إسلام ويب

طلب العلم من أشرف الطاعات وأفضل القربات، وقد جاءت بذلك الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، والدارس لحديث النبي صلى الله عليه وسلم ينال الكثير من الفضائل والمزايا من أهمها: الفوز بالرحمة والنضرة اللتين دعا بهما النبي عليه الصلاة والسلام لمن ينشر حديثه ويتعلمه.

التأني في طلب العلم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِ الله فهو المهتدِ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

الحمد لله رب العالمين؛ شرع لنا ديناً فضيلاً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، وهو اللطيف الخبير.

اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3].

وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71]، أما بعد:

فسنتدارس بإذن ربنا الرحمن كتاباً من كتب أحاديث نبينا عليه الصلاة والسلام، وهذا الكتاب هو كتاب الإمام أبي عيسى الترمذي عليه رحمة الله، الذي توفي سنة تسع وسبعين ومائتين للهجرة.

وقبل الشروع في مدارسة أحاديث نبينا عليه الصلاة والسلام التي رواها هذا الإمام الهمام في كتابه الجامع الصحيح المعروف بسنن الترمذي ، قبل هذا يحسن بنا بل يجب علينا أن نقف وقفات يسيرة عند ثلاثة أمور:

الأمر الأول: ضروري جداً لنا، بل لكل إنسان في هذه الحياة أينما كان، وفي أي وقت كان، وهذا الأمر هو روح الأعمال، ألا وهو إخلاص النية لرب البرية سبحانه وتعالى.

والأمر الثاني: في فضل تعلم حديث النبي عليه الصلاة والسلام ودراسة سنته.

والأمر الثالث: في بيان منزلة كتاب الإمام الترمذي ، المعروف بسنن الترمذي في كتب السنة.

وهذه المقدمة التي تدور حول هذه الأمور الثلاثة، قد تأخذ منا عدة مواعظ.

وكثير من الناس في هذه الأيام يريدون الأمر من غير جد ولا جهد ولا تعب، وقد أخبرني بعض الإخوة الكرام في هذا اليوم أن بعض من سيحضرون يتساءل: هل بالإمكان أن ننتهي من مدارسة سنن الترمذي في فترة وجيزة؟ وما الفترة المقدرة لدراسة هذا الكتاب؟

وأنا أقول: إن ابن عمر رضي الله عنهما كما ثبت في موطأ الإمام مالك بلاغاً في كتاب القرآن، وبوب عليه الإمام مالك : باب: ما جاء في القرآن، يقول: بلغه أن عبد الله بن عمر مكث في تعلم سورة البقرة ثماني سنين، وهذا الأثر الذي رواه الإمام مالك في موطئه بلاغاً وصله الإمام ابن سعد في الطبقات الكبرى المعروفة بطبقات الإمام ابن سعد في الجزء الرابع: صفحة: أربع وستين ومائة، بإسناده عن العبد الصالح التابعي ميمون بن مهران ، قال: إن ابن عمر مكث في حفظ سورة البقرة وتعلمها أربع سنين، وفي رواية الإمام مالك : ثماني سنين، فإذا كان هذا الصحابي الجليل النحرير يمكث هذه الفترة الطويلة في تعلم أحكام هذه السورة الجليلة، فحقيق بنا إذا أردنا أن نتدارس سنن الإمام الترمذي الذي بلغت أحاديثه ثلاثة آلاف وتسعمائة وواحداً وخمسين حديثاً.

هذا بدون أحاديث كتاب العلل الملحق بالجامع الصحيح، ففيه أيضاً اثنا عشر حديثاً، فيكون مجموع أحاديث الكتاب مع كتاب العلل ثلاثة آلاف وتسعمائة وثلاثة وستين حديثاً، إذاً قاربت أحاديثه أربعة آلاف حديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، هذا فيما يتعلق بالأحاديث، فضلاً عما فيه من متون قيدها الفقهاء الأتقياء، وعما فيه بعد ذلك من قواعد في علم الحديث المعروف بعلم مصطلح الحديث، فقد جمع إلى الحديث الفقه والمصطلح، فهل يتوقع أن ينتهي منه إنسان في شهر أو شهرين؟! إن علينا أن نعي أمورنا عندما نقبل على ما ينفعنا.

وقد روى الخطيب البغدادي عليه رحمة الله في كتاب الرواة عن الإمام مالك ، من طريق ابنه عبد الله رضي الله عنهم أجمعين: أن عمر بن الخطاب أقام اثنتي عشرة سنة في حفظ سورة البقرة وتعلم أحكامها، فالابن مكث ثماني سنين، وأما الأب الذي زاد مكوثه في العلم وجده واجتهاده فمكث فترة أطول في تعلم سورة البقرة؛ حفظاً ودراسة، فبقي فيها ثنتي عشرة سنة، وإذا أراد الإنسان أن يأخذ العلم بتحقيق وتدقيق، وخشية لله -جل وعلا- وأن يعمل به، فهذا يتطلب منه فترة طويلة.

فلذلك إذا تساءل الإنسان عن المدة التي يمكن أن ننتهي فيها من مدارسة سنن الإمام الترمذي، فأقول: هذا غيب لا يعلمه إلا الله، لكن أنا أجزم أنه لا يمكن أن ينتهي شرح الكتاب في سنة أو سنتين، لكن متى ينتهي؟ هذا العلم عند الله الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، لكنني أتعهد وسترون أنني أفي بهذا -إن شاء الله-، أن لا أستطرد في الشرح وأن لا أطيل، وأن أعطي الموضوع حقه فيما يتعلق بالإسناد والمتن وتحقيق المباحث الفقهية التي تعرض لها الإمام الترمذي عليه رحمة الله.

إخلاص النية لله تعالى

أما الأمر الأول فإنه ضروري لكل إنسان في هذه الحياة، وهو روح أعمالنا، وهو للعمل كالروح للبدن، وهذا الأمر هو الإخلاص، وكما أن الروح حياة لأبداننا، فلا يمكن لأبداننا أن تحيا بدون روح، فكذلك لا يمكن لعمل أن يحيا وأن يقبل عند الله -عز وجل- إلا بهذه الروح، وهذا الأمر هو إخلاص النية لله -جل وعلا- وقد ثبت في الكتب الستة الصحيحين والسنن الأربعة من رواية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه )، وهو حديث صحيح، تفرد بروايته عمر بن الخطاب رضي الله عنه من الصحابة، ثم حمله بعد ذلك مئات من التابعين فمن بعدهم رضوان الله عليهم أجمعين، وهو كما قال أئمتنا: متواتر باعتبار آخره، غريب باعتبار أوله؛ لأنه لم يرو إلا من طريق عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، إنما الأعمال بالنيات، وهو في أعلى مراتب الصحة لأفراد الشيخين الإمام البخاري ومسلم .

( إنما الأعمال بالنيات )، أي: إنما الأعمال صحة وفساداً بالنيات، فيصح العمل إذا صحت النية، ويفسد العمل إذا فسدت النية، وإنما الأعمال قبولاً ورداً ومثوبة وعقوبة بالنيات، فتثاب على عملك أو تعاقب، ويقبل العمل أو يرد، ويصح أو يبطل على حسب ما يكون في ضميرك وقلبك من نية حسنة أو خبيثة، فمن هاجر لله ورسوله فلن يضيع أجره عند الله -جل وعلا- ومن هاجر لعرض الدنيا، أو لزواج امرأة فهو خاطب أو تاجر وليس بمهاجر، فهجرته إلى ما هاجر إليه.

كان أئمتنا يستحبون البدء بهذا الحديث الجليل في مصنفاتهم، وفي أول مجالسهم، وهذا ما فعله أمير المؤمنين في الحديث وشيخ المحدثين وسيدهم أبو عبد الله البخاري عليه رحمة الله في كتابه الجامع الصحيح المسند المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه، حيث أورد هذا الحديث في أول كتابه، مع أن أول كتاب في صحيح البخاري هو كتاب الوحي، وأول باب في كتاب الوحي: باب: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأورد الإمام البخاري هذا الحديث في هذا الباب من كتاب الوحي، ولا صلة بين الترجمة وبين هذا الحديث، وإنما قصد هذا الإمام المبارك تنبيه القارئ إلى إخلاص النية لرب البرية عند دراسته أحاديث نبينا عليه الصلاة والسلام، فكأن الإمام البخاري عليه رحمة الله يقول لقارئ كتابه: اعلم يا عبد الله! يا من يريد نصح نفسه ونجاتها أنك ستقدم على أعظم الأعمال وأفضلها عند ذي العزة والجلال، وهذا العمل لا تثاب على شيء منه إلا إذا أخلصت لربك -جل وعلا-، فصحح نيتك من أول الطريق، ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ).

قال شيخ الإسلام وسيد الحفاظ في زمنه الإمام عبد الرحمن بن مهدي الذي توفي سنة ثمانٍ وتسعين ومائة للهجرة عليه رحمة الله، قال: من أراد أن يصنف كتاباً فليبدأ بحديث عمر رضي الله عنه وأرضاه: ( إنما الأعمال بالنيات )؛ من أجل أن يصحح نيته في تصنيف وتأليف هذا الكتاب، ومن أجل أن يذكر قارئ كتابه بإخلاص النية لربه جل وعلا.

نسأل الله أن تكون نيته -البخاري- خيراً مما ظهر لنا من حاله، وهذا ظننا فيه ولا نزكيه على الله -عز وجل- فقد أخلص النية لربه جل وعلا حسب ما ظهر لنا من حاله، فكان إذا أراد أن يودع حديثاً في كتابه الجامع يغتسل ويصلي ركعتين، ويستخير الله في وضعه بعد أن يصح إسناده عنده، بل بعد أن اختاره من أحاديث صحيحة كما أخبرنا أنه ما ذكر كل صحيح عنده، وإنما انتخب شيئاً مما عنده من الصحيح، وترك كثيراً من الصحاح؛ لأن الكتاب سيطول ولا غبار عليه، ومع ذلك يقول: ربِ أنت تعلم الغيب، ونحن لا نطلع إلا على الشاهد، فأنت وجه قلبي نحو هذا الحديث الذي نقلته عن الثقات عن نبيك خير المخلوقات عليه الصلاة والسلام، فإن كان فيه علة أو آفة فأرشدني إليها.

صنع هذا كله في كل حديث دونه في صحيحه الصحيح المسند المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه، فكم ركعة صلى؟! وكم غسلاً اغتسل؟! رحمه الله ورضي عنه وأرضاه.

اهتمام السلف بإخلاص النية

ولذلك كان أئمتنا يستحضرون هذا المعنى، ألا وهو إخلاص النية لرب البرية، وكانوا يتفقدون أحوالهم، ويراقبون أعمالهم؛ لأنهم طلبوا العلم لله جل وعلا، وانظر إلى العبد الصالح عبد الرحمن بن مهدي وهو يقول لنا: من صنف كتاباً فليبدأ بحديث عمر ، فهل فعلت هذا؟ وهل كان هذا الحديث في نيتك؟

اسمع لهذه القصة التي رويت في ترجمته، وهي في سير أعلام النبلاء في الجزء التاسع صفحة: اثنتين وتسعين ومائة فما بعدها وفي غيره، وهو من رجال الكتب الستة، فحديثه في الصحيحين والسنن الأربعة، يقول هذا العبد الصالح: كنت أجلس يوم الجمعة للحديث والوعظ، فكنت إذا كثر الجمع فرحت وابتهجت نفسي، وإذا قل الجمع حزنت وانقبضت نفسي -فكان هذا خاطراً يخطر في بال هذا العبد الصالح- يقول: وكنت عرضت الأمر على شيخي بشر بن منصور -توفي سنة: ثمانين ومائة للهجرة، وقد أخرج حديثه الإمام مسلم في صحيحه وأبو داود والنسائي - فقلت له: عرفت هذا الخاطر من نفسي، وهو أني إذا كثر الجمع أفرح والنفس تبتهج، وإذا قل أحزن والنفس تنقبض، فقال له شيخه بشر : إياك إياك، هذا مجلس سوء فلا تقربه، ما دام هذا الخاطر في نفسك، فأنت من طلاب الدنيا ولست من طلاب الآخرة، تُحب كثرة الناس وتحزن إذا قلوا، ونفسك تبتهج لأنه حصل عندك جمع كثير!!

و بشر بن منصور يقول عنه أئمتنا: محدث رباني، كان يصلي في كل ليلة مائة وخمسين ركعة، فلما رآه بعض الناس يصلي ويطيل الصلاة، التفت إليه بشر وقال: إياك أن تغتر بكثرة صلاتي، فإبليس عبد الله مع الملائكة في السماء فترة من الزمان، فإياك أن تغتر، فالخاتمة مجهولة، ونسأل الله أن يحسن ختامنا، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

فانظر كيف كانوا يفتشون عن نياتهم؟ وانظر كيف كان يحاسب نفسه ويقول لها: كيف إذا كثر الجمع فرحت، وإذا قل الجمع حزنت؟

إذاً: من زمان وأنا أعمل لنفسي ولحظي لا من أجل ربي.

وانظر لمراقبته لنفسه وإخلاصه لربه جل وعلا، وقد كان يقول: والله لولا أن تكون معصية لأحببت أن يغتابني كل أحد.

سبحان الله! تفرح إذا اغتابك الناس؟ نعم، فما يضرك أيها الإنسان! لن يضروك إذا تكلموا عليك، وقدحوا في عرضك، فقد تكلموا على رب العالمين جل وعلا، وفي الحديث: (إني والإنس والجن في نبأ عظيم، أخلق ويُعبد غيري، وأرزق ويشكر غيري)، هذا حال الله مع عباده، وليس أحد أصبر على أذى سمعه من الله جل وعلا، يجعلون له نداً وهو يرزقهم ويعافيهم ويعطيهم سبحانه وتعالى.

يقول هذا العبد الصالح: إياك أن تحزن من كلام الناس عليك، ومن عرف قدر نفسه لم يضره كلام الناس فيه ذماً أو مدحاً، فهو أعلم بنفسه، فإن قدحوا فيه فهو أعلم، وإن أثنوا عليه فهو أعلم بنفسه، فلا يتأثر بمدحهم ولا بذمهم، ولا يمكن للإنسان أن يخلص لله إلا إذا وصل إلى هذه الحالة، وهي أن يستوي عنده المادح والذام، ومن عرف قدر نفسه هان عليه كلام الناس مدحاً أو ذماً، ثم قال معللاً لذلك: وهل يوجد أهنأ من حسنات تكتب في صحيفتك ولم تعملها؟ الناس يغتابونك، وحسناتك تسطر لك في صحفك دون أن تعملها، هل يوجد أحسن من هذا؟!

حقيقة لا يصل إلى هذه الحالة إلا من أخلص لله جل وعلا، ولذلك فإن من علامات الإخلاص أن تطلب الثواب من الله، وأن تنسى العمل عندما تقوم به، فلا تضل ولا تفتخر ولا ترى نفسك، فيستوي عندك المدح والذم.

وقال العبد الصالح يحيى بن معاذ الرازي ، ونقل أيضاً عن ذي النون المصري عليهم رحمة الله: ثلاث من علامات الإخلاص: استواء المدح والذم من العامة، ونسيان رؤية الأعمال في الأعمال.

وهذا الإمام أبو سليمان الخطابي الذي توفي سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة للهجرة، وهو صاحب كتاب معالم السنن في شرح سنن أبي داود، وهو أول شرح للسنة وصلنا، وليس بين الخطابي وأبي داود إلا راوٍ واحد، يقول الخطابي: كان المتقدمون من شيوخنا يستحبون تقديم حديث عمر قبل كل قول وعمل.

فإذا أردت أن تصنف أو أن تتكلم في موضوع مهم أو في موعظة أو في شأن له مكانة، فقدم بين يدي كلامك حديث عمر ، من أجل أن تذكر نفسك والحاضرين بإخلاص النية لرب العالمين.

حقيقة ينبغي أن نعتني بهذا الأمر، وأن نخلص النية لربنا في بدء طلبنا ومدارستنا لحديث نبينا صلى الله عليه وسلم.

سبب الاهتمام بإخلاص النية في بدء طلب العلم خاصة

قد يقول قائل: إن إخلاص النية لله هو روح العمل كما قلت، وهو شرط أساسي للقبول لا بد منه للقيام بكل عمل، فإذا صلينا فينبغي أن نخلص النية لله، وإذا حججنا فكذلك، وإذا صمنا، وإذا جاهدنا، فإذاً: لماذا نذكر بالنية على سبيل الخصوص في بدء طلب العلم، وفي بدء مدارستنا لحديث نبينا عليه الصلاة والسلام؟

والجواب: أن النية وإن كانت ضرورية لكل عمل، إلا أنه ينبغي الاعتناء بها في طلب العلم والتذكير بها في بدء طلب العلم لأمرين معتبرين، وقد كان سلفنا يتواصون بإخلاص النية لله جل وعلا في بدء طلب العلم لهذين الأمرين:

الأول: أن العلم أشرف الطاعات، وأفضل القربات، وإذا كان كذلك فينبغي أن تبذل نحوه أفضل النيات وأخلصها لرب الأرض والسماوات، فإذا كنت تطلب العلم وتريد أن تكون خليفة ووارثاً للنبي عليه الصلاة والسلام، فينبغي أن تخلص كإخلاصه عليه صلوات الله وسلامه، وأن تتأسى به.

والأمر الثاني الذي ينبغي للإنسان أن يصله وكان السلف يوصون به: إخلاص النية لله في بدء طلب العلم، أما كثيراً من الناس فقد اعتادوا كسب الحطام وعرض الدنيا بالعلم الشرعي، فلذلك لا بد من تذكير طالب العلم ليحذر هذا المسلك، فقلة قليلة من الناس يتكسبون بصلاتهم أو صيامهم أو جهادهم أو حجهم، والأكثر يصوم لله وقد يرائي، ويصلي لله وقد يرائي، لكن الأصل في عبادة الصلاة أنها تفعل بدون عرض دنيوي، أما العلم فصار الأصل عند الناس أنه يطلب من أجل الدنيا، فلولا الدنيا لما طلب.

إذاً: هذا الذي هو أشرف الأعمال وأعلاها عند ذي العزة والجلال، وينبغي أن يبذل نحوه أشرف النيات صار يبذل نحوه أخس النيات، ويجعل هذا العلم الذي هو أفضل القربات سلماً لتحصيل عرض الدنيا وحطامها، وهذا حقيقة أمره عظيم وشأنه خطير، والإنسان إذا فسدت نيته في طلب العلم وأراد الدنيا بعلمه، فسيترتب على هذا شناعة أخرى، وهي ما تعيشه البشرية في هذه الأيام، عندما يطلب العلم للدنيا، ولا يمكن بعد ذلك أن ينال الدنيا بتحريف دين الله عن مواضعه، وتحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله، فلا يمكن أن ينال الدنيا إلا بهذا المسلك المنكر، وبما أنه طلب العلم للدنيا فإنه يسهل عليه أن يحرف دين الله، وأن يشتري بآيات الله ثمناً قليلاً، وأن يقول للحرام: حلال؛ لأنه طلب العلم من أجل غاية، فهو محصور فيما طلبه، فسيسهل عليه أن يتلاعب بدين الله، وقد خشي نبينا صلى الله عليه وسلم علينا من هؤلاء خشية زادت على خشيته علينا من الدجال، ففي صحيح مسلم وغيره من حديث النواس بن سمعان: أن النبي عليه الصلاة والسلام عندما ذكر الدجال ، قال في الحديث: ( غير الدجال أخوفني عليكم من الدجال )، فالنبي يخاف هذه الأمة من غير الدجال أكثر مما يخاف عليها من الدجال، ممن؟ ثبت في المسند بإسناد جيد من رواية أبي ذر رضي الله عنه: أنهم قالوا: ( من يا رسول الله؟ )؛ أتخاف على هذه الأمة من غير الدجال أكثر مما تخاف عليها من الدجال ؟ من؟ قال: ( الأئمة المضلون )، فإمام حكم أو إمام علم، قد يضل الناس عندما يجعل الدنيا غايته، وعندما يطلب العلم من أجل عرض الدنيا، فيسهل عليه أن يضل الناس، وأن يحرف دين الله عن مواضعه من أجل دريهمات يأخذها وينالها.

ولذلك في آخر الزمان يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل، قال الحسن البصري عليه رحمة الله: لقد رأيناهم والله، فراش نار وذبان طمع، يغدو أحدهم بدرهمين ويروح بدرهمين، يبيع دينه بثمن عنز.

إذا طلب أحدهم العلم من أجل عرض الدنيا فسيسهل عليهم التضحية بدين الله من أجل متاع الدنيا، وأما إذا طلب العلم تقرباً إلى الله جل وعلا، فإن جاءه شيء من عرض الدنيا دون أن يمس دينه، ودون أن يخدش مروءته وعرضه وكرامته، فيأخذه مطية له، وإذا لم يأته إلا بنقصان الدين والعرض تركه وقال: ما إياك أردت، ولا لك طلبت، بل طلبت العلم لله جل وعلا، وكفاني فخراً أن وفقني الله جل وعلا لخدمة شرعه، وتعلم وتعليم حديث نبيه عليه الصلاة والسلام.

إخوتي الكرام! إن طالب العلم إذا فسدت نيته فهو أخبث من الدجال ، ولن يشم ريح الجنة يوم القيامة، وقد ثبت هذا عن نبينا عليه الصلاة والسلام في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود وابن ماجه، والحديث رواه ابن حبان والحاكم في المستدرك وإسناده صحيح، من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، والحديث روي أيضاً عن جابر بن عبد الله وكعب بن مالك رضي الله عنهم أجمعين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة )، يعني: ريحها، فمن طلب العلم من أجل عرض الدنيا، يكون بعد ذلك أضر على هذه الأمة من الدجال، ولن يجد عرف الجنة يوم القيامة.

وثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم وكتاب شعب الإيمان للإمام البيهقي من رواية أبي بن كعب رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( بشر هذه الأمة بالسناء والدين والرفعة والنصر والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا فليس له عند الله من نصيب ).

إذاً: لا بد أن نخلص النية لربنا في بدء طلبنا لحديث نبينا عليه الصلاة والسلام.

كيفية إخلاص النية لله تعالى في طلب العلم

قد يقول قائل: كيف يتحقق إخلاص النية لرب البرية جل وعلا؟

فنقول: يتحقق هذا بأمرين اثنين، إذا ذهب واحد منهما فالنية فاسدة.

الأمر الأول: أن تتعلم العلم لتزكي به نفسك، ولتخرجها من الردى إلى الهدى، ومن الظلمات إلى النور، فإذا تعلمت العلم لهذه الغاية، فهذا دليل على أنك تخلص لله، وأنك تعلمت هذا العلم لتتقرب به إلى الله جل وعلا.

واعلم أن هذا العلم إذا لم تتعلمه لهذه النية فهو عليك لا لك، وهو حسرة وندامة ووبال عليك، وقد ثبت في المسند والصحيحين من رواية أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حبه رضي الله عن أسامة وعن والده وعن الصحابة الكرام أجمعين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يجاء بالعالم يوم القيامة، فيلقى في النار، فتندلق أقتابه -أمعاؤه- فيدور حولها كما يدور الحمار حول الرحى -الطاحون- فيدخل إليه أهل النار ويقولون: ويحك يا فلان! ما لك؟ كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:2-3]، والمقت هو أشد أنواع الغضب والسخط.

إذاً: الأمر الأول الذي يحقق لنا إخلاص النية لربنا: أن نتعلم العلم لنعمل به، ومن أجل أن نزكي أنفسنا بهذه التزكية التي بعث الله بها نبينا صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164]، فنترجم العلم العلمي النظري الخبري إلى سلوك عملي؛ لتكون هذه السنة التي تعلمناها بألسنتنا ورسخت في أذهاننا -وهي سنة نبينا عليه الصلاة والسلام- ظاهرة في جميع حركاتنا وسكناتنا، فكل فعل منا يدل على سنة نبينا عليه الصلاة والسلام، وهذا أكبر تقييد وضابط للعلم، فإذا أردت أن تعلم، وأن لا تنسى إذا علمت، فقيد علمك بالعمل، وأما إذا لم تعمل فستنسى، أما لو حفظت فهذا حجة عليك إذا لم تنسه ولم تعمل به.

والأمر الثاني الذي يحقق إخلاص النية لله جل وعلا في طلبنا للعلم: أن نتعلم العلم لنبلغ هذا الهدى إلى عباد الله جل وعلا، فهذه سنة نبينا عليه الصلاة والسلام أمانة في أعناقنا تعلمناها فوعيناها وعملنا بها، ثم بعد ذلك نشرناها بين الناس، فلا بد من تعليم الناس وتبليغهم سنة نبيهم عليه الصلاة والسلام، وهذا له أجر كبير عند الله الجليل، ففي المسند والصحيحين أيضاً من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـعلي عندما أرسله إلى خيبر: ( فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم )، أي: من الإبل والجمال بأسرها، وهذا أنفس مال عند العرب في ذلك الوقت، أي: خير لك من عرض الدنيا ومتاعها إذا هدى الله بك رجلاً واحداً، والحديث رواه الإمام أحمد عن أبي رافع بسند حسن، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـعلي : ( والله لأن يهدي الله على يديك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت )، فإذا اهتدى بك واحد، وبلغته سنة النبي عليه الصلاة والسلام وعمل بها وصار على هدى وبينة، فهذا خير لك من الدنيا وما فيها، أي: مما طلعت عليه الشمس وغربت، وهذا الكلام الذي وجهه نبينا عليه الصلاة والسلام إلى علي رضي الله عنه وأرضاه، قاله نبينا عليه الصلاة والسلام أيضاً لـمعاذ عندما أرسله إلى اليمن، والحديث وارد في مسند الإمام أحمد ورجال الحديث ثقات، لكن في إسناده انقطاع، كما بين هذا الإمام الهيثمي في المجمع في الجزء الخامس، صفحة أربعٍ وثلاثين وثلاثمائة: قال النبي عليه الصلاة والسلام لـمعاذ عندما أرسله إلى اليمن: ( يا معاذ ! لأن يهدي الله على يديك رجلاً واحداً من أهل الشرك خير لك من أن يكون لك حمر النعم )، فالرواية الأولى الثابتة التي قالها نبينا عليه الصلاة والسلام لـعلي في المسند والصحيحين.

إذاً: نتعلم العلم لهذين الأمرين: لنتقرب به إلى الله جل وعلا عن طريق تزكية أنفسنا، وهداية غيرنا وتبليغهم شريعة نبينا عليه الصلاة والسلام.

فضل تعلم الحديث ودراسته

والأمر الثاني: فضل دراسة حديث نبينا عليه الصلاة والسلام وتعلمه.

كل ما ورد في فضل العلم ينسحب على فضل دراسة حديث نبينا عليه الصلاة والسلام، ولذلك سأذكر أدلة عامة تدل على فضل العلم، ثم أذكر أدلة خاصة نبهنا نبينا صلى الله عليه وسلم إليها تبين مزية طلب علم الحديث ومكانته، فالعلم عام يشمل تعلم التفسير والفقه والحديث وكل ما ينفعك في دنياك وآخرتك، وعلم الحديث علم خاص، فكل ما ورد في فضل العلم عموماً يدخل فيه فضل دراسة الحديث، ثم بعد ذلك عندنا أدلة خاصة تبين منزلة دراسة الحديث وفضل تعلمه، أتدارسها بعد أن أذكر أموراً عامة في منزلة العلم وفضله.

الأدلة القرآنية على فضل العلم والعلماء

لنعلم أولاً أننا نتعلم علماً له شأن من العلم الذي له شأن على وجه العموم، فكل علم نافع له شأن، ومن حصل العلم النافع في هذه الحياة لا يمكن أن يستوي مع الجاهلين! فالجاهل بمثابة الميت، والعالم بمثابة الحي.

يقول الله جل وعلا في سورة الزمر: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:9]، والله جل وعلا عندما يذكر العلم في كتابه، ويشيد بقدر العلماء، ينبه إلى ثمرة العلم وإلى فائدته ألا وهو الخشية لله جل وعلا، وما تثمره تلك الخشية من عمل صالح، فانتبه للآية، وإياك أن تأخذ آخرها، وأن تغض الطرف عن أولها!

أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ [الزمر:9] أي: مخلص مطيع لله جل وعلا، آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر:9]، هل هذا يستوي مع الصنف المقابل الذي ينام في غفلة وسهو كالجيفة، ثم لا يرجو رحمة الله ولا يخشى من عذاب الله، هل يستوي هذا الصنف مع من يقابله؟ حتماً لا، قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9]، فمن هم الذين يعلمون؟ هم القانتون آناء الليل ساجدين وقائمين لرب العالمين؛ يحذرون الآخرة ويرجون رحمة أرحم الراحمين، هؤلاء هم العلماء.

والله جل وعلا عندما يذكر العلم يذكر ثمرته ونتيجته، وعندما يشيد بقدر العلماء يبين وظيفتهم وشأنهم وحالهم، أما علم لا يترجم إلى عمل ولا تنتفع به، ولا يترجم إلى دعوة ينتفع غيرك بها، فهذا وبال عليك، قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:9]، ونظير هذه الآية قول الله جل وعلا في سورة فاطر: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [فاطر:27-28]، فبعد أن بين ما في خلق الله جل وعلا من عبر يعتبر بها أهل العقول، بين أن الخشية والتفكر والتدبر تكون في العلماء، فهؤلاء هم الذين انتفعوا بعلمهم، وأما من عداهم فعلمهم حجة عليهم لا لهم، إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [فاطر:28].

وهكذا كلما يذكر الله العلماء يثني عليهم ويشيد بقدرهم، وينبه عند الإشادة بهم إلى ثمرة العلم وفائدته، وانظر إلى ما حكاه الله جل وعلا في سورة القصص عن اللعين قارون عندما خرج على قومه في زينته، وقال الجاهلون الذين يريدون عرض الدنيا: يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ [القصص:79-80]، حقيقة هذا هو كلام العلماء، الأتقياء الذين تعلموا العلم لله جل وعلا، أما عرض الدنيا فهو زائل فانٍ مهما طال وامتد.

إن الفارق بين الرجل العاقل والرجل الظالم الغافل هو العلم، ولذلك من لم يحصل العلم النافع في هذه الحياة فهو من أشباه الناس وليس هو في الحقيقة من الناس، كما كان أئمتنا يقولون: ذهب الناس وبقي النسناس، قيل: وما النسناس؟ قالوا: يشبهون الناس وليسوا من الناس.

وواقع الأمر كذلك، عندما سئل شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك عليه رحمة الله الذي توفي سنة إحدى وثمانين ومائة للهجرة، قيل له: من الناس؟ قال: العلماء.

فكل من لم يكن من العلماء فهذا من أشباه الرجال ولا رجال:

أبني إن من الرجال بهيمةفي صورة الرجل السميع المبصرِ

فطنٌ بكل مصيبة في مالهوإذا أصيب بدينه لم يشعر

قالوا: فمن الملوك والأمراء؟ قال: الزهاد.

فالأمير الملك هو الزاهد في عرض الدنيا، وهذا هو الأمير الحقيقي؛ لأنه يعلم أن الدنيا من أولها إلى آخرها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، فإذا كانت كذلك فعلام يتكالب عليها، ويضيع الدين وتراق الدماء من أجلها؟! من أجل كرسي زائل يأخذه بعد ذلك إلى جهنم وبئس المصير.

قالوا: فمن السفلة -وهم أحط الناس وأشنعهم وأخسهم-؟ قال: الذين يطلبون الدنيا بالدين. وهم نحن في هذا الحين ونسأل الله حسن الخاتمة.

السفلة: هم الذين يجعلون دينهم مطية إلى دنياهم، هؤلاء أحقر الناس وأحطهم وأسفل الخليقة وشرهم، وهم أخبث من الدجال.

فبأي شيء تتميز عن الحيوان؟ إن أردت بالقوة فالجمل أقوى منك، وإن أردت بالضخامة فالفيل أضخم منك، وإن أردت بالافتراس والشدة فالسبع أشد افتراساً منك، وإن أردت بالأكل فالحيوانات البهيمية من حمار وغيره أكثر أكلاً منك، وإن أردت بالوطء فأوطر الحيوانات وهو العصفور أكثر سفاداً منك، فبأي شيء تتميز؟ إنك تتميز بتحصيل هذا العلم النافع الذي يقربك إلى ربك جل وعلا.

إذاً: أنت ما تتميز إلا بعلم يرفعك عن تلك المخلوقات، فمن لم يحصله فليس في الحقيقة من الناس، ولذلك أول ما نزل على خير البرية عليه الصلاة والسلام الذي يفصل بين الجاهلية والإسلام: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1]، من أجل أن يتميز البشر عن الحمير والبقر.

إذاً: العلم له شأن عظيم، فمن حصله حقيقة صار من الناس، وصار من عداد البشر، وإلا فهو من فصيلة أخرى يشبه البشر وليس في حقيقته منهم.

ومما ينسب لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه وأرضاه:

الناس من جهة التمثيل أكفاءُأبوهمُ آدمُ والأم حواء

فإن كن لهم من أصلهم حسب يفاخرون به فالطين والماء

ما الفخر إلا لأهل العلم إنهمعلى الهدى لمن استهدى أدلاءُ

وقدر كل امرئ ما كان يُحسنهُوالجاهلون لأهل العلم أعداءُ

فخذ بعلم تعش حياً به أبداًالناس موتى وأهل العلم أحياء

فليس الميت من مات بدنه، إنما الميت من مات قلبه، ولذلك قال أئمتنا: أول من مات من الخليقة هو إبليس عليه لعنات ربنا العزيز سبحانه وتعالى، وأول من عصى الله وانحرف عن شرعه هو هذا العبد العاصي الغبي المريض؛ لأن موت البدن انتقال من حياة إلى حياة، ومن دار إلى دار، أما موت القلب فإنه يوجب غضب الرب جل وعلا، فلا يتحقق معنى الإنسانية إلا إذا حقق الإنسان العلم النافع الذي من أجله وجد ليعبد الله على بصيرة وبينة، ولو وعينا هذه القضية لشغلنا هذا عن كثير من السفاسف الوضيعة، ولكان هذا خيراً -أفعل التفضيل ليست على بابها- خيراً من أن نجلس على مسلسلات ومنكرات وبليات في وسائل الدمار والإفساد؛ فنجلس مع أسرنا من نساء وبنات وأولاد لنتدارس كلام الله عز وجل، الذي لو طهرت القلوب ما شبعت منه، ونتدارس حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا دخلت بعد العشاء إلى بيتك فليكن لك مع أهلك نصيب في تحقيق إنسانيتك وإنسانيتهم فتتدارس معهم كل يوم جزءاً من القرآن يأخذ قرابة ساعة، وشيئاً من أحاديث خير العباد عليه الصلاة والسلام، فلا يبقى بعد ذلك وقت للتلفاز ولا للغيبة ولا للنميمة ولا للهذيان ولا للمشاكل، وحينئذٍ تصبح إنساناً سعيداً في الدنيا وملكاً بعد ذلك عند الله جل وعلا.

فالناس هم العلماء، والزهاد هم الأمراء، والسفلة هم الذين جعلوا دينهم مطية لدنياهم، وأنا أقول لشيخ الإسلام عبد الله بن المبارك : وأسفل من السفلة من باع دينه بدنيا غيره كما نعيش في هذه الأيام، فإن كان قد وجد قديماً من باع دينه بدنياه، ففي هذه الأيام وجد من يبيع دينه بدنيا غيره، فمن أجل ضال يبيع دينه لأجل أن يثبت ضلال ذلك الإنسان، فهذا أسفل من السافلين؛ لأنه باع دينه بدنيا غيره وخسر الدنيا والآخرة، فصار حاله كما يقال في الأمثلة الشامية: كفقراء اليهود، خسروا الدنيا والآخرة، ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج:11]، وهنا ضاع دينه وما حصل دنيا، ونسأل الله حسن الخاتمة.

الأدلة النبوية على فضل العلم والعلماء

وقد جاءت الأحاديث الكثيرة عن نبينا عليه الصلاة والسلام تبين منزلة العلم والعلماء، وتبين حال المسلمين عندما يتدارسون علم الشريعة المطهرة في بيوت رب العالمين.

ثبت في المسند، والحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه وأهل السنن الأربعة باستثناء سنن النسائي من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة )، والجزاء من جنس العمل، فإن خففت شدة عن مسلم خفّف الله عنك شدة يوم القيامة، ( ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقاً يلتمس به علماً سهل الله به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه )، فإذا قصر بك عملك عن دخول الجنة، فإن نسبك لن يقدمك مهما كنت في عراقة النسب، فكل نفس بما كسبت رهينة: ( ويا فاطمة -رضي الله عنها وأرضاها، وفداها أنفسنا وآباؤنا وأمهاتنا- اعملي لا أغني عنك من الله شيئاً ).

إذاً: إذا اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتعلمون شريعة الله، فإن السكينة تنزل عليهم وهي الطمأنينة: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]، بل البهجة النفسية والانشراح الصدري ونور القلب، هذه الأشياء لا يحصلها إلا المؤمن في هذه الحياة، وليت شعري أي شيء حصل من لم يعرف الله؟! وأي شيء فات من عرف الله وعبده ووحده؟!

من كل شيء إذا ضيعته عوضٌوليس من الله إن ضيعته عوضُ

إذاً: نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، فهذه يحصلها القوم عندما يجلسون يتدارسون حديث رسولنا عليه الصلاة والسلام وكتاب الله جل وعلا.

فإذا سلكت طريقاً لتطلب به علماً، فإن هذا الطريق يوصلك إلى الجنة والمغفرة، كما في الحديث: (سهل الله له به طريقاً إلى الجنة)، فنسأل الله أن يحقق لنا ذلك بفضله ورحمته، وأن يجعل طريقنا إلى بيوته من أجل تحصيل العلم الذي بعث به رسوله عليه الصلاة والسلام موصلاً لنا إلى دار السلام، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، ونسأله أن يجعل في قلوبنا سكينة وطمأنينة، وأن يحفنا برحمته، وأن يجعل الملائكة تغشى مجلسنا هذا وسائر مجالسنا، ونسأله بعد ذلك النعيم الأكبر، وهو أن يذكرنا ربنا جل وعلا لمن عنده، فهو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، وليس العجب من ذكرنا لله وعبادتنا له، فنحن عبيده ومحتاجون إليه، إنما العجب من ذكر الله لنا، وإثباته لقدرنا في الملأ الأعلى عندما نذكره ونتدارس شرعه، سبحانه ما أكرمه وأحلمه، وأرحمه وأبره سبحانه وتعالى!

إذاً: مجالس العلم لها شأن عظيم، فإياك أن تستقل شأنها، وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى في أحاديث كثيرة، وأخبرنا عن منزلة طالب العلم والعالم وكيف يحصل رتبة عظيمة عند الله عندما يتعلم هذا العلم الشرعي، فثبت في مسند الإمام أحمد والحديث رواه أهل السنن الأربعة أيضاً إلا الإمام النسائي ، ورواه ابن حبان في صحيحه، والإمام الدارمي ، وهو بإسناد صحيح كالشمس من رواية أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، حتى الحيتان في البحر، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر ).

إذاً: الإنسان إذا طلب العلم وأخلص النية في طلبه، فله قدر كبير عند الله جل وعلا، للحديث الثاني الذي رواه أبو الدرداء رضي الله عنه؛ فإنه يبين لنا منزلة طالب العلم، ومنزلة العالم عندما يعلم، فكيف وهو يستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، حتى الحيتان في البحر؟! وسيأتينا في حديث آخر: ( حتى النملة في جحرها ). فكم من عين تنام وعيون ساهرة تدعو لها، وكم من عين تنام وعيون ساهرة تدعو عليها. نسأل الله جل وعلا أن يجعل عملنا متصلاً في حياتنا وبعد موتنا، وأن يجعل عباد الله يدعون لنا من الإنس والجن والجمادات والبهائم، إنه أرحم الرحمين وأكرم الأكرمين.

والله يقول في صنف غضب عليهم: فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ [الدخان:29]، فالرجل الصالح عندما ينقطع بموته عمله الذي يقوم به تبكي عليه السماوات والأرض، الأرض التي كان يذكر الله عليها تبكي على فقده وفراقه عندما انقطعت صلاته وانقطع تسبيحه، لكن إذا بكت عليه فليس معنى هذا أن عمله انتهى، نعم عمله المباشر انتهى، لكن بقي له عمل متصل، فحيتان الماء، والنمل في جحورها، والدواب والبهائم تستغفر له؛ لأنه كان ينشر الخير، ويدل على الهدى، وهذه فضيلة إذا علم الإنسان قدرها فلا ينبغي أن يغفل عنها، ولا أن يفرط فيها، والحديث كما قلت في مسند الإمام أحمد والسنن الأربعة إلا سنن الإمام النسائي ، ورواه ابن حبان والدارمي في مسنده، ولفظ الحديث عن أبي الدرداء رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة )، أي: جعل هذا الطريق يوصله إلى جنته دار كرامته، ( وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع )، ووضع الملائكة لأجنحتها: أن الملائكة إذا كانت تطير تلتمس حلق الذكر، كما جاء في الحديث الآخر: ( إن لله ملائكة سياحين يطلبون حلق الذكر، فإذا أتوا عليهم حفوا بهم )، فالملائكة التي تسيح في هذا الكون، إذا رأت طالب العلم ضمت أجنحتها، وامتنعت عن الطيران وحفته وأحاطت به، وتواضعت له إكراماً له، سبحان الله! ملائكة السماء تتواضع لك عندما تطلب العلم، وتضع أجنحتها عن الطيران عندما تراك؛ احتراماً لك وتوقيراً وتبجيلاً وتقديراً، ( وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض )، سبحان ربي العظيم! الملائكة وهذه المخلوقات الأرضية تستغفر له أيضاً.

وإذا كان المؤذن الذي يزيد العالم عليه في الأجر يغفر له مدى صوته، ويشهد له كل رطب ويابس، ولا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة، فكيف بالعالم الذي هو خليفة النبي عليه الصلاة والسلام ووارثه؟! فالملائكة تستغفر له، كما قال الله جل وعلا: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غافر:7]، وللعلماء من ذلك الاستغفار النصيب الأكبر، ومن في الأرض حتى الحيتان في البحر يستغفرون للعالم، والله يعلمهم بكيفية يعلمها ولا نعلمها، وهو على كل شيء قدير سبحانه وتعالى، وهذه المخلوقات عندها تمييز يناسبها لا يعلمه إلا الذي خلقها، فلا إله إلا الله!

ثم قال: ( وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر )، فالعالم هو خليفة النبي عليه الصلاة والسلام ووارثه، فلذلك ثبت في معجم الطبراني والأوسط -وإسناد الحديث حسن- عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنه دخل السوق بعد وفاة نبينا عليه الصلاة والسلام وانتقاله إلى جوار ربه، فنادى بأعلى صوته في السوق: يا أهل السوق ما أعجبكم؟! قالوا: وما ذاك؟ قال: ميراث النبي صلى الله عليه وسلم يقسم في مسجده وأنتم تبيعون وتشترون، فتركوا حوانيتهم، وأسرعوا إلى مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، لعل الواحد منهم يحظى بشيء من متاع النبي عليه الصلاة والسلام؛ من لباس كان يلبسه، من عمامة كان يلبسها، من صحن كان يأكل فيه عليه صلوات الله وسلامه.

والتبرك بآثار النبي عليه الصلاة والسلام جائز باتفاق أهل السنة الكرام، نتبرك بلباسه وبشعره وببصاقه ومخاطه عليه صلوات الله وسلامه، ونأخذ عرقه ونطيب به طيبنا، فطيبك إذا أردت أن يطيب، وأن يصبح له رائحة شذية، فضع فيه شيئاً من عرق النبي عليه الصلاة والسلام إذا حصلته، ووالله إن عرقه أطيب طيب على وجه الأرض عليه صلوات الله وسلامه، ولا يمكن أن يعدل رائحة طيبه رائحة مهما بلغت في هذه الحياة وكانت من أي طيب، فالتبرك بآثار النبي عليه الصلاة والسلام جائز باتفاق أهل السنة-، فدخلوا المسجد فما رأوا شيئاً يقسم من متاع النبي عليه الصلاة والسلام وأمور بيته، فخرجوا فاستقبلهم أبو هريرة رضي الله عنه وهم يخرجون من أبواب المسجد، فقالوا: ذكرت لنا أن ميراث النبي عليه الصلاة والسلام يقسم -والميراث: تركة المال التي يخلفه المسلم- فما رأينا شيئاً يقسم، قال: ماذا رأيتم؟ قالوا: رأينا أناساً يصلون، وأناساً يقرءون القرآن، وأناساً يتذاكرون الحلال والحرام، قال: ويحكم! ذاك ميراث النبي عليه الصلاة والسلام، (إن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر).

فالعلم ميراث كذا أتىفي النص والعلماء هم وراثه

ما خلف المختار غير حديثهفينا فذاك متاعه وأثاثه

إذاً: لنا فضائل جمة عندما نتعلم علم نبينا عليه الصلاة والسلام.

وثبت في سنن الترمذي وغيره بإسناد حسن صحيح من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، قال: ( ذكر عند النبي عليه الصلاة والسلام رجلان أحدهما عابد والآخر عالم )، وشتان ما بين الصنفين، ففي الرواية المتقدمة لـأبي الدرداء : ( فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب )، وانظر في هذا الحديث الآخر بإسناد صحيح، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( إن فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم )، والنبي بينه وبين أفضل الصحابة من المناسبة والفرق والبون الشاسع ما لا يعلم قدره إلا الله، فأعلى رتبة في الصحابة هي رتبة أبي بكر ، وهذه الرتبة مهما جلت فهي دون رتبة الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه، ورتبة الأنبياء مهما جلت دون رتبة الرسل، ورتبة الرسل مهما جلت دون رتبة أولي العزم من الرسل، ورتبتهم مهما جلت دون رتبة الخليلين خليل الرحمن إبراهيم ونبينا عليهما الصلاة والسلام، ورتبة خليل الرحمن إبراهيم مهما جلت فهي دون رتبة نبينا عليه الصلاة والسلام، وأفضل الخلق على الإطلاق نبينا، فمل عن الشقاق، فما خلق الله ولا ذرأ ولا برأ نفساً أكرم عليه من محمد عليه الصلاة والسلام.

فإذاً: لو أخذت الفارق والدرجة بينه وبين أفضل الصحابة، فستكون درجة عظيمة لا يعلمها إلا الله، فكيف بها بينه وبين أدنى رجل من الصحابة العدول؟! ( وإن الله وملائكته وأهل السماوات وأهل الأرض حتى النملة في جحرها، وحتى الحيتان في البحر ليصلون على معلمي الناس الخير )، فالله، وملائكته، وأهل السماوات، وأهل الأرض، والنمل في جحورها، والحيتان في البحور كل هؤلاء يصلون على معلمي الناس الخير، فأي درجة بعد هذه؟

ثبت في مسند البزار بإسناد حسن عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( معلم الخير يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر )، وسيأتينا عند فضل مدارسة الحديث على وجه الخصوص، أنه قيل لـعبد الرحمن بن مهدي: أيهما أحب إليك: أن يغفر لك ذنب أو أن تتعلم حديثاً؟ فقال: أن أتعلم حديثاً عن النبي عليه الصلاة والسلام فهذا أفضل وأحب عندي من أن يغفر لي ذنب، وأنا أقول: لقد حصل مغفرة الذنب بتعلم الحديث، لكن قد يغفر له ذنب ولا يتعلم الحديث، فهو يقول: أنا أريد تعلم الحديث لنشره؛ لأكون وارثاً للنبي عليه الصلاة والسلام، فهذا ليس فيه مغفرة له، بل صلاة الله والملائكة وأهل السموات وأهل الأرض والنمل والحيتان، وهذا أولى.

إذاً: كل ما ورد في فضل العلم وارد في فضل مدارسة حديث نبينا عليه الصلاة والسلام.

وباختصار: من وفق لتعلم العلم النافع بإخلاص النية لله عن طريق العمل بعلمه، والدعوة إلى ربه، فهذا حقيقة من علامة سعادته، ومن علامة إرادة الخير به، كما ثبت هذا في المسند والصحيحين وغير ذلك -والحديث في أعلى مراتب الصحة- من حديث معاوية رضي الله عنه، ورواه الإمام أحمد في المسند والترمذي من حديث ابن عباس ، ورواه ابن ماجه في سننه من حديث أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين، ولفظ حديث الصحيحين عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين )، ومنزلة العلم والفقه لا تحصل إلا مع العلم والدعاء، وما عدا هذا فالعلم وبال على صاحبه، وليس يعد عالماً من لم يكن بعلمه راجياً، فالله عندما نعت العلماء نعتهم بالخشية، ولذلك كان أئمتنا يقولون: من أوتي من العلم ما لا يزكيه فلم يؤتَ علماً؛ لأن الله نعت العلماء بالخشية والبكاء، فقال جل وعلا في سورة الإسراء: قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [الإسراء:107-109]، فهذا حال الذين أوتوا العلم؛ ولما سأل سائل الحسن البصري عليه رحمة الله كما أتى في الحلية وطبقات ابن سعد، فأجابه الحسن عليه رحمة الله، فقال له السائل: يا أبا سعيد! إن فقهاء البصرة يقولون بخلاف هذا، قال: ويحك وهل رأيت فقيهاً؟ إنما الفقيه الصائم نهاره والقائم ليله، الذي يخاف ربه، فهل رأيت فقيهاً يؤثر الآخرة على الدنيا؟ من الفقيه؟ هل الفقيه الذي يحفظ العلم ولا يعمل به ولا يدعو إليه، ولا يؤثر في سلوكه؟

كلا. ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والمعطي الله، ولن تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله )، وهذه الطائفة يدخل فيها دخولاً أولياً ما قاله إمام أهل السنة الإمام المبجل أحمد بن حنبل رحمه الله ورضي عنه، قال: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم؟!

ويقصد بهذا أن أهل الحديث يدخلون في هذه الطائفة المنصورة الظاهرة التي على الحق إلى يوم القيامة دخولاً أولياً، ولا يمنع أن تشمل الطائفة ما هو أعم من ذلك؛ من فقهاء ومفسرين، ومن أناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويجاهدون في سبيل الله جل وعلا، ومن حكام صالحين متقين، لا يمنع أن يشمل لفظ طائفة كل هؤلاء، لكن أول من يدخل فيها المحدثون الذين هم خلفاء نبينا الميمون عليه صلوات الله وسلامه، وهم وراثه.

أهل الحديث هم صحب النبي وإن لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا

فاختلط هدي النبي عليه الصلاة والسلام في دمهم ولحمهم وعقولهم، وعروقهم وأشعارهم وأظفارهم، فحياتهم كلها مع النبي عليه الصلاة والسلام وأحواله، فحالهم دائماً: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعل رسول الله عليه الصلاة والسلام، كان رسول الله عليه الصلاة والسلام.

إذاً: هذه هي الصحبة الحقيقية، فأهل الحديث هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم يصحبوا نفسه الشريفة، ولم يكونوا معه في هذه الحياة، فأنفاسه صحبوا، هذه الأنفاس التي كان ينطق بها ويتكلم بها، ويقول بها وهي هديه وسنته، صحبوها وكانوا معها في جميع أحوالهم رحمهم الله ورضي عنهم.

هذا كله يتعلق ببيان منزلة العلم وفضله، على سبيل العموم، وكل ما قيل في ذلك ينسحب على فضل دراسة الحديث، فدراسة الحديث لها تلك الفضيلة.

فضل دراسة الحديث خاصة

هنا فضائل خاصة سأذكرها، وأبين المزايا التي يحصلها طالب العلم عند دراسة حديث نبينا عليه الصلاة والسلام، وكل واحدة من هذه المزايا تحتاج إلى تحرير وشرح إن شاء الله.

فأول هذه المزايا: أن من يدرك حديث النبي عليه الصلاة والسلام يحفظ نصوص الشرع وأدلته من الضياع والاندراس، والذهاب والاستقدام، وهذا الأمر له شأن معتبر، فإن العمل بالقرآن من غير سنة النبي عليه الصلاة والسلام مضيعة، والقرآن بحاجة إلى السنة أشد من احتياج السنة إلى القرآن.

فإذاً: لا بد لفهم القرآن من سنة نبينا عليه الصلاة والسلام، وكنت أقول ولا أزال: لا خير في إمام بالقرآن من غير سنة، ولا خير في إمام بقرآن وسنة من غير فهم سلف الأمة، فالذي يريد أن يدعو إلى القرآن من غير السنة كما في كلام بعض من غضب الله عليهم من المسئولين في هذا الحين، من فرقة مهوسة يتسمى أهلها بالقرآنيين، من أراد أن يدعو إلى القرآن دون السنة فقد ألغى القرآن قبل أن يلغي السنة، ومن أراد أن يجرد عمل الصحابة وفهمهم من شرعنا المطهر من كتاب وسنة، ويقول: لدينا القرآن نعمل فيه عقولنا فحسب ويريد أن يتلاعب بدين الله جل وعلا، فنقول له: المنهج الحق: قرآن وسنة كما سار على ذلك، خير من طبقوا الإسلام وشاهدوه من النبي عليه الصلاة والسلام، فكيف تأتي وتفعل كيفية ما فعلها الصحابة رضوان الله عليهم؟

فمن قال: قرآن فقط والآية تحتمل، إذاً استقبال القبلة ليس بشرط في الصلاة. لم؟ قال: لأن الله يقول في كتابه: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115]، فهذا تضرب رقبته، وهذا كفر بالله وكفر بالسنة، وما قدر السلف الكرام حق قدرهم، فديننا قرآن وسنة كما فهمهما سلفنا الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، ومن أتى بعد ذلك بشيء لم يسبق إليه فهذا محض البدعة والضلال، وفي الحديث: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور )، وعن الإمام مالك رحمه الله ورضي عنه: أن من قدم رأي إبراهيم النخعي على قضاء عمر يستتاب؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أشار إلى منزلة عمر ومكانته، فهو مع أبي بكر للنبي عليه الصلاة والسلام بمنزلة السمع والبصر، وقال أيضاً: ( واقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر )، وهم من الخلفاء الراشدين المهديين.

إذاً: حفظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم حفظ لأدلة الشرع من الضياع والاندراس، ومن يريد أن يلغي السنة ويعطلها ويلغي حجيتها، فقد ألغى الشرع بكامله.

الأمر الثاني: كثرة الصلاة والسلام على خير الأنام عليه الصلاة والسلام، وفي ذلك فوائد حسان عظام.

الأمر الثالث: الفوز بالرحمة والنضرة اللتين دعا بهما النبي عليه الصلاة والسلام لمن ينشر حديثه ويتعلمه.

شرح حديث: (بلغوا عني ولو آية...)

ورد عن نبينا عليه الصلاة والسلام ما يحثنا على نشر حديثه وسنته، وما بلغه إلينا عن ربه جل وعلا، وعندما أمرنا أن نبلغ سنته، وما بلغه لنا عن ربنا، نهانا أن نكذب عليه، وأمرنا أن نحتاط وأن نتثبت فيما نقوله ونرويه عنه عليه صلوات الله وسلامه.

ثبت في المسند وصحيح البخاري وسنن الترمذي من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، والحديث رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن حبان في الصحيح والحميدي في مسنده، من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه الإمام أحمد في مسنده من رواية أبي سعيد الخدري ، ولفظ حديث البخاري المتقدم من رواية عبد الله بن عمرو رضي الله عنهم أجمعين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ).

والشطر الثالث الأخير من كلام نبينا الجليل عليه صلوات الله وسلامه هو من قبيل المتواتر لفظاً ومعنى كما نص أئمتنا على ذلك في مبحث الحديث المتواتر، وهو قسمان: لفظي ومعنوي، فاللفظي: ما تواتر لفظه ومعناه، والمعنوي: ما تواتر القدر المشترك فيه دون لفظ بعينه، فمعناه ثابت في رواية عدة من الصحابة الكرام.

فالجملة الثالثة في الحديث: ( ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار )، متواترة عن نبينا عليه الصلاة والسلام لفظاً ومعنى، فقد أحصى الحافظ ابن حجر في الفتح من رووها من الصحابة، وحديثهم في درجة الصحة والحسن فقط، دون أن يكون ضعيفاً منجبراً، فبلغوا ثلاثاً وثلاثين نفساً، منهم العشرة المبشرون بالجنة، وأحصى من رووها من الصحابة، لكن الطريق إليهم فيه انقطاع، وينجبر بالرواية المتقدمة، فبلغوا خمسين صحابياً، وأحصى من رووا هذه اللفظة من الصحابة، لكن الإسناد إليهم فيه من هو فاسق أو متهم، فبلغوا عشرين صحابياً.

إذاً: خمسون صحابياً رووها، لكن في الإسناد إليهم ضعف، وعشرون في الإسناد إليهم من هو ساقط أو متهم، وثلاثة وثلاثون ما بين صحيح وحسن. هذا تحقيق الحافظ ابن حجر ، وأما من بعد الصحابة فروى هذه الجملة المئات والألوف، وهي متواترة لفظاً ومعنى، على أن الإمام النووي في شرح صحيح مسلم يقول: بلغ عدد من رووا حديث النبي عليه الصلاة والسلام: ( من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار )، يزيد على مائتي صحابي. وليس كما أحصاه الحافظ ابن حجر ، فثلاثة وثلاثون وخمسون وعشرون، مجموعها مائة وثلاثة، والنووي يقول: بلغوا أكثر من مائتي صحابي، وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [يوسف:76]، وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:284].

إذاً: ( بلغوا عني ولو آية )، أي: بلغوا عني ما تسمعونه مني من قرآن وسنة، حتى القرآن الذي تكفل الله بحفظه وضمن بعدم ضياعه، بلغوه عني ولا تفرطوا فيه، والقرآن الكريم ستة آلاف آية ومائتا آية وكسر، والآية: طائفة من كلام الله جل وعلا مستقلة، لها بداية ونهاية، مندرجة ضمن سورة فلا تكون الآية منفصلة عن السورة، فـ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، آية، و الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3]، آية.

والآية في اللغة: تأتي بمعنى العلامة، والآية القرآنية فيها هذا المعنى اللغوي؛ لأن هذه الآية علامة على أنها من عند الله جل وعلا، فلا يمكن للبشر أن يأتوا بسورة من مثل هذا القرآن، وأقل سورة مكونة من ثلاث آيات، أو سورة طويلة تعدلها.

أو آية طويلة تعدلها، إذاً: لا يمكن الإتيان بمثل آيات القرآن، فهي علامة على أنها من عند الرحمن جل وعلا، والآية تأتي بمعنى الجماعة، والآية القرآنية فيها هذا المعنى؛ لأنها جمعت حروفاً وكلمات وهدايات وإرشادات، فإذاً: هي علامة على أنها من عند الله، وليست من كلام رسولنا عليه الصلاة والسلام، وهي جماعة من الحروف والكلمات والحكم والأحكام.

وقوله: (ولا حرج) تحتمل ستة معانٍ، خمسة منها مقبولة، وواحد منها فيه ما فيه، فهو مردود كما قال الحافظ ابن حجر في الفتح، وانظروا هذه الوجوه في فتح الباري في الجزء السادس صفحة تسع وتسعين وأربعمائة، وسأذكرها باختصار.

أولها: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) المعنى: ولا حرج عليكم في أن تحدثوا عنهم ولا إثم عليكم ولا معرة ولا منقصة إذا حدثتم عنهم، فليس في التحديث عنهم شيء.

المعنى الثاني: (ولا حرج)، أي: أن لا تحدثوا، وهذا ما ذهب إليه الإمام الطحاوي عليه رحمة الله في شرح معاني الآثار؛ لأن قوله: (حدثوا) قد يفهم منه الوجوب، ثم بين النبي عليه الصلاة والسلام أننا بالخيار، إن شئنا حدثنا وإن شئنا طوينا الحديث عنهم، ففي كتابنا غنية عما سواه، فالأمر فيه سعة، إن شئتم فحدثوا فلا إثم عليكم في التحديث، وإن شئتم أن لا تحدثوا، فلا تفهموا من الأمر الوجوب.

المعنى الثالث: (ولا حرج)، المراد من الحرج هنا ليس الإثم والذنب كما هو على القولين الأولين، إنما المراد من الحرج ضيق النفس، أي: لا تضق أنفسكم بما تسمعون من العجائب عندما تحدثون عنهم، ففيهم عجائب، فإذا ما رووا عن نبي الله موسى وعيسى على نبينا وعليهم صلوات الله وسلامه خوارق للعادات ومعجزات وغرائب وأموراً تدهش لها العقول، فلا تضق صدوركم منها، وتقولون: كيف يقع هذا؟ فالله على كل شيء قدير، وما دام الأمر ممكناً، ولا يصل إلى درجة الاستحالة، فلا حرج عليكم في قبوله، ولا ينبغي أن تضيق صدوركم نحوه.

المعنى الرابع: لا حرج عليكم في التحديث عنهم إذا كان فيما تحدثون عنهم لفظ مستشنع، فعندما قال الله: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة:64]، وحكى عنهم أنهم يقولون: إن الله فقير، وأنهم يقولون: الله ثالث ثلاثة، وإن ابن الله صلب، فهذا كلام تقشعر منه الأبدان، لكن لا حرج عليكم في حكاية ما قالوه من كفر؛ لأن من يحكي الكفر ليبين فساده ليس بكافر.

والمعنى الخامس: ذهب إليه الإمام الشافعي ، قال: أخبار بني إسرائيل تنقسم إلى قسمين: ما علمنا صحته وورد شرعنا به فحدثوا به، وهذا ما أشار إليه نبينا عليه الصلاة والسلام بقوله: ( حدثوا عن بني إسرائيل )، فما قال: ما تعلمون صحته وتتيقنون صدقه، إنما ما ليس بباطل، فيمكن أنه وقع ويمكن أنه لم يقع، فلا حرج عليكم في أن تحدثوا به، فأخبارهم على قسمين: مجزوم بصحتها؛ لأنه ورد في شرعنا تقريرها وذكرها، فحدثوا به، ولا خيار لكم في ذلك، وما لم يرد أنتم بالخيار، إن شئتم حدثوا وإن شئتم لا، فقوله: (ولا حرج) لا يتعلق بما ورد عنهم في القرآن والسنة، ولكن المعنى: ولا حرج عليكم أن تحدثوا عنهم بما لم يرد مما قالوه، ولا يشهد له أصل، ولا يدل أيضاً شرعنا على أنه باطل بل هو في أمور مسكوت عنها.

وأخبار بني إسرائيل تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

معلوم صحته: وهو ما ورد في شرعنا ما يقرره ويبين وقوعه. ومعلوم كذبه: وهو ما ورد في شرعنا ما يرده وينكره، كقولهم: العزير ابن الله، والمسيح ابن الله. وما هو مسكوت عنه لم يرد تصديقه ولا تكذيبه، فلا نصدقه ولا نكذبه.

المعنى السادس وهو أضعف المعاني ضعفه الحافظ ابن حجر ، قال: (حدثوا عن بني إسرائيل): المراد من إسرائيل خصوص نبي الله يعقوب على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، وأولاد إسرائيل هم إخوة يوسف، (حدثوا عن بني إسرائيل)، أي: عن قصتهم التي جرت لهم مع أخيهم، وماذا كان لهم من شأن، كما ذكر في سورة يوسف، ولا حرج عليكم في ذلك، قال الحافظ ابن حجر : وهذا أبعد الأوجه، وحقيقة هو حقيق بالبعد.

وقوله: (فليتبوأ)، المراد منه الخبر، أي: فقد تبوأ منزلاً، وبني له بيت في نار جهنم، نسأل الله العافية من سخطه وغضبه، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

وأما الأمور الثلاثة التي نستفيدها من دراسة حديث نبينا عليه الصلاة والسلام، وتبين منزلة مدارسة الحديث وفضل دراسة السنة، فسيأتي الكلام عليها موضحاً مفصلاً إن شاء الله.

نسأل الله برحمته التي وسعت كل شيء إن أحيانا أن يحيينا على الإسلام، وإن أماتنا أن يميتنا على الإيمان، ونسأله أن يغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا ولشيوخنا، ولمن علمنا وتعلم منا، ولمن له حق علينا، ولجيراننا، وللمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمسلمين وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح الترمذي - مقدمات [1] للشيخ : عبد الرحيم الطحان

https://audio.islamweb.net