إسلام ويب

ولد الإمام علي رضي الله عنه قبل البعثة بعشر سنين، فكان أول الصبيان إيماناً، وقد نال شرف مصاهرة النبي صلى الله عليه وسلم، إذ تزوج فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، ومن فضائله شهادة الرسول له في خيبر بحب الله ورسوله وحبه لله ورسوله وأن حبه إيمان وبغضه نفاق، وقد تولى علي الخلافة بعد عثمان فكان رابع الخلفاء في الزمن والفضل، وهذا ما استقر عليه أهل السنة بعد خلاف في تقديمه على عثمان، وقد وقف أهل السنة من علي موقفاً وسطاً فلم يغلوا فيه غلو الروافض، ولم يجفوه جفاء النواصب.

الرد على من وصف ابن عباس بالتدليس

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فقد بدأنا في مدارسة الباب الثالث من أبواب الطهارة من جامع الإمام أبي عيسى الترمذي عليه وعلى أئمتنا والمسلمين أجمعين رحمات رب العالمين، وقد دار هذا حول باب ما جاء في أن (مفتاح الصلاة الطهور)، ثم ساق الإمام الترمذي عليه رحمة الله في هذا الباب حديثين:

الحديث الأول رواه عن أربعةٍ من شيوخه: عن قتيبة بن سعيد ، وهناد بن السري ، ومحمود بن غيلان ، ومحمد بن بشار رضي الله عنهم أجمعين، عن علي رضي الله عنه وأرضاه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم)، قال أبو عيسى : هذا الحديث أصح شيءٍ في هذا الباب وأحسن.

ثم روى حديثاً آخر في هذا الباب رواه عن شيخه أبي بكر محمد بن زنجويه البغدادي ، وعن غير واحدٍ من شيوخه أيضاً عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مفتاح الجنة الصلاة، ومفتاح الصلاة الوضوء).

إخوتي الكرام! لا زلنا في المبحث الأول في دراسة إسناد الحديثين، وغالب ظني أننا انتهينا من ترجمة العبد الصالح سيد الحفاظ وإمام المسلمين في زمنه علماً وعملاً سفيان الثوري أبي عبد الله عليه وعلى أئمتنا رحمات ربنا، وآخر ما تكلمنا على هذه الترجمة المباركة فيما يتعلق بوصف التدليس الذي وصف به، وبينت معنى التدليس، وأقسام المدلسين الخمسة، بعض الإخوة يقول: إن بعض العلماء المعاصرين يقول: إن ابن عباس رضي الله عنهما كان من المدلسين، وأنه أول المدلسين في هذه الأمة.

والجواب: أن وصف ابن عباس رضي الله عنهما بذلك لا يصح، وإن كان روى أحاديث عن النبي عليه الصلاة والسلام بواسطةٍ وحذف تلك الواسطة، لكن ما أطلق على هذا الفعل من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم وصف التدليس، التدليس كان فيمن بعدهم؛ لأن الراوي عندما يحذف شيخه الذي حدثه بالحديث، قلنا: هذا يوهم علينا الأمر، فقد يكون هذا المحذوف حوله كلام، فأما الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين سواءٌ سموا بأعيانهم أو لم يسموا لا يضر، ولذلك لو قال التابعي الثقة: حدثني من صحب النبي عليه الصلاة والسلام، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال كذا، ولم يسم الصحابي فالحديث له حكم الاتصال بالاتفاق.

فما جرى وصدر من ابن عباس رضي الله عنهما سماه أئمتنا بمرسل الصحابي، وهو ما رواه الصحابي عن النبي عليه الصلاة والسلام ولم يسمعه منه، إنما أخذه بواسطة صحابيٍ آخر، هذا يقال له: مراسيل الصحابة، ومراسيل الصحابة لها حكم الاتصال، وما خالف في ذلك إلا إمام واحد من أئمتنا الأبرار وهو الإمام أبو إسحاق الإسفراييني ، ولذلك يقول شيخ الإسلام الإمام العراقي في الألفية:

أما الذي أرسله الصحابيفحكمه الوصل على الصواب

والصواب يقابله الخطأ، فكأنه يقول: هناك إمامٌ من الأئمة قال: إن مراسيل الصحابة كمراسيل من بعدهم، نتوقف فيها حتى يتبين لنا من رووا عنهم عن النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا -كما قلت- خلاف الصواب.

فـابن عباس رضي الله عنهما كان عمره عندما توفي نبينا عليه الصلاة والسلام وانتقل إلى جوار ربه أربع عشرة سنة، أي ناهز الاحتلام، فأكثر الأحاديث التي رواها كانت عن الصحابة الكرام عن النبي عليه الصلاة والسلام، وكان أحياناً يصرح بالصحابي، وأحياناً يحذفه ويروي الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام مباشرةً دون أن يقول: سمعت، إنما يقول: قال النبي عليه الصلاة والسلام، أو أن النبي عليه الصلاة والسلام فعل وما شاكل هذا، من غير تصريح بالسماع، إنما يحذف من حدثه به من الصحابة الكرام.

هذا كما قلت يقال له: مراسيل الصحابة، وحكمها أنها متصلة، فليس حالها كحال التدليس الذي وصف به بعض المحدثين ممن جاء بعد الصحابة الطيبين رضوان الله عليهم أجمعين.

تراجم رجال حديث: مفتاح الصلاة الطهور

إخوتي الكرام! كلمة (ح) بعد سفيان تقدم معنا بيانها في الحديثين المتقدمين.

ترجمة محمد بن بشار

قول الإمام الترمذي عليه رحمة الله: وحدثنا محمد بن بشار ، هذا من شيوخه أيضاً كـقتيبة وهناد ومحمود بن غيلان ، هؤلاء هم شيوخ الإمام الترمذي الأربعة في هذا الحديث، ومحمد بن بشار ، هو محمد بن بشار بن عثمان العبدي البصري ، كنيته: أبو بكر، لقبه: بندار ، ثقةٌ من العاشرة، أخرج حديثه أهل الكتب الستة، توفي سنة اثنتين وخمسين، أي: بعد المائتين، هذا الذي جاء في التقريب، وفي الكتب التي بسطت ترجمته كما في تهذيب التهذيب والسير وغير ذلك ينقلون عن إمام الأئمة محمد بن خزيمة أنه كان إذا روى عن هذا الشيخ المبارك عن شيخه محمد بن بشار يقول: حدثنا إمام أهل زمانه بالعلم والأخبار محمد بن بشار.

ترجمة عبد الرحمن بن مهدي وذكر شيء من مناقبه

قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، وهو عبد الرحمن بن مهدي بن حسان العنبري مولاهم أبو سعيد البصري، ثقةٌ، ثبتٌ، حافظٌ، عارفٌ بالرجال والحديث، قال الإمام علي بن المديني: ما رأيت أعلم من عبد الرحمن بن مهدي -هذا كله في التقريب- من التاسعة، توفي سنة ثمانٍ وتسعين، أي بعد المائتين على حسب اصطلاح الحافظ في التقريب، وهذا خطأ؛ لأن ابن مهدي مات قبل هذا باتفاق! فلا بد من تصحيحها بأن نقول: ثمان وتسعين ومائة، وإلا أشكل علينا الأمر؛ لأن قول الحافظ من التاسعة يوهم أنه مات بعد المائتين، ولا يمكن أن يقال بأنه أراد الثامنة فتصحفت إلى التاسعة، فـالحافظ ذكر أن ما خرج عن اصطلاحه يبين الأصل فيقول: ومائة، ليزيل اللبس والإيهام، أما أن يقول: من التاسعة، توفي سنة ثمانٍ وتسعين فيوهم أنه بعد المائتين، وحقيقة الأمر أنه بعد المائة هذا حكمه كما تقدم معنا سابقاً في ترجمة وكيع والعلم عند الله.

أيضاً عبد الرحمن بن مهدي أخرج حديثه أهل الكتب الستة، ونعته الإمام الذهبي في السير وفي تذكرة الحفاظ بأنه سيد الحفاظ، وقف مرةً مع وكيع بن الجراح في المسجد الحرام بعد أداء صلاة العشاء في المسجد يتذاكران حتى أذن المؤذن للفريضة وهما يتذاكران حديث النبي عليه الصلاة والسلام، وذهلا عن الوقت، وهذا حال أئمتنا الأخيار عليهم جميعاً رحمة الله جل وعلا، يتذاكران حديث النبي عليه الصلاة والسلام بعد صلاة العشاء دون شعورٍ بالوقت حتى طلع الفجر! وتقدمت معنا ترجمة وكيع بن الجراح، توفي سنة سبعٍ وتسعين، يعني قبل عبد الرحمن بن مهدي بسنة، عليهم جميعاً رحمة الله.

وكنت ذكرت شيئاً من مناقب عبد الرحمن بن مهدي في بدء مدارستنا لدروس الحديث وهي قصةٌ طريفةٌ عجيبةٌ غريبة، كان يقول: لولا أن تحب المعصية لتمنيت أن يغتابني كل من في البلد، وأي شيءٍ أهنأ من أن تجد حسناتٍ في صحيفتك بدون عمل! يعني يقول: لولا أن تكون معصية لتمنيت أن يغتابني كل واحد، وحقيقةً هذا حال من ينظر إلى الآخرة ولا يأبه بالدنيا، لكن يقول: ما أريد أن ارتكب معصيةً بهذا الهم، وإلا لو كان الإنسان عاقلاً لما حزن عند اغتياب الناس له.

وتقدم معنا أيضاً قصة ثانية من أخباره أنه كان يجلس بعد صلاة الجمعة للدرس، فكان إذا كثر الجمع فرح واستبشر، وإذا قلّ الجمع حزن واكتأب، فعرض هذا على صديقه وشيخه الإمام الرباني بشر بن منصور في ذلك الوقت، فقال: ما تقول؟ قال: هذا مجلس سوء فلا تعد إليه، يقول عبد الرحمن بن مهدي : فما ذكَّرت فيه بعد ذلك، ما دامت النفس تتطلع للكثرة وتحزن للقلة، فحقيقةً ينبغي على الإنسان أن يحتاط، ولا يقولن معترض بعد ذلك: ليجاهد نفسه وينصرف إلى مجلسٍ آخر، لكن لما حصلت هذه الرعونات وهذه الآفات، والإنسان على نفسه بصيرة ترك، وهكذا كانت معاملتهم في هذه الحياة لربهم جل وعلا، وحقيقةً كأنهم ينظرون إلى الآخرة بأعينهم.

وتقدم معنا عند فضل مدارسة الحديث أنه كان يقول: لأن أحفظ حديثاً أحب إليّ من أن يغفر لي ذنبٌ، وقلنا: لأنه بحفظ الحديث يحصل أجوراً ومغفرة ذنوبٍ كثيرة أكثر مما لو غفر له ذنب، يقول: لو خيرت بين أمرين: أن يغفر لي ذنب وأن أحفظ الحديث لاخترت حفظ حديثٍ على مغفرة ذنبٍ.

ومن مناقبه: أنه كان يقرأ كل ليلةٍ نصف القرآن، فكان يختم القرآن كل ليلتين رحمه الله ورضي الله عنه، وهو ممن جمع الله له خير الدنيا وخير الآخرة، وكان طلبة العلم يقولون: دار عبد الرحمن بن مهدي تذكرنا بالدنيا والآخرة، فإذا دخلناها نرى فيها نعيماً ونعماً ويتحفنا ويسعدنا، فيها خيرات ليست كحال بيوت المشايخ الفقراء، وتذكر بالآخرة؛ لأنه ليس فيها معصية، بل مجالس خشية وتذكير بالله الجليل سبحانه وتعالى، نسأل الله أن يرحمه، وأن يرحم المسلمين أجمعين، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، هؤلاء هم المحدثون رحمهم الله ورضي عنهم.

عبد الرحمن بن مهدي قال: حدثنا سفيان ، سفيان هو الثوري الذي تقدم معنا، فهناك إذاً قتيبة وهناد ومحمود بن غيلان ، شيوخ الترمذي الثلاثة، رووا الحديث عن وكيع ، عن سفيان ، وهنا محمد بن بشار رواه عن عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان ، فبدل وكيع عبد الرحمن بن مهدي فقط، أما سفيان هذا فمشترك في الإسنادين -في الطريقين- يعني من طريق شيوخه الثلاثة عن وكيع، ومن طريق محمد بن بشار عن عبد الرحمن بن مهدي، ثم سفيان شيخ عبد الرحمن بن مهدي، وشيخ وكيع عليهم جميعاً رحمة الله، ثم الإسناد بعد ذلك سيصبح واحداً للطريقين المتقدمين، اتفقا عند سفيان. وقد تقدمت ترجمته.

ترجمة عبد الله بن محمد بن عقيل

عن عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب الهاشمي أبي محمد المدني ، أمه زينب بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، قال الحافظ في التقريب: صدوقٌ، وفي حديثه لين، يقال: تغير بآخره، أي: تغير حفظه في آخر عمره وحياته وبدأ يخلط ويهم ويخطئ إذا حدث، لكنه صدوق، وتقدم معنا اصطلاح الحافظ إذا أطلق هذا اللقب على رجلٍ فيقصد أن حديثه في درجة الحسن، وإذا وجد له شواهد ومتابعات فيرتقي إلى الصحة، وهو من الرابعة، مات بعد الأربعين، أي: ومائة، ثم رمز إلى أن حديثه في كتاب الأدب المفرد : بخ، باءٌ وخاء، أي: أخرج له البخاري لكن في الأدب المفرد لا في الصحيح، وأخرج له أهل السنن الثلاثة: أبو داود وابن ماجه القزويني والترمذي عن عبد الله بن محمد بن عقيل .

ترجمة محمد بن الحنفية

عن محمد بن الحنفية ، وهو ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، وإنما نسب إلى أمه محمد بن الحنفية وهي من سبي بني حنيفة للتمييز بينه وبين أولاد فاطمة رضي الله عنهم أجمعين، أي: بينه وبين الحسن والحسين ، فهذا من سبي بني حنيفة، وذكر بذلك.

ونعت فيما يبدو لي عند أئمتنا لعلةٍ أخرى، وهي الرد على الروافض الذين يقعون في الشيخين في أبي بكر وعمر ، ويطعنون في خلافتهما، ويقولون: خلافتهما باطلة، فأئمتنا كانوا ينعتون ولد علي بإضافته إلى أمه، إشارةٍ إلى أن هذا القول باطل، وأما قولكم لو ثبت لكان في ذلك منقصة ومطعن في علي رضي الله عنه وأرضاه؛ لأن تصرفات الإمام غير الشرعي ليست شرعية، وقتال المرتدين في بلاد نجد من بني حنيفة وقع في عهد أبي بكر ، وسبى ذرية المرتدين، ووزعت الغنائم على المجاهدين ومنهم علي ، فأخذ امرأةً من السبي واستولدها، وولد له هذا المولود المبارك الذي سماه محمداً .

وولد محمد في العام الذي مات فيه أبو بكررضي الله عنهم أجمعين، إذاً حصل الاستيلاد في حياة أبي بكر، وولد في العام الذي مات فيه أبو بكر رضي الله عنه، وهذا كله في عهد خلافة أبي بكر ومن تصرفات أبي بكر ، فإذا كانت تصرفات هذا الخليفة غير نافذة ولا شرعية فكيف استباح علي أن يأخذ امرأةً من السبي وأن يستولدها؟! هذا برهانٌ قطعي على إقرار علي بصحة خلافة أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين، والفروج يحتاط فيها غاية الاحتياط.

ونحن عندنا أمران فيما يتعلق بالمصاهرة نقطع بهما لسان كل رافضي:

الأمر الأول: محمد بن الحنفية ، فإذا جاء رافضي ليطعن في أبي بكر قل له: أخبرنا عن محمد بن الحنفية من أبوه؟ إن قال: أبوه علي رضي الله عنه وأرضاه، فقل له: من أمه؟ امرأةٌ من بني حنيفة، كيف تم اتصال علي بها؟ عن طريق توزيعها من السبي، في عهد خلافة من؟ في عهد خلافة أبي بكر ، كيف استباح علي هذا العرض في عهد هذا الخليفة الذي لا تنعقد خلافته عندكم، وخلافته باطلة؟! فتصرفاته باطلة إذاً.

والقصة الثانية: قصة زواج عمر من أم كلثوم، وهي بنت علي وبنت فاطمة رضي الله عنهم أجمعين، فإذا كان عمر رضي الله عنه فيه ما فيه كما تقولون من الظلم والجور والجبروت والكفر على تعبيركم، كيف رضي علي أن يزوج ابنته لهذا الصحابي الذي تصفونه بما هو منه بريء؟ وهذه أوصافكم، وأوصاف الضالين أمثالكم، وليست هذه بأوصاف الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، فكأن أئمتنا كانوا يضيفون محمداً إلى أمه، لهذين الأمرين: للتفريق بينه وبين أولاد فاطمة ، والثاني: للإشارة إلى أن هذا الحدث له دلالة معينة في الرد على فرقةٍ ضالةٍ تتهم أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه، ففعل علي يرد عليها، والدلالة الأولى كما قلت معتبرة.

وقد قيل لـمحمد بن الحنفية رضي الله عنهم أجمعين: ما بال والدك علي يقدمك بين يديه لما لا يقدم به الحسن والحسين ؟ يعني: يكلفك ويرسلك والحسن والحسين يصونهما عن كثيرٍ من الأفعال؟ فقال: أما علمتم أن الحسن والحسين لـعلي بمثابة الخدين والعينين، وأما أنا فبمثابة اليدين، والإنسان يدفع الأذى عن خديه وعن عينيه بيديه، الحسن والحسين لهما مكانة، فأبوهما علي وأمهما فاطمة ، وأنا والدي علي لكن أمي دون فاطمة رضي الله عنهم أجمعين، فأنا إذاً أخدم أخوي الحسن والحسين ، كما أن الإنسان يخدم عينيه وخديه ووجهه بيديه، فأنا بمثابة يد تستعمل في خدمة علي وأولاده من نسل فاطمة رضي الله عنهم أجمعين.

محمد بن الحنفية هو أبو القاسم المدني ، ثقةٌ عالمٌ، من الثامنة، أخرج حديثه أهل الكتب الستة، توفي بعد الثمانين، ولم يجاوز المائة عليه رحمة الله، وهو ثقةٌ عالمٌ صالحٌ هذا الذي جاء في التقريب.

وذكر أئمتنا كما في تذكرة الحفاظ وسير أعلام النبلاء في ترجمة هذا العبد الصالح محمد بن الحنفية أنه كان يقول: من كرمت عليه نفسه لم يكن للدنيا عنده قدر، فالله ما جعل للنفس ثمناً إلا الجنة، فكيف إذاً يجعل الإنسان للدنيا قدراً عنده، ونفسه اشتراها الله جل وعلا وجعل ثمنها الجنة!

وكان يقول: أهل بيتين من العرب اتخذهما الناس أنداداً: نحن وبنو عمنا بنو أمية، أي: بنو أمية جعلهم الناس أنداداً من أجل عرض الدنيا للحكم الذي حصل لهم، وهكذا آل البيت الطيبون الطاهرون اتخذهم بعض الناس أنداداً وغلوا فيهم، أولئك من أجل الدنيا، وهؤلاء من أجل الدين.

إذاً: لبس الشيطان على الناس بهذين الفريقين:

آل البيت عبدهم بعض الناس من دون الله من أجل وساوس اخترعها الشيطان لهم، وزين لهم أن حب آل البيت حسنة لا يضر معها خطيئة، فإذا ادعى حبهم فليس عليه بعد ذلك لو ترك الصلاة والصيام، أو فعل كبائر الآثام!

والبيت الثاني بنو أمية، الذين ما عبدوا من أجل الآخرة بل من أجل الدنيا، وباع كثيرٌ من الناس دينهم من أجل الدنيا التي عند بني أمية، وهناك أناسٌ -كما قلت-: ضيعوا دينهم زعماً أنهم على دين عندما غلوا في آل البيت الطيبين الطاهرين رضوان الله عليهم أجمعين.

هذا فيما يتعلق برجال هذا الإسناد قبل الراوي من الصحابة الكرام وهو علي رضي الله عنه وأرضاه.

ترجمة علي بن أبي طالب رضي الله عنه

أما علي رضي الله عنه وأرضاه فكما ذكرت بأننا إذا جاء معنا صحابي نبسط الكلام على شيءٍ من ترجمته، وتقدم معنا ترجمة عبد الله بن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهم أجمعين، وهذا صحابيٌ ثالث، وبعده جابر بن عبد الله في هذا الباب، أوجز الكلام عليهما إن شاء الله.

مولد علي ونشأته

أما علي رضي الله عنه وأرضاه فولد قبل البعثة بعشر سنين، ولما بعث نبينا عليه الصلاة والسلام كان عمره عشر سنين، فآمن به وهو أول الصبيان إيماناً كما تقدم معنا، وتوفي رضي الله عنه وأرضاه شهيداً في العام الأربعين، وعليه فقد عاش ثلاثاً وستين سنة، ثلاث عشرة سنة في مكة بعد بعثة النبي عليه الصلاة والسلام، وعشراً قبل البعثة، فهذه ثلاثٌ وعشرون، وأربعون بعد الهجرة، فذلك ثلاثٌ وستون سنة.

وقد تربى ونشأ في حجر النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن والده أبا طالب كان فقيراً، فكان محمدٌ نبينا عليه الصلاة والسلام يساعد عمه، فأخذ علياً وضمه إليه، ونبينا عليه الصلاة والسلام لما تزوج خديجة لم يكن علي موجوداً رضي الله عنه وأرضاه، إنما قلنا: ولد قبل البعثة بعشر سنين، ونبينا عليه الصلاة والسلام تزوج خديجة وعمره خمس وعشرون سنة، يعني أن علياً ولد بعد زواجه من خديجة بخمس سنين، وبعد ذلك ضمه نبينا عليه الصلاة والسلام إلى أسرته من أجل أن ينفق عليه مساعدةً لعمه، فنشأ في حجر النبي عليه الصلاة والسلام وفي كنفه وتحت رعايته وفي بيته قبل أن يبعث على نبينا وعلى آل بيته صلوات الله وسلامه.

منزلة علي رضي الله عنه من النبي صلى الله عليه وسلم

وقد نال شرف مصاهرة النبي صلى الله عليه وسلم على أكرم بنات النبي على النبي عليه الصلاة والسلام، ألا وهي فاطمة رضي الله عنها وأرضاها، فقد كان لها منزلة جليلة في نفس النبي عليه الصلاة والسلام، لا يتقدمها أحدٌ من أسرته، كما أنه لا يوجد أحدٌ من أسرة النبي عليه الصلاة والسلام من الذكور يتقدم علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، فأول النساء من أهل بيته عنده منزلةً فاطمة ، وأول الرجال من أهل بيته عنده في المنزلة والتقدير علي رضي الله عنهم أجمعين.

وقد ثبت هذا في سنن الترمذي ومستدرك الحاكم من حديث جميع بن عمير التيمي ، وهو صدوقٌ كما قال الحافظ في التقريب، يخطئ ويتشيع، وتشيعه من تشيع الشيعة المتقدمين الذين يفضلون علياً على عثمان رضي الله عنهم أجمعين، وليس في ذلك طعنٌ في أحد من الصحابة الكرام، فهذا التشيع مع أنه مردود، لكن ليس فيه إثمٌ ولا معصيةٌ ولا حرج، والأمر في تقديم علي على عثمان اجتهادٌ لبعض المسلمين في العصر الأول، وسيأتينا أن الراجح والمعتمد تقديم عثمان على علي رضي الله عنهم أجمعين، فكان يقال لمن قدم علياً على عثمان : إنه شيعي دون أن يقع في أحدٍ من الصحابة، ودون أن يقدم علياً على أبي بكر وعمر رضي الله عنهم أجمعين.

أخرج حديثه أهل السنن الأربع، والإمام الذهبي أطلق حكماً شديداً في تعليقه على المستدرك فقال: متهمٌ ولم ينقل هذا عن عائشة أصلاً، وسأذكر -إن شاء الله- كلام عائشة رضي الله عنها وأرضاها، والحديث رواه الترمذي بسندٍ حسن عن بريدة ، فإذاً روي عن جميع بن عمير التيمي ، وروي عن بريدة رضي الله عنهم أجمعين، أما جميع بن عمير التيمي فيقول: دخلت مع عمتي على عائشة رضي الله عنها، وهذا يدل على أنه لم يكن عنده رفض ووقوعٌ في أعراض الصحابة، ولا يطعن في أمنا عائشة ، فهو دخل عليها، وسلم عليها من وراء حجاب، عمته دخلت إلى عائشة وهو جلس وراء الستر، يقول: فسألتها، وفي رواية بريدة يقول: سأل، وهنا يقول: فسألتها، أي: سأل جميع بن عمير التيمي أمنا عائشة رضي الله عنها: من أحب النساء إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ فقالت: ( كان أحب النساء إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فاطمة ، فقلت لها: ومن الرجال؟ قالت: علي ).

وفي رواية بريدة في سنن الترمذي بإسنادٍ حسن: ( كان أحب النساء إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فاطمة ، ومن الرجال علي ).

قال إبراهيم التيمي : يعني من أهل بيته، فأحب النساء إلى النبي عليه الصلاة والسلام من أهل بيته فاطمة ، وأحب الرجال إليه من أهل بيته علي ، لنزيل التعارض بين هذا الحديث والحديث الثابت في سنن الترمذي بسندٍ حسن صحيح عن عمرو بن العاص رضي الله عنه: (أنه عندما جاء من غزوة ذات السلاسل دخل على النبي عليه الصلاة والسلام وقال: يا رسول الله! من أحب الناس إليك؟ قال: عائشة ، قلت: ومن الرجال؟ قال: أبوها)، فإذاً لنفرق بين الحديثين، ولئلا يحصل بينهما تعارض، أحب النساء إليه من آل بيته فاطمة ، وأحب الرجال إليه من آل بيته علي ، وأحب النساء إليه على الإطلاق أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وأحب الرجال إليه على الإطلاق وأفضلهم عنده أبو بكر رضي الله عنه وعن سائر الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، فـعلي نال شرف مصاهرة النبي عليه الصلاة والسلام على أفضل بناته وأشرف ذريته على نبينا وعلى آل بيته صلوات الله وسلامه.

وحديث عبد الله بن عمرو ربما يكون في الصحيحين، ولكنه في الترمذي بسند حسن صحيح وقد نقلته من جامع الأصول (7/135) فنسبه إلى الترمذي فقط، فإذا كان في الصحيحين مع سنن الترمذي فهذا أيضاً خيرٌ على خير، لكن الحديث المتقدم قلت: هو في الترمذي والحاكم من رواية جميع بن عمير ، وفي الترمذي عن بريدة ، وفيه: (أن أحب النساء إلى النبي عليه الصلاة والسلام فاطمة ، وأن أحب الرجال إليه علي)، وهذا قد يوقع إشكالاً مع الحديث الذي مر معنا ذكره، وخرجته الآن من سنن الترمذي : (أن أحب الرجال إلى النبي عليه الصلاة والسلام أبو بكر ، وأحب النساء إليه عائشة رضي الله عنهم أجمعين )، فلإزالة الإشكال يقول الإمام النخعي كما في سنن الترمذي ، بعد أن أورد الحديث المتقدم، قال: يعني من أهل بيته، يعني أحب النساء إليه من أهل بيته الذين هم من ذريته ونسبه، وأمنا عائشة من أهل بيته قطعاً وجزماً؛ لأنها من أزواجه، ليس لها صلة النسب، إنما لها صلة السبب، وآل البيت وأهل البيت يطلقون أصالةً على الصلة النسبية، وأما السببية فهم من آل البيت، لكن -كما قلت- ينصرف الإطلاق أول شيءٍ إلى صلة النسب، وأزواجه من آل بيته قطعاً وجزماً.

ترشيح علي رضي الله عنه للخلافة بعد عمر

ومن مناقب علي رضي الله عنه، وهو الأمر الرابع في ترجمته: أنه أحد الستة الذين عينهم عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين ليختاروا واحداً منهم خليفةً على المسلمين بعد موته رضي الله عنهم أجمعين، والحديث في صحيح البخاري ، وفيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما طعن وعرضوا عليه أن يختار خليفةً على المسلمين رضي الله عنهم أجمعين، قال: ما أرى أحداً أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر، وفي روايةٍ: من هؤلاء الرهط الذين توفي رسول عليه الصلاة والسلام وهو عنهم راضٍ فأرى أن نجعل الأمر فيهم، وهم: عثمان ، وعلي ، وسعد بن أبي وقاص ، وطلحة ، والزبير بن العوام ، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم أجمعين، فلما اجتمع هؤلاء الستة بعد موت عمر رضي الله عنهم أجمعين لينظروا من يختارون، قال عبد الرحمن بن عوف ونعم ما قال: ليجعل كل واحدٍ منكم رأيه إلى صاحبه، بحيث تكون الآراء ثلاثة بدلاً من ستة؛ لنختصر الطريق وليحصل الوفاق بسرعة، فـسعد بن أبي وقاص جعل رأيه إلى عبد الرحمن بن عوف ، وطلحة جعل رأيه إلى عثمان ، والزبير بن العوام جعل رأيه إلى علي ، فإذاً عندنا الآن علي وعثمان وعبد الرحمن بن عوف ، ومن عداهم خرجوا، فقال عبد الرحمن بن عوف لـعثمان وعلي ، فأيكم يتخلى عن هذا الأمر فيعزل نفسه، ثم يولي من يراه أصلح من هؤلاء الستة؟ ونحن نسمع ونطيع، فضن كل واحدٍ من الشيخين المباركين عثمان وعلي رضي الله عنهما بهذا الأمر وما أراد أن يعزل نفسه، لما يترتب على ذلك من مصالح شرعية ننال عليها أجراً عند رب البرية.

فقال عبد الرحمن بن عوف : أنا أعزل نفسي، هل تولياني الأمر على أن أختار للمسلمين؟ فرضيا وقبلا برأيه؛ ولأن الرأي الذي قال به عبد الرحمن من أجل أن يحسم الأمر، فقال لـعلي وذكره بقرابته من رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأنه إذا عهد إليه بالخلافة وبايعه ثم بايعه المسلمون أن يحكم بكتاب الله وبسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وألا يحيد عن الحق، وإذا ولى عليه عثمان ينبغي أن يسمع ويطيع ويبايع فأقر علي بذلك، وقال مثل هذا لـعثمان ، ثم خلا عبد الرحمن بن عوف بالمسلمين يستشيرهم حتى وصل إلى المخدرات في خدورهن يسألهن من يريدن أن يكون خليفةً على المسلمين بعد عمر ، يقول: فما رأيتهم يعدلون بـعثمان أحداً، كلهم يريدون عثمان ، فدعاه وبايعه وبايعه علي وسائر الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين وتمت البيعة.

إذاً هو أحد الستة في مجلس الشورى الذين توفي عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض.

مؤاخاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب

وقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين علي ، والحديث واردٌ في سنن الترمذي ، وقد قال عنه الترمذي : حسنٌ غريب، ورواه الحاكم في المستدرك في الجزء الثالث صفحة أربع عشرة عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما آخى بين المهاجرين والأنصار لم يؤاخ بين علي وبين أحدٍ، فجاء علي إلى النبي عليه الصلاة والسلام يبكي، وقال: يا رسول الله! ما آخيت بيني وبين أحد، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أنت أخي في الدنيا والآخرة).

والحديث إسناده حسن، وقول الإمام ابن تيمية عليه رحمة رب البرية في منهاج السنة النبوية في الجزء الثاني صفحة ثمانٍ وأربعين: الحديث باطلٌ موضوع لا يسلم له؛ لأن الحديث في سنن الترمذي ، وقد نص على تحسينه: حسنٌ غريب، وإذا كان حول الحديث كلامٌ يسير فتصحيح وتحسين الإمام الترمذي إن شاء الله يرفع القيل والقال، وفي إسناده الذي تقدم معنا جميع بن عمير ، وقد نعته الحافظ بأنه صدوق، فلا يصل الحديث إلى درجة الوضع بحال.

وقول الإمام ابن تيمية عليه رحمه الله: ما ثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام عقد لقاءً بينه وبين أحد ولا بين المهاجرين أنفسهم غير مُسَلَّمٍ بشقيه، إنما هذا رأي الإمام ابن تيمية عليه رحمة الله، ومحقق الكتاب في الطبعة الحديثية التي طبعت في تسع مجلدات في الجزء الرابع صفحة اثنتين ما فعل شيئاً نحو كلام الإمام ابن تيمية بل أورده وكأنه قضية مسلمة، ولم يبين أن الحديث في سنن الترمذي والمستدرك.

وقد ذكر الحافظ ابن حجر حديث المؤاخاة بين النبي عليه الصلاة والسلام وبين علي في الخطابة في ترجمة علي رضي الله عنه في الجزء الثاني صفحة خمسمائة وسبعة، ذكره في هذا المكان وما علق عليه بشيء، ما قال: إنه ضعيف، ولا قال: حوله كلام، إنما عزاه إلى الإمام الترمذي ، وذكر أن النبي عليه الصلاة والسلام آخى بين نفسه وبين علي رضي الله عنه وأرضاه.

فإذاً الحكم على الحديث بأنه باطلٌ موضوع غير مسلم، والعبارة ليست دقيقةً في ميزان العلم والبحث.

شهادة الرسول لعلي بأنه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله

ومن مناقب علي رضي الله عنه وأرضاه شهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بأنه يحب الله ورسوله، والله ورسوله يحبان علياً ، والمحبة ثابتة من الجانبين بينه وبين الله ورسوله، وقد ورد الحديث بذلك في الصحيحين من حديث سلمة بن الأكوع ، وفي الصحيحين أيضاً من حديث سهل بن سعد، وهو في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في موقعة خيبر: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه)، فكلهم بدءوا يتطلعون إلى هذه المرتبة، وإلى أخذ الراية في اليوم الثاني، يقول عمر رضي الله عنه: ما تمنيت الإمارة إلا يومئذٍ، يعني: أن أعطى هذه الراية، وأن أكون مسئولاً من أجل قول النبي عليه الصلاة والسلام: (ويحبه الله ورسوله)، ففي اليوم الثاني قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أين علي ؟ فقالوا: إنه أرمد ويشتكي عينيه، فدعاه النبي عليه الصلاة والسلام وبصق في عينيه، فما اشتكى عينيه قط بعد ذلك، ثم أعطاه الراية، فقال: يا رسول الله! أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا، قال: انفذ على رسلك -أي: على مهلك- فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمر النعم)، فأعطاه النبي عليه الصلاة والسلام هذه الراية وفتح الله على يديه في موقعة خيبر، فهو يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، على نبينا صلوات الله وسلامه.

وقد دعا له النبي عليه الصلاة والسلام في مناسبةٍ أخرى بأن يشفى أيضاً من مرضٍ كان فيه، فما أصابه ذلك الوجع أيضاً حتى لقي ربه، والحديث ثابتٌ في المسند وسنن الترمذي ومستدرك الحاكم ، وصحيح ابن حبان ، وإسناده صحيح، قال: (كنت شاكياً -يشتكي علةً في بدنه- فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أقول: اللهم إن كان قد حضر أجلي فأرحني، وإن كان أجلي متأخراً فارفعني -أي: ارفع هذا المرض عني لأقوم نشيطاً- وإن كان هذا المرض بلاءً فصبرني)، إذا كان هذا علامة حضور الأجل فعجل بموتي وأرحني، وإذا كان الأجل متأخراً فأسألك أن ترفعني وأن تزيل هذا المرض عني، وإذا قدرت علي بلاءً فصبرني عليه، (فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: ماذا قلت؟ فأعاد علي رضي الله عنه كلامه، يقول: فضربني النبي عليه الصلاة والسلام برجله ثم قال: اللهم عافه واشفه)، وفي رواية الحاكم : (اللهم اشفه وعافه، قال: فما اشتكيت وجعي بعده)، وفي روايةٍ: (فما عاد إلي ذلك المرض بعد).

ففي موقعة خيبر بصق في عينيه فما اشتكى عينيه حتى مات رضي الله عنه وأرضاه، وذاك الوجع الذي أصيب به وشكى منه في بعض مراحل عمره أيضاً دعا له النبي عليه الصلاة والسلام بالعافية والشفاء، فما اشتكى ذلك المرض، ولا عاد إليه بعد ذلك.

استخلاف النبي صلى الله عليه وسلم يستخلف علياً على المدينة

ومن مناقبه رضي الله عنه وأرضاه وفضائله ومنزلته ودرجته: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبره بهذا الحديث الشريف في موقعة وغزوة تبوك، (وأنه -يعني من النبي عليه الصلاة والسلام- كمنزلة هارون من موسى)، لكن لا نبوة بعد النبي عليه الصلاة والسلام، وسبب هذا أن النبي عليه الصلاة والسلام استخلف علياً على المدينة المنورة عندما ذهب إلى غزوة تبوك، وما بقي إلا أهل الأعذار والمنافقون الأشرار، فـعلي رضي الله عنه تضايق من هذا، وأصيب بشيءٍ من الهم والحزن، يعني أنه مع أهل الأعذار أو مع المنافقين الذين بقوا في المدينة ولا عذر لهم، فلحق بالنبي عليه الصلاة والسلام وقال: خلفتني مع النساء والذرية! فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي)؟ والحديث في الصحيحين وسنن الترمذي من رواية سعد بن أبي وقاص ، ورواه الترمذي من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين، وفي بعض الروايات قال علي رضي الله عنه: (بلى رضيت)، فكما أن موسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه استخلف هارون على قومه عندما ذهب إلى مناجاة ربه، ولا منقصة على هارون في ذلك، فأنا ذاهبٌ لمصلحةٍ شرعية، ولا بد من أن يبقى أحد في المدينة النبوية، على نبينا صلوات الله وسلامه، فأنت تدير الأمور في غيبتي وفي حال ذهابي وسفرتي.

كنية علي بن أبي طالب

وقد كناه النبي عليه الصلاة والسلام بـأبي تراب وداعبه بذلك، على إثر حادثةٍ جرت له مع زوجه بنت النبي عليه صلوات الله وسلامه، والحديث ثابتٌ أيضاً في الصحيحين من رواية سهل بن سعد رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على ابنته وبضعته الطاهرة فاطمة رضي الله عنها وأرضاها، فقال: أين أبو الحسن ؟ أين علي ؟ أين زوجك؟ فذكرت له أنه جرى بينها وبينه شيءٌ من الكلام، وكأنه نفر وغضب فخرج من هذا البيت الطاهر المبارك، فبدأ النبي عليه الصلاة والسلام يبحث عنه، وأرسل من يفتش عليه فأخبر أنه في المسجد، فجاء النبي عليه الصلاة والسلام إلى علي ، وقد نام في المسجد وانحسر شيءٌ من الإزار، وفي روايةٍ: الرداء عنه وأصابه التراب، فجعل ينفض التراب عن بدنه رضي الله عنه وأرضاه ويقول له: قم أبا التراب ! قم أبا التراب ! )، وكانت هذه الكنية أحب اسمٍ إلى علي رضي الله عنه وأرضاه، وهذه مداعبةٌ من نبينا عليه الصلاة والسلام مع صهره، وهذا ينبغي أن ينتبه له الرجل مع أصهاره، فإذا حصل للصهر شيءٌ من النفرة مع ابنتك فارفق به وداعبه من أجل أن يطيب خاطره، وأن يعود إلى بيته بهذه المداعبة الطيبة التي جرت من نبينا عليه الصلاة والسلام مع علي رضي الله عنه، (قم أبا التراب ! قم أبا التراب !).

وقد كناه النبي عليه الصلاة والسلام بذلك، وورد هذا أيضاً في عدة أحاديث، منها ما في معجم الطبراني الأوسط ومعجم الطبراني الكبير، عن أبي الطفيل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـعلي : (إن أحق أسمائك أبو تراب )، يعني الذي تسمى به، والحديث ثبت في مسند الإمام أحمد من حديث عمار ، وأن هذا وقع أيضاً -في غير هذه الموقعة، أي: بين علي وفاطمة - غزوة العشيرة، ويقال لها: العشير، ويقال بالسين المهملة: العسير، وهي مكانٌ قريبٌ من ينبع عند نزيل الحجاج كما يقول أئمتنا، وفي تلك الغزوة التي ذهب إليها النبي عليه الصلاة والسلام ترتب عليها بعد ذلك مباشرةً موقعة بدر، فذهب إلى ذلك المكان يرقب عير قريش في العشير، أو العشيرة، أو العسير بالسين المهملة، فكان علي وعمار رضي الله عنهم أجمعين في تلك الموقعة، يقول عمار : فنمت أنا وعلي فانكشف الرداء عن علي ، فجاء النبي عليه الصلاة والسلام إلى علي رضي الله عنه وأعاد عليه رداءه وقال: ( قم أبا التراب )، ورجال الحديث كلهم ثقات كما قال الحافظ في المجمع، غير أن التابعي الراوي لم يسمع من عمار ففيه انقطاع.

وورد هذا أيضاً في عدة أحاديث أخرى أشار إليها الحافظ في الفتح في الجزء الثاني صفحة اثنتين وسبعين، من جملتها أيضاً أن النبي عليه الصلاة والسلام كناه بهذه الكنية عندما آخى بين المهاجرين والأنصار، ولما لم يؤاخ بين علي وبين أحد ذهب علي إلى المسجد فنام وهو غضبان، لم يحصل بينه وبين أحدٍ إخاء، فجاء النبي عليه الصلاة والسلام وأيقظه ثم قال: (قم أبا التراب، قم أبا تراب أنت أخي)، روى ذلك الإمام الطبراني في معجمه الكبير عن ابن عباس، وروى ابن عساكر نحوه عن جابر بن سمرة رضي الله عنهم أجمعين، فهذه تكررت في عدة مناسبات يكنيه النبي عليه الصلاة والسلام بـأبي تراب ، أبو التراب ، وكانت أحب الأسماء إلى علي رضي الله عنه وأرضاه.

حب علي آية الإيمان وبغضه آية النفاق

وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن هذا العبد الصالح أعني علياً رضي الله عنه وأرضاه لا يحبه إلا مؤمن، وحبه من علامات الإيمان، كما أن بغضه أكبر علامةٍ من علامات النفاق، وتقدم معنا نظير هذا في أبي هريرة وأمه، فلا يسمع بهما أحدٌ من المؤمنين إلى قيام الساعة إلا أحبهما، وهكذا علي رضي الله عنه حبه علامة الإيمان وبغضه علامة النفاق، ثبت الحديث في ذلك في صحيح مسلم وسنن الترمذي والنسائي عن علي رضي الله عنه أنه كان يقول: (والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إنه لعهد النبي صلى الله عليه وسلم إلي أنه لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق). اللهم إنا نشهدك على حبه وعلى حب سائر الصحابة الكرام الأبرار، ونسألك أن تثبت الإيمان في قلوبنا، إنك أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين، (لا يحبه إلا مؤمن، ولا يبغضه إلا منافق)، وهذا الحديث الذي هو في صحيح مسلم وغيره يشهد لحديث أبي سعيد الخدري في سنن الترمذي الذي قال عنه الترمذي : غريب، قال: إن كنا لنعرف المنافقين -نحن معاشر الأنصار- ببغضهم علياً ، فمن أبغض علياً فهو منافق.

موت علي بن أبي طالب واستشهاده

استشهد وقتل رضي الله عنه وأرضاه سنة أربعين للهجرة، في يوم الجمعة قبيل صلاة الفجر طعن رضي الله عنه وأرضاه، وما انقضى اليوم حتى قبض ومات، وكان هذا في الثاني عشر من شهر رمضان المبارك، وقد بقيت خلافته خمس سنين إلا ثلاثة أشهر ونصف كما قال الحافظ في الإصابة، وهذا الذي وقع على علي رضي الله عنه من ابن ملجم الخارجي الضال أشار إليه النبي عليه الصلاة والسلام، وأنه سيقع على علي ، وكان علياً ينتظر هذه الضربة ويتطلع إليها في آخر حياته رضي الله عنه وأرضاه، وهذا من أعلام نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم، فاسمعوا إخوتي الكرام إلى بعض الآثار التي تقرر هذا.

أخرج الإمام البيهقي في السنن، وانظروا الأثر في الجزء الثامن صفحة تسعٍ وخمسين، ورواه في كتاب دلائل النبوة في الجزء السادس صفحة تسعٍ وثلاثين وأربعمائة بإسنادٍ صحيح، نص على صحته الإمام البيهقي عليه رحمة الله، والأثر رواه الطبراني في معجمه الكبير بسندٍ حسن كما في مجمع الزوائد في الجزء التاسع صفحة سبعٍ وثلاثين ومائة، عن زيد بن أسلم رحمه الله ورضي عنه، قال: دخل أبو سنان الدؤلي على علي رضي الله عنه يعوده في شكوى اشتكى منها، من علةٍ أصيب بها، فقال أبو سنان الدؤلي لـعلي : لقد تخوفنا عليك! يعني من أن تموت في شكواك هذه، نخاف أن تقبض، فقال علي رضي الله عنه: لكني والله ما تخوفت على نفسي، وقد سمعت الصادق المصدوق على نبينا صلوات الله وسلامه يقول: (إنك ستضرب ضربةً ها هنا، وضربةً ها هنا، وأشار إلى صدغيه)، وهو ما بين العين والأذن، فهما صدغان؛ واحد عن اليمين والآخر عن الشمال، (فيسيل دمها -أي: دم هذه الضربة، ودم هذه الضربة من الصدغين- حتى يخضب لحيتك، ويكون صاحبها أشقاها -أي: صاحب الضربة- كما كان عاقر الناقة أشقى ثمود)، فكأنه يقول لـأبي سنان: كيف تتوقع موتي على هذا الفراش من هذه العلة وهذه الشكوى، لا يمكن أن أموت على فراش، لا بد من ضربة ها هنا، وضربة ها هنا، ويسيل الدم، وتختضب هذه اللحية من هاتين الضربتين، ويكون الضارب أشقى هذه الأمة، كما أن الذي عقر الناقة هو أشقى قوم ثمود، وهذا هو عبد الرحمن بن ملجم الخارجي الضال الذي زعم أنه يتقرب إلى الله بقتل علي ، وما تقرب بذلك إلا إلى الشيطان الرجيم.

والحديث حديثٌ صحيح، وقد روي أيضاً عن عدةٍ من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين في كثيرٍ من كتب الحديث، رواه الإمام أحمد في مسنده، والطبراني في معجمه الكبير والبزار في مسنده قال الهيثمي في المجمع: رجال إسناده موثقون، وهو الحديث المتقدم عن عمار ، لكن يقول: التابعي لم يسمع من عمار ففيه انقطاع، تشهد له الرواية المتقدمة والرواية المتأخرة التي سأذكرها إن شاء الله، وفيه: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لـعمار ولـعلي بعد أن أيقظ علياً من النوم وعليه التراب في غزوة العسير أو العشير، قال: (ألا أحدثكما بأشقى الناس أحيمر ثمود)، أي: الذي يميل إلى الحمرة، (ومن يضربك على هذه -يعني قرنه- حتى يبل هذه -يعني: يبلها من دمك- فيضربك على قرنك -يعني: على رأسك أو هامتك- حتى يسيل الدم على لحيتك)، والحديث رواه الإمام الطبراني وأبو يعلى وفيه رشدين بن سعد وثقه عددٌ من أئمتنا، وبقية الرجال ثقات، ورشدين بن سعد فيه غفلة الصالحين كما قال أئمتنا، وعدالته تامة كاملة، وهذه الرواية عن صهيب ، والرواية المتقدمة عن عمار ، هنا عن صهيب ، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لـعلي رضي الله عنه: (يا علي ! من أشقى الأولين؟ قلت: عاقر الناقة في قوم ثمود، فقال: فمن أشقى الآخرين الذين سيأتون؟ قلت: لا أدري يا رسول الله لا أعلم، قال: من يضربك على هذه)، يعني: يافوخه، وهو المكان الذي تغطيه الجلدة الرقيقة عند اجتماع عظام الجمجمة، ويقول علماء اللغة: يوجد في الإنسان مكانان في رأسه: واحدٌ في المقدمة، وهذا إذا ولد الإنسان تراها جلدة رقيقة، ويظهر كأن الدماغ داخل جمجمته يتحرك، فهي فجوةٌ مغطاةٌ بغشاءٍ عند تلاقي الجمجمة كما يقول علماء اللغة، وواحدة في المؤخرة فيضربه على يافوخه حتى يسيل الدم من رأسه على لحيته رضي الله عنه وأرضاه، فكان علي رضي الله عنه يقول: وددت لو انبعث أشقاكم حتى يخضب هذه من هذه، يعني: حتى يخضب لحيتي من يافوخي، رضي الله عنه وأرضاه.

والحديث رواه الإمام أحمد في المسند، والبزار ، ورواه البيهقي في دلائل النبوة، ورجاله موثقون عن فضالة الأنصاري رضي الله عنه قال: (عهد إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أموت حتى أضرب على رأسي وتختضب هذه منه)، يضرب فتختضب هذه اللحية المباركة الطاهرة، والحديث رواه أبو داود الطيالسي ، والحاكم في المستدرك، والبيهقي في دلائل النبوة عن زيد بن وهب قال: جاء رأس الخوارج إلى علي رضي الله عنه وقال له: إنك ميتٌ يا علي ، فقال: كذبت، والذي خلق الحبة وبرأ النسمة، ولكني مقتولٌ من ضربةٍ على هذه وتختضب هذه، لا أموت على فراشي، والحديث رواه الحاكم في مستدركه بسندٍ صحيح أقره عليه الذهبي عن حيان الأسدي وهو أبو الهياج الأسدي رضي الله عنهم أجمعين.

ورواه البيهقي في دلائل النبوة والبزار عن ثعلبة بن يزيد ، ورواه البيهقي في دلائل النبوة عن أبي إدريس الأزدي : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـعلي : (إن هذه ستختضب من هذا)، يعني: لحيته من رأسه.

والحديث رواه الإمام أحمد وأبو يعلى ، وإسناد الحديث كما قال الحافظ في المجمع: رجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن سبيع ، وهو ثقةٌ، هذا كلام الحافظ الهيثمي في المجمع، وذكر الحافظ ابن حجر في التقريب أنه يقال: عبد الله بن سبع ، يقول: مقبولٌ من الثالثة، فكلام الهيثمي ثقة، وهنا يقول: مقبول، وحديثه يقبل عند وجود شاهدٌ له أو متابع، ثم قال: ع س، أي: أخرج له النسائي في خصائص علي رضي الله عنه، ولم يخرج له أحد من أصحاب الكتب الستة في الكتب الستة، وهو الحديث المتقدم: (إن هذه ستخضب من هذا)، يعني: لحيته من رأسه، ورواه البزار أيضاً، وإسناده حسن كما قال الهيثمي في المجمع عن عبد الله بن سبيع ، قال: سمعت علياً رضي الله عنه يقول: لتختضبن هذه من هذه، فما ينتظرني إلا شقي. يعني: لأجل أن يضرب هذه الضربة، فهو الشقي الذي أشار إليه النبي عليه الصلاة والسلام.

هذه سبع روايات، وهناك رواياتٌ كثيرةٌ أخرى انظروها في الجزء التاسع من مجمع الزوائد صفحة ستٍ وثلاثين ومائة إلى صفحة ثمانٍ وثلاثين ومائة في كتاب الفضائل والمناقب في وفاة علي رضي الله عنه وأرضاه.

ضلال طائفتين في علي رضي الله عنه

هذا العبد الصالح الخليفة الراشد علي رضي الله عنه وأرضاه ضل فيه فرقتان ضالتان، وهدى الله جل وعلا أهل السنة الكرام إلى الحق الذي يحبه الرحمن، الفرقة الأولى غلوا فيه فألهوه وقالوا: بعصمته، وعبدوه من دون الله، وهم الروافض، وفرقةٌ أخرى قدحوا فيه وذموه، وطعنوا فيه، وهم النواصب، وهذا الوصف يشمل أكثر بني أمية، ويشمل الخوارج، ويدخل فيهم الإباضية، هؤلاء كلهم يطعنون في علي رضي الله عنه وأرضاه، فهؤلاء يطعنون، وأولئك يغلون، وأهل الحق يتقربون بحبه إلى الحي القيوم، فما عبدوه ولا جعلوه نداً لله، ولا قالوا بعصمته، وقالوا: هو عبدٌ صالح من جملة الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين، وكلهم على خيرٍ وهدى، ويأتي ترتيبه في المرتبة الرابعة بين الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

تفضيل عثمان على علي

وأفضل هذه الأمة بعد نبيها عليه الصلاة والسلام: أبو بكر، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم علي ، أما تقديم الشيخين فهذا محل إجماعٍ بين أهل السنة الكرام، بل حكى الإجماع على ذلك الإمام الشافعي عن الصحابة والتابعين كما نقل ذلك الإمام البيهقي في كتاب الاعتقاد على مذهب السلف في تقديم الشيخين: أبي بكر وعمر ، وأما ما يتعلق بـعثمان وعلي فلأئمتنا الكرام ثلاثة أقوال، والذي استقر عليه قول أهل السنة: تقديم عثمان رضي الله عنهم أجمعين، وهناك قولٌ بالتوقف، وكان يذهب إليه الإمام مالك في أول الأمر ثم رجع عنه كما قال القاضي عياض، وقال بتقديم عثمان على علي ، وهذا القول الذي رجع عنه الإمام مالك هو الذي يقول به إمام الحرمين أبو المعالي ، فإنه يتوقف في علي وعثمان فلا يفاضل بينهما.

والقول الثالث: تقديم علي على عثمان ، وإليه كان يذهب أهل السنة في الكوفة، ومنهم سفيان الثوري ، وقد رجع في آخر عمره أيضاً عن هذا القول، واستقر أهل السنة على تقديم عثمان على علي ، وهذا ما يشير إليه الإمام العراقي في الألفية فيقول:

والأفضل الصديق ثم عمروبعده عثمان وهو الأكثر

أو فـعلي قبله خلف حكيقلت وقول الوقف جا عن مالك

فالأفضل الصديق ثم عمر ، هذا لا كلام فيه ولا خلاف، وبعد عمر عثمان وهو القول الأكثر عند أهل السنة، أو فـعلي قبله، أي: قبل عثمان، خلف حكي، قلت هذا من زيادة الحافظ العراقي على مقدمة ابن الصلاح، قلت: وقول الوقف جا عن مالك، أي: جاء وورد وأثر ونقل عن الإمام مالك عليهم جميعاً رحمة الله، والذي استقر عليه أهل السنة هو الحق، ويدل عليه أدلة كثيرة:

منها: ما ثبت في صحيح البخاري وسنن أبي داود والترمذي ، وهذا لفظ البخاري ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين قال: (كنا نخير بين الناس في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، نخير أبا بكر ثم عمر ، ثم عثمان)، هذا لفظ البخاري، وثم للترتيب مع التراخي.

وفي روايةٍ في صحيح البخاري وسنن أبي داود عن ابن عمر رضي الله عنه قال: (كنا زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعدل بـأبي بكرٍ أحداً، ثم لا نعدل بـعمر أحداً، ثم لا نعدل بـعثمان أحداً، ثم نترك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم).

وفي صحيح البخاري ، وثبت في سنن أبي داود أيضاً عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كنا نقول والنبي صلى الله عليه وسلم حي: أفضل أمة النبي صلى الله عليه وسلم بعده أبو بكر، ثم عمر ، ثم عثمان).

وثبت في سنن الترمذي بإسنادٍ حسن عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كنا نقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي: أبو بكر وعمر وعثمان).

وهذا -كما قلت- يدل على ما ذهب إليه أكثر أهل السنة الكرام في العصر الأول، وهو الذي استقر عليه مذهب أهل السنة بتقديم أبي بكر وعمر ، وهذا محل اتفاق، والتثليث بـعثمان ، ثم بعد ذلك علي رضي الله عنهم أجمعين، ففضلهم يكون على حسب ترتيبهم في الخلافة، وخيرهم من ولي الخلافة، وكان الصحابة يذكرون هذا والنبي عليه الصلاة والسلام بينهم حي فما كان ينكر عليهم عليه صلوات الله وسلامه، وكان يقرهم فيخيرون ويفضلون أبا بكر ثم عمر ثم عثمان ، فيأتي بعد عثمان علي رضي الله عنه، فما أحدٌ قُدم على علي بعد عثمان غيره، فهو في الدرجة الرابعة، هذا محل اتفاق، لكن الخلاف: هل يكون الثالث في الفضل أو الرابع؟ أما الرابع فلا ينازعه في ذلك أحد.

هذا موقف أهل السنة نحو علي، حبه دين، ونتقرب بذلك إلى رب العالمين، ولا نقع فيه ولا في أحدٍ من آل البيت الطيبين الطاهرين، كما لا نقع في أحدٍ من الصحابة الكرام الطيبين رضوان الله عليهم أجمعين، ولا يعني أننا إذا فضلنا الخلفاء الراشدين الثلاثة على علي أننا نقدح في علي أو نطعن فيه، لا ثم لا! فإذا فضلنا خليل الرحمن إبراهيم على كليم الله موسى على نبينا وعليهما صلوات الله وسلامه، هل يلزم من هذا أننا نطعن في موسى؟ لا ثم لا! وإذا فضلنا الرسل على الأنبياء، وفضلنا أولي العزم على الرسل، وفضلنا نبينا عليه الصلاة والسلام على أولي العزم! فهل هذا يعني أننا نطعن في واحدٍ من هؤلاء الرسل الكرام؟ لا ثم لا، هم أهل خيرٍ وصلاح وهدى، لكن يتفاوتون في المنزلة، وأسأل الله جل وعلا أن يشفعهم فينا، وأن يجعل حبهم عظيماً في قلوبنا بحيث يكون هذا سبباً لمغفرة ذنوبنا، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، وما عندنا عملٌ نتقرب به إلى الله بعد الإيمان به وتوحيده أكثر رجاءً من حبنا لأصحاب نبينا عليه الصلاة والسلام رضوان الله عليهم أجمعين.

وما يقوله بعض الضالين: إننا معشر أهل السنة الكرام لا نحب علياً وآل البيت الطيبين الطاهرين، فهذا ضلالٌ وبهتانٌ علينا! ولا يحب آل البيت إلا أهل السنة، لكن نحن وضعناهم في المنزلة التي وضعهم الله فيها، ولا يجوز أن نعبد أحداً مع الله ومن دون الله، ولا يجوز أن ندعي العصمة لأحدٍ من خلق الله، لا لـعلي رضي الله عنه ولا لأحفاده وأولاده، ولا نرفعهم إلى مرتبة الرسل، أو إلى ما هو أعلى من ذلك، ولا نخلع عليهم العصمة، فهذا كله ضلال، هم ينهون عنه رضي الله عنهم أجمعين، أما أن يقع قدحٌ فيهم فمعاذ الله أن نقرَّه، ونحن نتبرأ من الغلو فيهم، ومن معاداتهم، لا نسلك مسلك الرفض ولا مسلك النصب.

وإذا أردت أن تتحقق من موقف أهل السنة الكرام من آل البيت ومنزلتهم عندهم فانظر إلى أسماء أهل السنة الكرام، لا يخلو بيت من بيوت أهل السنة -إلا ما ندر- إلا ويحمل أسماء أهل البيت الطيبين الطاهرين مثل: فاطمة ، وعلي ، والحسن ، والحسين ، وهذا كما قلت: لنعبر وندلل على حبنا لآل بيت نبينا عليه وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.

يذكر أئمتنا الكرام في ترجمة يعقوب بن إسحاق أبو يوسف بن السكيت ، توفي سنة أربعٍ وأربعين ومائتين للهجرة، وهو من أئمة أهل السنة الكبار صاحب كتاب إصلاح المنطق، وكان يعلم ويؤدب أولاد الخليفة المتوكل ، فكان مرةً في مجلس الخليفة المتوكل فدخل ولداه: المعتز والمؤيد ، فقال المتوكل لـأبي يوسف بن السكيت : أيهما أحب إليك وأفضل: ولداي: المعتز والمؤيد ، أو الحسن والحسين ؟ انظر لكلام هذا الشيخ السني في مجلس الخليفة -والخليفة المتوكل قال أئمتنا: كان فيه نصبٌ، أي: معاداةٌ لـعلي - انظر لجواب السني في مجلس الخليفة -ووالله لقطع رقابنا أيسر علينا من أن يؤذى أحدٌ من آل بيت نبينا عليه الصلاة والسلام- فقال: يا أمير المؤمنين! والله إن قنبراً خادم علي أفضل منك ومن ابنيك، تسأل عن الحسن والحسين ، أولاد فاطمة وجدهما رسول الله عليه الصلاة والسلام، لا يصح أن أقول: الحسن والحسين أفضل من ولديك، هذا تنقيص للحسن والحسين ، خادم علي قنبر الذي ما انفصل من صلبه ولا من بضعة النبي عليه الصلاة والسلام الطاهرة، وإنما حظي بخدمة هذا الصحابي الجليل أفضل منك ومن ابنيك، فغضب الخليفة المتوكل ، وأمر بإخراج لسان يعقوب بن السكيت من قفاه، فشقت رقبته وكسر رأسه وأخرج لسانه، وضربه غلمانه الأتراك بعد ذلك في مجلسه حتى مات! وأي حرجٍ فيما إذا مت من أجل إظهارك كلمة الحق والتعبير عن موقفك نحو آل البيت.

انظروا هذه القصة في سير أعلام النبلاء في الجزء الثاني عشر صفحة سبعة عشرة في ترجمة يعقوب بن السكيت ، ورواها الإمام الزبيدي في طبقات النحويين واللغويين، ورواها السيوطي في بغية الوعاة وطبقات النحاة، وانظروها في النجوم الزاهرة وشذرات الذهب في حوادث سنة أربعٍ وأربعين ومائتين للهجرة، هذا هو موقف أهل السنة الكرام نحو أهل البيت الطيبين الطاهرين رضوان الله عليهم أجمعين.

هذا فيما يتعلق برجال إسناد الحديث الأول بدءاً من شيوخ الإمام الترمذي حتى الصحابي الجليل راوي الحديث وهو علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين.

وأما الحديث الثاني فسأتكلم عليه إن شاء الله في أول الموعظة الآتية، أترجم أيضاً رجال إسناده وأولهم شيخ الإمام الترمذي أبو بكر محمد بن زنجويه البغدادي ، ثم بعد ذلك أختم الكلام بترجمةٍ موجزة لـجابر بن عبد الله الصحابي رضي الله عنهم أجمعين، ثم نتدارس فقه الحديث ومعناه إن شاء الله، وأما موعظة الغد فستكون في الغالب يعني المحدد لها والمعلن عنها في مواعظ عامة، وكنت بدأت كما تعلمون في موضوعٍ سابق ببيان مقياس وضابط وميزان أعمال الإنسان في هذه الحياة، وما يعني يوجد موضوعٌ طارئ على ذهني يحتاج إلى بحثٍ في هذه الأوقات، ولكن الأبحاث التي تحتاج إلى بحثٍ كثيرة، لكن لا يوجد شيءٌ يستدعي أن أعدله على ما أريد أن أكمله، ألا وهو تحفة المؤمن الموت، وقد بدأت في ذلك الموضوع وأخذ منا عدداً من المواعظ ولم ينته، فلعلني إن شاء الله أكمله في بعض المواعظ لعله في ثلاث مواعظ أو أربع إن شاء الله بحيث يكتمل الموضوع من بدايته إلى نهايته، ثم ندخل بعد ذلك في أمورٍ أخرى -إن أحيانا الله- وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، اللهم لا تجعل فينا ولا بيننا ولا معنا ولا منا شقياً ولا محروماً، اللهم اغفر ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم صل على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح الترمذي - باب مفتاح الصلاة الطهور [1] للشيخ : عبد الرحيم الطحان

https://audio.islamweb.net