -رضي الله عنه- من المعمرين.

ترجمة بقية رجال حديث سلمان: (نهانا عليه الصلاة والسلام أن نستقبل القبلة بغائط...)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحابته أجمعين، أما بعد:

تقدم معنا أن حب الشيخين لما قيل لبعض أئمتنا كـسفيان الثوري وغيره: سنة؟ قال: لا بل فريضة.

وهنا كذلك حب أبي حنيفة من السنة، ولا شك فهو فقيه الملة، وإذا نحن لم نحبَّه فلا خير فينا، والحب في الله والبغض في الله أوثق عرى الإيمان.

إخوتي الكرام! هذا اللغط الذي ينتشر هنا وهناك من قبل أناس ينسبون أنفسهم إلى السلفية، ولا خير في الإنسان إذا لم يتبع منهج السلف، لكن هناك سلفية قديمة وسلفية حديثة، السلفية القديمة نقبلها على العين والرأس، وهي التي كان عليها أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ، والله من خرج عنها فهو ضال بل أضل من حمار, أما بعد ذلك تريدون منا أن ننتسب إليها، وإذا لم ننتسب إليها خرجنا عن هدي السلف! خرجنا عن هدي سلفيتكم أنتم، لا عن هدي سلفنا الكرام الذين هم أئمة الإسلام.

فلا خير في الإنسان إذا لم يحبهم ولم ينتسب إليهم، ولم يأخذ بهديهم في جميع أحواله، ومن الذي يسفه آراء السلف المتقدمين؟ ما أحد سفه آراءهم إلا أنتم باسم الرجوع إلى الكتاب والسنة، كأن سلفنا المتقدمين لا يعرفون الكتاب ولا السنة، من الذي سفه رأي الإمام أحمد ؟ ومن الذي سفه ما عليه الإمام أبو حنيفة ؟ وكلما ذكر كلامه يقال: هذه فلسفة قال بها أبو حنيفة، ومن الذي سفه ما عليه ابن قدامة؟

فلا بد من ضبط الأمور، نسأل الله أن يلهمنا رشدنا إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

حب أبي حنيفة من السنة، وأيام كنت في أبها عملت في ذاك الوقت محاضرة عنوانها: موقف طالب العلم نحو علماء السلف سنة ألف وأربعمائة للهجرة، وفي تلك المحاضرة تكلمت على عدة أمور يقولها بعض من خذله الله في هذا الوقت أيضاً.

وذكرت قراءة القرآن على القبر عند الدفن في ذاك الوقت عام ألف وأربعمائة للهجرة في المعهد العلمي في أبها، فاستمع للمحاضرة التي قيلت في ذلك التاريخ.

وكان سبب المحاضرة أن بعض السفهاء في خميس مشيط كان يلعن أبا حنيفة كما يلعن المؤمن اليهود والنصارى، بل ربما سلم اليهود والنصارى من لسانه، وأئمة الإسلام لا يسلمون من لسانه، ليتك نزلت هذا المعنى على من يستحقه.

أبو حنيفة الذي توفي سنة خمسين ومائة للهجرة يلعن في هذا الحين، وهذا من لعن آخر هذه الأمة أولها, وألقيت المحاضرة للرد عليه وعلى أمثاله من السفهاء.

وقلت: الطعن في أبي حنيفة طعن في دين الله، وإذا كان أبو حنيفة يستحق اللعن فلا خير في أهل الإسلام في ذاك العصر الذين تركوا أبا حنيفة يتصدر وينشر مذهباً تعمل به الأمة في هذا القرن.

هل رقَّ الدين على سلفنا حتى جاء زنديق ملعون يتصدر للعبادة ونشر العلم في بيوت الله والناس يتلقون عنه؟ ولو قدرنا أنه زنديق، فهل الناس في زمنه زنادقة؟ كيف مكنوه من نشر زندقته في ذلك الوقت؟

ولا تظن أنه كان لا يوجد في ذلك الوقت هيبة للإسلام كأيامنا، مع أنه في أيامنا لا يمكن للإنسان أن يلعن من لهم شأن من العلماء الذين لهم مكانة في الدولة، أما الذين ليس لهم مكانة فهؤلاء لهم شأن آخر.

يعني: إذا أردت مثلاً أن تلعن شيخاً من الشيوخ الذين لهم مكانة في دولة من الدول قطعت رقبتك.

و أبو حنيفة في ذاك الوقت وبعد ذلك كيف مكنه أئمة الإسلام الذين معه؟ أريد أن أعلم، فإذا كان يستحق اللعن فكيف ترك؟ قلت: هذا طعن في دين الله قبل أن يكون طعناً في أبي حنيفة، فانظر إلى كلام هذا الذي جاء بعد أبي حنيفة بأربعين سنة أو بخمس وأربعين؟

يقول: حب أبي حنيفة من السنة، أي: من سنة المسلمين ليس من السنة بمعنى كما يقال عن كتب التوحيد: كتب السنة، يعني السنة التي عليها المسلمون، يعني حب أبي حنيفة من الدين، من خصال المسلمين، من انحرف عن ذلك فهو من الضالين المبتدعين.

وتقدم معنا كلام عبد الله بن المبارك قريباً عندما قال: إنه رأى أفقه الناس أبا حنيفة .

هذا فيما يتعلق بترجمة أبي معاوية محمد بن خازم عن الأعمش تقدم معنا، وذكرته في الباب المتقدم.

ترجمة إبراهيم النخعي

عن إبراهيم ، وهو إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعي أبو عمران الكوفي التابعي، ثقة، إلا أنه يرسل كثيراً، من الخامسة توفي سنة ست وتسعين فقط وليس بعد المائة، وهذا خرج عن اصطلاح الحافظ أيضاً.

من الخامسة ينبغي أن يقال: بعد المائة، وهو ابن خمسين سنة أو نحوها وحديثه مخرج في الكتب الستة، وهو تابعي.

وقد دخل على أمنا عائشة رضي الله عنها -كما في سير أعلام النبلاء- التماساً للبركة منها في بيت النبوة، وكان التابعون يفعلون هذا، وتقابلهم من وراء حجاب.

دخل على أمنا عائشة رضي الله عنها، قال الحافظ الذهبي : وهو إمام حافظ فقيه العراق، كان بصيراً بعلم عبد الله بن مسعود ، واسع الرواية، فقيه النفس، كبير الشأن، كثير المحاسن، كان يقول في حياته: ما كتبت قط سوداء في بيضاء. إنما كان يحفظ، إذا سمع حفظ.

وكان يقول: تكلمت -أي: بالعلم ونشره والتعليم والتدريس- ولو وجدت بداً لم أتكلم، وإن زماناً أكون فيه فقيهاً لزمان سوء.

فإذا كنت تقول هذا أيها العبد الصالح، فماذا نقول نحن؟! والله لو أدركنا سلفنا لقالوا: ما عند هؤلاء من خلاق، وكأنهم لا يؤمنون بالكبير الخلاق، لو أدركونا هم لما قالوا فينا إلا هذا، ولو أدركناهم لقلنا عنهم: إنهم مجانين، من كثرة عبادتهم وخشيتهم لرب العالمين، فنحن نقول عنهم شيئاً وهم يقولون عنا شيئاً.

وكان رضي الله عنه يستعمل التورية؛ للتخلص من لقاء الناس لينفرد بربنا، فكان إذا طرق عليه طارق الباب يقول لأهله ولأولاده: قولوا له: اطلبوه في المسجد، فيظن الطارق أن إبراهيم النخعي في المسجد وهو ليس كذلك.

يعني: لو قال لهم: معذور ومشغول قد تنكسر خواطرهم.

وهذه التورية من أجل أن يتخلص الإنسان من الزيارات لئلا يقع في المحظور، والمجلس إذا طال كان للشيطان فيه نصيب، والزيارة مشروعة لكن بمقدار، وحسبك من الثقلاء أن الله لم يتحملهم حتى أنزل فيهم آيةً تتلى تسمى بآية النهي عن الثقالة، وهي قول الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ [الأحزاب:53] .

قالت أمنا عائشة رضي الله عنها بعد نزول هذه الآية: يا رسول الله! حسبك من الثقلاء أن الله لم يتحملهم حتى أنزل فيهم قرآناً، أنزل آية تتلى فيهم وفي شأنهم ويحذرهم ويحذر منهم.

فإذا كثرت الزيارات يقال للزائرين: اطلبوه في المسجد ونحو هذا، ومما ينبغي أن تنتبهوا له من الفوائد الحديثية في ترجمة هذا الرجل انتباهاً خاصاً؛ لأن له مسلكاً يختلف عن غيره فيه فكونوا على علم منه.

قال الإمام ابن رجب في شرح علل الإمام الترمذي وسيأتينا كلام الترمذي في آخر العلل بعد في الجزء الخامس صفحة خمس وخمسين وسبعمائة من جامع الإمام الترمذي موجود كلام النخعي ، يشرحه الإمام ابن رجب الحنبلي في كتاب اسمه شرح علل الترمذي وهو في مجلد كبير قرابة ألف صفحة.

يقول في صفحة واحد وثلاثين ومائتين: قال الإمام الأعمش وهو تلميذ النخعي لـإبراهيم : أسند لي عن ابن مسعود .

وكان النخعي يحدث الأعمش كثيراً عن عبد الله بن مسعود ، فقال: أسند لي، اذكر لي الواسطة بينك وبينه، بأي واسطة تروي عنه؟ فقال له إبراهيم النخعي : إذا حدثتك عن رجل، عنه مثلاً إذا قلت: فلان عن عبد الله بن مسعود ، عن النبي عليه الصلاة والسلام فهو الذي سميت، وإذا قلت: قال عبد الله بن مسعود، ولم أذكر بيني وبينه واسطة -وهذا الذي أريد أن تنتبه له- فهو عن غير واحد عنه، يعني: أنا أرويه عن أناس كثيرين متعددين عن عبد الله بن مسعود يصعب عدهم وإحصاؤهم.

قال ابن رجب وانتبه لهذه الفائدة: وهنا المرسل عند النخعي أقوى من المسند، وهذا خاص بمراسيل النخعي فيما يرسله عن عبد الله بن مسعود .

وهذا يذكرنا بحديث معاذ الذي تقدم معنا، وقلت: جرى حوله لغط كثير (بم تقضي؟ قال: بكتاب الله)، ومن جملة ما قيل: فيه جهالة أصحاب معاذ ، قال: حدثني أصحاب معاذ .

وقلت: إن الإمام ابن القيم عليه رحمة الله قال في إعلام الموقعين: إن هذا أعلى مما لو قال: عن فلان عن معاذ ؛ لأن أصحاب معاذ كثيرون مجهولون، هذا أعلم مما لو سمى واحداً منهم، وهذه العلة اعتبرها بعض الناس قادحة في الحديث، لكنها في الحقيقة مقوية للحديث فانتبه لاختلاف المباحث والاستنباط.

وهنا النخعي يقول للأعمش : إذا قلت لك: عن رجل عن ابن مسعود فهو الذي سميت، وإذا قلت: عن ابن مسعود دون أن أذكر الواسطة بيني وبينه، فهذا عن غير رجل، عنه، فيفهم إذاً من هذا الكلام ترجيح المرسل على المسند لكن ليس مطلقاً في مراسيل النخعي وإنما فيما رواه عن ابن مسعود خاصة فاعلم هذا.

قال الإمام ابن رجب : وقد كان الإمام أحمد يحتج بمراسيل النخعي ويأخذ بها ويقول: لا بأس بها.

وفي تهذيب التهذيب للحافظ ابن حجر في الجزء الأول صفحة تسع وسبعين ومائة يقول: وقد صحح جماعة من الأئمة مراسيل إبراهيم النخعي ، وخص البيهقي ذلك بما أرسله عن ابن مسعود خاصة، وقد وهم ابن حبان في ترجمة النخعي فقرر شيئاً في كتابه ثم قرر ما يكرهه.

يقول: ولد النخعي سنة خمسين للهجرة، وقد سمع من المغيرة بن شعبة ، وفي ترجمة المغيرة يقول: توفي المغيرة بن شعبة سنة خمسين للهجرة، فكيف سيسمع النخعي في السنة التي ولد فيها من المغيرة بن شعبة وهي السنة التي مات فيها؟ وهذا تناقض عجيب.

ولذلك يقول الحافظ ابن حجر : وقيل: هذا عجب منه، فهو الذي يقول: المغيرة بن شعبة مات سنة خمسين، فكيف يقول: النخعي ولد سنة خمسين، وروى عن المغيرة بن شعبة ، ورأى النخعي عائشة وأنساً لكن لم يثبت سماعه منهما.

هنا الأعمش عن إبراهيم .

ترجمة عبد الرحمن بن يزيد

عن عبد الرحمن بن يزيد ، عبد الرحمن بن يزيد هذا خال إبراهيم النخعي ، وهو عبد الرحمن بن يزيد بن قيس النخعي أبو بكر الكوفي ، ثقة من صغار الثالثة، توفي سنة ثلاث وثمانين، حديثه مخرج في الكتب الستة.

قال الذهبي في السير: حدث عن عثمان وابن مسعود وسلمان الفارسي وحذيفة بن اليمان ، وعن جماعة من الصحابة الكرام.

قال: قيل لـسلمان...، وسلمان هو راوي الحديث، وسأفصل الكلام على ترجمته بعد أن نستعرض بقية الرجال حتى لا نعود إليهم لنشتغل بعد ذلك بفقه الحديث وتخريج الأحاديث.

ترجمة من ذكرهم الترمذي بقوله: (وفي الباب) ضمن باب الاستنجاء بالحجارة

ترجمة خزيمة بن ثابت

قال الترمذي : وفي الباب عن عائشة . تقدم معنا ترجمتها.

قال: وخزيمة بن ثابت ، وسنترجم لهم ترجمة موجزة، أما خزيمة فهو خزيمة بن ثابت بن الفاكه وفي التقريب ابن الفاكه بن ثعلبة الأنصاري الخطمي أبو عمارة المدني ذو الشهادتين من كبار الصحابة شهد بدراً، وقتل مع علي رضي الله عنه بصفين سنة سبع وثلاثين، حديثه مخرج في صحيح مسلم والسنن الأربع.

قوله: (ذو الشهادتين) تشير إلى الحديث الصحيح الثابت في سنن أبي داود وغيره في شهادة خزيمة بن ثابت لنبينا عليه الصلاة والسلام بأمر لم يره، فجعل النبي عليه الصلاة والسلام شهادته بشهادة رجلين.

وخلاصة القصة: أن النبي عليه الصلاة والسلام اشترى ناقةً من أعرابي، وبعد أن انتهى عن الشراء والإيجاب والقبول أخذ النبي عليه الصلاة والسلام الأعرابي معه إلى البيت من أجل أن يعطيه الثمن، فالنبي عليه الصلاة والسلام تقدمه في المشي فساومه بعض الناس على ناقته دون أن يعلموا شراء النبي عليه الصلاة والسلام فأعطوه أكثر منه، فلما أعطوه أكثر من النبي عليه الصلاة والسلام سحب نفسه من المبايعة، وقال: يا رسول الله! هل تريد هذه الناقة وتريد ابتياعها، أو أبيعها؟

فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: أوليس قد ابتعتها منك؟ يعني: اشتريتها وانتهى الأمر وأنت تمشي معي لأعطيك الثمن، قال: لا، ما بعتكها، إذا أردت شراءها فنجعل عقداً جديداً.

وانظر إلى حلم النبي عليه الصلاة والسلام وسعة صدره، قال: من سمع القصة؟ وكان خزيمة بن ثابت حاضراً فقال: أنا أشهد أن النبي عليه الصلاة والسلام قد اشترى هذه الناقة.

فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: وكيف تشهد ولم تر؟ قال: أنت رسول الله، وليس عندنا شك أنك لا تقول إلا الحق والصدق، فجعل النبي عليه الصلاة والسلام شهادته بشهادة رجلين، إذا شهد لأحد في معاملة فإنها تغني عن الشهادتين، (من شهد له خزيمة كفاه).

والحديث في سنن أبي داود بسند صحيح كالشمس، وفي هذا مكافأة له على يقينه بنبيه عليه الصلاة والسلام، يقول: أنت رسول الله عليه الصلاة والسلام، وليس بلازم أن نحضر الواقعة، وأنت مقدم على أنفسنا وعلى آبائنا وأمهاتنا، فلا يحتاج الأمر إلى تردد، أما هذا فأعرابي بوال على عقبيه عنده جفاء وغلظة، فنحن نشهد رأينا أو لم نر فأنت رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهذا كاف، ويغني عن الشهود.

فجعل النبي عليه الصلاة والسلام شهادته بشهادة رجلين: (ومن شهد له خزيمة كفاه)؛ لذلك يقال في ترجمته: ذو الشهادتين، وعندما جمع زيد بن ثابت القرآن ما وجد آخر سورة التوبة لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ [التوبة:128] إلى آخره إلا مع خزيمة بن ثابت ، ما وجدها مع غيره، ما المراد بقولهم ما وجدها مع غيره؟ محفوظة أو مكتوبة؟

أما الحفظ فهي محفوظة، يحفظها الألوف المؤلفة لكن لا بد من المنهج الذي وضع لـزيد لا بد من شيء مكتوب، يشهد شاهدان على أنه كتب بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام، هذا مع الحفظ، زيد بن ثابت يقول: فقدتها، يعني بين الأوراق ما جاءت هذه، قال له: من عنده شيء مكتوب من كلام الله فليأت به، وعندما يأتي به يقول: هات شهيداً على أن هذا كتب في حضرة النبي عليه الصلاة والسلام.

فإذا اعتضد المقروء المحفوظ مع المكتوب، والسطر مع السطر، فلا بد أيضاً من شاهدين على الكتابة، أما الحفظ فيحفظه ألوف مؤلفة، فلو كان هناك من يحفظ دون كتابة فهنا يتوقف زيد.

لعل هذا نسخ في العرضة الأخيرة، فلا بد من كتابة وشاهدين على أن هذا تم في العرضة الأخيرة، ولم ينسخ مع حفظه له، فما جاء بآخر سورة التوبة مكتوبة إلا خزيمة فقط، فقبلها زيد ؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام جعل شهادته بشهادتين.

ولو قدر أن شهادته بشهادة الواحد كان الله سيقدر ولابد أن تكتب عند صحابي آخر، أو أن يشهد آخر على أنها كتبت بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام.

قال: وجابر بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه. تقدم معنا ذكره.

ترجمة خلاد بن السائب

قال: وخلاد بن السائب ، أما خلاد هذا فليس من الصحابة، ووهم من عده من الصحابة وهو من التابعين، روى عن أبيه، وأبوه صحابي ثقة من الثالثة، قال الحافظ ابن حجر : وهم من زعم أنه صحابي، حديثه في السنن الأربعة، وأبوه هو السائب بن خلاد بن سويد الخزرجي أبو سهلة المدني ، له صحبة، وعمل لـعمر على اليمن رضي الله عنهم أجمعين، توفي سنة واحدة وسبعين، حديثه مخرج أيضاً في السنن الأربعة.

قال أبو عيسى : وحديث سلمان في هذا الباب حديث حسن صحيح.

إخوتي الكرام! هذا فيما يتعلق بترجمة رجال الإسناد، بقي معنا الصحابي والراوي وهو سلمان الفارسي .

ترجمة سلمان الفارسي رضي الله عنه راوي حديث باب الاستنجاء بالحجارة

أما سلمان فسنتدارس ترجمته ضمن ثلاثة مباحث: فيما يتعلق بإسلامه وأحواله رضي الله عنه وأرضاه، وفيما يتعلق بمنزلته ومكانته، وفيما يتعلق بعبادته وجده وبصيرته وحكمته، هذه ثلاثة أمور.

نسب سلمان وكيفية إسلامه

أما أولها: فيما يتعلق بنسبه وكيفية إسلامه، فيقول أئمتنا في ترجمته: سلمان الخير ويقال له: ابن الإسلام ، وهو سابق الفرس إلى الإسلام أبو عبد الله صحب النبي عليه الصلاة والسلام، وخدمه، وحدث عنه، فهنيئاً له، كان نبيلاً حازماً من عقلاء الرجال وعبادهم.

قال الإمام أبو نعيم في ترجمته في الحلية: حاكم حكيم عابد مخبت عليم، حاكم حكيم يحكم على الأشياء بحكمة، وسيأتينا كيف حكم على المجوسية والنصرانية وبعد ذلك اهتدى إلى الإسلام, واتبع خير البرية على نبينا صلوات الله وسلامه.

وقصة إسلامه عجيبة غريبة، وهي ثابتة صحيحة رواها الإمام أحمد في المسند بسند صحيح، وفي رجال الإسناد محمد بن إسحاق ، فتقدمت معنا ترجمته، وقلت: إنه صدوق لكنه يدلس وقد صرح بالسماع، فالحديث متصل صحيح.

وروى قصة إسلامه الإمام الطبراني في المعجم الكبير، والبزار ، وأبو يعلى ، والخطيب في تاريخ بغداد، وأبو نعيم في الحلية، وابن سعد في الطبقات، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، ويعقوب الفسوي في كتاب التاريخ والمعرفة.

قال الإمام الهيثمي في المجمع في الجزء التاسع صفحة ست وثلاثين وثلاثمائة: رجال المسند والطبراني رجال الصحيح، وقد صرح محمد بن إسحاق بالسماع.

وخلاصة الحديث في إسلامه عن سلمان رضي الله عنه, وورد في بعض الروايات وهذا ثابت في صحيح البخاري عن سلمان أنه من بلدة رامهرمز ، وهو من بلاد أصبهان لكنها تقارب بلاد العراق.

والجمع بين الأمرين أنه من جي ومن رامهرمز كما قال الحافظ ابن حجر: لعله نسب إليهما، يعني أسلم من جي وسكن رامهرمز، أو أسلم من رامهرمز وسكن جي لاعتبار أصوله وبعد ذلك إقامته.

يقول: وكان أبي من الدهاقيين في الفرس، والدهقان عندهم هو الأمير الرئيس الزعيم والمطاع السيد، يعني: من السادة في قومه، وإذا كان من الدهاقين فله إذاً عناية بدينهم الباطل اللعين ألا وهو عبادة النار، وإيقاد النار من أجل عبادتها والعكوف حولها.

فعلم ولده سلمان هذا قال سلمان الفارسي: حتى صرت قاطناً للنار، والقاطن هو الملازم للنار، يوقدها ولا يفتر عنها، كلما خمدت أعطاها وقوداً من أجل أن تتقد وأن يعظم وقودها ولهيبها وعبادة الناس لها، وعكوفهم حولها، هكذا يعظمون معبودهم، كما وجد من يعظم الحجر ويعبد البقر، وجد أيضاً من يعبد النار ويعظمها.

وعندنا فرقة في بلاد الشام يقال لهم: اليزيدية يعبدون الشيطان، حقيقةً ما أعلم أحداً يعبد الشيطان، إذا أراد أن يذبح يقول: باسم الشيطان، إذا أراد أن يقسم يقسم بالشيطان، ومن طقوسهم أنك إذا رأيت واحداً منهم فعملت دائرة حوله لا يخرج منها ولو ضربت رقبته، حتى يفتح له فتحة من الدائرة، لو عملت دائرة وليست دائرة من حديد وسور، بل خُط حوله، فإذا أردت أن تلعب على إنسان من هؤلاء وأن تهينه فاعمل حوله دائرة فلا يخرج منها حتى يأتي أحد من أهله فيفتح له فتحة ليخرج منها، أعرفهم ورأيتهم بعيني وينتشرون في بلدة قريبة من حلب، ومرة ذهبت إلى هناك ومكثت فترة للإقامة لموضوع ما، فكنت أؤم في بعض المساجد فأحياناً الجهاز يتعطل فأصلحه، فقلت في كلامي من أجل رقيا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وبيوتهم جوار المسجد فأرسلوا لي تهديداً وقالوا: إما أن يسكت وإما أن نضرب رقبته.

قلت: في سبيل الله أضرب رقابهم أنا أيضاً إن شاء الله، فلما رأوا أنني أشد منهم تركوا بيوتهم ونزحوا من ذلك الحي، اليزيدية يعبدون الشيطان، وهؤلاء يعبدون النيران، وهذا هو العقل البشري.

وأئمتنا يقولون في قول الله تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [يس:60] ، يقولون: كل معصية عبادة للشيطان، لكن هناك أيضاً من عبد الشيطان حقيقة، يعبد الشيطان الذي هو ألعن المخلوقات وأرذلها وهكذا البقر، وهكذا الحجر، وهكذا وهكذا.

الذين يتجولون الآن في أنحاء بلاد الهند وتايلاند وكذا البلاد التي فيها البوذية، يجدونهم يعبدون أيضاً الفأر، وهناك معابد ترى في وسطها صورة تمثال لذكر الرجل أو ثدي المرأة، ويأتي يتمسح بالذكر، ويعبده على أنه إله، أو يسجد لفرج المرأة ويعبده لأنه إله.

العقل البشري عندما ينحرف عن الوحي الإلهي الرباني يقولون: هي هذه البركة، ولذلك صدق قول الله فيهم: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الأعراف:179] ، يعني: الذي يعبد البقرة أضل من البقرة حتماً، وهذا يقول: هو الإله، أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان:43-44] .

فصار سلمان قاطن النار يلازمها كلما خبت زادها إحراقاً واحتراقاً، يضع الوقود فيها، يقول: وكان لوالدي ضيعة والضيعة هي البستان المضيء والعقار المضيء الذي فيه زروع وثمار وبساتين يقول: لي ضيعة سليمة عظيمة، كان يتعهدها كل يوم، فشغل عنها في بعض الأيام مع معاملات له وعمال له، فقال لي: اذهب إلى تلك الضيعة، ولا تتأخرن علي، فتأخرك علي يشوش ذهني وأنت أهم عندي من الضيعة، فلا تتأخر.

وكان والد سلمان يكرم سلمان غاية الإكرام وهو ثري يلبسه الحرير والذهب ويتنعم نعيماً، لذلك يقول سلمان: لكن لا أعرف ماذا في الحياة، فما خالطت الناس ولا أعرف شيئاً، إلا أنني فقط عند والدي وأتولى أيضاً إيقاد النار، ما أعرف إلا هذا.

يقول: فلما خرجت من الضيعة مررت بكنيسة فرأيت أناساً يذكرون الله وهم على النصرانية، يقول: فرأيت ديانتهم خيراً من ديانتنا، يعني مع ما في النصرانية من انحراف فهي أفضل من عبادة النار، وعبادة البقر، ولا سيما في ذلك الوقت قبل أن يطرأ عليها تحريف كثير وشر مستطير؛ لأن هذا قبل بعثة البشير النذير عليه الصلاة والسلام بمائتي سنة أو بثلاثمائة، وكانت النصرانية حينها فيها شيء من الهدى والالتزام، والتحريف منها قليل قليل، فالنصرانية ما انحرفت على وجه التمام والكمال إلا بعد فترة طويلة.

يقول: فرأيت ديانتهم خيراً من ديانتنا، فتركت الضيعة وبقيت عندهم إلى أن غربت الشمس. ظل مع هؤلاء الذين هم في الكنيسة يتعبد الله معهم، رأى شيئاً من الخير فاعتكف عليه.

يقول: فلما كان المساء رجعت إلى والدي فسألني: لم تأخرت؟ وهو يبحث عني، فعلى فطرته أخبره بما حصل قال: رأيت أناساً في كنيسة يعبدون الله، ديانتهم خير من ديانتنا، فزجره وقال: ليسوا على خير، قال: يا والدي! ديانتهم خير من ديانتنا، فأخذه وقيده من رجليه لكن بقيود من ذهب لئلا يشرد ويذهب إلى هذه الكنيسة.

كان سلمان قد سأل الرهبان عندما كان يتعبد معهم أين أصل ديانتكم؟ قالوا: في بلاد الشام، فراسلهم وقال لهم: إذا جاء أحد من بلاد الشام فأخبروني حتى أفك القيود عني, وألحق معهم ببلاد الشام, وأكون هناك.

وبعد فترة أرسلوا له خبراً أنه جاءنا وفد من بلاد الشام، فاحتال على فتح قيوده ثم هرب وصحب هؤلاء, وذهب إلى بلاد الشام فاستمعوا إلى قصته.

يقول: فلما ذهبت إلى هناك سألتهم: من رئيسكم؟ من المسئول عن الديانة وأعظم واحد فيكم؟ فقالوا: الأسقف، يقول: فدخلت عليه وأخبرته بأمري، وأنني جئت مهاجراً من أجل عبادة الله عز وجل لا أريد شيئاً آخر، يقول: فبقيت عنده وكنت أخدمه لكنه كان شيخاً خبيثاً خسيساً يأمرهم بالصدقة, فإذا تصدقوا وجمعوا الصدقة أخذها وكنزها عنده.

يقول: فلما مات أراد النصارى أن يدفنوه في الكنيسة، وأن يعظموه، فدللتهم على سبع قلال من ذهب، هي ما جمع من صدقاتهم التي يجمعها ليوزعها لكنه يكنزها.

يقول: فلما علموا بحاله أخرجوه من الكنيسة وصلبوه ورجموه بالحجارة، هذا أول أسقف قسيس استراح منه، وذهب بعد ذلك إلى آخر حل محله، يقول: فرأيته صالحاً يرغب في الآخرة ويزهد في الدنيا، وخدمته أيضاً حتى مات، وعند موته قلت له: إلى من توصي بي؟ وأنا أخدمك هذه الفترة الطويلة, وأنت من أهل الخير أين تنصحني أن أذهب بعد موتك؟ قال: ما أعلم أحداً على الديانة الحقة إلا رجلاً في الموصل اذهب إليه, وكن معه واخدمه حتى تلقى الله.

فذهب إلى الموصل وترك بلاد الشام، فخدم أيضاً ذلك الأسقف هناك، يقول: فلما احتضر وجاءته المنية قلت: إلى من توصي بي؟ قال: ما أعلم أحداً على الديانة الحقة التي بعث بها عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام إلا في نصيبين، يقول: فذهبت إليها فكنت مع الأسقف هناك أيضاً حتى جاءه الموت، صاروا الآن أربعة، وسيأتيكم أكثر، فقد مر سلمان على بضعة عشر أسقفاً كان خصيصاً يتناوب عليهم، يموتون وهو حي, فهو من المعمرين رضي الله عنه وأرضاه.

يقول: فقلت له: إلى من توصي بي؟ قال: لا أعلم أحداً على الديانة التي كان عليها عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام إلا واحداً في عمورية، يقول: فذهبت إليه فكنت عنده حتى احتضر، فقلت: إلى من توصي بي؟ قال: ما أعلم اليوم أحداً على النصرانية الحقة، إنما قد أظل زمان خروج نبي جديد يكون مهاجره إلى بلدة بين حرتين، هي كثيرة النخل، يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، على نبينا صلوات الله وسلامه، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد, وأن تكون فيها حتى إذا بعث ذلك النبي آمنت به واهتديت فعلت.

يقول: فخرجت أطلب بلاد العرب، وكان معي غنم أناس أرعاها، فمر بي أناس من بني كلب، فقلت: خذوا هذه الأغنام وخذوني معكم وأوصلوني.

يقول: فأخذوني فلما وصلوا إلى وادي القرى باعوني, وزعموا أنني عبد عندهم، يقول: فأخذني رجل من أهل تيماء, فلما رأيتها استبشرت وفيها نخل كثير، وأملت أن تكون هذه هي البلدة التي سيبعث فيها من بين كتفيه خاتم النبوة على نبينا صلوات الله وسلامه.

يقول: فجاء يهودي من بني قريظة فاشتراني وأخذني إلى المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه، يقول: فلما رأيتها طرت فرحاً، وعلمت أنها هي البلدة التي نعتت لي وهي مهاجر النبي الذي سيبعث في هذا الزمان، يتحين الأخبار غير أنه عبد رقيق مملوك ليهودي من بني قريظة، لا يملك لنفسه حولاً ولا طولاً، خادم يعمل في بستان النخيل.

يقول: فبعث النبي عليه الصلاة والسلام في مكة وأنا لا أعلم خبره، فلما هاجر إلى المدينة المنورة كنت على رأس شجرة أقطع النخل، فجاء يهودي إلى صاحبي, وقال له: أما بلغك ماذا فعل بنو قيلة؟ وهو لقب للأنصار الأبرار رضي الله عنهم أجمعين.

قال: وماذا فعلوا؟ قال: بايعوا من يزعمون أنه نبي، وقد هاجر إليهم من مكة إلى المدينة, وقد وصل، والناس الآن يفدون إليه، يقول: فلما سمعت هذا ما ملكتني رجلاي فألقيت بنفسي من النخلة على الأرض، وقلت: ما الخبر؟ يقول: فلكمني على وجهي ضربةً شديدة, وقال: ما لك ولهذا؟ أقبل على عملك، أنت الآن تقطع التمر والنخيل، ماذا تريد من هذه الأخبار؟

قلت له: إنسان سمع خبراً فأراد أن يسأل، أريد أن أتحقق ما الذي جرى في هذه البلدة المباركة؟ يقول: فأقبلت على شأني وكتمت أمري.

فلما كان المساء أخذت شيئاً مما كان عندي إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وذهبت إليه، وقلت: يا رسول الله! هذه الصدقة لك ولأصحابك, فأنتم جئتم من مكة, وليس معكم شيء، فقال عليه الصلاة والسلام للصحابة: ( دونكم هذا، فإن الله قد حرم علي الصدقة).

يقول: فقلت: هذه واحدة، يقول: فجئت في اليوم الثاني ومعي شيء, وقلت: إنك لا تأكل الصدقة وهذه هدية فاقبلها مني يا رسول الله، قال: نعم، ثم دعا أصحابه فأكل وأكلوا.

فقلت: هذه ثانية، يقول: وبدأت أتحين من النبي عليه الصلاة والسلام نظرةً، فأذهب خلفه وأنظر لعله يقع الرداء عن كتفه عليه الصلاة والسلام فأنظر إلى خاتم النبوة.

على كل حال يقول سلمان : فلما رآني النبي عليه الصلاة والسلام عرف ما أريد، قال: ماذا تريد؟ فألقى النبي عليه الصلاة والسلام الرداء عنه يقول: فأكببت أقبل خاتم النبوة وأبكي على نبينا صلوات الله وسلامه، قال: ما شأنك؟ فأخبرته من أوله إلى آخره، وكيف كان يدور على أسقف وقسيس وأرباب يكون معهم إلى أن بشرهُ آخر قسيس بمهاجر نبي سيكون في بلدة بين حرتين كثيرة النخل فيها أوصافك يا رسول الله.

فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (كاتب صاحبك) أي: اطلب منه أن يعتقك مقابل مال، فكاتبه على ثلاثمائة نخلة, وفي رواية: خمسمائة نخلة يحييها بالفقير، والفقير: هو الحفرة التي توضع فيها النخلة، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اذهب ففقر ) يعني: عليك أن تحفر الحفر ونحن بعد ذلك نأتي بالنخيل، وطلب سيده زيادة على هذا عشرين أوقية من ذهب.

والأوقية وزنها أربعون درهماً، والدرهم ثلاثة غرامات ونصف، وعليه: الأوقية الواحدة مائة وأربعون غراماً اضربها في عشرين، تكون النتيجة ألفين وثمانمائة غراماً يعني: قرابة ثلاثة كيلو من الذهب، فثلاثة كيلو من الذهب وثلاثمائة أو خمسمائة نخلة حية مثمرة، هذه من الذي يملكها؟ سلمان ما يملك شيئاً، والصحابة من أولهم إلى آخرهم في ذاك الوقت لا يملكون ولا ثلاثين غراماً من الذهب رضي الله عنهم وأرضاهم.

فاتفق معه على هذا, وجاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام وأخبره، قال: (اذهب ففقر) احفر الحفر، ففقر وحفر، ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه: ساعدوه، فكان هذا يأتي بثلاثين فسيلة، وهذا يأتي بأربعين، وهذا يأتي بعشرين، والفسيلة: الصغيرة من النخل، والنبي عليه الصلاة والسلام يغرسها بيده المباركة في تلك الحفر التي حفرها سلمان .

يقول سلمان رضي الله عنه: فحملت النخل من عامها إلا نخلة واحدة، وهذه النخلة إما اشترك في غرسها اثنان، وإما نخلة ونخلة وهو عبر عن النخلة التي زرعها فلان، وعن نخلة بعد أخرى زرعها فلان، أو كلها حملت في عامها في نفس السنة إلا نخلة.

قال: غرسها عمر رضي الله عنه فلم تحمل، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (من غرس هذه؟ فقيل له: عمر )، وعمر مبارك، وأبو بكر والصحابة الكرام، لكن النبي عليه الصلاة والسلام يريد أن يظهر لهم مزية بركته بإعلام الله له, وهذا تقدير الله له.

فنزعها النبي عليه الصلاة والسلام, ثم غرسها فحملت مع تلك من عامها.

وفي رواية في المسند: يقول سلمان : إلا نخلة غرستها بيدي أنا، وعليه فليس عمر ، فإما هو وعمر اشتركا في غرسها، ولذلك أضافه مرة إليه ومرة إلى عمر ، وأراد الله أن يظهر مزيد بركة النبي عليه الصلاة والسلام على الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، فحمل النخل بأكمله من عامه إلا ما غرس من قبل غيره.

فقال: إلا نخلة غرستها بيدي يقول: فعلقن جميعاً، يعني: حملن وما خاب منهن نخلة إلا نخلتي، ثم قال: فنزعها النبي عليه الصلاة والسلام, وغرسها فحملت أيضاً من عامها.

ثلاثمائة نخلة أو خمسمائة نخلة انتهينا منها، بقيت عشرون أوقية من ذهب ودفعها أعظم من ضرب العنق في ذاك الوقت، فأما النخل فعندهم نخيل، أخرجوا فسائل من نخلهم وزرعه النبي عليه الصلاة والسلام بيده المباركة، فببركته العظيمة الكريمة خرج النخل من عامه، لكن الآن لا بد من ذهب.

يقول سلمان : وكنت عند النبي عليه الصلاة والسلام ففتح عليه فجاءه بعث ومعهم ذهيبة كبيضة الدجاج، قطعة ذهب كأنها بيضة دجاجة.

فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (يا سلمان ! خذها) والحديث صحيح، (خذها، فأد ما عليك)، يقول: فأخذتها وقلبتها بكفي، وقلت: يا رسول الله! أين تقع هذه مما علي؟ فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (اذهب فإن الله سيؤدي عنك).

يقول سلمان كما في معجم الطبراني الكبير: فلو وزنت بأحد لكانت أثقل منه، لو أردت أن أزن منها بمقدار جبل أحد لكانت أثقل منه، فذهب ووزن منها لصاحبه عشرين أوقية وبقي معه بقية، ففك نفسه من ذلك اليهودي، وصار من أصحاب النبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.

وقصته أشير إليها إجمالاً في صحيح البخاري ، وذكرت فيما تقدم خمسة أو ستة كان عندهم يتناوب عليهم ويموتون.

أما في صحيح البخاري ففي كتاب مناقب الأنصار, والحديث رواه أبو نعيم في الحلية، وابن عبد البر في الاستيعاب في باب إسلام سلمان من مناقب الأنصار في الجزء السابع صفحة سبع وسبعين ومائتين من فتح الباري عن أبي عثمان النهدي ، عن سلمان الفارسي رضي الله عنهم أجمعين أنه قال: تداوله بضعة عشر من رب إلى رب، يعني: من سيد إلى سيد، ومن مالك إلى مالك، يكون عند هذا وعند هذا وعند هذا من القسيسين الذين خدمهم والأساقفة، حتى استقر عند النبي عليه الصلاة والسلام.

وإطلاق لفظ الرب على السيد المالك نهينا عنه، فلعل هذا صدر من سلمان قبل النهي أو أنه ما بلغه ذلك، والعلم عند الله جل وعلا، ولا مانع أن يكون أخبر بذلك ونقل عنه قبل أن يقع النهي، أو أنه قال هذا ولم يبلغه النهي، وقد نهينا أن نقول للمالك: رب، إنما نقول له: سيد كما أنه لا يجوز له أن يقول للعبد: عبدي إنما يقول: غلامي وفتاي.

وقد ثبت الحديث بذلك في المسند، وصحيح مسلم في حديث رواه البخاري في الأدب المفرد من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يقولن أحدكم: عبدي وأمتي، فكلكم عبيد الله، وكل نسائكم إماء الله، ولكن ليقل: غلامي وجاريتي، وفتاي وفتاتي، ولا يقولن العبد: ربي، ولكن ليقل: سيدي).

وأشار البخاري أيضاً إلى قصة سلمان في كتاب البيوع في الجزء الرابع صفحة عشر وأربعمائة، بوب عليه البخاري باباً فقال: باب شراء المملوك من الحربي وهبته وعتقه، ثم روى معلقاً بصيغة الجزم، فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لـسلمان : (كاتب) يعني كاتب مالكك من أجل أن يعتقك، وكان حراً فظلموه وباعوه.

اختلاف العلماء والمؤرخين في عمر سلمان الفارسي

وقد عاش سلمان أكثر مما يعيشه من كان معاصراً له؛ لأنه عندما يتداوله بضعة عشر من رب إلى رب وهم يموتون ثم يأتي إلى بلاد الحجاز، ثم يبعث النبي عليه الصلاة والسلام، ثم يقبض رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأبو بكر وعمر وعثمان قيل: مات في خلافته, وقيل: في أول خلافة علي رضي الله عنه وأرضاه.

حقيقةً هذا عمر ليس كعمر من كان يعاصره فهو من المعمرين، وأقل ما قيل فيه: أنه عاش خمسين ومائتي سنة، نعم اختلفوا فيما زاد، أما هذا فمحل اتفاق بين المؤرخين وأئمة المسلمين، سأذكر هذا، والذهبي بعد أن قرره تراجع عنه بما لا دليل عليه كما ستسمعون إن شاء الله.

قال الذهبي في سير أعلام النبلاء في الجزء الأول، صفحة خمس وخمسين وخمسمائة: قال العباس بن يزيد البحراني وهو من الثقات الأثبات، من شيوخ الإمام ابن ماجه ، توفي سنة ثمان وخمسين ومائتين، وهو صدوق من العاشرة، حديثه في سنن ابن ماجه، قال العباس بن يزيد البحراني : يقول أهل العلم: عاش سلمان خمسين وثلاثمائة سنة، فأما خمسون ومائتان فلا يشكون فيها، هذا المقدار لا يشكون فيه، إنما يقولون أيضاً: عاش ثلاثمائة وخمسين سنة.

قال الإمام الذهبي : وقد ذكرت في تاريخي -يعني: تاريخ الإسلام- أنه عاش خمسين ومائتي سنة، وأنا الآن لا أرتضي ذلك، ولا أصححه، ومجموع أمره وأحواله وغزوه وهمته وتصرفه وأشياء مما تقدمت تنبئ أنه ليس بمعمر ولا هرم، قال هذا استنباطاً، ما بناه على رواية ولا على حكاية، قال: فلعله فارق وطنه وهو حدث، ولعله قدم الحجاز وهو ابن أربعين سنة أو أقل.

هؤلاء بضعة عشرة وكلهم ماتوا وهو ما بلغ الأربعين، يقول: ولعله عاش بضعاً وسبعين سنة، كلها لعل لعل، وما أراه بلغ المائة، فمن كان عنده علم فليفدنا.

وهذا انفرد به الذهبي بعد أن قرر هو خلافه كما قال، يقول: أنا الآن راجع عما كنت قررته وأثبته في كتاب تاريخ الإسلام.

ما رجع عنه هو الذي عليه أئمتنا، هو الذي ذكره الإمام ابن الأثير في أسد الغابة في الجزء الثاني صفحة إحدى وعشرين وأربعمائة، ونقل كلام العباس بن يزيد البحراني المتقدم، وكلام أبي نعيم ، فقال: كان من المعمرين، ويقال: إنه أدرك عيسى بن مريم على نبينا وعليهم صلوات الله وسلامه، وبين عيسى وبعثة نبينا عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه ستمائة سنة، يقال أن مائتين وخمسين هذه ليست كافية عند المؤرخين كما تقدم معنا، وإلى هذا ذهب الإمام ابن حجر في الإصابة في ترجمته في الجزء الثاني صفحة اثنتين وستين بعد أن حكى ما تقدم وأن أقل ما بلغه خمسون ومائتا سنة يقول: وقال الذهبي وجدت الأقوال كلها دالة على أنه عاش خمسين ومائتي سنة، واختلفوا في الزائد ثم رجعت عما قررته، ولعله قد جاوز الثمانين.

قلت: -أي: الحافظ ابن حجر - لم يذكر الذهبي مستنده، وأظنه أخذه من شهوده الفتوح ومن تزوجه، ومن بقاء النشاط فيه، وهذا حال الشباب والفتيان ليس حال الشيوخ الهرمين.

وليس يظن فقد صرح بهذا في سير أعلام النبلاء، يقول: غزوه وهمته وتفرغه يدل على أنه لا زال شاباً وليس من المعمرين.

قال الحافظ ابن حجر : لكن إن ثبت ما نقل عن العلماء الكرام فيكون ذلك من خوارق العادات، وهو كرامة لـسلمان ، وما المانع من ذلك؟ بلغ خمسين ومائتي سنة ومع ذلك تزوج وولد له، وعنده عزم الشباب والقوة، والله جل وعلا خصه بذلك وهو على كل شيء قدير سبحانه وتعالى، مات سنة ست وثلاثين، وقيل: ثلاث وثلاثين، وقيل: اثنتين وثلاثين لهجرة نبينا الأمين عليه وعلى صحبه صلوات الله وسلامه.

هذا فيما يتعلق بنسبه وإسلامه وكما رأيتم الأمر عجيب غريب، والله جل وعلا يهدي إليه من يريد.

منزلة سلمان ومكانته

المبحث الثاني في ترجمته: منزلة سلمان ومكانته.

ثبت في طبقات ابن سعد في الجزء الرابع صفحة اثنتين وثمانين، وفي الجزء السابع صفحة ثمان عشرة وثلاثمائة عن الحسن البصري مرفوعاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (سلمان سابق الفرس) أي: سابق الفرس إلى الإسلام، (وهو أول المهتدين فيهم، وهو أعظم أهل الفرس وأرفعهم مكانةً عند الله)، والأثر كما ترونه مرسل من كلام الحسن مرفوعاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام.

قال الذهبي في السير: هذا مرسل ومعناه صحيح، ( سلمان سابق الفرس)، وقد ورد الحديث متصلاً عن نبينا عليه الصلاة والسلام بما فيه هذه الدلالة، ثبت ذلك في مستدرك الحاكم في الجزء الثالث صفحة خمس وثمانين ومائتين، وفي صفحة اثنتين وأربعمائة من المستدرك.

فالحديث في الحلية أيضاً من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (السباق أربعة) يعني: من أحرز السبق من الأمم أربعة أشخاص، (أنا سابق العرب) عليه صلوات الله وسلامه، ولا يمكن لعربي أن يتقدمه، (و سلمان سابق الفرس)، لا يمكن لفارسي أن يسبق سلمان ، (و بلال سابق الحبشة، وصهيب سابق الروم). فهؤلاء أربعة أشخاص يتصفون بصفة السبق فلا يلحقهم أحد من جنسهم وأقوامهم، ومهما وجد فاضلون من جنس العرب فلا يصلون إلى درجة نبينا عليه الصلاة والسلام، لا من إسماعيل الذي هو أبو العرب، ولا من إبراهيم ولا غيرهما ممن جاء بعدهما، ولا يصل أحد إلى هذه المكانة التي كان عليها نبينا عليه الصلاة والسلام. وسلمان في الفرس، وبلال في الحبشة، وصهيب في الروم.

والحديث في المستدرك، لكن فيه عمارة بن زاذان ، ضعفه الدارقطني ، ومعناه صحيح، وعليه فالحديث متصل ضعيف، وحديث الحسن في طبقات ابن سعد صحيح، لكنه مرسل فلعله يتقوى كل واحدٍ منهما بالآخر، فتصبح الدلالة صحيحة في حق سلمان من كلام نبينا عليه الصلاة والسلام مع صحتها, كما قال الإمام الذهبي بنفسها إذا لم تكن مأثورةً ومنقولة.

( سلمان سابق الفرس)، أفضل هذا الجيل سلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه.

وقد شهد نبينا عليه الصلاة والسلام لـسلمان بأنه من أهل البيت الطيبين الطاهرين، وكان هذا عندما اختلف فيه المهاجرون والأنصار, وكل واحد أراد أن يكون سلمان معه، فأحاله النبي عليه الصلاة والسلام من الصنفين ونسبه إلى بيته الطيب الطاهر المبارك.

ثبت الحديث بذلك في المستدرك في الجزء الثالث صفحة ثمان وتسعين وخمسمائة، وهو في طبقات ابن سعد في الجزء الرابع صفحة ثلاث وثمانين والجزء السابع صفحة ست عشرة وثلاثمائة، ورواه الطبراني في معجمه الكبير كما في مجمع الزوائد في الجزء السابع صفحة ثلاثين ومائة، وهو في كتاب دلائل النبوة للإمام البيهقي في الجزء الثالث صفحة ثمان عشرة وأربعمائة، ولفظ الحديث: عن كثير بن عبد الله بن عوف المزني ، عن أبيه، عن جده وهو عوف المزني ، وعوف من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، قال عوف : (خط النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب الخندق، فجعل لكل عشرة أربعين ذراعاً) أي: في الطول.

والخندق أشار سلمان رضي الله عنه بحفره وقال: من أجل ألا يباهتنا العدو يصير بيننا وبينه حاجز، فجعل النبي عليه الصلاة والسلام لكل عشرة من الصحابة أربعين ذراعاً يحفرونها. يعني: كل واحد يأخذ ويحفر أربعة أذرع، لكن يتناوب كل عشرة على أربعين ذراعاً.

فاختصم المهاجرون والأنصار في سلمان لجلده، المهاجرون يريدون سلمان معهم لقوة حفره، فهو يحفر أضعافاً مضاعفة عما يحفره الواحد العادي، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (سلمان منا أهل البيت)، ونعم ما قال، فجبر خاطر الفريقين، وزاد سلمان فرحاً وغبطةً.

وهذا كما فعله عليه الصلاة والسلام في وضع الحجر الأسود، فلو قال: لترفعه قبيلة كذا لكسر خاطر القبيلة الثانية، فقال: المسألة سهلة كلكم تشتركون في الفضيلة، لكن أفضل الفضائل لي, نضع هذا الحجر في رداء, وكل قبيلة تمسك من طرف وارفعوا, فإذا صار إلى مكانه أضعه بيدي الشريفتين.

فكلكم شاركتم في وضع الحجر، لكن المكرمة التامة في هذا لنبينا عليه الصلاة والسلام، فقبلوا بحكمه واعتبروا هذا من أعظم ما أشير به عليهم لإزالة النزاع فيما بينهم.

والحديث قال عنه الذهبي : إنه ضعيف، وسبب ضعفه وجود كثير ، قال عنه الحافظ في التقريب: ضعيف، وقد أفرط من نسبه إلى مسنده.

وقد أخرج حديثه البخاري في جزء القراءة خلف الإمام، وأخرج حديثه أهل الكتب الأربعة إلا الإمام النسائي ، والحديث في معجم الطبراني الكبير كما قال الهيثمي في المجمع، والإمام الترمذي يحسن حديث كثير بن عبد الله المزني ، والجمهور قد ضعفوه. لكن هذا الحديث له شاهد من كلام علي بسند صحيح كالشمس في النهار الواضح المستبين.

ويتقوى هذا الحديث إن شاء الله بما ثبت عن علي ، ولا يمكن لـعلي أن يقول هذا إلا بشيء أثر عن النبي عليه الصلاة والسلام، وأثر علي رواه يعقوب الفسوي في كتاب التاريخ والمعرفة في الجزء الثاني صفحة أربعين وخمسمائة، ورواه الإمام أبو نعيم في الحلية في الجزء الأول صفحة سبع وثمانين ومائة، ورواه أحمد بن منيع في مسنده كما في المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية للحافظ ابن حجر في الجزء الرابع صفحة واحد وثمانين.

والحديث رواه الطبراني وابن سعد في الطبقات في الأمكنة المتقدمة عن أبي البختري وهو سعيد بن فيروز الطائي ، ثقة ثبت، حديثه مخرج في الكتب الستة، وهو مترجم عندكم، توفي سنة ثلاث وثمانين للهجرة، ثقة، وهو من التابعين، قال: سئل علي رضي الله عنه عن أصحابه فقال: عن أيهم تسألوني؟ قالوا: عن عبد الله بن مسعود ، فقال: علم القرآن والسنة ثم انتهى وكفاههما علماً. قالوا: فعن أبي موسى الأشعري ، يعني: صف لنا أصحابك، قال: قبض في العلم قبضة.

وأبو موسى الأشعري كان يقول: لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم، تذكرون هذا عن عبد الله بن مسعود ، وقال: مجلس كنت أجالسه أي: عبد الله بن مسعود أوثق في نفسي من عمل سنة، فلا يغيبن هذا عنكم.

قيل: فـحذيفة بن اليمان ؟ قال: أعلم أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام بالمنافقين، قالوا: فـعمار بن ياسر ؟ قال: مؤمن نسي، أي: كثير النسيان، إن ذكر ذكر، قالوا: صف لنا سلمان وماذا تقول فيه؟ قال: عن لقمان الحكيم تسألوني؟ أدرك العلم الأول والعلم الآخر، وقرأ الكتاب الأول والكتاب الآخر، هو منا أهل البيت.

وهذا هو محل الشاهد، هو منا أهل البيت بحر لا يدرك قعره، قالوا: صف لنا نفسك؟ قال: هذا الذي أردت، يعني: أريد أيضاً تسألوني عن نفسي من أجل أن أبين لكم مكانتي عند النبي عليه الصلاة والسلام، كنت إذا سألت أعطيت، وإذا سكت ابتديت، يعني: كنت مع النبي عليه الصلاة والسلام إذا أنا سألت أعطيت، وإذا أنا سكت هو يبتدئني عليه الصلاة والسلام ويعلمني، فلي مكانة عالية عنده، وأنا صهره وهو ابن عمي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.

إذاً هذا كلام علي ، وإسناده صحيح ثابت كالشمس في رابعة النهار، فإذاً: علي يقول: هذا منا أهل البيت.

وتقدم معنا حديث في المستدرك وغيره: (سلمان منا أهل البيت)، وفضائل سلمان كثيرة وفيرة سأختمها بهذا الحديث.

ثبت في المسند وصحيح مسلم وكتاب الاستعاذة للإمام ابن عبد البر عن عائذ بن عمرو : أن أبا سفيان أتى على سلمان وبلال بن رباح وصهيب الرومي رضي الله عنهم، وكان هذا في هدنة الحديبية، في الصلح الذي بينهم وبين النبي عليه الصلاة والسلام بعد العام السادس من الهجرة.

إذاً: أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفر من المستضعفين، فقالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها، يعني: ليتنا قتلناه يوم بدر، فسمع أبو سفيان ذلك فسكت، فسمعهم أبو بكر فقال: تقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟ أبو سفيان فيكم مستضعف مسكين؟ ثم ذهب أبو بكر وذكر ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام.

قال: (يا أبا بكر ! لعلك أغضبتهم، إن كنت أغضبتهم فقد أغضبت ربك)، هؤلاء لهم مكانة عالية، وحاشا لـأبي بكر أن يغضبهم أو أن يغضبوا منه فهو والدهم، ولو وطئ على رقابهم لتبركوا برجله، حاشا أن يغضبوا منه.

لكن يريد النبي عليه الصلاة والسلام أن يبين قدر هؤلاء، فحاشاه أن يغضبهم، وحاشاهم أن يغضبوا من والدهم، ولو غضبوا منه لكانوا عاقين له.

فجاء أبو بكر وقال: يا إخوتي! هل أغضبتكم؟ قالوا: لا، يغفر الله لك يا أخي بضم الهمزة, وقيل: بفتحها.

انظر إلى هذه المكانة العظيمة لـسلمان ولمن معه، بلال وصهيب رضي الله عنهم وأرضاهم.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً.

ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار.

اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا.

اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح الترمذي - باب الاستتار عند الحاجة، والاستنجاء باليمين، والاستنجاء بالحجارة [2] للشيخ : عبد الرحيم الطحان

https://audio.islamweb.net