إسلام ويب

لا ينبغي للمؤمن الحق أن يدخل السمعيات في دائرة العقل، وإنما ينبغي له أن يتعامل معها وفق قاعدتين أساسيتين: الأولى: الإقرار بها؛ لأنها وردت على لسان خير البرية إما فيما ينقله عن ربنا من القرآن، أو ما جاء في سنته الصحيحة، والثانية من القواعد: إمرار كل ذلك فلا نتكلف البحث في كيفية ذلك أو كنهه، بل نقول: نؤمن بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، ونؤمن برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله.

تابع تناول علم التوحيد لموضوع السمعيات

التمييز بين السمعيات والعقليات

الأمر الثالث من موضوعات علم التوحيد: السمعيات من حيث اعتقادها، يعني: ما يُتوقف الإيمان به على مزيد السمع فقط، وليس عند العقل دليل على إثباته ولا على نفيه، فهذا يقال له سمعي، وهناك سمعي وعقلي -كما قلت- يجتمع الأمران، وجود الله سمعي أو عقلي؟ عقلي، ورد السمع أو لم يرد؟ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ [إبراهيم:10]، لا بد للموجود من موجد، ولا بد للخلق من خالق، ولا بد للأثر من مؤثر، إذا كان الكرسي لا بد له من نجار، فهذا الكون لا بد له من عزيز قهار.

ولذلك قال البدوي الساذج: البعرة تدل على البعير، وأثر السير يدل على المسير، فسماء ذات أبراج -نجوم مشتبكة- وأرض ذات فجاج -أنهار وعيون تجري- وبحار ذات أمواج، ألا يدل ذلك على اللطيف الخبير؟ بلى!

مسألة وجود الله عقلية، ولا نقول عقلية بحتة، يعني: السمع قال: إن الله غير موجود، بل ورد فيها السمع، لكن هي عقلية يدركها العقل، وورد بها الوحي.

أأنت خلقت نفسك؟ لا، خلقك أبوك؟ لا، خلقتك أمك؟ لا، الجيران والأطباء؟ لا، من خلقك؟ تقول: هكذا فلتة كما سيأتينا من كلام الفلتانين المهووسين، يقول: ما خلقنا خالق.

لو قيل: هذا البناء ما بناه بانٍ، فهل تصدق؟ يقول: أنت مجنون، بناء بلا بان، سماء وأرض بلا خالق؟ وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ [الذاريات:47] أي: بقوة وإحكام وإتقان، وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ [الذاريات:47-48].

لا بد للخلق من خالق، هذه مسألة عقلية، لكن كون الله جل وعلا له كرسي وسع السموات والأرض سمعية فقط، كون الله له عرش استوى عليه سمعية، كون الله جل وعلا ينصب ميزاناً يوم القيامة يزن به أعمال العباد سمعية، ووجود الحوض ونهر الكوثر في الجنة سمعية، أخذ الصحف بيمين أو بشمال سمعية.

هذه سمعيات مغيبات يتوقف الإيمان بها على السمع لا على العقل، لو لم يرد بها السمع لما أمكننا أن نقول هناك حوض وهناك ميزان، لو لم يرد السمع بوجود الملائكة هل نستطيع أن نقول يوجد ملائكة؟ لا، فهذا عالم غيبي، لا طريق للإيمان به إلا السمع الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، عن طريق نبينا عليه صلوات الله وسلامه.

إذاً: الموضوع الثالث من موضوعات علم التوحيد يبحث في السمعيات، فإن قيل: من أي حيثية ومن أي اعتبار؟ فالجواب: من حيث اعتقادها، يعني السمعي تعتقد به.

الإقرار والإمرار في السمعيات

واعتقادنا بالسمعيات يقوم على أمرين اثنين لا ثالث لهما:

أولهما: إقرار.

وثانيهما: إمرار.

السمعي لا تدخله تحت دائرة العقل، وإياك أن تبحث في كنهه وحقيقته؛ لأنه مغيب عنك، وأنت لا تدرك إلا ما هو موجود أو ما له نظير في الوجود، وأما ما ليس بموجود وما لم تدرك له نظيراً في الوجود فلا تستطيع أن تتخيله.

فمثلاً: الملائكة نؤمن بهم على حسب ما ورد دون زيادة ونقصان، صفات الله سمعيات، كون الله له عينان سبحانه وتعالى، كون الله يتكلم، كون الله يغضب، كون الله يرضى، كون الله ينزل، كون الله يأتي: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ [البقرة:210] كون الله يجيء: وَجَاءَ رَبُّكَ [الفجر:22]، كيف نؤمن بهذه الصفات؟

نقول: إقرار وإمرار، ولا تبحث أكثر من ذلك.

وما معنى إقرار؟

الجواب: أن نقر بها؛ لأنها سمعية وردت عن خير البرية عليه الصلاة والسلام، إما في أحاديثه وإما في الآيات القرآنية، سمعي وارد عن الله بواسطة رسول الله عليه الصلاة والسلام كيف تنكره وتجحده وترده؟ فالسمعي نقر به؛ لأن عدم الإقرار إنكار.

والثاني: إمرار، ما معنى إمرار؟

لا نبحث في كيفيته، ولا في كنهه، ولا في حقيقته، ولا نتصوره، ولا نتوهمه، نقول: نؤمن بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، ونؤمن برسول الله عليه الصلاة والسلام وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله.

أخبرنا الله أنه يوجد ميزان، لا داعي أن نأتي لنشتط كما فعل بعض المعتزلة اللئام، قالوا: الميزان يحتاجه البقال الذي يزن الطماطم والخيار والكوسة والبصل، ليعلم هل الوزنة معتدلة أم لا، أما من لا تخفي عليه خافية فلماذا يزن؟ هل هو لا يعلم أنت شقي أو سعيد؟! ولا يعلم الصالحات من الطالحات؟! فعلام الوزن؟!

نقول لهم: وعلام الفلسفة منكم؟ يعني أأنتم أعلم أم الله، عندما يقول: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأنبياء:47]، هذا قاله رب العالمين، وعندما يقول: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ [الأعراف:8]، وعندما يقول: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ [القارعة:6]، وأنتم تتفلسفون، هل المقصود من الميزان فقط إظهار الوزنة أنها معتدلة؟

هذا أحد مقاصد الميزان، ولكن هناك مقاصد كثيرة أخرى بعد ذلك، منها إظهار عدل الرحمن على أتم وجه، تعليم الله لعباده كيف يتعاملون، فإذا كان هو الحي القيوم يعاملهم بالميزان ليُعلمهم هل ربحوا أو خسروا على حسب الميزان العادل، فمن باب الأولى ينبغي نحن أن نستعمل الميزان، كما قال الله جل وعلا: وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ [الرحمن:7]، فالله هو الذي يفعل هذا ليقطع أعذار العباد، ليكون هذا الميزان علامة لسعادة السعيد وشقاوة الشقي، كما سيأتينا حكم كثيرة عند بحث السمعيات التي هي أحد أركان علم التوحيد، وهي أحد موضوعاته الثلاثة، فهذه السمعيات من حيث اعتقادها.

والسمعيات هي: ما يتوقف الإيمان به على ورود السمع، ولا يوجد دليل في العقل يثبت أو ينفي، فالعقل لا يثبت ولا ينفى.

إذا كان العقل يحترم نفسه وليس عنده دليل على الإثبات ولا على النفي، وورد السمع بشيء، فيجب على العقل أن يقول: آمنا وصدقنا.

ليس عندك دليل على الإثبات ولا على النفي، وقال لك الحكيم الخبير: عندي ميزان، تقول: آمنت يا ذا الجلال والإكرام.

ولذلك من جملة فوائد إخبار الله بالمغيبات: ليظهر من يؤمن بالغيب ممن يعترض على الرب، هل آمنا بالميزان؟ آمنا وحصلنا فضيلة الإيمان بالغيب، ولا إيمان أفضل من إيمان بغيب، ولذلك قال الله في مقدمة كتابه: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:1-3]، ميزان آمنا به، ملائكة آمنا به، صراط آمنا بذلك، حوض آمنا بذلك، إذاً حصلنا أجراً عظيماً من وراء الإيمان بالمغيبات.

الإيمان بحياة البرزخ وعدم مقارنتها بحياة الدنيا

إخوتي الكرام! السمعيات هي ما يُتوقف الإيمان بها على ورود السمع، والعقل ليس عنده دليل على الإثبات ولا على النفي.

عذاب القبر ونعيمه سمعي قطعاً وجزماً، القبر في حالة واحدة يكون روضة من رياض الجنة ويتسع مد البصر، وحفرة من حفر النار ويُضيق على المقبور فيه حتى تختلف أضلاعه، فمن قال: كيف هذا؟ نقول: يا عبد الله! هذا ورد به السمع عن نبينا عليه الصلاة والسلام وهو الصادق المصدوق، ولا يجوز أن تفهم ما في دار البرزخ على حسب أحكام دار الدنيا.

فالدور ثلاثة كل دار لها حكم: البرزخ دار، وقبلها الدنيا دار، وبعد البرزخ دار، وهي الآخرة جنة أو نار، دار الدنيا لها أحكام على الظاهر لا على الباطن، أحكام الدنيا على الجسد لا على الروح، أنا عندما أخرج روحك أضرب رقبتك، فهل ضربت الروح أو البدن؟ البدن، الأحكام عندنا تتعلق بالظاهر في الحياة الدنيا، فهي موازين حسية ظاهرة، أما في البرزخ على العكس تماماً، الأحكام تتعلق بالروح، والبدن يشعر بذلك تبعاً، كما أنك في هذه الدار الدنيا الذي يعذب وينعم بدنك وروحك تتلذذ أو تتألم.

أما الآخرة فهي أكمل الدور، العذاب والنعيم على البدن والروح، أي على كل منهما أصالة دون تبعية أحد منهما للآخر، فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:22].

إذاً: لا يجوز أن نفهم ما يجري في دار على حسب موازين دار أخرى، لأن تلك دار لها موازين للروح، وموازين الروح غير موازين الجسد، الروح تدخل في البدن وتخرج دون أن يراها أحد، والواحد يكون معنا في الحجرة يقولون: مات، تقول: ما معنى مات؟ قالوا: خرجت روحه، من أين خرجت؟ الأبواب مغلقة والنوافذ مغلقة محكمة، يقول: هذه روح ليست كالبدن، تخرج دون أن يوجد منفذ في الجدار، إذاً: هو يقول: لها حكم ليس كحكم البدن.

الغرابة إذا قلت: خرج المقيد في هذه الحجرة والأبواب والنوافذ مغلقة، يقال: هذا جني، كيف خرج؟ حقيقة لا يمكن إلا بحيلة، فلعله فُتح له الباب وخرج، لأنه لا يمكن أن يخرج بدون فتحة؛ لأن الأحكام على الظاهر، أما الروح فأحكام مغيب وموازين خاصة، فلا تفهم ما يجرى في البرزخ على حسب حال الدنيا، كل واحد له ميزان، نحن في الأحكام الظاهرة عندنا موازين مختلفة في الظاهر، وكل شيء له ميزان، الذهب له ميزان يقسم الجرام إلى مائة جزء، ثم يقول لك: غرام وعشرة سنتي، يعني: عُشر الغرام.

إذاً ميزان دقيق، ميزان الذهب على الكهرباء رأيتموه؟ وعندنا ميزان البصل، لو أردنا أن نتعامل بالذهب بميزان البصل فهل يصلح؟ لا، لفسدت الحياة، صاحب الذهب لا يأتي عليه المساء إلا وقد أغلق دكانه.

إذاً: هذا ميزان وهذا ميزان، هذا حسي وهذا حسي، ولا يجوز أن نزن البصل بالذهب، لأنه سيفسد الحياة، وأن تزن ما يجرى في الدنيا على ميزان البرزخ لا يصلح، تزن ما يجرى في البرزخ على موازين الدنيا لا يصلح، كل دار لها اعتبار، فزنها بميزانها.

مثال تقريبي لما يتعلق بالسمعيات التي يجب الإيمان بها

إذاً: إذا جاءني خبر صادق آمنت به ولا أبحث في كيفيته، هل لذلك صورة تقريبية في هذه الحياة؟

لا شك، ولئن كان غيبياً ويتعلق بأحوال البرزخ له ما يقربه إلى العقول في هذه الحياة، ولا يوجد غيبي إلا وجعل الله له صورة تقريبية في هذه الحياة من باب تقريبه للأذهان.

ولذلك ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما كما في كتاب الزهد للإمام البيهقي قال: ليس في الجنة شيء مما في الدنيا إلا الأسماء، يعني فاكهة فاكهة، رمان رمان، عنب عنب، تين تين، لكن ليست المانجو في الجنة كالمانجو في الدنيا، هناك الراكب المجد يسير سبعين سنة في ظل شجرة طوى لا يقطعها، والثمرة الواحدة تكفي أهل الدنيا، وليست حالها كحال أهل الدنيا، إن أكلتها لا تخرج إلى حمام ويخرج منك فضلات، عرق أطيب من المسك، وجشاء كجشاء المسك، رائحة مسك من فمك وعرق، البطن يضمر فتأكل مرة أخرى، فإذا انتفخ وشبعت فبدلاً من أن تخرج من مكان الأذى يخرج من الجبهة مسك ومن الفم مسك.

إذاً: هذه فاكهة تختلف عن هذه الفاكهة، لكن وافقتها في الاسم، يعني كأن الله يقول: فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [الرحمن:68]، هذه فيها هذه الفاكهة، يعني الفاكهة ليست بصلاً، وليست ثوماً، لكن كما أنكم تتفكهون بالفاكهة في هذه الحياة، هناك فاكهة تتفكهون بها تختلف عنها، هما سواء في الاسم، وتختلف عنها في اللون والحجم والطعم وفي النتيجة، هذا المغيب الذي هو في عالم البرزخ له ما يقربه إلى أذهاننا في واقعنا.

أنت عندما تنام -أخي الكريم- ويكون في حجرتك أحد مستيقظ، أنت على فراشك تشعر أنك دخلت الجنة، والتقيت بالملائكة، ونظرت إلى نور وجه الله الكريم، وتضحك أحياناً وينظر إليك وأنت تضحك، وأحياناً تشعر أنك تزوجت، وأحياناً تشعر أنك ذهبت إلى والدك، وأحياناً تشعر أنك صرت أميراً وعندك جنود بدأت تأمر وتنهى لتحكم بشريعة الله وتطبق أحكام الله، أنت ترى هذا وغيرك يرى أنه ذُهب به إلى النار، أو أنه يشرب الخمر، أو أنه يُضرب ويعاقب، أو أنه في سجن، يرى أحياناً وهو يصيح ويتأوه ويبكي.

هو بجوارنا، وعلى الفراش بجنبنا، ونضع يدنا عليه فلا نعلم ما يرى، نقول: هذا من عالم المثال؛ لأن عالم الرؤى يتعلق بالأرواح فلا تدركه حواسنا، يضحك لكن لا نعلم لم يضحك، وقد ينام اثنان على فراش واحد زوج وزوجة، فهو يضحك وهي تبكى، هو يرى أنه دخل الجنة وهي ترى أنها دخلت النار، وهذا يقع بكثرة، اثنان لا أحد منهما يشعر بحال صاحبه، وهو في حق هذا نعيم وفي حق الثاني جحيم.

يقبر اثنان في قبر واحد: موحد ونصراني، القبر في لحظة واحدة يتوسع كمد البصر وهو روضة من رياض الجنة، ويضيق حتى تختلف أضلاع النصراني فيلتهب عليه حفرة من نار، إن قال: كيف؟

قلت: أجيبك بعد أن تجيبني؟ كيف يرى الزوجان على فراش واحد رؤية تسر ورؤية تضر؟ أخبرني عن هذا لأخبرك عن حقيقة ما يجرى في البرزخ.

فإذا قال: أنا عاجز عن تفسير ذلك؛ لأن ذاك من عالم المثال والرؤى، فقل: أنا أعجز عن تفسير ذلك؛ لأن ذلك من عالم البرزخ، لكن هذا سمعي ورد به نص يجب الإيمان به، وهل ورد بمستحيل؟ لا، فنحن نرى له أمثلة وشواهد كل ليلة عندما ننام ونرى الأحلام، ولا يشعر أحد بما رأينا، وإن كان بدنه ملاصقاً لبدننا.

إذاً: هذه صورة تقريبية لما يجرى في البرزخ الذي هو أول مرحلة من مراحل الحياة الأخروية، وما أتى شرعنا بما تعارضه عقولنا:

لم يمتحنا بما تعيا العقول بهحرصاً علينا فلم نرتب ولم نهم

كيفية الإيمان بالسمعيات

لا يوجد شيء مستحيل، لكن لا بد من الفهم عن الله الجليل.

السمعيات من حيث اعتقادها وهي: ما يتوقف الإيمان بها على السمع المحض ولا دخل للعقل فيها

كيف نؤمن بها؟

إقرار وإمرار.

نقول: القبر روضة من رياض الجنة وحفرة من حفر النار، وإن قال: كيف؟ نقول: ارفع الكيف، الإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.

كما قال الإمام مالك شيخ أهل السنة عندما قال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] قال له سائل: كيف استوى يا أبا عبد الله ؟ قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، لمَ كان بدعة؟ لأمرين اثنين انتبهوا لهما:

أولهما: سؤال عما لا يمكن لعقول البشر أن يقفوا على كنهه وأن يطلعوا على حقيقته، مثل هذا سؤال مخترع مذموم، سؤال عبث، لا يمكن أن تقف على حقيقة استواء الرب؛ لأن العلم بالصفة متوقف على العلم بكيفية الموصوف، وهل عرفنا ذات الرب؟ قلنا: كل ما خطر ببالنا فالله بخلاف ذلك، فإذا كانت الذات مجهولة فالصفات مجهولة من باب الأولى، وهنا العلم بكيفية ما يجري في دار البرزخ متوقف على معرفة حال تلك الدار، وهل رأيناها؟ عما قريب سننتقل إليها؟ وستظهر الحقائق:

سوف ترى إذا انجلى الغبار أفرس تحتك أم حمار

تظهر الحقائق عندما يقال لك: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:22] .

كنت في شك، كنت في غفلة، كنت في إعراض، انتبه الآن، ما كنت تنكره تحققت منه، فانتبه له! فانتبه لهذا أخي الكريم، يقول: هذه الدار ما عرفنا نحن واقعها وكنهها وكيفيتها، فكيف ندرى ما يجري فيها؟

إذاً: ليس الإيمان بما يجرى في عالم البرزخ معارضاً للعقل، ويستحيل أن يلجأ العقل إلى الإيمان به دون أن يقبله، قلنا: العقل لا يصدق في الأصل ولا يكذب، لا يثبت ولا ينفي، أي: ما عنده دليل على التصديق ولا على التكذيب، فإذا جاءه خبر صادق يقول: آمنت وصدقت.

وقد نقول لأحدهم: البرزخ روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، فيقول: لا أصدق إلا إذا رأيت بعيني. فقل له: لك ذلك، عما قريب سيستعر عليك القبر ناراً، وهناك تقول: رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:99-100] ، فيقال: كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [البقرة:100] ، يقال لك: أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ * اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور:15-16].

إذا كنت عاقلاً وليس عند عقلك ما يثبت ولا ما ينفي، وورد دليل الإثبات تقول: صدقت، فكيف إذا كان الدليل عن رسولك عليه الصلاة والسلام الذي لا ينطق عن الهوى؟

فكيف إذا كان الدليل عن ربك الذي هو يعلم خلقه ويتصرف فيهم؟ لا راد لحكمه ولا معقب لقضائه، إذاً: من باب الأولى أن تقر وتؤمن ولا تتردد في ذلك.

إذاً: إخوتي الكرام! هذه القضية -وهي السمعيات- ليست بمناقضة للعقل، وباختصار هي ليست الواحد ثلاثة والثلاثة واحد، لأنه قد يشغب مشغب، فيقول: إذا كنتم تقولون إذا ورد السمع بشيء فالعقل يجب أن يقبله كيفما كان، فورد في الإنجيل أن الله ثلاثة، والثلاثة واحد؟ وسيأتينا مناقشة هذا في مواعظ متتالية!

نقول: لا، أنت بدأت تهوس الآن، العقل عنده أدلة أقطع من طلوع الشمس في رابعة النهار، أن الواحد واحد والثلاثة ثلاثة، يستحيل أن يكون الواحد ثلاثة، ويستحيل أن يكون الثلاثة واحداً، فأنت أتيت بمستحيل الآن وقلت: إن العقل رغم أنفك يعتقد به، كما هو أول شيء في الإنجيل: أطفئ سراج عقلك واتبعني، يعني: إياك أن تقل لي لمَ وكيف وما الدليل؟ هذا دعك منه، لتكون ألعوبة في أيدي القُسس والباباوات كما يلعب الصبيان بالكرة، ثلاثة واحد والواحد ثلاثة! وبعد فترة قد يقولون: الثلاثون واحد والواحد ثلاثون، كيف؟

يقول: ارفع الكيف.

نقول: لا، نحن نقول: ارفع الكيف فيما لا يناقض العقل، وهو ما ليس عند العقل دليل على الإثبات ولا على النفي، لكن لو كان عند العقل دليل على النفي وورد النقل به فينبغي أن يكون مكذوباً قطعاً وجزماً، وهذا واضح؛ لأنه لا يتعارض عقل صريح مع نقل صحيح.

نقول: عقل صريح؛ لأن كل واحد يقول عنده عقل، لكن قل له: عندك عقل لكن كعقول الحمير، عندك عقل لكن هذا العقل ما نفعك ولا حصلت من ورائه فائدة..

وصل الأمر بعقول البريطانيين في هذا الحين أنهم ما اقتصروا على إباحة اللواط -انتبه لانحطاط العقل البشري في هذا الوقت- بل يقولون: زواج الذكور بالذكور مباح، ويكتب هذا في المحكمة الشرعية البريطانية، أي: تتزوج ذكراً على أن يكون زوجتك، فهذا لا مانع، ولك أن تستأجر رئيس الوزراء لتلوط به شهراً، ويسجل هذا في محكمة، فهذا عقد إجارة، وحرية شخصية، لا يُعترض عليك ولا يُعاب عليك، نعوذ بالله من هذا العقل! والله إذا كان عند الإنسان هذا العقل فلو كان مجنوناً لكان أحسن له!

ولذلك سيقول الكفار عندما يلقون في النار: فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:11] ، عندهم عقول كما قال الله: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179] .

نماذج للسمعيات التي يجب الإيمان بها

إخوتي الكرام! إذاً السمعيات وهو الأمر الثالث الذي يبحث فيه علم التوحيد من حيث وجوب اعتقادها، والسمعيات -كما قلت- هي ما يتوقف الإيمان به على السمع وليس عند العقل دليل على الإثبات والنفي، كأخبار يوم القيامة، وما يكون فيه من إهانة وإكرام، وما يسبقه من حوادث جسام، وما يرتبط بذلك من مسائل وأحكام، هذه كلها هذه نقول عنها: سمعيات.

أشراط الساعة، خروج الدجال، نزول عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام كلها سمعيات، ما عند العقل دليل على نزول عيسى ولا على نفي نزول عيسى، ورد بذلك شرع الله المطهر فآمنا به، والأحاديث في ذلك متواترة، ومُنكِر نزول عيسى على نبينا عليه صلوات الله وسلامه كافر كافر، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم، هذه كلها سمعيات.

يأجوج ومأجوج وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ [الأنبياء:96]، خروج الدابة: وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ [النمل:82] ، طلوع الشمس من مغربها، كلها سمعيات ليس عند العقل دليل على النفي ولا على الإثبات، وورد بها الدليل الذي يثبتها وهو صحيح، فالعقل الصريح يؤمن بها، لا أقول: نلجئه إلى الإيمان بها، بل يؤمن بها بلا كلفة ولا قلق ولا اضطراب، بل من أنكرها فقد عارض عقله الصريح، إنه إذا لم يكن عندك دليل على المعارضة فعلامَ تعارض؟ فالمعارضة إذاً محض المكابرة والمجادلة بالباطل.

لو قيل لك: يوجد بلد اسمها مكة، والناس يحجون إليها، وهي بلد الله الحرام، ولنفرض أن الكلام مع شيوعي أو نصراني أو يهودي، فقال: أنا ما رأيت مكة، وهذه الأخبار لا أصدقها.

يقول: هل عند عقلك دليل على نفي وجود مكة؟ قال: لا، ما عندي دليل على النفي.

نقول: ولا عندك دليل على الإثبات؟ وقد أخبرك جمع كبير تحيل العادة أن يتواطئوا على الكذب من مؤمنين وكافرين، وإذاعات العالم تصدح أنه يوجد بلد اسمها مكة والناس يذهبون إليها في أشهر الحج.

فإذا قال: أنا لا أصدق أبداً إلا إذا ذهبت ورأيت بعيني وقالوا: هذه مكة.

نقول: أنت أقل من أن تخاطب، وإذا رضيت لنفسك هذه المنزلة فنحن لا نرضى لأنفسنا أن نكلمك! ولذلك ما لك إلا أن تعرض عنه وأن تنزله منزلة البهائم، وهكذا السمعيات، إذا قال: أنا لا أؤمن إلا إذا أثبت لي هذا بحيث ألمسه وأشاهده، قل له: وأنا لا أؤمن بأن عندك عقلاً إلا إذا وضعت عقلك بين كفي وعلى يدي، أنظر إليه وإلى طوله وحجمه ولونه وشكله، أين عقلك؟ أخرجه وضعه على يدي، إذا رأيت عقلك وطوله أقول: عندك عقل، وإلا فأنت مجنون!

وحقيقة الأمر كذلك، هل أحد منا رأى عقله أو عقل غيره أو رأى روحه أو روح غيره؟ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء:85].

ومن باب النكت الطريفة وهوس الناس في هذه الأيام، عُقد مؤتمر للأطباء في جدة، وبُذل عليه مئات الألوف، وهذا المؤتمر من أوله لآخره هوس إلى هوس، خرافة إلى خرافة، تدرون ما وظيفة مؤتمر أطباء العالم؟ يبحثون في حقيقة الموت، ما هو الموت؟

خرجوا بنتيجتين اثنتين كل نتيجة تُضحك الثكلى، فريق من الأطباء قال: الموت توقف حركة القلب.

فريق آخر قال: الموت توقف ضخ الدم إلى الدماغ، إذا انقطع الدم عن الدماغ ووصل الأوكسجين يموت.

أسألكم بالله هاتان علامتان على الموت أو هما الموت؟ علامتان، ما هو الموت؟ سل نساء البادية، قل: يا خالتي فلان مات فما معنى مات؟ تقول: يا ولدي خرجت الروح منه، الموت هو: خروج الروح، يعني هذه لا تحتاج لبحث!

ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: حَتَّىَ إِذَا جَاء أحدكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ [الأنعام:61] وتحضر ملائكة الموت لتستل روح الإنسان من بدنه كما تُستل الشعرة من العجين في حق المؤمن، وكما تُخرج الشوكة من الصوف في حق الفاجر والكافر وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أخرِجُواْ أَنفُسَكُمُ [الأنعام:93] أي: أرواحكم الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام:93] .

الموت خروج الروح، لكن الروح ما هي؟ من أمر ربي، نقول: الحياة دخول الروح في البدن، والموت خروج الروح من البدن، توقف القلب دليل على خروج الروح وليس هذا هو الموت، وتوقف وصول الأوكسجين إلى الدماغ وضخ الدم إلى الدماغ هذا دليل على خروج الروح، لا أن هذا هو الموت.

وهذا كما تقدم معنا في علة احتياج العالم بأسره إلى ربه، قلت: العلة هي الفقر، وليس الحدوث ولا إمكان الحدوث كما قال الفلاسفة والمتكلمون، فالحدوث وإمكان الحدوث علامتان على الفقر؛ لأن الفقير حادث وممكن أن يوجد وممكن ألا يوجد، ممكن أن يحيا وممكن أن يموت، فما الذي رجح أحد المتقابلين على الآخر؟ إرادة مريد وقدرة قدير، وهو الله الجليل.

إذاً: هذا الذي هو حادث، ومتوقف وجوده على غيره غني أم فقير؟ فقير، إذاً العلة في احتياج العالم بأسره إلى ربه كون العالم فقيراً والله غني، وتعريف الموت: هو خروج الروح من البدن، وانتهى، هذا هو الموت، وهذا تعريف نساء البادية.

سل المرأة الكبيرة في العمر التي هي في جزيرة نائية بعيدة، قل: يا خالتي! يقولون فلان مات، فما معنى مات؟ تقول: يا ولدي أنت لا تعرف الموت، الموت يعني أنه خرجت روحه منه، وقع على الأرض جثة هامدة لا يتحرك؛ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ [القمر:20] جثة مرمية على الأرض.

أما توقف القلب فهو علامة على الموت، ولذلك لو أمكننا أن نحرك القلب بتحرك اصطناعي لم يحي الإنسان، لو كان الموت هو توقف حركة القلب فلنحرك القلب، وهو يُحرك الآن بالإنعاش الصناعي، والقلب يتحرك، طيب هل حيي؟

أنا أقول: لو علم العباد حقيقة الموت لأمكنهم أن يحيوا الموتى؛ لأن حقيقة الموت مجهولة، نعم، نعلم هي خروج الروح، لكن ما هي الروح؟ من أمر ربي، لو كانت الروح معلومة لما مات جورج بوش ، الذي هو وغيره سيموتون وكل حي على وجه الأرض فان، هؤلاء الذين لهم شأن في هذه الحياة، لو كانت الروح معلومة تُصنع لصنعوا بدل الروح مليون روح، إذا خرجت منهم واحدة وضعوا أخرى، نعم، أنا وأنت قد لا نستطيع أن نشترى الروح بثمن لأنها لعلها أغلى من الطائرات النفاثة، لكن ذاك لا يعجزه ثمن، بإمكانه أن يشترى ملايين الأرواح ليحيا، أما أنا وأنت نموت، فقال: كلكم سواء كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [الرحمن:26] وقال: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34]، سبحانك ربي!

أكبر رئيس في العالم يأتي ملك الموت يهزه هزتين ويخرج روحه من بدنه، وجنوده حوله ينظرون ولا يبصرون، آمنت بالحي القيوم، سبحان من قهر عباده بالموت وتعزز بالبقاء والوحدانية، كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27].

لا يعلم حقيقة الموت إلا الذي خلق الروح فقط، وليس في وسع البشر هذا، ولذلك: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85]، (قليلاً): نكرة سبقها نفي ولذلك يقولون: تكون نصاً في العموم، أ: إلا شيئاً قليلاً قليلاً قليلاً ضعيفاً، لا يأتي بجانب علم الله كقطرة من بحار الدنيا.

العلم للرحمن جل جلالهوسواه في جهلانه يتغمغم

ما للتراب وللعلوم وإنمايسعى ليعلم أنه لا يعلم

نحن نتعلم لنصبح علماء أو لنكشف جهلنا؟ لنكشف جهلنا، العلم للرحمن وهو بكل شيء عليم، وأما نحن فيفني الإنسان حياته ليتخصص في طب العيون، وما خفي عليه من أسرار الله في العينين يأتي بمقدار قطرة من بحار الدنيا ومياهها.

العلم للرحمن جل جلالهوسواه في جهلانه يتغمغم

ما للتراب وللعلوم وإنمايسعى ليعلم أنه لا يعلم

رحمة الله على الإمام الشافعي عندما يقول:

كلما أدبني الدهر أراني نقص عقليوإذا ما ازدت علماً زادني علماً بجهلي

أنت تتعلم لتكشف جهلك، لا لتصل مستوى العلم، فالعلم لمن هو بكل شيء عليم، وهذا لا يكون إلا لله العظيم سبحانه وتعالى، ومن عداه: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85]، كما نزل قول الله جل وعلا: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [لقمان:27] ، وأنزل الله في سورة الكهف: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا [الكهف:109] .

انتبه أخي الكريم! أي الآيتين أبلغ؟ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ [لقمان:27] ، أو قوله: وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا [الكهف:109]، آية لقمان أو الكهف؟ في لقمان يقول: سبعة، وفي الكهف (بمثله) آية الكهف أبلغ وأكثر، لكن لا بد من تعليق، آية الكهف لا يُقصد بالمثل فرد واحد، والمعنى كما قال أئمتنا الكرام: ولو جئنا بمثله ومثله ومثله إلى ما لا نهاية له، فزادت على السبعة، وعلى السبعين، وعلى السبعمائة، والسبعين ألفاً، وسبعمائة ألف، وعلى الملايين، وعلى البلايين، وعلى المليارات، ولو جئنا بمثله ومثله ومثله إلى ما لا نهاية له، ولذلك هي أبلغ.

لما نزلت هاتان الآيتان جاء اليهود يهرولون إلى نبينا الميمون عليه الصلاة والسلام، قالوا: يا رسول الله! تزعم أننا أوتينا التوراة وفيها تبيان كل شيء، ونزل عليك: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85] كيف هذا؟ قال: ( هي بجنب علم الله قليل ).

إذاً: هم جاءوا بعد نزول آية الروح: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85] قالوا: كيف هذا، وأنت تقول أن الله أنزل علينا التوراة إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ [المائدة:44]، هذه التوراة كيف هي قليل؟ قال: ( هي بجنب علم الله قليل )، ونزل قول الله: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ [لقمان:27]، أي: جميع أشجار الدنيا تصبح أقلاماً يُكتب بها وجميع البحار مداداً يكتب بها، الأقلام تكتب وتأخذ الحبر من هذه البحار، لتكسرت الأقلام، ونفدت مياه البحار، وما انتهى علم العزيز القهار، هو بكل شيء عليم سبحانه وتعالى.

إذاً: إخوتي الكرام! أخبرك بهذا -أي: بالسمعيات- من هو بكل شيء عليم، فإذا كنت عاقلاً تقول: آمنت، وإذا كنت جاهلاً تقول: لا أصدق إلا أن أرى وأسمع وأتحقق، ومع ذلك لو حصل لم تصدق؛ لأن الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [يونس:96-97].

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , مقدمة في علم التوحيد - موضوع علم التوحيد [2] للشيخ : عبد الرحيم الطحان

https://audio.islamweb.net